يعرف القراء عبد الإله بلقزيز، وعلى مدى عقود حوافل من الزمان، كاتبا مفكرا ضليعا، شاحذ السنان ثاقب الفكر موفور العدة والعتاد، يخوض في حلبات فكر ساخنة، ويقارب قضايا وأسئلة بالغة الأهمية والحساسية، قضايا وأسئلة تمس الواقع العربي في الصميم، وتتنطس أدواء وآفات هذا الواقع بمهارة وخبرة الطبيب النطاسي الذي يسبر غور الداء ويقترح أنجع الدواء. وقد أربت مؤلفاته في هذا الصدد على الثلاثين. ويعرف القراء عبد الإله بلقزيز، تبعا وعطفا، كاتبا أديبا نحريرا يدعو اللغة فتسلس له القياد ويروم البيان فيجلي فيه ويجيد. يعرفه القراء كاتبا أديبا لا يرسل الكلام على عواهنه ولا يقبل بسهله ومبتذله، بل ينتقي لغته وكلماته بأناقة ورهافة، وينضدها في جمل وعبارات كما تنضد العقود والأحجار الكريمة. إنه بعبارة (أديب) بالمعنى العربي الكلاسيكي وكاتبECRIVAIN يبدع الكتابةL›ECRITURE بالمعنى الحداثي - البارتي. ولذلك وصفته منذ البدء، بأنه كاتب مفكر، ولذلك أيضا سبقت صفة الكاتب في نعته. إنه شبيه وقرين في هذا السياق، بأبي حيان التوحيدي، الأديب والمفكر العربي الذي قدم عصارة فكره وفلسفته في دنان ذهبية من البلاغة والبيان. وأبو حيان بالمناسبة هو ثالث ثلاثة استهل بأقوالهم نصه الجميل (رائحة المكان). وهم على التوالي / ابن قتيبة والجاحظ والتوحيدي. وأقوالهم الاستهلالية تصب سوية في مديح الكلام، وهو العمق الاستراتيجي والنسغ الحار الساري في نص (رائحة المكان). ولأهمية وشعرية هذه الأقوال يهمني أيضا، أن أستهل بها هذه الورقة القارئة. يقول ابن قتيبة: [فإن الكلام مصايد القلوب والسحر الحلال]. ويقول الجاحظ: [وكلام الناس في طبقات، كما أن الناس أنفسهم في طبقات] ويقول التوحيدي: [أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم]. وقول التوحيدي هذا، هو الذي ينطبق تماما على لغة (رائحة المكان) التي هي نثر وشعر في آن واحد. لذلك، كانت مفاجأة أدبية جميلة، أن يطلع علينا بلقزيز، بهذه التحفة الأدبية الرائعة المقطرة من نبع الذات والذاكرة، والتي هي السحر الحلال ذاته كما قال ابن قتيبة، والنظم الشبيه بالنثر أو النثر بالشبيه بالنظم كما قال التوحيدي. إن كتابه الجديد والفريد هذا محفل لغة وبيان، يعبق بعطر اللغة وينضح بماء البيان ورواء البيان. ولذلك أيضا، وصف بقزيز كتابه بأنه (نص). ولقد أصاب بلقزيز وسدد الإصابة بهذا الوصف. والكلمة الفرنسية هناTEXTE، وافية تماما بالدلالة والقصد. وهي كلمة مشتقة منTISSU أي النسيج والقماش. وهذا النص منسوج كما ينسج الحرير، ومصوغ كما يصاغ الذهب الإبريز. كما أن الكلمة العربية (نص) وافية أيضا بالدلالة والقصد، لأن كلامه يشبه ذلك الكلام الجيد الجميل الذي يلقى على المنصة فيخلب الأسماع والأفئدة. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فهذا العمل يعقد قرانا جميلا بين النثر والشعر والسيرة والقصة والمقالة والخاطرة والتأمل الفلسفي. إنه نص وكفى. نص يعقد محفلا بهيجا للكتابة ومباهج الكتابةL›ECRITURE. نص طافح بما أسماه بارت (متعة النصPLAISIR DU TEXTE). وهو نص يذكرني أيضا، بصنيع الفيلسوف الأديب الفنان، عبد الرحمان بدوي، وبخاصة في كتابيه (هموم الشباب) و( الحور والنور)، حيث ترقى اللغة أيضا إلى مستوى عال من السحر الحلال. في هذا النص، يحكي الكاتب أطيافا من سيرة طفولته وصباه. أقول أطيافا، لأنها الكلمة الدالة في رأيي على صنيعه وعمله. فليس هو سيرة بالمعنى الأوتوبيوغرافي الكرونولوجي لهذا النوع الأدبي، ولكنه محطات في مسار حياة، محطات للسرد والوصف والتأمل واشتمام رائحة المكان ونفض مكنون الذاكرة والوجدان. وبعبارة أدل وأدق، هي محطات للكتابة وبهجة الكتابة. يقع الكتاب في 188 صفحة من القطع المتوسط، في طباعة جميلة ومشكولة بنحوية شعرية، وبلوحة غلاف مشجرة خضراء زاهية. وهو موزع ومقسم إلى ثلاثة عشر بابا أطلق على كل منها كلمة (باب). مثل/ بال البيان - باب الكلام - باب الصدى - باب الشعر - باب الياقوت... الخ. لكن فقر ومفاصل هذه الأبواب مرقمة بالتسلسل التصاعدي من 1 إلى 184، بما يجعل اللحمة السريرية والخيطية قائمة بين أبواب النص المتهادية مع إيقاع الزمان. وثمة استهلال شعري في فاتحة هذه الأبواب مرفوع إلى محمود درويش، فيه يقدم الكاتب صورة مركزة عن ذاته وكتابه، هي بمثابة الكلمات - المفاتيح للنص. نقرأ في الاستهلال: [ما دلني على سوى قلمي وبضعة مفردات أدمنتها في الكتابة، ورصفتها عند مفترق الطريق ما دلني أحد على سواك يا ابن حورية، تحن إلى خبزها وقهوتها ص 7 - 8 ويصعب أو يتعذر في حضرة هذا الكتاب، الإلمام بأبوابه ومحتواه في لحظات وكلمات معدودات محدودات، فهو كعنقود عنب متضامن يؤخذ كاملا ولا يمكن تجزئته وتفتيته. لكن، ما لا يدرك كله، لا يترك قله، كما قيل. وفي رأيي، لا يكفي ولا يشفي الغليل هنا، الحديث عن الكتاب، بل لابد من الإنصات للكتاب والإصغاء إلى بوحه. يقول الكاتب في باب الشعر صفحة 57: [أسوأ قراء القصيدة نقادها، أن تقرأ قصيدة هو أن تسكن إليها كي تسكن فيك، وتقوم بينكما المودة. ص 57 وهذا ما سأحاوله هنا بالضبط، في الفسحة المتبقية من هذه الورقة. أن أنصت للنص ولا شيء سوى النص، كما قال غولدمان، وأن أقيم مودة بيني وبين هذا النص. بعبارة، سأرشف معكم جرعات من متعة هذا النص. وقد قلت منذ قليل، أن النص يحكي أطيافا من سيرة الكاتب في طفولته وصباه وشبابه. وبدوري سألتقط أطيافا من هذه الذكريات والأصداء الرواجع، تتوزع رائحة أمكنتها وأزمنتها بين مراكش وفاس وسيدي بلعباس، بشكل خاص. وأكثر التيمات والشواغل حضورا وهيمنته في النص، هي تيمة البيان والكلام والشعر والقراءة والكتابة، كما يتضح من الأبواب التالية: باب البيان - باب الكلام - باب الشعر - باب القراءة - باب الكتابة. وهي خمسة أبواب من حصيلة ثلاثة عشر بابا، بما يؤكد أن النص في أغلبه الأعم، سيرة أدبية للكاتب. إنه يتحدث عن البيان بالبيان، كما يتحدث عن الشعر بالشعر. وتلك هي ميزة ونقيبة هذا النص، كما ألمحت. في باب البيان، نقرأ المثال التالي: [للبيان فاكهة من رخام، صحوة جسد عذبه النداء الحيوي وأطفأت جذوته غيمة شاردة. للبيان مملكة حرة يعبث فيها ويرسي شريعته أو يتلو على الرعية ألواحه من نافذة. واللسان امرأة يبللنا الندى في الطريق إلى نفسها، ويراودها في غرفتها الحنين إلى نزوة واحدة. ص 13 وفي باب الشعر، نقرأ المثال التالي: [الشعر ما قالت العرب في الصحراء بين شظف القفر وسبائك المباني. جدائل روح تعذبها قوافل المعاني، وهي تلهث وراء ألفاظ تفر من هوذجها المحروس في الليل. الشعر ما وقعته حوافر الخيل وأطلقته الريح إلى المدى غناء الروح الأبدي. ص 46] ماذا نسمي هذا الكلام، ترى، إن لم يكن بيانا وشعرا، وسحرا من الكلام حلالا؟! بلى، بلى! وفي باب الصدى، يستعيد الكاتب، أصداء وتراجيع شجية من أيام الطفولة العذبة بشغبها وبراءتها وبهجتها الخاصة قرب الجدة. [لا تزاحم أحدا على ما ليس لك. كذلك قالت جدتي وأسرجت جفوني للمنام، ألتذ بشغفي الطفولي بالتنافس: من يسابقني من أقراني لأسبقه؟ من يباريني في خزن الحكايا والأمثال لأغلبه؟ من يعاركني في باحة الحارة لأصرعه؟ (...) وكبرت لا برء لي من داء المزاحمة، وضاعت مع الزمن لاءات الجدة الحازمة. ص 32.] وللجدة حضور بهي وقوي على امتداد النص، فهي ملاذ الكاتب ومعاذه، عزاؤه وتأساؤه. تسكن الجدة سويداء القلب وتملأ أقطار النفس وشغاف الروح. هي بلسم الروح ومنها وسلواها. لأجل ذلك، كانت مسك ختام النص، حيث يقف الكاتب على شاهد قبرها [يسكب دمعتين ويرسم على سبورة داخله جملته الأثيرة جدتي، كم أحبك.] .وهي آخر صفحة في الكتاب 188. ويتوزع هوى الكاتب عبر النص، بين رائحة مكانين ومدينتين، مراكش وفاس. نقرأ في ص 103 - 104. ما كان بين مركش وفاس ود موصول (...) أي المدينتين إليك قريب وأنت بينهما موزع غريب: مدينة والد قضى في بلدته الحمراء التي منها أتى وكان. أم حاضرة أم نزح أجدادها عن قصر الحمراء الذي كان لهم ذات زمان. ومع سيرورة الحكي والعمر، تعن أحداث ووقائع عبر سياقات النص واندياحاته في المكان والزمان. مظاهرات ظهر المهراز بفاس - الثورة الفلسطينية وأجنحة مقاومتها - ثورة الخميني - حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران - غيفارا - التوباماروس - انتفاضة 1981 بالبيضاء إلخ. لكن رصد هذه الأحداث والوقائع ونظائرها، يتم دوما بلغة راقية ورائعة، هي في منزلة وسطى بين الشعر والنثر. وبما أن النص في منحاه العام، سيرة أدبية للكاتب، فهو يحكي عن الخلفية المرجعية للكاتب وروافده الثقافية، عن قراءاته ومطالعاته، واخوان صفائه وخلان وفائه، وهم كثر على امتداد النص. وموائد القراءة حافلة بما لذ وطاب. كل هذا الحكي المتنقل والمترحل في المكان والزمان والوجدان، يتم نحويا بالضمائر الثلاثة، الضمير الأول - المتكلم(أنا) والضمير الثاني - المخاطب (أنت) والضمير الثالث - الغائب (هو)، وذلك بحسب مقامات الحكي والتجلي والخطف الروحي. ومن اللحظات الجميلة والأساسية في النص، اللقاء مع الماركسية والانخراط في اليسار. لننصت إلى هذه المعزوفة. [كر وفر من اليمين إلى اليسار. هل صدفة أغراك اليسار حين أخذت به وخسرت الشعر؟ هل صدقت نفسك حين هجرت المعري ونقمت على أبي تمام وهزئت بجبران وأضربت عن صوت أم كلثوم؟ لذيذا كان اليسار، كالليل كان، كصوت فيروز في عميق النفس، كالغاردينيا تتعرى تحت الشمس، كصوت الماء على صخرة ينساب]... ص 35 [وما صدقت أن ملتحيا ألمانيا يصير لك شيخا فلتزم طريقته وتنذر ليلك. ص 43].ولا يمكن استيفاء الحديث عن هذا النص، دون العروج على (بابها). فليكن هذا الباب عتبتنا الأخيرة في هذه القراءة. نقرأ في (بابها) هذا النفث الشعري [على ورق متبادل يلتقيان يضيئنا عتمة الليل ويضرمان دفئا في خلوته هما على الورق لا يخجلان يقولان الذي تبطن فيهما ويعترفان بخبيئتها وخطيئته، على ظهر حصان يسرجان الحب ويرفعان مجد العشاق في الزمان]. ص 142 - 143 لكن، في جميع حالات ومقامات وتجليات هذا النص الراقي، تبقى الكتابة هي العزاء الأسمى والملاذ الأسنى (وحدها الكتابة تحررك من الكآبة) ص 129 ووحدها الكتابة، تمنحك الوجود الأنقى والأبقى. فطوبى لك، عبد الإله بلقزيز، بمجد الكتابة ومتعتها. ومزيدا من زلالها وسلسبيلها. إحالة رائحة المكان - عبد الإله بلقزيز ط 1 . 2010 منتدى المعارف - بيروت