احتضنت المكتبة الوطنية بالرباط يوم الأربعاء المنصرم، أشغال الندوة العلمية، التي نظمتها اللجنة الوطنية لتأبين المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابريبمناسبة الذكرى الأربعينية لرحيله، تحت شعار "العظماء لا يموتون.. إلى اللقاء محمد عابد الجابري" بمشاركة باحثين ومفكرين عرب ومغاربة وهم: المفكر السوري برهان غليون، والمفكر المصري حسن حنفي، والمفكرون المغاربة: كمال عبد اللطيف، وعبد السلام بنعبد العالي، وعبد الإله بلقزيز، وإدارة من الباحث والمفكر المغربي محمد سبيلا. شكلت الندوة العلمية استمرارا للحفل التأبيني الكبير، الذي خصته اللجنة الوطنية لتأبين الجابري بمسرح محمد الخامس في الرباط، التي ترأسها القيادي الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي، بحضور عائلة المفكر الراحل محمد عابد الجابري، وأصدقائه، وزملائه، ومحبيه من الطلبة والمثقفين والفنانين، وكل من قرأ له وتابع مشاريعه الفكرية المتنورة، التي تجاوزت الحدود الجغرافية للمغرب، ما جعل فكرة إحداث مؤسسة وطنية باسمه من طرف نجله عصام الجابري، تستأثر باهتمام الحضور المغربي والعربي، الذي بادر بطلب أن تكون المؤسسة عربية، لأنه لم يكن مفكر المغاربة لوحدهم، بل مفكرا عربيا بامتياز، وهو الشيء الذي دفع مركز الوحدة العربية إلى الإعلان عن العديد من المبادرات، التي تدخل في إطار تكريم المفكر الراحل، وعلى رأسها جائزة فكرية عربية تحمل اسمه، وكرسي فكري وقفي، وتخصيص ندوة علمية نهاية السنة الجارية ببيروت لتدارس أعماله الفكرية، وتسليط الضوء على الإضافات، والإضاءات التي قدمها صاحب "نقد العقل العربي"، و"تفسير القرآن الحكيم" للفكر العربي المعاصر. لم يكن من السهل على المشاركين في الندوة العلمية، التطرق لكل ما قدمه المفكر الراحل محمد عابد الجابري، لأن المتن الفكري الذي تركه من الثراء، والغنى، والتنوع، بحيث يتطلب ندوات متخصصة تلو الأخرى، ورغم تحديد اللجنة المنظمة لخمسة محاور في الندوة العلمية، ) دور الفلسفة في ترسيخ قيم العقلانية والتحديث في الفكر المغربي والعربي، ودراسة التراث من منظور عقلاني نهضوي: التراث في نطاق رهانات الحداثة، جدلية التراث والحداثة في فكر الفقيد، ومشروع نقد العقل العربي، ومشروع تفسير القرآن الحكيم، والجابري كمثقف ملتزم: الوطنية، الديمقراطية، العروبة، النهضة...(، فإن مداخلات المفكرين كانت تعرف تداخلا كبيرا في المحاور، وتراوحا بين مختلف أعمال المفكر الراحل محمد عابد الجابري، الذي أغنى المكتبة الفكرية العربية بمصنفات عديدة، اهتم فيها بالتراث العربي الإسلامي، وساهم فيها في بناء مشروع فكري نهضوي عربي، وهو ما جعل المشاركين في الندوة يجمعون على أن فيلسوف العقلانية الجديدة في الفكر العربي، نجح في أن يرسي مشروعا فكريا نهضويا تنويريا ضخما، وأكدوا أن المفكر المغربي الاستثنائي ذا الأفق العربي والإنساني، تمكن من تشييد معمار نظري متكامل، استطاع رغم مرور السنين أن يحافظ على صموده وشموخه، وأن يؤسس لمدرسة فكرية تدعو للعقل من خلال إعادة قراءة التراث بأدوات نقدية وتحليلية. كما أوضحوا أن الجابري، الذي انتصر على الدوام لقيم النقد والحداثة والتحرر والعقلانية، ظل طيلة حياته منخرطا في دراسة معطيات الواقع المغربي والشؤون العربية بكثير من الإخلاص والحماس والمسؤولية، مسجلا حضورا متنوعا بين الالتزام السياسي والأكاديمي والفكري. وفي هذا السياق، أوضح المفكر المغربي كمال عبد اللطيف، في عرض بعنوان "جبهات ومعارك في المسار الفكري للجابري"، أن الجبهات التي خاضها الجابري تتمثل في ثلاث معارك: معركة تدريس الفلسفة بالمغرب، وتأسيس الدرس الفلسفي بالجامعة المغربية، مضيفا أن الراحل خاض تجربة صياغة برامج منفتحة على أحدث المناهج التربوي، بالإضافة إلى تأطير الطلبة وإشرافه على بحوثهم، ومعركة تراثية، حارب فيها من أجل خلق رؤية نقدية للتراث، الذي كان يعتبره ذاكرة جماعية و"حمال أوجه" يتعين إعادة قراءته على ضوء أسئلة العصر، واستعادته حتى لا يظل حكرا على فئة تعيد قراءته بطريقتها الخاصة، مبرزا أن الفقيد وظف الموروث لكي يمنحه حياة جديدة ضمن أفق الحداثة والعصرية. أما المعركة الثالثة، التي تحدث عنها عبد اللطيف، فهي جبهة العمل السياسي، التي اعتبرها أكثر الجبهات صلابة في حياته، موضحا أن الهم السياسي كان مهيمنا على الجابري، الذي كان منخرطا في اليسار المغربي والعربي وفي المشروع القومي العربي، ليخلص إلى أن شخصية الجابري الذي كان مهووسا بتحديث العقل والوعي العربيين اجتمعت فيها الوحدة العضوية بين المناضل السياسي داخل حزب سياسي وبين المفكر والأستاذ الجامعي. من جانبه، اعتبر عبد الإله بلقزيز في عرض حول "مشروع نقد العقل العربي في مشروع الجابري الفكري"، أن مؤلف "نقد العقل العربي" له مكانة متميزة في الفكر العربي لأنه نجح في أن يقدم رؤية إجمالية لنقد العقل العربي عبر التحرر من التراث والغرب والدعوة إلى عصر تدوين جديد. وأوضح أن الفقيد كانت له قدرة متفردة على السيطرة على المفاهيم، التي كانت تتيح له السيطرة على الموضوع عبر السعي إلى القيام بنقد للعقل العربي يطمح إلى أن يشكل معبرا ولحظة معرفية لإعادة بناء العقل على أسس معرفية جديدة. وأشار بلقزيز إلى أن الجابري كان يؤمن بأن تحقيق هذا المسعى لن يتأتى إلا من خلال تدوين عربي جديد يتحرر فيه العقل العربي من القياس، ومن سلطة النص وسلطة نموذج السلف وسلطة التجويز. وخلص بلقزيز إلى أن الجابري ظل وفيا في رباعيته "تكوين العقل العربي"، و"بنية العقل العربي"، و"العقل السياسي العربي"، و"العقل الأخلاقي العربي"، التي تشكل مادة مرجعية كثيفة، وموسوعة ثقافية ضخمة، ومنعطفا حاسما للتراث عبر مطالبته بقراءته بعقل نقدي. أما عبد السلام بنعبد العالي فذكر في عرض له حول "سياسة التراث" أن الفقيد كان يمارس السياسة في الثقافة، لأن المسألة الثقافية بنظره هي مسألة سياسية عقلية وتدبير قبل أن تكون مسألة أكاديمية صرفة. وأوضح أن هذا التوجه يلقي الضوء على كيفية التعامل مع التراث، لأنه كان يسعى إلى تحقيق "شيوعية تراثية" تعمل على ألا يظل التراث محجوبا وبعيدا عن الناس، خاصة أنه ظل على مر السنين موضوع تنافس واحتكار وتملك من طرف فئة معينة، ليكون التراث بهذا المعنى أكثر قربا من السياسة. وعزا بنعبد العالي مؤاخذة الجابري على عدم مراعاته دائما القواعد الأكاديمية من خلال إثقاله لمؤلفاته بالاستشهادات، إلى حرصه على وضع التراث أمام الجميع وتقريبه من الحاضر. وأوضح أن الراحل خلص التراث من أسر النص التقليدي وجعله في مستوى "النحن"، وأعطى الحق في تملكه للجميع ليظل الجابري بذلك وفيا لقناعته في أن "السياسة تعني أساسا إعطاء الحق للجميع". من جهتهما أعاد المفكران العربيان برهان غليون وحسن حنفي، قراءة فكر الجابري من خلال مشروعي "نقد العقل العربي"، و"تفسير القرآن الحكيم". ففي مداخلة بعنوان "الجابري وتأصيل الحداثة"، أوضح برهان غليون أن الهموم النظرية التي حركت الفقيد في مشروعه النهضوي تقوم أساسا على ضرورة التحرر من النموذج السلفي من خلال إبراز الحاجة إلى التفكير المستقل عن المحاكاة وعلى قياس التفكير على المنوال السابق. وأضاف برهان غليون أن توحيد السلط المرجعية ظل هاجسا يحكم مشروع الجابري، الذي كان يؤمن أن إيجاد سلطة معرفية واحدة شرط قيام وحدة فكرية تتجاوز القطيعة وتحرص على الخروج من الإيديولوجيا. كما أكد المفكر السوري أن الفقيد دعا إلى ضرورة التحرر من سلطة التراث من خلال امتلاكه، وتحقيقه، وتجاوزه، وإعادة تركيب العلاقة بين أجزائه، وإعادة بنائه والتحرر من الغرب، والتأصيل للحداثة من خلال التعامل معها بشكل نقدي. أما حسن حنفي فأبرز في تناوله لموضوع "مشروع تفسير القرآن الحكيم" أن الجابري كان جريئا في مؤلفاته الثلاثة المكونة لمشروعه حول القرآن الكريم، لأنه أقدم على إسقاط القداسة عن العلوم النقلية وإعادة النظر فيها. وتساءل حنفي حول هذا المشروع، وعن مدى التزام الجابري بالعقلانية في هذا المشروع، وعما إذا كان مشروعه القرآني هو استئناف لمشروعه في نقد العقل العربي، أم هو خروج عنه وانتقال إلى مرحلة جديدة لها إشكالاتها وصعوباتها، خاصة أنها ترتبط بالقرآن وبمناطق الظل والعتمة التي لم يحسم فيها، ولم تكن للكثيرين الجرأة والمقدرة على تناولها. وأرجع حنفي ما أسماه ب"ضعف الجانب النظري" في هذا المشروع إلى جدة تناول الموضوع، وإلى كون المفكر المغربي فسر القرآن بالقرآن، مشيرا إلى أن "الفقيه الجابري"، كما كان يصفه المفكر المغربي عبد الله العروي، أكثر في هذا المؤلف من استعمال النقل، وأسهب في التفسير والتعليق، معتبرا أن "المشروع القرآني للجابري غاب عنه الالتزام الاجتماعي، حيث تغلب الأكاديمي على المثقف الوطني". لكن هذه الأسئلة والملاحظات لم تمر مرور الكرام، بل وقف عندها الباحثون المغاربة، وعلى رأسهم عبد السلام بنعبد العالي، الذي أربك المفكر المصري، حسن حنفي، المعروف بمجادلاته وحواراته مع الجابري، حينما سأله من أي موقف يطرح ذلك السؤال، وكذا عبد الإله بلقزيز، الذي قدم تفسيرات لحنفي حول العقل العربي الذي قصده الجابري في أعماله، وحول اشتغاله على القرآن، النص المؤسس في الفكر العربي الإسلامي، الذي كان متوقعا أن يتناوله الجابري، لكنه ذكر أنه كان يتمنى لو كرس الجابري مشروعه لدراسة علم التفسير، وعلوم القرآن، لأن تفسيره للقرآن حد من حريته في الاشتغال.