أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. 1 - دور الخياط الباريسي إذا كانت العبارة الشهيرة «الرجل هو الأسلوب» تنطبق على كثير من المفكرين والأدباء والفنانين ورجال السياسة والعلم، فهي تكاد تكون مُفَصَّلة على مقاس السيد ميشال جوبير وزير الخارجية سابقا في عهد جورج بومبيدو، ووزير الدولة السابق للتجارة الخارجية في حكومة بيار موروا. هذا السياسي والأديب الفرنسي المولود بمدينة مكناس المغربية، يملك نبرة خاصة، صوتا متميزا يعطيان لكل ما يصدر عنه من مواقف سياسية، وكل ما ينتجه من كتب نكهة غير مألوفة. دخل ميشال جوبير إلى السياسة العربية من بابها العريض حيث أطلق تصريحه حول النزاع العربي الإسرائيلي في شهر أكتوبر 1973. وها هو يعود إليها اليوم عبر كتاب بعنوان : «المغرب في ظل أيْدِيه». كتاب ميشال جوبير الجديد الصادر عن دار «غراسييه» الباريسية للنشر هو مزيج من البحث التاريخي، التحليل السوسيولوجي، الوصف الأدبي، التحقيق الصحفي والإنطباعات الشخصية. في المرة الأولى تناقلت وكالات الأنباء ثم عَمَّمت من بعدها الصحف والإذاعات تلك الصيحة الصادرة من القلب عن قتال العرب والإسرائيليين في سيناء والجولان. كان كلام الوزير ميشال جوبير صرخة أكثر مما هو رد دبلوماسي. لقد سأله الصحفيون عن رأيه فيما قام به المصريون والسوريون، وهل يعتبره عدوانا أم لا فأجاب : «لا أرى كيف يمكن أن نصف بالعدوان سلوك أشخاص قرروا أن يضعوا أقدامهم فوق أراضيهم». هذه المرة لم يلق كتابه الذي صدر بالعاصمة الفرنسية قبل بضعة أسابيع عن أوضاع المغرب العربي، ما يستحق من اهتمام، رغم أو ربما بسبب تضمنه لحقائق وأحكام وتصورات، يعرفها الحكام والمحكومون، ولكنهم (الأولون بالأخص) يتصرفون كما لو كانت غير موجودة. يقدم ميشال جوبير في كتابه، وهو ثمرة لمطالعات وأبحاث في مجالات التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والتعليم، ومحصلة لزيارات ولقاءات ومناقشات أجراها في طرابلس- الغرب، تونس، الجزائر، الرباطونواكشوط، صورة عن الفرص الضائعة، عن الطاقات المهدورة، عن الآمال المستباحة، عن الآفاق المسدودة، عن وعن إلخ... هناك رقم واحد يختصر هذه الحالة البائسة : حجم التبادل التجاري بين دول المغرب العربي (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب وموريتانيا) لا يتجاوز سوى واحد، نعم واحد لا غير في المئة من مبادلاتها مع الخارج، والمتفائلون حتى النخاع، من أهل السياسة والاقتصاد والدبلوماسية يحلمون بأن هذه النسبة سوف ترتفع في أحسن الظروف، في أفضل التقديرات إلى 15 في المئة عام ألفين. ولا يحدثنا المؤلف كثيرا عن نوعيات ومستويات الشخصيات السياسية الجامعية والعالمية التي قابلها خلال رحلاته إلى بلدان الشمال الإفريقي. لكننا نعرف أنه أجرى مناقشات مطولة مع معمر القذافي، ومع السيد محمد مزالي رئيس وزراء تونس المرشح لخلافة بورقيبة، ومع السيد عبد الحميد الإبراهيمي رئيس الحكومة الجزائرية، ومع جلالة الملك الحسن الثاني عاهل المغرب ومع العقيد معاوية ولد الطايع رئيس لجنة الخلاص الوطني في موريتانيا، ومع عدد كبير من الوزراء، والمثقفين الموالين للحكومات والمعارضين لها، ومع طلاب وطالبات جامعيين، ومع أفراد عاديين من أبناء الشعب. لماذا هذا التكتم؟ أظن أن التواضع، وهو خصلة غير متداولة كثيرا في أيامنا هذه، هو الذي دفع الكاتب إلى عدم ذكر «مرجعياته العليا». إهمال المؤلف للإشارة إلى مصادره الرسمية لا يقلل أبدا من قيمة عمله، لعله يحرم القراء من متعة الفرز بين المواقف، ولعله يضفي على مقولات الكتاب طابعا ذاتيا قدسيا فهمه من طرف البعض. لكن «التكتم» لا يعني «التستر» على العيوب، والقراءة المتأنية للنص، تقنعنا أن ميشال جوبير فضل هذا الأسلوب لأنه بطبيعته ينفر من النزعة الإستعراضية، ولأنه يريد أن يوصل إلى الرأي العام رسالة معينة. لاشك أيضا في أن وضعه كوزير سابق أملى عليه أن يقيم مسافة بينه وبين مخاطبيه من الرسميين الليبيين، التونسيين، الجزائريين، المغاربة والموريتانيين. ماذا كان يحدث لو أنه نقل كل ما سمعه من آراء وملاحظات وأحكام، من معمر القذافي ومن محمد مزالي، ومن الملك الحسن الثاني حول قضايا الساعة؟ نقل ميشال جوبير، في مجالسه الخاصة، خلال السنتين الماضيتين كلاما كثيرا عن زعماء المغرب العربي : نقل رأي معمر القذافي في الرئيس الشاذلي بنجديد وسياسته. ونقل رأي غيره من القادة في قضايا حساسة. وكانت منقولاته هذه مثار جدال واسع بين الصحفيين والدبلوماسيين الذين استمعوا إليها مباشرة أو بالواسطة وجاءت التطورات اللاحقة لتؤكدها. إلا أن الكاتب لم يضع شيئا من هذه الأسرار والاعترافات التي التقطها من كبار المسؤولين، في كتابه لأنها كانت بالتأكيد سوف تعطيه صبغة مختلفة. السكوت عن هذا الجانب، أو ما يمكن أن نسميه «حماميات السياسة المغاربية» (نسبة إلى الكلام الذي تقوله نساء الحي يوم الجمعة في الحمامات). يمنح لأقوال الكاتب وآرائه وأحكامه جدية تستحق التنويه والإحترام. بموازاة هذا التغييب لما يقوله الكبار، هناك تركيز على مواقف الناس البسطاء وعلى الحقائق الدامغة الواضحة للعيان. ففي الفصل الأول وهو بعنوان «بوابة فجر مصير مستعاد» يفتتح المؤلف حديثه عن المغرب العربي بحوار جرى بينه وبين عامل اسمه أحمد جاء لإصلاح خلل في أنابيب ومجاري شقته يقول فيه مخاطبا العامل : «حذار فأنا أقوم بتأليف كتاب عن المغرب العربي، وإذن فسوف أكتب فيه : لقد لقيت أحمد، الرصاص، الذي أزعجني كثيرا حين جاء لتغيير مواسير المياه في الشقة. منذ ثلاثة أشهر وهو يزعج العالم كله، يهدم السواتر والحواجز والسقوف، وحين سألته هل يؤمن بالمغرب أجابني : طبعا» (صفحة 12). في السياق ذاته يشير الكاتب إلى أنه استمع من طرابلس حتى نواكشوط بصبر وأناة، وكان ينفخ من حين لآخر على الخطاب السياسي والتقليدي لتخليصه من الغبار المتراكم فوقه. ولم يسجل أي شيء لأنه ليس كاتب ضبط في محكمة عدل ولا هو كاتب مذكرات، لذلك فهو لا يزعج أحدا. ونحن نجد في هذه الملاحظات تفسيرا مقنعا للاهمال الذي أشرنا إليه آنفا. ما قاله العامل أحمد لميشال جوبير في شقته بباريس، سمع المؤلف كلاما قريبا منه في تونس من طلاب وطالبات التقى بهم هناك، بينهم محب المفارقات والفتاة المناضلة التي تتجاهل كل أنواع الهدنة. والمجتهدون الخجولون، والأصولي الصاخب والبنات المقتنعات بالطيبوبة الكونية والشباب المنهمكون في الإعداد للعطل والتي يعتبر تنظيمها باتجاه أوروبا أسهل من تنظيمها في نطاق المغرب العربي. بالطبع كلهم مؤمنون بفكرة المغرب العربي، مثل ذلك المغربي المهاجر المقيم في العاصمة الفرنسية. لكن المؤلف الذي حاول أن يقرأ الوجوه لأن الكلمات مبتذلة مثل كل ما يصدر عن الطلاب والأساتذة، يتساءل هل هو في تونس أم تولوز أم ميونيخوباريس أم أية عاصمة أوروبية أخرى؟ ربما كانت فكرة المغرب في حد ذاتها تقسيمية. لأنها تشغل الناس عن مبدأ الوحدة العربية، لكن ربما كان الحديث عن المطلق، عن المستحيل، عن البعيد، مجرد مبرر لا شعوري للهروب من مساءلة الحياة اليومية. وينقل جوبير هذه الجملة من رسالة وجهها إليه محمد مزالي رئيس وزراء تونس : ونعم! وكما قلتم عن حق فإن المغرب العربي مايزال سردابا من الصعوبات والآمال. ونحن نتمنى من الله أن ينتصر الأمل وأن يتمكن جيلنا من مشاهدة بداية ملموسة للبناء المغاربي..» (صفحة 15). هذه الوحدة «المغاربية» التي يدافع عنها ميشال جوبير في كتابه «دفاع ساطع» الحصري عن الوحدة العربية. ذات تاريخ عميق يعود إلى ما قبل ظهور المسيحية. فمن أيام يوغورطة ملك نوميديا (118 سنة قبل الميلاد) الذي مات في السجن بعد فشل ثورته ضد روما حتى معمر القذافي، مرورا بالفتح الإسلامي، وبنشوء إمبراطورية المرابطين، ثم الموحدين، اللتين حكمتا المغرب الأقصى الحالي وإسبانيا والجزائروتونس وليبيا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ثم بدول الطوائف والدويلات القزمية الأخرى. كان جدل الوحدة والانفصال، الرغبة في الإنتشار انطلاقا من نواة مركزية والميل إلى الانطواء على الذات محور التاريخ المغاربي. هذا التاريخ القديم جدا، والحديث جدا مايزال يفعل فعله في الضمائر : فمعمر القذافي، العروبي يختار اسم هنيبعل الأمازيغي لأحد أبنائه. والبغلة التي كانت مخصصة لخدمات النقل في أطلال وليلي، بالقرب من مدينة مكناس اسمها يوغورطة. كما يذكر ميشال جوبير (1930-1925) المولود على بضعة كيلومترات من ذلك المكان، والجزائر (وهذه ملاحظة نضيفها من عندنا) تعتبر يوغورطة بطلا وطنيا، ولا نتحدث عن الإسلام، ولا عن اللغتين العربية والأمازيغية، ولا عن جبال الأطلس الممتدة من جنوب المغرب حتى جنوبتونس، ولا عن النضال المشترك في عهد الاستعمار إلخ... فهذه أمور معروفة لدى الجميع. مع ذلك فالحدود مغلقة أو تكاد بين جميع أقطار المغرب العربي، حدوده بقرار انفرادي في خريف 1984، لم يأتِ من الطرف المجاور المقابل -أي من الجزائر رد مناسب- أما حين قام معمر القذافي بعملية الطرد الجماعية لأكثر من 25 ألف عامل تونسي، بسبب الوضع الاقتصادي المتأزم داخل ليبيا بسبب خلافاته مع الحكومة التونسية، فقد انتاب المنطقة كلها احساس عميق باللعنة، شبيه بشعور المهانة والخيبة التي اجتاحها عندما أقدم العقيد هواري بومدين عام 1976 على طرد 40 ألف مغربي. ترى! من يتذكر اليوم أن التنظيم الذي انبثقت منه الحركة الوطنية الجزائرية في الربع الأول من هذا القرن كان يحمل اسم «نجمة شمال إفريقيا»؟ ومن يتذكر النداء التاريخي الذي وجهه الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد في سنة 1947، يدعو فيه العمال الجزائريين والمغاربة إلى تكوين اتحادية نقابية ويشير فيه إلى أن الطبقة العاملة الشمال إفريقية قادرة على قيادة الشعوب الشقيقة الثلاثة نحو الوحدة؟ يتذكر ميشال جوبير ذلك كله ويشير إليه في إيجاز دفاعا عن الوحدة المغاربية المفقودة. ونضيف نحن إليه أن اغتيال فرحات حشاد من قبل غلاة الاستعمار الفرنسي فجر انتفاضة عمالية شعبية بالدار البيضاء (8 دسمبر 1952) كانت بداية لتحول الشباب المغربي الواعي إلى فكرة الكفاح المسلح. ونضيف كذلك أن اليومين التاريخيين المهمين في مسيرة الثورة الجزائرية وهما انتفاضة الشمال القسنطيني (2 غشت 1955) بقيادة زيغود يوسف والتي تعتبر نقطة انعطاف حاسمة نحو استعادة الشعب الجزائري لحريته. وانعقاد المؤتمر التأسيسي الأول لجبهة التحرير الوطني بوادي الصومام في قلب جبال القبائل (20 غشت 1956) الذي انتخب أول قيادة وطنية ووضع استراتيجية شاملة للعمل السياسي والعسكري في الداخل ورسم خطة للتحرك الإعلامي والدبلوماسي في الخارج. نقول إن هذين اليومين قد تم اختيارهما بالتنسيق مع المقاومة المغربية إحياء لذكرى نفي الملك الوطني المغربي محمد الخامس إلى كورسيكا ثم مدغشقر (20 غشت 1953).