ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة باريس .. محمد باهي حرمة .. «يموت الحالم ولا يموت الحلم»


الكتاب الأول
كان الإيمان هو السلاح الوحيد، وكان لهذا الإيمان هدف محدد : المشاركة في تحرير المغرب وتوحيده. وكان هذا الإيمان هو الذي دفع مآت الشباب من سكان الصحراء في تلك الفترة إلى إختراق أراضي مقفرة لا زرع فيها ولا بشر ولا ماء، بحثا عن وحدات جيش التحرير التي كانت بدأت تصل من الشمال إلى مشارف الصحراء في نهاية 1955 وبداية 1956.
ولقد كان لكاتب هذا المقال شرف الالتحاق بأولى تلك الوحدات التي استقرت في كلميم. وليس هنا مجال الحديث عن تاريخ جيش التحرير المغربي في ذلك الجزء من الوطن. ولكن المهم أن نذكر أنه قاد معارك طاحنة ضد الوجود الفرنسي والإسباني بالمناطق المحتلة، وأن نضاله أسفر عن تحرير جبال أيت باعمران ومدينة إيفني الشاطئية، ومدينتي طرفاية والطنطان وأن الحكومة الإسبانية وجدت نفسها مكرهة على التفاوض مع المغرب لإعادة الأراضي المحررة، وقبول إدماجها رسميا في الدولة المغربية.
13/08/1975
وتلك حقيقة ثانية لا يجوز أن نمل من تكرارها. وحتى إذا افترضنا أن كل قادة الفكر الماركسي والثورى الأحياء منهم والأموات، بدءا من ماركس ولينين وانتهاء بماوتسى تونغ وكاسترو، مرورا بغيفارا وتروتسكي، تسلموا جميعا السلطة في الدولة الجديدة، وفي الظروف الدولية الراهنة، فإنهم سوف يضطرون الالتجاء إلى مساعدة خارجية. أما الحديث عن «البؤرة الثورية»، في هذه الحالة فلا يمكن أن يصدر إلا عن أشخاص يأخذون رغباتهم على أنها حقائق. هذا مع افتراض وجود النية سلفا.. إن من الأفضل الحديث عن «البئر الثرية»، أي عن وجود ثروات هائلة في باطن أرض الصحراء المغربية وشواطئها يسيل لها لعاب الثوريين وغير الثوريين.
1975/08/13
إن الوجود التاريخي الوحيد «للشعب الصحراوي» المذكور تحقق دائما في إطار المغرب، من عهد يوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين وباني مدينة مراكش الحالية، إلى عصر الشيخ أحمد الهيبة، الذي وصلت جيوشه، بداية هذا القرن إلى نفس مدينة مراكش لصد الغزو الفرنسي، لا باسم كيان صحراوي مزعوم، وإنما تحت أعلام المقاومة المغربية. وقد بويع الشيخ آحمد الهيبة من طرف عدد كبير من قبائل الجنوب، وكانت السلطات الفرنسية تسميه سلطان الرجال الزرق. وأسرة الشيخ ماء العينين التي ينتمي إليها الهيبة، هي مؤسسة مدينة السمارة الحالية، الموجودة بالصحراء المغربية. وهي أسرة تعود في أصولها إلى إقليم الحوض الشرقي الموجود الآن ضمن جمهورية موريتانيا بالقرب من حدود مالي.
1976/03/01
«وإذا وقعت هذه الحرب، فماذا ستكون نتائجها؟ وأنا لا أطرح السؤال - من يكون المنتصر؟ لشعوري أيضا بضرورة احترام معنى الكلمات. إنه لن يكون هناك منتصر ولا مهزوم، إنما ستقع كارثة وطنية وقومية تترك بصماتها لأجيال، على الذاكرة الجماعية لشعوب المغرب العربي. وحين أفكر بعمق في كل الاحتمالات الممكنة، لا أجد كلاما أقوله لأنصار التصعيد بين الجانبين سوى ما قاله جماعة من اليهود المتخاذلين حين دعاهم النبي موسى إلى قتال المصريين- (اذهب أنت وربك فقاتلا أنا هاهنا قاعدون...) صدق الله العظيم».
1976/03/01
الصحراء نفسها. وقد يكون من المفيد أن نتوقف قليلا عند هذه النقطة.
من بداية الستينيات، أي منذ استرجاع إقليمي طرفاية وطنطان حتى المسيرة الخضراء حدث انقلاب جذري في التركيب السكاني للصحراء المغربية، يعود إلى ثلاثة عوامل هي : توسع المراكز الحضرية بسبب استغلال مناجم الفوسفاط وانتشار الجفاف، توسع قطاع التجارة والخدمات بفعل وتأثير العاملين السابقين وأخيرا انخراط أعداد لا بأس بها من الشباب في التعليم والجيش وبعض المؤسسات الأخرى.
في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الاستعمارية ترعى هذه التحولات في حذر. وتشجعها تمهيدا لخلق هياكل وقنوات تكون أعمدة للدولة العتيدة المنتظرة، كانت الدولة المغربية تعالج تداعيات خطيئتها الأولى. أو تغط في سبات عميق. تفيق منه لتتشاور مع الجزائر وموريتانيا، أو لترفع عقيرتها بالاحتجاج من أعلى منبر الأمم المتحدة ثم تنتهي بقبول تقرير المصير.
1979/07/27
التاريخ العربي، مثل الثروة القومية العربية، يظل محدود التداول، لأنه مجال مراهنات استراتيجية، تتصل بلعبة الدول. والمواطن الباحث عن تاريخه مثل المواطن الباحث عن رزقه وكرامته، لا بد له أن يملك قدرا كبيرا من الصبر والمثابرة حتى يظفر بضالته المنشودة.
التاريخ عند الحاكم مادة «ديناميت» لا يجوز الإقتراب منها، وهو عند الحاكم العربي المتسامح يدرج في خانة الأسرار المنزلية التي لا يعرفها إلا المقربون من صفوة الحاشية. أما عند النخبة فهناك إجماع رخو صامت لعدم الإقتراب من مجاهله التي تهم حياة الأجيال الصاعدة. لذلك تنزل الأحداث على المواطن العادي نزول الصواعق على الرعاة في الفيافي، فلا يملك إلا أن يحني ظهره لها حتى تمر.
1989/01/18
المرحوم المهدي بن بركة -وهذه واقعة أظن أنها تكشف لأول مرة- كان في نطاق تحضيره لمؤتمر القارات الثلاث يريد إحضار وفد يمثل الصحراء المغربية، وكان قد مهد لذلك بالإتفاق مع مقر منظمة التضامن الإفريقي الآسيوي بالقاهرة. وكانت الفكرة هي أن ينضم أحد أعضاء الوفد الخارجي للإتحاد، ويستحسن أن يكون من أصل صحراوي، إلى الأمانة الدائمة لمنظمة تضامن شعوب إفريقيا وآسيا في العاصمة المصرية، ثم يلتحق بهافانا، عاصمة كوبا، ليتحدث باسم سكان الصحراء المغربية، أمام مندوبي حركات تحرير آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
1989/01/18
ما يسترعي الإنتباه، هو أن النواة المؤسسة لجبهة البوليساريو تنتمي كلها إلى المناطق الصحراوية المغربية التي لا يثور حولها أي نزاع، أي أن أفرادها من مواليد الطرفاية والطنطان و... وما يستدعي الإنتباه أيضا هو أن اثنين من المؤسسين الأحياء، هما محفوظ العروسي «الوزير الأول الصحراوي» وهو من قبيلة العروسيين ومن فرع الطرفاوي بالذات، وابراهيم ولد الغالي «وزير الدفاع» كانا مع بشير مصطفى السيد شقيق الوالي مصطفى السيد، مؤسس جبهة البوليساريو، هم الأعضاء الذين اختارتهم اللجنة التنفيذية للجبهة من أجل مقابلة الملك الحسن الثاني.
01/02/1989
الصراعات التي انفجرت في كل مكان من المغرب وتونس غداة الاستقلال، بين مختلف أطراف المقاومة، ثم الخلافات الحدودية التي نشأت بعد استقلال الجزائر، وما أفرزته من شوفينيات ضيقة، سوف تدفع منتجي الأدبيات التاريخية إلى طمس هذه الصفحات المضيئة من تاريخ مغربنا العربي.
الحدث-الأم الرابع هو استقلال الجزائر في صيف 1962.
وهنا نجد مرة أخرى الثوابت الجيو-ستراتيجية. لقد كان سقوط المملكة اليهودية المسيحية بجبال الأوراس ضربا من معركة ستالينغراد في مسيرة الفتوح العربية الإسلامية لشمال إفريقيا، وكان سقوط مدينة الجزائر عام 1830 إيذانا بوقوع المنطقة كلها تحت الهيمنة الغربية، وسوف يكون خروج الجزائر من هذه الهيمنة بداية لعهد جديد ما نزال نعيش مضاعفاته إلى اليوم، وهذا الحدث يستحق منا وقفة أطول من سابقيه لاتصاله المباشر بالأحداث الجارية حاليا في الجزائر.
1990/06/07
رغم أنني لا أومن إطلاقا بالنظرية البوليسية لتفسير الأحداث، أي بذلك المفهوم السحري اللاعقلاني الذي يرى في التاريخ العربي مسرح عرائس تسكنه مجموعة من الدمى والبيادق المرصودة أو المحركة من الخارج، فإنني أقف حَيْرَانَ أمام هذا التوازي الهندسي الدقيق بين حرب الخليج وحرب المغرب العربي اللتين تشلان الطاقات العربية وتبددانها في معارك عقيمة تماما، مثل ما تهدر الحربان الأخريان، أي الحرب الأهلية اللبنانية والحرب الأهلية اليمنية القدرات العربية في معارك سخيفة ومكلفة.
ولكنه قانون الحروب العربية البديلة.
12/02/1986
يحتاج المراقب العربي إلى الإلمام بمبادئ علم الأنواء والأرصاد الجوية، لأن الحاكم العربي لا يجد نفسه مطالبا بتفسير أفعاله ولا بتبريرها. فهو يصالح جاره أو يخاصمه، يتحالف معه أو يحاربه، يهادنه أو يهاجمه، دون أن يهتم من قبل أو من بعد، بمشاعر الناس، وما على هؤلاء إلا أن يكونوا جاهزين للانتقال من حالة الاكتئاب إلى حالة الاغتباط، ومن حالة الفرح إلى حالة الحزن، لاهثين وراء تقلبات سياسية مزاجية يمكن أن تجرهم في أية لحظة من فسحة العناق الأخوي إلى خندق الاقتتال الدموي.
22/06/1988
استرجاع الدولة المغربية في الظروف التاريخية المعروفة لأقسام من الوطن احتلتها إسبانيا اعتبر، من طرف الرئيس الهواري بومدين، وهو آنذاك في أوج تحوله نحو الراديكالية، وطموحه إلى زعامة العالم الثالث، بمثابة تهديد مباشر لأمن الثورة، وطفرة الثروة النفطية دفعته إلى تصور إمكانية كسب المعركة من خلال تعبئة موارد الجزائر الاقتصادية ورأسمالها المعنوي لتثبيت أطروحة الكيان الصحراوي.
22/06/1988
الكتاب الثاني
أريد في مستهل هذه السلسلة من المقالات حول الجزائر، أن أبوح للقارئ بأنني سوف أكتب بانحياز موضوعي، أو للدقة بموضوعية منحازة، بل متعاطفة، عن لقاءاتي، مشاهداتي ومسموعاتي، خلال عدة زيارات متقطعة قمت بها للجزائر على امتداد الأشهر الأربعة الأولى من هذه السنة.
سأكتب إذن، من هذه الزاوية المنحازة انطلاقا من اعتبارات كثيرة يأتي على رأسها أن ما يجري حاليا في الجزائر قد يكون في نهاية المطاف حاسما بالنسبة لمستقبل منطقة المغرب العربي كلها.
1990/06/07
موقع الجزائر في المركز من شبه الجزيرة المغاربية، جعلها، أي الجزائر، بالأقل منذ الفتح العربي، الإسلامي، في أواخر القرن السابع المسيحي وحتى مشارف القرن الواحد والعشرين بمثابة «مختبر استراتيجي» لمجموع شمال إفريقيا.
«الحدث-الأم»، بالمعنى الاستراتيجي للكلمة، ظلت، منذ ذلك التاريخ السحيق وحتى الآن، هي مسرحه بامتياز، يحصل فيها ثم ما تلبث أن تمتد عواقبه إلى الأطراف.
إنها بطن المغرب العربي حقيقة ومجازا.
1990/06/07
وقد لاحظت منذ الوهلة الأولى أن هذه الجزائر التي أراها أمامي الآن تخرج إلى الشارع. من المكاتب الوزارية المجاورة لقصر الشعب، أو من الإذاعة والتلفزة، وربما من الوزارة الأولى وأيضا من ثانوية ديكارت. لم يطرأ عليها، قياسا لما كنت أعرفه عنها، سوى تغيير طفيف لعل أبرز مظاهره وجود صبايا ملفوفات الرؤوس في قطع قماشية يغلب عليها اللون الأبيض، يرتدين أزياء محتشمة، متعددة الألوان، وإن كان يهيمن فيها الرمادي والأزرق أو ما في جوارهما أو حكمهما من الألوان غير الفاقعة. ومن المفارقات الانطباعية التي أثارت فضولي، هو أن هؤلاء الفتيات، وهن في تلك الأزياء يشبهن الأخوات أو الراهبات المسيحيات أكثر مما يشبهن شيئا آخر، وكانت معي زميلة فرنسية جاءت لتغطية الوضع في الجزائر وسمعتها تقول : «في النهاية تذكرني أزياء الفتيات وطريقة لف الرأس في ذلك الخمار الأبيض بلباس الراهبات الصغيرات عندنا في مقاطعة بريتانيا. ولست أشعر بالغربة وأنا أشاهدهن. وما زلت أحتفظ بصور تذكارية عن الفترة التي أمضيتها في الدير، تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن المشاهد التي تمر أمامي الآن. أنظر... هاته الفتاة الملفوفة الرأس. إنها شقراء. لعل والدتها فرنسية. على كل حال، المنظر ظريف والصبايا يبتسمن ويتناقشن بحماس، ومن دون توتر». وعلقت الزميلة الفرنسية : «بديهي أن الأنوثة كما نفهمها في فرنسا تتضرر من مثل هذه الأزياء، لكن من البديهي أيضا أنه لا أحد يستطيع أن يمنع المرأة من أن تكون امرأة. سوف تبقى الأنثى هي الأنثى، حتى ولو أرغمتها التقاليد على الخروج إلى الشارع فيما يشبه الكفن».
1990/06/12
خلال الأسبوع الفاصل بين مسيرة الديمقراطيين ومسيرة جبهة التحرير الوطني، أتيحت لنا فرص عديدة مكنتنا من أن نلمس درجة تدهور المعنويات عند قادة ومناضلي جبهة التحرير. بعض رموز الجبهة ووجوهها التاريخية الذين سألناهم عما إذا كانوا سينزلون إلى الشارع في اليوم الموعود، كانوا يجيبون عن أسئلتنا بصمت محتشم ونظرات كسيرة كئيبة، ترافقها همهمات وغمغمات مبهمة، تَنِّمُ عن حيرة عميقة. لم يكن أحد منهم يستطيع أن يعلن رفضه الصريح أو مقاطعته المباشرة ولا كانت التقديرات المتشائمة تسمح له بأن يغامر بالالتزام بموقف متسرع. وقد تنهد أستاذ جامعي كبير، عضو في الجبهة، أمامنا وروى البيت الشعري المعروف : لا يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله.
1990/06/21
«لا تنس قصيدة ابن زريق البغدادي المنشورة في كتاب : جواهر الأدب للهاشمي... تذكرها جيدا وأنت تكتب عن حالنا واستحضرها خصوصا حين معالجة الكارثة الكبرى التي حلت بجبهة التحرير الوطني».
هكذا خاطبنا السيد عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر السابق. كنا قد أمضينا مع الرجل الذي تولى رئاسة الدبلوماسية الجزائرية في عهد هواري بومدين، ساعات طوالا يوم انتخابات الثاني عشر من يونيو، صحبة عدد من أعضاء اللجنة المركزية ظلوا يضربون أخماسا في أسداس لمحاولة معرفة موجبات التحول الخطير الحاصل لحزبهم وبلادهم. لم تكن النتائج قد أعلنت بعد مساء ذلك اليوم، ولكن الأصداء والانطباعات الأولى، الآتية من مختلف المكاتب، لم تترك مجالا للشك، في أن هذه الاستشارة الأولى من نوعها، ستنتهي بهزيمة تلك الحركة الوطنية التي قادت الجزائر إلى الاستقلال، وحكمتها بعد ذلك حتى أحداث خريف الغضب الدامي (أكتوبر 1988)
1990/06/26
«أرأيت يا صديقي كيف نحن؟ مصيبة! هذه مصيبة كبرى، مازلت أذكر -يقول السيد عبد العزيز بوتفليقة- كيف قالوا لنا في منتصف الخمسينات إنهم رأوا الملك محمد بن يوسف في القمر. كنت يومها في الطريق الذي يسمى اليوم شارع الفداء بالدار البيضاء، وكان الناس يتدافعون بالمناكب وأبصارهم معلقة بالسماء. وكنت ما أزال فتى يافعا، وقد دفعني أحد المارة وألح على أن أقلب نظري في السماء وسألني : هل رأيته؟ وقلت له كلا! لم أر شيئا، وعلى كل حال كانت «رؤية»، الملك الشرعي المغربي في الفضاء، تعبيرا عن حالة من الانفعال الجماعي القوي تصُبُّ في مناخ التعبئة العامة ضد الاستعمار الفرنسي. أما الاستنجاد بالسماء هذه المرة، عندنا بالجزائر، فهو من باب الشعوذة لا أكثر ولا أقل. إنها الشعوذة في خدمة السياسة».
1990/06/26
سمعنا ذلك كله ورأينا الناس تتدافع بالمناكب، وتتزاحم، لأن سحابة اعتيادية كانت معلقة في السماء، قالوا إنهم رأوا فيها إسم الله. وقد سقط عدد من الناس تحت تأثير لحظة الإنفعال الجماعي، وأخذ آخرون يمرغون أنفسهم في التراب، مثل الدراويش من فرط التأثر. وشاهدنا مصوري القناة التلفزيونية يلتقطون تلك السحابة، التي بثت صورتها إلى جميع أنحاء العالم، ذلك المساء. وتمكنا من رؤيتها على القناة الثانية في تلك الليلة، عند صديق فرنسي يملك هوائيا يمكنه من إلتقاط كافة البرامج الآتية من وراء البحر، شاهدنا تلك السحابة الهزيلة في الصورة المتلفزة، بعد أن كنا رأيناها بالعين المجردة قبل ساعات، ورأينا كيف تستطيع الخرافة أن تفعل فعلها السحري في عقول الناس، وكيف يمكن لأي دجال أن يثير حالة من الانفعالات النفسية القوية تدفع الناس إلى تصرفات جنونية وتضعهم في حالة القابلية النفسية لتصديق أي شيء.
05/07/1990
عاشت الجزائر، طوال الفترة السابقة للإنتخابات البلدية والولائية الأخيرة وأثناء الأسابيع اللاحقة لها على توقيت أشعة اللازر. وخيل إلينا أكثر من مرة، ونحن نشاهد بعضا من آثار دخول هذه الأشعة إلى الحياة السياسية، أو نسمع عنها، أننا أمام فيلم من الخيال العلمي أو العلم الخيالي، يتبادل فيه المتنافسون المتحاربون الضربات بواسطة تلك (الأشعة الضوئية)، شاهدنا ذات مرة السيد عباسي مدني، زعيم الجبهة الإسلامية، يرفع بصره إلى السماء، وسط ملعب الخامس من يوليو بضواحي العاصمة أمام حوالي مائة ألف شخص وسمعنا بعد ذلك وسط الهرج والمرج، من يقول إنه رأى سحابة رافقته من العاصمة إلى مدينة سيدي بلعباس في غرب الجزائر. شاهدنا ذلك كله وسمعناه، وتذكرنا قصة السحابة التي تقول إحدى أساطير السيرة النبوية إنها كانت لا تفارق الرسول العربي عليه الصلاة والسلام، وكانت إحدى تجليات معجزاته الكثيرة. وكنا نقول في سريرتنا أن زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الذي درس الفلسفة وعلم النفس في لندن، والذي لا شك أنه اكتسب من دراساته خبرة عميقة بالأساليب الناجعة للتلاعب بآليات اللاشعور الجمعي، قد يكون قصد من وراء تلك الحكاية إضفاء طابع خارق على قوة حركته السياسية.
1990/07/17
هناك توضيحا لابد منه. إن الإختيار المطروح حاليا ليس بين الحداثة والتقليد، الجزائر مندرجة في عالمية العلاقات الإجتماعية والحداثة فيها مسألة عميقة. ولذلك يبدو لي أنه من الأفضل مقارنة الحركة الإسلامية، بحركات سنوات 1930 في ألمانيا وإيطاليا. ومن تضييع الوقت أن نطالب الإسلاميين ببرنامج، لأنهم يحتاجون لأسطورة ولا يمكن لهم أن يوسعوا قاعدتهم إلا إذا تجنبوا طرح المطالب الدقيقة والمحددة. كما أنه من باب تضييع الوقت أن نخاطر «بتشريح سريري (إكلينيكي) Un diagnostique clinique» لزعمائهم. وعندما يطالب السيد علي بلحاج من المؤمنين أن يُصَلّوا من أجله حتى يعطيه الله ذقنا وهو الرجل الأمرد، فإن هذا الطلب لا ينقص من قيمته أبدا. إن وظيفة الغدد الإفرازية ما تزال سرا كبيرا، ثم إنه من تضييع الوقت أن نحاول العثور في أوساطهم على رجال فاسدين، «ترابانديين» أو مهربين. ذلك كله عبث في عبث لكون إيمان الشعب يخلق أجساما مضادة للشك. ضد التشكيك وضد حجج أولئك الذين يعتبرون في نظره، من طينة أخرى. المشكلة الوحيدة التي يجب علينا معالجتها هي كيف نرد على الأزمة، ثم كيف نعيد ترتيب وتركيب مجتمع مفكك، وقطع الأوصال، في جميع المستويات.
ألا تعتقدون أن هذا التفكك كان أقل قبل عام 1979؟
1990/07/19
ولابد أن نشير هنا إلى أن كل الذين ترشحوا في الانتخابات البلدية والولائية الأخيرة، وقعوا على تعهد يلتزمون فيه بمنع الاختلاط بين الجنسين بالمدارس وعلى الشواطئ، وتحريم الدعارة وألعاب القمار ومنع بيع الكحول واستهلاكها. وقع أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ هذا التعهد ولم تتدخل الدولة أو تحرك ساكنا، علما بأن كثيرا من هذه المجالات، تدخل في نطاق اختصاصاتها القانونية. وكل رؤساء وأعضاء المجالس البلدية الذين تحدثنا إليهم، خلال النصف الأول من شهر يوليو حول هذه المواضيع، كانوا يردون عن أجوبتنا بأنهم ما زالوا ينتظرون القرارات التطبيقية أو النصوص التوجيهية التي سيرسلها إليهم المكتب الوطني، أي القيادة العليا للجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكانوا يبررون «التأخير» بغياب السيد عباسي مدني إلى العربية السعودية.
1990/07/26
«أنظر جيدا إلى هذه الصور الثلاث، عساها تعطيك فكرة عن طريقة الرئيس الشاذلي بنجديد في معالجة المشاكل» : هكذا خاطبني زميل جزائري وهو يضع أمامي، فوق مكتبه، ألبوما من اللقطات المختلفة للرئيس الجزائري.
أخذت أقلب الصور من دون أن أدرك على الفور مغزى الملاحظة الصادرة عن محدثي، وهو مسؤول سابق في الإعلام، أتيحت له فرصة الاحتكاك المباشر بقادة الدولة والحزب على مدى العشرين سنة الماضية، وصار من العارفين بخفايا الأحداث وبخلفياتها. تصورت في البداية أنها مجرد نكتة، وحين أدرك الصديق الحيرة التي أوقعني فيها، ابتسم واستعاد الصور الثلاث وأخذ يشرح لي في جدية ساخرة : «هذه الصورة الأولى، تمثل الشاذلي بنجديد في سنته الرئاسية التالية لوفاة هواري بومدين. إنه كما ترى ما يزال بشواربه الغليظة التي جاء بها من وهران، وهذه الصورة الثانية تختلف عن الأولى، ولعلها ترجع إلى بداية ولايته الثانية، وهي كما تلاحظ تتميز برقة الشوارب، لقد أصبحت الشوارب خيطا رقيقا يكاد يكون غير مرئي. أما الصورة الثالثة، فلا نجد فيها أثرا للشوارب على الإطلاق. وفي استطاعتك أن تؤرخ للمراحل المختلفة، في حياة رئيسنا بالأطوار والتقلبات الطارئة على شنباته أو «شلاغمه»، كما نقول في دارجتنا الجزائرية. إن الطريقة التي عالج بها خليفة هواري بومدين مشكلة شواربه الكثة، بدءا من تشذيبها وترقيقها إلى حلقها في النهاية، هو نفس الأسلوب الذي اتبعه في تجاوز العقبات التي اصطدم بها خلال السنوات العشر الماضية»
07/08/1990
حصل الانقلاب الأول، حتى من قبل أن يتم الإعلان عن ميلاد الدولة الجديدة المستقلة.
كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، التي يرأسها الدكتور الصيدلي، يوسف بن خدة، تستعد مع بداية شهر يونيو للانتقال من تونس، حيث توجد مكاتبها، إلى الجزائر، لأجل استلام السلطة من الإدارة الفرنسية، وذلك وفقا لمعاهدة إفيان وتطبيقا لنتائج الاستفتاء الذي صوت أثناءه الشعب الجزائري بأغلبية ساحقة على الاستقلال. وبينما كان وزراء الحكومة المؤقتة الممثلة للشرعية الوطنية والدولية، يجمعون حقائبهم، ويهيئون أنفسهم للرجوع إلى بلدهم، أعلنت القيادة العامة للجيش الوطني والشعبي، عدم ثقتها في الوزارة، واتخذ رئيس هذه الأخيرة قرارا بعزل بومدين ورفاقه. يومها وصلنا الخبر، بواسطة قصاصة عاجلة من وكالة الأنباء الفرنسية.
كنا في جريدة التحرير، وقد نزل علينا النبأ كالصاعقة، وسمعنا الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، رئيس تحرير الجريدة، يعلق عليه، في لحظة من لحظات سخريته النادرة، قائلا : «لا بأس، ها هي الجزائر تؤكد لنا عروبتها، لأنها عاشت انقلابها العسكري الأول حتى من قبل ميلادها الرسمي كدولة مستقلة».
وما أشبه اليوم بالأمس.
1992/01/29
دخل مواطن جزائري، يبحث عن مقر المحكمة، يسأل عن عنوان تلك البناية الواقعة بشارع عبان رمضان وسط العاصمة، فرد عليه مخاطبه مشيرا إلى العمارة المطلوبة قائلا : «القصر هناك، قريب جدا، أما العدالة، فلا أعرف عنوانها». هذه النكتة، التي سمعناها أكثر من مرة، في زياراتنا الأخيرة للجزائر، تترجم نظرة متشائمة إلى القضاء والمؤسسات القضائية، طغت في الأسابيع الأخيرة على الحياة العامة في الجزائر.
نعم، لقد عاد القضاء ليحتل في الأسابيع الماضية موقع الصدارة، في اهتمامات أجهزة الإعلام، ورجال السياسة، وفي انشغالات المواطنين. حصل ذلك، بسبب سلسلة من الأحداث المتوافقة، المتزامنة، جاءت كلها تضع هذا القطاع ورجاله، في بؤرة الأضواء.
1992/11/26
الكتاب الثالث
خلال الثلاثين سنة الماضية، كان الجيش هو المحرك الفعلي للحياة السياسية، لكنه استطاع أن يظل بعيدا عن الأضواء. أما اليوم، فإن تصاعد العنف يضعه وجها لوجه أمام المجتمع، كما أن الفراغ القانوني الناجم عن وفاة محمد بوضياف، إثر حادث اغتيال ساهم فيه عدد من الضباط للحرس الجمهوري، يطرح عليه كمسؤولية سياسية مباشرة قد تفرض عليه مراجعة جذرية لأسلوب العمل، ورغم أن الجيش، في كل أنحاء الدنيا بما فيها الجزائر، يعرف بأنه مؤسسة صامتة، ونادرا ما تصل أصداء المناقشات الجارية في صفوفه إلى الخارج، فإن الجيش الجزائري يعيش حاليا جدلا ساخنا، تتردد بعض جوانبه خارج الثكنات.
1992/12/03
يحمل كثير من الناس، منذ لحظة الميلاد، أو حتى قبلها، حسب بعض النظريات «البيو-نفسية»، طباعا مضمرة، كامنة، محتملة التحقق، تأتي لاحقا جملة من الظروف المختلفة، لإنضاجها، في وقت مبكر أو متقدم من العمر، فتعطي لزيد أو عمرو، أو لفلانة أو علانة، وجها يصدم سلبا أو إيجابا، من كانوا يظنون أنهم يعرفون الشخصية المذكورة معرفة جيدة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن ملابسات الاحتلال الإسباني لشمال المغرب، وبالنظرة الاحتقارية لبعض الموظفين المحليين إلى الأهالي والبنية الاجتماعية للمنطقة، ووزن بني ورياغل فيها ومكانة أسرة بن عبد الكريم داخلها والخلفية التاريخية للصراع المسيحي الإسلامي على الضفتين، كلها عناصر أسهمت في تحويل ابن قاض تقليدي من فقيه مغمور كان مرشحا لأن يتدرج في مناصب إدارية أهلية مثل عدد من معاصريه في ظل الحماية أو في أحسن الأحوال يبقى وجها جهويا خامل الذكر، لتجعل منه قائدا لحركة حرب عصابات ثورية اعتبرها القادة العسكريون والثوار المعاصرون بدءا من ماوتسي تونغ حتى تشي غفارا قدوة مثالية ساروا على منوالها لانتزاع السلطة من خصومهم السياسيين، ناهيك عن مكانتها المركزية في التاريخ المغربي والعربي المعاصر.
1994/12/21
ولعل القارئ سوف يصاب بأول دهشة إذا ما ذكرت له بأن فكرة إجتماع الأحزاب الجزائرية في الخارج، برزت كمشروع عملي لأول مرة، كمبادرة مغربية. إنني أكتب هذه الواقعة من ذاكرتي، وذهني منصرف إلى ذلك البيان الذي أصدرته أحزاب الكتلة الديمقراطية الثلاثة : حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي بالرباط خلال فصل الربيع الماضي (وربما أثناء شهر مارس بالضبط)، ودعت فيه الأحزاب السياسية الجزائرية إلى الإسراع بعقد إجتماع فيما بينها للبحث في وفاق وطني يخرج القطر الشقيق من مخاطر الانزلاق نحو حرب أهلية مدمرة. ليس أمامي ذلك النص حتى أستشهد بكلماته، لكن روحيته حاضرة تماما في وعيي. وأظن أن مشروع دعوة جيراننا الجزائريين إلى ذلك الإجتماع نوقش هنا في باريس خلال واحد من هذه اللقاءات الكثيرة التي تمت بين عدة شخصيات من الكتلة الديمقراطية من جهة وبين الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي والفقيه محمد البصري من جهة أخرى.
18/01/1995
ما زلت أتذكر، كما لو أني رأيتها أمس أو حتى قبيل بضع ساعات فقط، تلك المسيرات الشعبية الحاشدة التي عرفتها الجزائر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن تخوم الشرق إلى ثغور الغرب، خلال فصل الربيع الديمقراطي القصير [أكتوبر 1988 بداية يناير 1992]، ولا تزال ترن في أذني الأصداء البعيدة لذلك الشعار السياسي المركزي : «لا دستور لا برلمان... ميثاقنا هو القرآن». لقد سمعت مئات الشبان والمراهقين يهتفون به في شوارع مدينة مغنية، وظننت وأنا أتمعن في ملامحهم وأنصت إلى هتافاتهم أنهم من بلدة بني يدرار المجاورة. بحكم تشابه السحنات ومخارج الحروف عند سكان جبال بني يزناسن الموجودين على ضفتي وادي كيس، وأنصت إلى مئات الشبان الآخرين يصدحون بنفس الشعار حتى لتكاد حبالهم الصوتية تتقطع من فرط الانفعال في مدينة «سوق أهراس» على التخوم التونسية، وخلتهم أيضا من أهالي مدينة «الكاف» أو من بلدة «ساقية سيدي يوسف» التونسيتين المجاورتين.
01/02/1995
ما معنى «عصر المناطق الرمادية»؟
إنه باختصار شديد مفهوم «زمكاني» ذو طابع إجرائي هدفه إعطاء فكرة عامة جدا، قريبة قدر الإمكان من الواقع، حول وضع تاريخي راهن داخل منطقة جغرافية معينة.
المناطق الرمادية بهذا التعريف السريع هي فضاءات جغرافية تعاني فيها الدولة المركزية بما هي تعبير رمزي عن الكيان الوطني، سلسلة من العوائق تحول بينها وبين احتكار مشروعية استعمال العنف لضبط آليات سير المجتمع وتسييره.
في مثل هذه الحالة تغلق مساحات كاملة بسكانها ومواردها وولاءاتها ومرجعياتها وتَوَجُّسَاتها من هيمنة الدولة لتسقط تحت سلطة العصابات المسلحة أو المليشيات العرقية أو صعاليك الدرب والحي والقرية أو حتى تحت تسلط قبضة المافيا وصغار المجرمين.
المناطق الرمادية بهذا المعنى الواسع موجودة في بقاع كثيرة من العالم وليست خاصية جزائرية، بل ليست حادثا جديدا طارئا وإنما هي معاصرة لنشوء الدولة المركزية في عهد حمو رابي، بل يمكن القول بأن محاولة تنظيم الدولة انطلقت أساسا لاحتواء تلك الظاهرة القديمة.
1995/04/19
في اليوم التالي للغارة الجوية التي قامت بها الطائرات الإسرائيلية على «حمام الشط» في ضاحية العاصمة التونسية ودمرت فيها مقر منظمة التحرير الفلسطينية غضب الرئيس الحبيب بورقيبة غضبا شديدا ما عليه من مزيد. لم يكن الغضب الرئاسي موجها ضد إسرائيل، وإنما ضد القيادة الفلسطينية التي اتُّهمت بأنها قدمت الفرصة للإسرائيليين لمهاجمتها ولم تكن حكيمة بما فيه الكفاية. وفي ثورة الغضب قرر الرئيس التونسي أن يُلقي خطابا رسميا في الإذاعة والتلفزة التونسية يعبر فيه عن موقفه «الرافض للإرهاب». وخوفا من الفضيحة والمضاعفات السياسية ذهبت «الماجدة وسيلة» بعد أن أخفقت في إقناع الرئيس بورقيبة بالعدول عن قراره بمهاجمة الفلسطنيين علنا في الصباح الباكر إلى منزل أحد قادة منظمة التحرير وأيقظته من نومه وقالت له بالحرف : «تعال معي فورا لمقابلة الرئيس بورقيبة قبل أن يعمل المصيبة». ولابد لي من أن أقول بأنني خففت جدا صياغة الكلمات التي نطقت بها «الماجدة وسيلة» أمام المسؤول الفلسطيني وأن أضيف إلى أنني سمعت رواية الحادثة من مسؤول تونسي سابق، المهم أن القائد الفلسطيني رافق السيدة التونسية الأولى إلى منزل الرئيس بورقيبة الذي استقبله بسيل من الشتائم والمسبات في حق السيد ياسر عرفات.
1986/04/30
وقد وصل الصراع الجزائري الليبي حول تونس إلى قمته في الصيف الماضي، وتحديدا في شهر غشت 1985، حينما أقدمت طرابلس على إبعاد أعداد من العمال التونسيين. الطريقة المثيرة التي عالجت بها وسائل الإعلام الغربية والعربية تلك المسألة، حجبت عن الرأي العام بعدها السياسي الواضح. لم ينتبه إلا عدد قليل من المراقبين إلى خطاب هام ألقاه معمر القذافي في تلك المناسبة، وأكد فيه أن الدافع الأول لتصرفه سياسي بالدرجة الأولى وليس اقتصاديا، كما ذهب إلى ذلك أغلب المعلقين. والواقع أن الشائعات عن تدهور الحالة الصحية للرئيس بورقيبة تكاثرت في ذلك الصيف وجعلت العواصم المهتمة بالوضع في تونس وخاصة باريس وواشنطن في الغرب والجزائر وطرابلس في المغرب العربي، تشحذ أسلحتها لوضع أوراقها على طاولة اللعب.
07/05/1986
وبما أن الحياة السياسية معلقة في تونس بما يصدر من كلمات قليلة عن رئيس طاعن في السن، لا تمكنه صحته من تركيز ذهنه طويلا على القضايا المعقدة التي تواجهها الدولة في الظروف الإقليمية والعالمية الجديدة، فإن المؤشر الوحيد على ما يحدث في حقل النشاط الرسمي هو ما يتداول في الدوائر الدبلوماسية وفي أوساط الحاشية أو المقربين من البلاط البورقيبي حول نوايا المجاهد الأكبر، وفي هذا السياق يقال إن الرئيس التونسي الذي يقضي لحظات طويلة يتفرج على نفسه في الشاشة الصغيرة من خلال البرامج اليومية الطويلة التي تقدمها عنه التلفزة التونسية، كان ينزعج كثيرا خلال بعض الأيام حين يشاهد وزيره الأول يأخذ وقتا غير عادي من البث التلفزيوني. إنه أصبح، بناء على ما يمكن لنا أن نستنتجه من مسموعات ومشاهدات العارفين بالأحوال التونسية، يغار حتى من ظله في المرآة.
14/05/1986
ولكن، ما علاقة ذلك كله بإبعاد محمد مزالي عن رئاسة الحكومة؟ الملفت للانتباه وهو ما يؤكد الطابع المسرحي للعملية أن هذا الرجل الذي كان مرشحا بحكم نصوص الدستور التونسي لخلافة الحبيب بورقيبة قد أقيل من منصبه ببيان مقتضب من جملة واحدة دون أن توجه إليه أية تهمة أو يزجى له شكر.
لن نعود في هذه المراسلة إلى الخوض في تفاصيل صراع التيارات والشخصيات والمصالح المحيطة بالرئيس بورقيبة التي سبق لنا أن تناولناها في مقالات سابقة وإنما سنتوقف عند بعض الجوانب المعتمة لإلقاء الضوء عليها.
23/07/1986
ما الذي حدث بالضبط حتى يضطر هذا الرجل الذي كان في قلب الأحداث وبؤرة الأضواء، ومركز الإهتمام داخل بلده وفي العالم العربي، ما الذي حدث ليجبره على التنكر في زي تونسي تقليدي لمغادرة منزله الفاخر في تونس العاصمة، ثم إجتياز الحدود ليلا نحو الجزائر بتلك الطريقة التي اجتازها بها؟
يحاول السيد محمد مزالي الإجابة عن هذا السؤال في كتيب صغير (مئة وستة وثمانين صفحة) صدر خلال الأسبوع الأول من شهر يونيو الماضي تحت عنوان : «رسالة مفتوحة إلى الحبيب بورقيبة»، عن دار آلان مورو Alan Moreau للطباعة والنشر في باريس.
1987/07/15
على عكس ما جرى في العام الماضي، حيث أعطت بعض المبادرات الصاخبة الانطباع بأن هذا الجزء من العالم العربي مقبل على إعادة صياغة توازناته الإقليمية، فقد حملت التطورات الحاصلة خلال الشهور الأخيرة، خاصة بعد تنحية الرئيس الحبيب بورقيبة من موقعه وحلول الثنائي زين العابدين بنعلي-الهادي البكوش مكانه، كما أَنَّ الطريقة التي استقبل بها الحدث التونسي في كل من طرابلس والجزائر والرباط ونواكشوط، ثم الأولويات التي وضعها المسؤولون التونسيون لأنفسهم وكذلك المطالب الدبلوماسية التونسية الجديدة والانفراج في العلاقات الليبية التونسية، والاتصالات المعلنة وغير المعلنة المستمرة ولو بتعثر بين الرباط والجزائر، وانشغال أغلبية الأطراف بالقضايا الداخلية الملحة، حمل ذلك كله أكثر من مؤشر يبعث على الظن بأن شروط قلب موازين القوى في الساحة المغاربية لم تعد متوفرة وقد لا تكون واردة في جدول الأعمال لفترة قريبة.
1988/02/10
حين تمكن الليبيون خلال الأسبوع الأخير من شهر غشت 1987، من استرجاع واحة أوزو الواقعة في الأطراف الشمالية القصوى لجمهورية تشاد، فإنهم لم يفعلوا شيئا آخر سوى استعادة القسم المأهول من شريط رملي مساحته مائة وعشرين كيلومتر مربع كان الصراع يدور حوله وحول الأراضي المجاورة له غربا وشرقا وجنوبا، بين طرابلس وباريس، منذ أكثر من مائة سنة.
عندما يقول العقيد معمر القذافي إن شريط أوزو جزء لا يتجزأ من التراب الوطني الليبي، فهو لا يبتدع موقفا جديدا، وإنما يعبر عن سياسة ليبية قديمة لا تبتعد إطلاقا عن حقائق تاريخية وجغرافية تسندها وثائق معروفة لدى الأطراف المعنية.
09/09/1989
لقد تحولت تشاد بعد إعلان استقلالها مباشرة إلى ساحة النزاع العربي الصهيوني، وكانت إلى جانب أوغندا من أوثق البلدان الإفريقية المستقلة حديثا، علاقة بإسرائيل.
الرجل الذي اختاره الفرنسيون ليكون قائدا للدولة الجديدة، وهو فرانسوا طومبلباي، زار إسرائيل عام 1954، أي قبل إعلان «استقلال» تشاد بست سنوات، واستورد بعد توليه مقاليد الحكم خبراء عسكريين إسرائيليين أشرفوا مباشرة على تكوين وتدريب وحدات الشرطة والدرك. كما جلب فنيين زراعيين لدراسة إمكانات تطوير الزراعة ومهندسين جيولوجيين للتنقيب عن النفط واليورانيوم والمناجم الأخرى.
الاهتمام الإسرائيلي بتشاد في تلك المرحلة المبكرة من تاريخها كان جزءا من إستراتيجيتها العامة المناوئة للثورة الناصرية في مصر ولعموم الحركة القومية العربية في شمال إفريقيا.
16/09/1987
أكثر من ذلك : فقد أعلن العسكريون التشاديون الحاكمون، وهم كلهم من أصدقاء باريس، أن هذه الأخيرة قدمت الأسلحة بالفعل إلى حسين حبري، وأصدروا بيانا يحظرون فيه رسميا وبصورة احتفالية، على فرنسا أن تتابع مفاوضاتها المباشرة مع المتمردين، وقالوا إنهم سوف يدخلون في مفاوضات شاملة مع جبهة تحرير تشاد، يعالجون ضمنها مشكلة المرأة المخطوفة. وإذن فإن فرنسا التي اعتقدت أن الإنقلاب يعطيها هامش حرية، وجدت جهودها تتبخر فجأة تحت ضغط حلفائها التشاديين، مما جعلها توقف مفاوضتها مع الثوار، خوفا من تدهور أعمق يستفيد منه خصومها الليبيون، الذين بدؤوا في الفترة نفسها يتصلون بالإنقلابيين ويحاولون إقناعهم بالتفاهم مع المعارضة المسلحة. وسوف تعتقد فرنسا، عن خطأ أو صواب، أنها تصطدم بالأصابع الليبية، في محاولاتها الرامية إلى التعامل مع حسين حبري، دون المساس بمواقع نفوذها لدى الطرف الآخر.
1987/09/23
إحدى الفضائح السياسية، إن لم نقل أخطر فضيحة سياسية في عهد الرئيس السابق فاليري جيسكار، كانت من مضاعفات الصراع الذي دار بينه وبين معمر القذافي في تشاد وفي عموم القارة الإفريقية. لقد ساد الإعتقاد داخل الدوائر السياسية والإعلامية في خريف 1979، أن تسريب أنباء نشرتها جريدة «الكنار أنشيني Le canard enchainé»، عن استلام السيد جيسكار ديستان لمجموعة من الألماس والأحجار الثمينة هدية من صديقه الإمبراطور جان بيديل بوكاسا، كان من فعل الليبيين. ومن غرائب السياسة ومفارقاتها أن الجيش الفرنسي، أشرف مباشرة على قلب نظام الإمبراطور بوكاسا في نفس الخريف، وأن أنباء الإنقلاب وصلت إلى بوكاسا وهو يقوم بزيارة رسمية إلى طرابلس بحثا عن مساعدات مالية، بدأت باريس تتردد في تقديمها إليه.
07/10/1987
وكان عدد هذه النخب التي تخرجت من مؤسسات التعليم المختلفة يرتفع باستمرار، بموازاة ارتفاع وثيرة التطور السكاني.
ثم جاء «الزلزال السوفياتي» وما رافقه من إنهاء لدور الطرف الآخر في اللعبة الدولية، مؤذنا ببداية مرحلة جديدة في الحياة الدولية.
ولقد كان الزلزال السوفياتي، ضربة مزدوجة للأنظمة الإفريقية الحاكمة، سواء منها الليبرالية الموالية للغرب، أو «الماركسية اللينينية» التابعة للشرق. وكانت أغلب الدول الإفريقية، غداة حصولها على الاستقلال، في حقبة الستينات، قد اختارت نظام «الحزب الواحد»، سواء منها تلك التي انتهجت السياسة الفدرالية في المجال الاقتصادي مثل السنغال وكوت ديفوار وزائير والكامرون، أو التي طبقت مبادئ التخطيط المركزي والتأمين الشامل مثل غينيا ومالي وبنين.
25/08/1992
القول بأن المؤتمرات الوطنية هي السبيل الإفريقي نحو التعددية الديمقراطية، فإن الحكومات القائمة لم يكن لديها موقف موحد من الفكرة الجديدة التي بدأت تشق طريقها بقوة في مختلف الأوساط.
يمكن تصنيف ردود الفعل الرسمية إلى أربعة مواقف :
موقف حاول أصحابه ركوب الموجة مع العمل على الخروج بحد أدنى من الخسائر والاحتفاظ قدر الإمكان بمواقع مؤثرة في السلطة. وتلك هي حال الدول مثل الكونغو والطوغو والزائير.
والمقال الحالي مخصص لتجربة الكونغو والطوغو وسوف نعالج تجربة الزائير لاحقا.
موقف المعارضة الصريحة والرفض القاطع وتلك هي حال الكامرون وساحل العاج.
موقف التظاهر بالقبول ومسايرة التيار ثم تغليطه واستغلاله لتقوية الوضع القائم (وتلك هي حال الغابون).
موقف استباق الأحداث وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل موعدها (مثل ما حدث في السنغال وموريتانيا)، لقطع الطريق على دعاة المؤتمر الوطني.
26/08/1992
في ليلة باردة من ليالي شهر دسمبر 1989، شاهد المارشال موبوتو سيسي سيكو، رئيس جمهورية الزائير، وهو جالس بمقعده الوثير بقاعة التلفزة في الباخرة الرئاسية الراسية في عرض نهر الكونغو، أمام مدينة كينشاسا، شاهد مثل غيره من المتفرجين في العالم وقائع محاكمة وإعدام نيكولا شاوسيسكو وزوجته الجميلة إلينا. وبما أن موبوتو صديق شخصي لرئيس رومانيا الذي استضافه ثلاث مرات في بوخارست، ووضع معه برنامج مشتركا لتبادل الخبرات بين البلدين، فقد تأثر كثيرا بما شهده في تلك الليلة أو تطير، وهو المؤمن بالأقدار، من وقوع شيء مماثل له.
1992/08/27
من العبث، كما ذكر لنا معارض زائيري في باريس، محاولة إحصاء عدد «الأحزاب» لأن موبوتو، أصر شخصيا على إفساد اللعبة الديمقراطية، من خلال ما أسمته الصحافة المحلية «التعددية الموبوتوية» وعندما اتخذ المارشال-الرئيس قراره المبدئي بقبول انعقاد المؤتمر الوطني، تقرر في نفس الوقت أن تمثل الأحزاب بالتساوي (أربعة أشخاص لكل تشكيلة سياسية) بصرف النظر عن وزنها الحقيقي في المجتمع.
وقد حرص موبوتو ومستشاروه، على تهميش أحزاب المعارضة الحقيقية الكبرى، وهي لا تتجاوز ثلاثة فأغرقوها بإنشاء عدد لا حصر له من التنظيمات الصورية التي أطلق عليها الرأي العام في الحين اسم «الأحزاب الغذائية»
28/08/1992
الكتاب الرابع
«أتصور أن الأشخاص المجتمعين بهذه القاعة لم يأتوا إليها ليواصلوا بالكلام معارك السلاح التي يخوضها المقاتلون في مواقعهم. ويخيل إلي أنهم حضروا لأن كل واحد منهم يملك مقدارا صغيرا أو كبيرا من قابلية الإصغاء إلى الطرف الآخر وربما محاورته، إنهم في كل الأحوال ليسوا جنودا يحملون السلاح. وإذا كانوا كذلك فلا أرى أي مبرر لهذا الاجتماع. إنني أدعو الجميع إلى التزام الهدوء والصمت للاستماع إلى المتحدثين ومناقشة ما سوف يقدمونه من تصورات وأفكار، في حدود القواعد المتعارف عليها لمثل هذه المناسبة».
بهذا الخطاب الذي تتخلله روح ساخرة، افتتح المستشرق الفرنسي الكبير مكسيم رودنسون، الأستاذ بمدرسة اللغات الشرقية، أعمال جلسة ما بعد الظهر من اليوم الثاني لندوة الأراضي المحتلة وآفاق السلام في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، التي نظمت يومي الخميس والجمعة (29-30 مايو 1986)، في العاصمة الفرنسية، تحت إشراف مجموعة من الجامعيين الفرنسيين.
11/06/1986
أريد أن أبدأ هذه المراسلة، بالإشارة إلى ثلاث وقائع، عمرها عشرين سنة تقريبا، أي أنها تعود إلى الأيام التي ولد فيها أطفال ثورة الحجارة في قطاع غزة والضفة الغربية.
الواقعة الأولى، يرجع تاريخها إلى ربيع 1967، وتتصل بأول محاولة فكرية جدية لتقديم القضية الفلسطينية إلى الرأي العام الفرنسي.
الثانية حدثت في ربيع السنة اللاحقة أثناء ثورة الطلاب والعمال وكان مسرحها، باحة جامعة السوربون في قلب الحي اللاتيني.
الثالثة، كانت بطلتها الصحفية الفرنسية، اليهودية الأصل، أنيا فرانكوس، التي توفيت قبل بضعة أسابيع، بعد سنوات عديدة من مكافحة مرض السرطان.
خلال ربيع 1967، وجدت نفسي، بتكليف من الإخوة الفلسطينين، أشارك في اجتماعات ببيت السيد كلود لانزمان، سكرتير مجلة «الأزمنة الحديثة»، الصديق الشخصي للفيلسوف الفرنسي الراحل جان بول سارتر، صاحب المجلة المذكورة، الذي كان قد عاد، مع سيمون دي بوفوار، من رحلة قاما بها إلى مصر، وقابلا خلالها الرئيس جمال عبد الناصر، بفكرة إصدار عدد خاص من تلك المطبوعة الواسعة النفوذ في أوساط اليسار، بهدف عرض وجهات نظر الطرفين، العربي والصهيوني، حول المسألة الفلسطينية.
1988/03/09
إما أن تستعيد إسرائيل إلهامها ومبرر وجودها، وتنطلق محررة من كل احتلال نحو معاناة المعرفة والإبداعات التي تثمرها، وإما أن تنقاد للنفير العسكري القديم، قدم العالم نفسه، لتختفي بدورها من صفحات التاريخ. وهكذا، نرى أن المفاوضة المطلوبة، ليست إلا في الظاهر فقط، بين العرب واليهود، بل ينبغي على الإسرائيليين أن يختاروا مصيرهم بوضوح. إنه يتعين عليهم أن يقدموا برهانا تاريخيا جديدا، مثل ذلك الذي قاموا به قبل أربعين سنة، وأن يجيبوا على نفس التساؤل، أي أن يخضعوا للخوف، أو يتغلبوا عليه».
هذه هي الخلاصة التي انتهى إليها الكاتب والصحفي الفرنسي اليهودي، جان جاك سيرفان شرايبر، في مؤلف من مئتين وخمسين صفحة
08/06/1988
ثم جاءت ثورة الحجارة المباركة، وكان لعمرها الذي لا يتجاوز عشرة أشهر، تأثير في الرأي العام الغربي أعمق وأوسع، من كل ما قامت به الدعاية العربية من نضال خلال الأربعين سنة الماضية. وأبادر هنا لأقول إن هذا التحول ليس نتيجة «جيل فطري» ولم ينزل من السماء نتيجة لِسحَّة الغيمة الأخيرة. بل أريد أن أنبه إلى أن هناك محاولة لتشويه العلاقة التاريخية القومية بين الانتفاضة وبين تضامن الشعب العربي معها. حقا أن فلسطيني الضفة وقطاع غزة هم الذين استطاعوا أن يفرضوا حضورهم على الخارج.
لكن من الحق أن نقول أيضا إن «غليان» الشوارع العربية، وحتى معارضتها الخرساء، وتجليات الرفض العربي للظاهرة الصهيونية بكل أشكالها، وإحباط محاولة تعميم «النموذج المصري» ساهمت كلها في إبقاء الجذوة حية في الداخل.
28/09/1988
تحمل الزلازل التاريخية السياسية، ثلاث خصائص مترابطة شبيهة بالهزات الأرضية :
الخاصية الأولى هي أنها تأتي مفاجئة.
الخاصية الثانية أنها تكون عنيفة.
والخاصية الثالثة أنها مدمرة.
الجوانب الثلاثة نجدها مجتمعة في الانتفاضة الفلسطينية التي عُرفت بثورة أطفال الحجارة.
لقد فاجأت الانتفاضة الأطراف الثلاثة المعنية أكثر من غيرها بأوضاع الضفة الغربية وقطاع غزة. والأطراف الثلاثة المقصودة هنا هي : إسرائيل والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
1993/10/06
في هذه الأثناء مثلا صادف أن اثنين من علماء الطبيعيات الفرنسيين، كانا يتجولان بين مصر والقسطنطينية وحلب وبغداد وبلاد فارس، ظاهريا لجمع الحشرات والنباتات النادرة من أجل إغناء متحف التاريخ الطبيعي في فرنسا، وواقعيا من أجل التعرف على نقاط الضعف داخل جسد الإمبراطورية العثمانية لقطع طرق التجارة البريطانية مع البحر الأبيض. وحين عاد العالمان الفرنسيان إلى باريس، قدما في تقريرهما إلى سلطات الجمهورية الفرنسية الناشئة، معلومات تتحدث عن إمكانية إقامة مراكز تجارية فرنسية على ضفاف الخليج العربي، واحتمال توجيه ضربة قاضية إلى القوة البريطانية من خلال الإستيلاء على مصر. ولكن المستر صمويل مانيستي، كان قد تمكن انطلاقا من مكتبه في البصرة وبفضل شبكة الصداقات العربية من تعقب الرجلين ومن إرسال تفاصيل هامة عن نوايا فرنسا تجاه منطقة النفوذ البريطاني وذلك قبل أن يقود نابليون حملته الشهيرة إلى ضفاف النيل
04/09/1990
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي توجت بتفكيك الدولة العثمانية، وبتقسيم تركيا الجغرافية العربية بين الدول الغربية المنتصرة، وتحديدا بريطانيا وفرنسا، دخلت المنطقة العربية الواقعة إلى الشرق من مصر، وضمنها إمارة الكويت، طورا جديدا من تاريخها، استمر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945). وإذا كانت أصول الحرب العالمية الثانية موجودة في الحرب التي سبقتها، فإن بذور الأزمة الراهنة، التي نعالجها تحت عنوان : «حرب الخليج الثانية»، قد زرعت خلال الفترة الزمنية الفاصلة بين الحربين العالميتين.
20/09/1990
وليس الوقوف عند إشكالية المصطلح من باب الترف الفكري أو من وحي الرغبة في حذلقة لفظية، وإنما هو ضرورة تحتمها شروط المعالجة الموضوعية لقضية في منتهى الخطورة، مثل تلك التي تواجه العرب اليوم، ومعهم العالم بأسره بسبب دخول العراق للكويت وضمها إليه، وما أثاره ذلك كله من تحركات عسكرية ودبلوماسية. لا، ليست إشكالية المصطلح نقطة هينة، وإنما هي بعد جوهري من أبعاد الصراع الذي نعيشه، وهي كذلك لكون السيطرة على الأشياء، تبدأ دائما بالتحكم فيها من خلال التعريف اللفظي. إن تسمية الظاهرة، هي الخطوة الأولى نحو امتلاكها أو تملكها. وقد بدأ الغرب سيطرته على العالم بتقسيم أجزائه وإطلاق أسماء معينة عليها، وكانت أرض العرب من ضمن أقسام الكرة الأرضية التي بسطت عليها الهيمنة الغربية بهذه الطريقة.
إذا كان المبدأ الفلسفي الفقهي القديم يقول : «إن الحكم على الشيء فرع من تصوره» فإننا نستطيع أن نضيف إليه التحكم في مقاليد منطقة جغرافية يبدأ بإطلاق أسماء معينة عليها.
20/09/1990
الحدود الراهنة بين دول المشرق العربي، ليست حدودا عادية بين كيانات متميزة، قد تكون مستقلة بهذا القدر أو ذاك عن جيرانها أو تملك تراثا تاريخيا قديما أو جديدا يسمح لها بتأسيس مشروعية مقنعة وغنية بما فيه الكفاية لبناء وعي وطني ينتج جذور هوية متحكمة تولد سلسلة من الولاءات والانتماءات الصلبة والمتماسكة. إننا نستعمل عبارات «التراث التاريخي» و«الوعي الوطني» و«الهوية» و«الولاءات» و«الانتماءات» بالمعنى النسبي جدا، وفي ذهننا أن هذه المصطلحات لا تمتلئ إلا بما نضعه داخلها من حسابات خلفية، ومن نوايا مبيتة أو من قَبْلِيات ومفاهيم ذاتية.
وللاختصار، فمشكلات الوعي الوطني والتراث وما يرتبط بها من قريب أو من بعيد، إنما هي حالات نسبية تنتجها ظروف وأوضاع متغيرة، في حركية تاريخية مفتوحة تتصل بسيرورة المجتمعات وصيرورتها.
المجتمعات والدول المشرقية والكيانات هي من صنع بشر هذه المنطقة وأيضا من فعل القوى الخارجية، ولكن الحدود القائمة فيما بينها هي سلسلة من الألغام الموقوتة التي لم تتوقف عن الانفجار منذ أن تم رسمها بعد الحرب العالمية الأولى، وهي مرشحة لانفجارات قادمة.
1990/09/25
أما السبب في أولوية النفط، وفي كونه أساس الحدود، فيعود إلى بديهية أخرى من بداهة السياسة العربية المعاصرة : النفط هو الثروة الأولى والوحيدة، وقيمة دولة ما، في هذه المنطقة العربية تقاس بمقدار كميات الذهب السائل الأسود المستخرج من أراضيها. ونحن نلاحظ أن ارتفاع أسعار النفط فيما بين 1973 و1985، أحدث توسعا فضائيا خرافيا في عمليات التنقيب عن النفط، داخل سائر دول الخليج والجزيرة العربية فقد شكلت اليمن الجنوبية مجمعا بدأ بالتنقيب عن النفط، على مشارف محافظة ظفار وبأماكن لا تزال موضع نزاع، ومنحت سلطنة عمان من جانبها امتيازات للتنقيب عن ذلك السائل السحري الثمين بجهات لا تزال تختصم حولها مع السعودية.
27/09/1990
وكانت تعيش في الكويت عجوز بدوية تتقن فن تفسير الرؤى والمنامات، وقد طلب منها الشيخ أحمد الجابر الصباح رأيها في حكاية الكولونيل ديكسون، فأخبرته أن «السدر المقصود هو سدر البرقان، وأما المرأة الميتة، فهي الكنز النائم، تحت الرمال والأعداء الغرباء هم أولئك الذين يريدون حرمان البلاد من ثروتها النفطية»، وقالت العجوز البدوية إن النفط سوف يكتشف في البرقان.
ويقول الكولونيل ديكسون في مذكراته، إن الشيخ جابر الصباح اقتنع بتفسير العجوز البدوية، وأن تنبؤاتها التي لا علاقة لها بمناهج التنقيب والبحث الحديثة، أبلغت للمهندسين الجيولوجيين الذين استأنفوا نشاطهم في حقل السدر، وأن النفط انفجر متدفقا بقوة هائلة في شهر أبريل 1938 من حقل البرقان، أي من تلك النقطة التي تكلمت عنها العجوز البدوية
02/10/1990
هل رأيتم تلك الصورة؟
كان الجنرال «نورمان شوارتزكوف» الذي يسمونه الآن في الغرب «دب الخليج»، يجلس بجسده العملاق إلى مكتبه الفخم بمقر القيادة الأمريكية في الرياض، في قلب شبه الجزيرة العربية، عن يمينه العلم الأمريكي بنجومه الخمسين وعلى يساره العلم السعودي الأخضر تتوسطه كلمة الشهادة وصورة النخلة والسيف.
ظهر دب الخليج في تلك الصورة خلال ندوة صحفية وصف فيها الهجوم العراقي الجريء على مدينة الخفجي بأنه «لسعة ذبابة على جسد فيل».
لا أعرف إن كنتم رأيتموها أم أنها فاتتكم، أما أنا فقد شاهدتها في بيت صديق عربي مع عدد من المفكرين والإعلاميين والسياسيين والفنانين العرب المقيمين بالعاصمة الفرنسية.
رأيت الصورة ووجدتني أردد تلقائيا : السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
ثم قلت في نفسي بعد ذلك، لو كان شاعرنا القديم حيا لقال بيتا بهذا المعنى :
الصورة أصدق إنباء من الخطب في شكلها الفرق بين الصدق والكذب
14/02/1991
في تلك الليلة الصقيعية من شتاء 1991، كان الجنود المصريون والسوريون المرابطون بصحراء حفر الباطن على الحدود السعودية الكويتية، بالقرب من مدينة حائل التاريخية، يلاحقون الأنباء من إحدى الاذاعات الأجنبية التي تبث برامجها باللغة العربية. وكان هؤلاء المقاتلون القادمون من ضفاف النيل وبردى، موجودين في مواقع مختلفة ومتباعدة، وعندما سمعوا خبر وصول أول صاروخ فصيح قادم من بلاد الرافدين إلى أرض فلسطين، أطلقوا عفويا صيحات التكبير والتهليل طربا وفرحا بالحدث. ثم... فجأة توقفوا عن الاحتفال حين تذكروا، أو ذَكًهم ضباطهم بالمكان الذي يوجدون فيه، وبالمهمة التي جاءوا من أجلها.
1993/01/07
لقد كان التاريخ، في عصر الإسلام الأول، ثم في عهد النفط الحالي، سيد الجغرافيا، في شبه الجزيرة العربية. في الحالة الأولى، أعطت المنطقة طاقة روحية، سرعان ما انقطع حبل الإتصال بينها وبين موطنها الأول، الذي تركه سكانه للإستقرار بالمناطق الجديدة. وفي الحالة الثانية اكتشفت فيها طاقة مادية، تعتبر عصب الحياة العصرية، في زمان كان ما تبقى فيها من السكان، يُعتبر بالقياس إلى العالم الحديث الذي تقوم صناعاته وتقنياته على النفط، بمثابة شهود أحياء على حضارات بائدة. وفي الحالتين كان هناك طلاق واضح بين ثوابت الجغرافيا ومتغيرات التاريخ، أو بالأحرى كان هناك وجه آخر، مناقض تماما للتفاعل الحي والمستمر بين الثوابت والمتغيرات. ولعل هذا التناقض بين حقل الجغرافيا وحقل التاريخ هو أصل تلك الإشكالية المعاصرة المتجلية في تلك العلاقات المعقدة بين الأصوليات السلفية والثروة النفطية، وهو أي ذلك التناقض مسؤول عن تلك الحالة التي عرفناها في حرب الخليج الأخيرة : حالة بلاد عربية أصيلة توجد جغرافيا في القسم العربي-الإسلامي من القارة الآسيوية، ولكنها أصبحت تاريخيا وجيو-ستراتيجيا في صلب مكونات المعسكر الغربي.
1993/01/14
إنه الحلاج العربي المعاصر.
الحلاج قال قولته الشهيرة : «أنا الحق» وصدام يأتي اليوم ليقول لنا «أنا الصمود».
عند ذلك المستوى من التصوف الذي وصل إليه الحلاج، وعند هذه الدرجة من الصمود المعاند التي إنتهى إليها صدام حسين، لا تبقى للكلمات نفس المعاني. ولذلك ومثلما دخل الحلاج التاريخ من خلال «التماهي» حد الفناء في «الحق» فقد دخل صدام حسين، على طريقته، رحبة التاريخ العربي الواسعة، ولن تغيب قامته الهائلة منها إلا إذا ظهر حلاج سياسي عربي آخر.
1991/02/27
تسهيلا أو تبسيطا لهذه الظاهرة المعقدة، أي موقف العرب الرسميين من الحرب العراقية-الإيرانية، يمكن تقسيم الدول العربية إلى أربع دوائر : دائرة أولى تشمل الخليج وشبه الجزيرة العربيَّيْن تضم السعودية واليمن بشطريها والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين، وهي التي يدور حولها هذا المقال. ودائرة ثانية هي الهلال الخصيب تندرج فيها سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. ودائرة ثالثة تحتوي على وادي النيل، أي مصر والسودان وجيبوتي والصومال. ودائرة رابعة أخيرة تدخل فيها دول الشمال الإفريقي العربي، أي ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.
1986/03/12
مع مغادرة السيد مسعود رجوي، زعيم منظمة مجاهدين خلق الإيرانية المعارضة قرية «أوفيرسيرواز» الصغيرة الهادئة الغارقة في ربيع رطب أزلي فوق تلتها الخضراء الملاصقة لنهر «الواز» على مسافة خمسة وثلاثين كيلومترا إلى الشمال الغربي من العاصمة الفرنسية، تكون قد طُوِيت صفحة كاملة من العلاقات الفرنسية-الإيرانية المضطربة. وكان مسعود رجوي، منذ وصوله برفقة الرئيس الإيراني السابق «أبو الحسن بني صدر» إلى فرنسا في شهر يوليو-تموز 1981 هاربين من طهران على متن طائرة مختطفة من مطار مهراباد، يقيم ببيت ريفي عصري يملكه شقيقه، طبيب القلب الدكتور صالح رجوي في تلك القرية البالغ عدد سكانها حوالي 5800 شخصا.
1986/06/18
مع البداية التاريخية للقرن العشرين، وهي مقترنة بالحرب العالمية الأولى، وقيام الثورة الروسية، خلق الغرب صورة البلشفي الذي يحمل سكينا بين أسنانه، ويستعد لالتهام العالم المتحضر. ثم جاءت الحرب الكونية الثانية، واستبقى منها «الغرب الديمقراطي الليبيرالي» صورة ستالين، الذي رأى شبحه يطارده في المستعمرات الإفريقية-الآسيوية، ويستعد لتطويقه والانقضاض عليه.
هكذا اعتبر الغرب حركات التحرير، بما فيها تلك التي قادتها نخب بورجوازية معتدلة، مجرد امتداد للأخطبوط الشيوعي العالمي. لقد اعتبر المعلقون الغربيون، حركات مثل حزب الدستور التونسي الجديد، وحزب الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الوطني الجزائري مثلا مجرد أدوات ضمن خطة عالمية شيطانية يوجد مركزها في موسكو وبكين، واعتبروا حركة الضباط الأحرار في مصر وزعيمها عبد الناصر جزءا من هذه الأسطورة.
14/06/1989
ولكن الشاه لا يريد أن يذهب لاجئا إلى سويسرا لاعتبارات أمنية هذه المرة. وكون السفير الأمريكي أبلغه بضرورة المغادرة، من دون أن يحدد له الوجهة المناسبة، يعطي مصداقية لتلك الجملة الصادرة عن أحد الجنرالات الإيرانيين لحظة إعدامه : «لقد لفظ الأمريكيون الشاه وأخرجوه من بلاده كفأر ميت». وعلى حد تعبير مثقف إيراني معارض للشاه وللخميني ومقيم في باريس منذ سنوات : «لقد عامل الأمريكيون الشاه، في تلك المناسبة معاملة أسوأ من تلك التي يعاملون بها مهاجرا عاديا متسللا إلى بلادهم من دولة المكسيك المجاورة».
وقال الشاه للسفير الأمريكي : «نحن نملك بيتا في بريطانيا ولكن المناخ فيها سيء وغير مناسب لنا»، وكان بإمكانه أن يضيف إلى ذلك : «ولكثرة ما استشرت البريطانيين افتقدت الثقة فيهم». نعم كان بإمكانه أن يقول ذلك، ولكنه اكتفى، كما يقول السفير الأمريكي، بالتحديق إلي بعينين حزينتين.
21/06/1989
في بيروت كان نظام الطوائف مغلفا بالليبرالية الاقتصادية والإعلامية والحزبية، وفي عدن كانت الاشتراكية العلمية الستار الخارجي للصراعات القبلية.
ومن التعسف مع ذلك أن نحاكم الليبرالية اللبنانية المتوحشة والماركسية اللينينية المتطرفة على ضوء الواقع الاجتماعي، الليبرالية بمذاهبها المختلفة. لم تخترع الطوائف في لبنان، كما أن الماركسية لم تنشئ القبائل في اليمن الجنوبية، لقد كانت الطوائف موجودة في لبنان، وكانت القبائل موجودة في عدن. قبل أن تقوم في البلدين نخبة سياسية وعسكرية تحاول أن تفرض الليبرالية والاشتراكية العلمية على البلدين. وسوف يجد خصوم الايديولوجيا الليبرالية، وإعداد الفكر الاشتراكي بالتأكيد، فيما حدث ببيروت وعدن، مبررات معقولة للإسراع بدفن المذهبين بحجة عدم صلاحيتها للأقطار العربية والإسلامية. وسوف ترتفع الأصوات أكثر وأكثر للدعوة إلى السلفية والمناداة بالعودة إلى الدين.
1986/01/29
وإذا كانت الانقلابات تبدأ عادة بالسيطرة على رئيس الدولة، فإن انقلاب أبو سليمان [الإسم الشعبي لحافظ]، شذ عن القاعدة، إذ إنه أجل القبض على رأس الدولة ثلاثة أيام، ولم يرسل إليه ضباط الاستخبارات العسكرية إلا في يوم السادس عشر من الشهر. وخلال تلك الأيام الثلاثة، حاول رجل سوريا القوي الجديد، أن يقنع رفيقه بالبقاء في منصبه، منصب رئيس الدولة، على أساس أنه لا وجود لأي خلاف شخصي معه، لكن الدكتور الأتاسي رفض الاستجابة لكل المغريات، ورفض تقديم استقالته، وظل متمسكا بضرورة التراجع عن الاعتقالات التي تعرض لها رفاقه.
1992/12/17
الكتاب الخامس
مشكلة التعليم ظلت طوال الفترة الماضية في صميم الجدل السياسي والإجتماعي. من جملة الدراسات الكثيرة التي صدرت حول هذا الموضوع كتابان طبعا في سفر واحد، بعنوان : «أطفالكم لا يهمونني» و«هل تريدون أبناء أغبياء؟» للأستاذ موريس طارق مسكينو، مدرس الفلسفة في ثانوية جان باتيست بوكلان بضواحي باريس الغربية. يقدم الكاتب في مؤلفيه اللذين بيعت منهما مئات آلاف النسخ وأثارا ضجة واسعة لدى صدورهما (سنة 1982) صورة قاتمة عن المدرسة الثانوية، عن مستوى الطلاب والطا
1987/02/25
الحقائق العنيدة تجعلنا ندرك أن الأجيال الصاعدة في فرنسا صارت لها فضاءات ومرجعيات مختلفة عن تلك التي نتصورها، ولربما كانت هذه هي حالة الشباب في أكثر من بلد أوربي وحتى عربي. الصبايا والمراهقون، لا يتكدسون في مقاهي الحي اللاتيني للتداول وسط قاعات مليئة بدخان السجائر حول الوجود والعدم وعبثية الحياة كما كان يفعل معاصرو جان بول سارتر، ولا هم يتدفقون بالمئات على خلايا الأحزاب اليسارية، ولا ينخرطون في اللجان القاعدية ضد حرب الجزائر أو الإمبريالية الأمريكية، ولا ينتمون إلى فئات متضاربة الرأي بشأن علاقة أفكار لويس التوسيي بالسلفية الماركسية والماركسية السلفية-الجديدة ولا يختصمون حول النظريات البنيوية (النقد عند رولان بارت والانتربولوجيا لدى ليفي ستروس، والفلسفة عند ميشيل فوكو، والتفسير اللاكاني للفرويدية). كما فعل آباؤهم في حقبتي الستينات والسبعينات، إنهم في واد آخر، أي أنهم يتطورون فكرا ووعيا والتزاما بالمسؤولية في أجواء مختلفة عن كل السلفيات، وإذا أردنا البحث عن المرجعيات الجديدة التي بثت روح التمرد لدى الأجيال الفتية، في مواطنها الحقيقية، فإنه يتحتم علينا أن نلتمسها في صالات الغناء والرقص بدلا من قاعات الدروس الجامعية. لقد استمدت الأجيال التي نزلت إلى الشارع في الانتفاضة الأخيرة غذاءها الروحي من أغاني بسيطة لم ينتبه أحد في بداية الأمر إلى شحنتها الرمزية العميقة ذات الدلالة السياسية الصارخة رغم أنها ظلت طوال السنوات الأخيرة في مقدمة الموضوعات التي يثرثر حولها المراهقون.لبات واهتماماتهم الفكرية والسياسية وطموحاتهم في الحياة وعلاقاتهم بالأساتذة
04/03/1987
يمكن لمن يتأمل «ثورة الربيع في الشتاء»، أن يضيف إلى المثل السائر : «إذا أراد إنسان أن يتخلص من كلبه اتهمه بالسعار»، مثلا جديدا يتصل بعلاقة الآباء مع الأبناء، يصوغه في العبارات التالية : «إذا أراد جيل الكبار أن يبرر عجزه وتنصله من المسؤولية وانسداد آفاق المستقبل أمامه فما عليه، وهذا ما يحدث غالبا، إلا أن يتهم الجيل الناشئ بالسلبية». هذا في الأقل، هو الإنطباع السريع الذي تكون لدينا ونحن نراجع أدبيات الحقبة الماضية حول الشباب نلتمس منها إرهاصات أو توقعات لما سيأتي.
1987/03/11
من كان يشك في أن الحقيقة أغرب من الخيال وأكثر خصوبة وثراء أكثر مما يمكن أن يخطر على البال، وأن الروايات البوليسية المجيدة بما تتضمنه من حبكة فنية ومن تشويق ومن إنقلاب متجدد ومتواصل في الأدوار والمواقع ومن صفقات وعمليات تهديد وإبتزاز ومساومات، هي وقائع عديدة يتألف منها نسيج العلائق اليومية، بين الدول والدول، وبين المجتمعات والمجتمعات وبين الأفراد والدول والجماعات، قبل أن تكون آثارا أدبية يُقْبِلُ عليها الناس لأنهم يجدون فيها أصداء قوية أو صعبة لخبراتهم وهواجسهم ومخاوفهم. من كان يشك في ذلك كله، فليقرأ جيدا تفاصيل الدور الحاسم الذي لعبه رجل تونسي شاب في التطورات الدرامية الأخيرة للعلاقات الفرنسية الإيرانية.
1987/07/29
لعل أهم أثر يترجم دخول الفرنسيين العرب، أي المواطنين الفرنسيين المنحدرين من أصول عربية، إلى معترك الحملة الانتخابية الحالية، هو ذلك المنشور الكاريكاتوري الساخر الذي وزعته مجموعة «فرنسا زيادة France plus» في جامعة «فيلتانيز Villetaneuse»، بالضواحي الشمالية لباريس، خلال شهر فبراير الماضي. في هذا المنشور رسم لشاب لا غبار على ملامحه العربية يلوح ببطاقته كناخب فرنسي، مع شعار جريء للغاية : «غدا أصبح رئيسا»، وفي ظهر المنشور شريط مرسوم، يقدم ملامح نمطية لشخوص عرب، يحاورون عفريتا أو جنا خارجا من قمقم يشبه صندوق اقتراع، يقول لهم : «من حقكم أن تتقدموا بثلاث طلبات»، فيردون عليه بصوت واحد : «الحرية، المساواة، الإخاء»، وهي الشعارات الرسمية للجمهورية الفرنسية.
04/05/1988
رغم أن البرتغال لا تنتمي جغرافيا إلى البحر الأبيض المتوسط فإن قربها من حوضه الجنوبي عند نقطة التحامه بالمحيط الأطلسي، وكذلك مجاورتها للمغرب وإسبانيا وجبل طارق لدى ملتقى الطرق البحرية بين أوربا وإفريقيا، إضافة لانتمائها إلى حلف الشمال الأطلسي كلها عوامل تجعل منها قطعة جوهرية ضمن ترتيبات الدفاع عن أوربا الغربية في الساحة المتوسطية. وقد سبق للجنة الدفاع والتسليح التابعة لإتحاد أوربا الغربية أن قامت بزيارة استطلاعية إلى هذا البلد نشرت بعدها (في شهر أكتوبر-تشرين الأول 1982) تقريرا مفصلا بعنوان : «حالة الأمن الأوربي» شرحت فيه باستفاضة الجهود التي بذلها البرتغاليون لتطوير قدراتهم الدفاعية.
1986/07/02
السرعة الجهنمية التي تتوالى بها التطورات، تجعل المراقب يلهث وراء الأحداث، دون أن يجد فرصة يلتقط فيها أنفاسه للوقوف عند معانيها العميقة، ذلك أن ما يحدث في عالم اليوم، يشبه شريطا من أفلام الرعب، تتوالى مشاهده، ووجوه الممثلين والممثلات فيه، عبر شاشة ضخمة، مسرحها الكرة الأرضية كلها، يتفرج عليها جمهور شبه مخدر، ذاهل، مأخوذ بسحر غامض، لا يعرف كيف بدأت القصة ولا متى وكيف ستنتهي؟
المراقب السياسي، الذي تعود على مراقبة الأحداث، وفقا لمرجعيات ثابتة، يجد نفسه أمام صور متغيرة، ما إن يبدأ بمحاولة تركيب شكل عقلاني منها، في ذهنه، حتى تفلت منه، لتحل محلها حالة جديدة، تحيره.
مأخوذ هذا العالم كله من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، في حبائل دوامة مجنونة، لا يستطيع أحد أن يتنبأ بالاتجاه الذي ستسفر عنه، في النهاية. إن كانت هناك نهاية، لاشيء ثابت مكانه. ويبدو أن هذه «الدوامة» أصبحت تخضع لقوانين الأرصاد الجوية ولا يمكن المجازفة بتوقع مسارها خارج حدود زمنية قصيرة
19/11/1992
بعض الكتب تشبه غابات استوائية كثيفة النبات، زاخرة بالمناهل والينابيع، مليئة بالأشواك والورود.
الأرض هنا مغطاة بالحشائش الحية أو الجافة، مفروشة بالأوراق الميتة، مكسوة بالأعواد والأخشاب، وقد تكون مأهولة بحيوانات مفترسة ومسالمة.
وكل الحيوانات، مفترسة ومسالمة، تنتابها أو تتناوبها هذه الحالة أو تلك.
هنا تتجاور الأفاعي مع الفراشات، تتساكن الصقور مع الأرانب، والجنادب مع السناجب، وتتعايش الذئاب مع الحملان وتحتك القطط مع الجرابيع.
الإنسان الذي يجول هذه الغابة يشعر بأنه ملاحق ومراقب، هناك عيون تراه ولا يراها.
لا تفارقه تلك الرهبة الغامضة أو تلك اليقظة المتوفزة إلا حين ينتهي من رحلة العبور.
والنهاية، ضمنا، متعددة الاحتمالات، قد تكون وصولا آمنا إلى الهدف الأصلي، وقد تصير اكتشافا جديدا لشيء غير متوقع إطلاقا، وقد تكون ضياعا، وقد تصبح عودة إلى نقطة الانطلاق الأولى، من دون الظفر بأي شيء.
31/08/1988
إذا كان كبار أساتذة الفلسفة ومشاهير المؤرخين، ثم نوابغ النقد اللامنتمين إلى التنظيمات الحزبية، أجمعوا رغم ما بينهم من اختلافات على الإشادة بأعمال ميشيل فوكو، فإن المثقفين المنخرطين في الحزب الشيوعي أو المتحالفين معه أو القريبين من تأثير جاذبيته، لم يترددوا في مهاجمة الاسم الجديد. كان رد فعل السلفية الماركسية ضد أفكار ميشيل فوكو، شبيها في عنفه وعنفوانه برد فعل السلفية العربية الإسلامية ضد كتابات طه حسين، لم يغفر السلفيون الماركسيون لمؤلف كتاب «الكلمات والأشياء» قولته الشهيرة : «تعيش الماركسية مثل سمكة في فكر القرن التاسع عشر، الأمر الذي يعني أنها تفقد القدرة على التنفس خارجه».
1989/10/04


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.