محمّد بوضياف ليس رجلا عاديّا بالنسبة للجزائريين , انّه يمثل أحد أباء الثورة الجزائرية التي خلصّت الجزائريين من نير الاستعمار الفرنسي . و قد بدأ محمد بوضياف نضاله في صفوف حزب الشعب الجزائري منذ عقد الثلاثينات و كان عضوا قياديّا في المنظمة العسكرية الخاصة التي أسسها هذا الحزب في سنة 1947 والتي كانت تهدف الى الاعداد للثورة الجزائرية , وأستمرّ محمد بوضياف مناضلا في هذه المنظمة ككادر وقيادي ومنظّم . وعندما اكتشفت فرنسا أمر هذه المنظمة قامت باعتقال ألف مناضل من مناضلي حزب الشعب الجزائري , وحكمت على محمد بوضياف بالاعدام غيابيا الأمر الذي دعاه الى التخفي . وقبل تفجير الثورة الجزائرية في 01 تشرين الثاني –نوفمبر – سنة 1954 , ساهم محمد بوضياف في تأسيس جماعة 22 الثورية للوحدة و العمل وبعدها اللجان الست التي فجرّت ثورة التحرير الجزائرية , وتمكنّ بوضياف في ظروف غير طبيعية من تفجير ثورة التحرير مع رفقائه أحمد بن بلة ورابح بيطاط ومحمد خيضر و كريم بلقاسم وحسين أيت أحمد والعربي بن مهيدي وغيرهم . ومعروف أنّ الثورة الجزائرية اندلعت في وضع سياسي جزائري يتسم بالتعددية الشكلية , وكانت بعض الأحزاب الجزائرية أنذاك ترى عبثية الثورة وضرورة الاندماج الكلي في المجتمع الفرنسي أو المجتمع الأم كما كانت تسميه النخبة الفرانكفونية في ذلك الوقت . كما أنّ الثورة الجزائرية انطلقت في ظل ضعف الامكانات المادية حيث كان الثوّار الجزائريون يستخدمون بنادق الصيد والسكاكين وحتى أخشابا منحوتة على شكل بنادق ورشاشات . ويرى الدكتور يحي بوعزيز المؤرخ الجزائري الشهير أنّ محمد بوضياف أنقذ الجزائر ثلاث مرات الأولى عام 1954 حينما اشتدّت الخصومة بين الأحزاب وأنقسم التيار الاستقلالى على نفسه , فحسم بوضياف ورفاقه الموقف لصالح الحتمية الثورية , والثانية عام 1964 بعد الاستقلال بعامين حينما فضلّ المنفى الاختياري خارج البلاد لمدة ثماني وعشرين سنة حتى لا يشارك في الفوضى والصراع الداخلي الذي نشب بين ثوّار الأمس غداة استعادة الاستقلال في سنة 1964 , والثالثة عام 1993 عندما استجاب للنداء الوطني وعاد الى الجزائر لرئاسة المجلس الأعلى للدولة عقب استقالة أو إقالة الشاذلي بن جديد . و المقربون من محمد بوضياف يعترفون له بقوة العزيمة والاصرار والعناد أحيانا , و لقد تحدث بوضياف ذات يوم عن يومياته أثناء الثورة الجزائرية قائلا أنّه تحملّ المحن في كل أوقاته وظلّ يفر من رجال المخابرات الفرنسية , وأشار الى جوعه وحرمانه هو و اخوته في النضال . وكثيرا ما كان بوضياف يتنقّل خارج الجزائر لتنظيم شؤون الثورة الجزائرية وتعريف العالم بأهدافها , وما زال العالم شاهدا على غطرسة الاستعمار الفرنسي الذي قام بتحويل الطائرة التي كانت تقلّ بوضياف و بقية رفاقه رابح بيطاط وحسين أيت أحمد وأحمد بن بلة ومحمّد خيضر . وعندما سئل محمد بوضياف هل كان على علم ببرج المراقبة وطاقم الطائرة التي كانت تقله من المغرب والى تونس أجاب قائلا : مسألة المراقبة لم نكن نعلم بها ومسألة السفر تقررت بسرعة , وأنا شخصيا كنت مريضا وقد خرجت من المستشفى قبل ثلاثة ايام من موعد السفر وغاية ما هناك بلغنا أنّ الحكومة الاشتراكية في ذلك الوقت حكومة ذي مولي اتصلت بالرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والملك المغربي محمد الخامس وطلبت منهما الاجتماع في تونس لايجاد حل للمسألة الجزائرية وهذا سبب ذهابنا الى تونس , وقال بوضياف أنّه لم يكن في حوزتهم أسلحة عدا بن بلّة الذي كان يحمل معه رشاش ايطالى , والقرصنة الجوية التي تعرضنا اليها كانت بعد اقلاعنا من جزيرة مايوركا حيث تزودّت الطائرة بالوقود وبعد أن طارت أجبرت على التوجه الى الجزائر العاصمة. وعن تجربته النضالية قال بوضياف : خلال وجودنا في السجن في فرنسا كانت هناك بيننا وبين قيادة الثورة الجزائرية اتصالات محدودة , وكان أحمد بن بلة على اتصال بالعربي بن مهيدي أحد رموز الثورة الجزائرية في الداخل الجزائري , وكنت على صلة بكريم بلقاسم بينما كان عبان رمضان على اتصال بحسين أيت أحمد , وكانت هذه المراسلات توضح تطورات الثورة الجزائرية داخل الوطن وخارجه , وكانت بعض الأخبار تصلنا عن طريق المحامين وبعض الأشخاص , لكن كل ذلك لا قيمة له مادمنا في السجن وتحت الحراسة والمراقبة . ففي السجن الفرنسي يقول محمد بوضياف كنّا على اتصال ببعضنا البعض , لكن دون عمل أو نشاط فعّال ما عدا مناقشة ومتابعة أحداث الثورة الجزائرية وماكان يجري داخل قيادتها من ايجابيات وسلبيات . وفيما يخص المفاوضات الجزائرية –الفرنسية وخاصة الأخيرة منها جاءنا السيد بن يحي وبن طوبال وكريم بلقاسم لاطلاعنا على مجرياتها , وكان ردّي عليهم أننا بعيدون عن ميدان الأحداث السياسية والعسكرية ولا نعرف ما يجري خارج أسوار السجن , ولا نعرف شيئا عن امكانيات جبهة التحرير الوطني المادية والبشرية وقدرة الشعب الجزائري على الصمود , ولهذا يقول بوضياف كنت ألتزم الحذر دون العاطفة , بينما كان رأي باقي الاخوة وخاصة بن بلة القبول بانهاء الحرب حتى لو كانت بعض بنود اتفاقيّات ايفيان في غير صالح الجزائر مستقبلا . وعن اتفاقيّات ايفيان التي أفضت الى استقلال الجزائر قال محمد بوضياف : أعترف لبن يحي –وهو أحد الجزائريين المفاوضين – بالذكاء وبعد النظر المستقبلي , وفي الأمور التقنية كانت تنقصنا الخبرة والثقافة ولم يكن الاخوة المفاوضون تقنيين في مجال المفاوضات , لذا نجد رؤساء وملوك الدول في رحلاتهم وزياراتهم العملية مصحوبين بالتقنيين والخبراء في الميادين المختصة لكل اتفاقية أو عقود فيما بين الدولتين أو الدول . وعن علاقة الثورة الجزائرية بالعالم العربي قال محمد بوضياف : للأمانة التاريخية وحتى نكون منصفين في شهادتنا الثورية وعلى الشعب الجزائري أن يعرف ذلك , أنّ امكانات الثورة الجزائرية كانت ضعيفة في البداية من حيث انعدام الذخيرة الحربية والسلاح , كنّا نملك شعبا قابلا للتضحية والفداء لكن بدون سلاح , وكان اعتمادنا في البداية على أنفسنا وأمكانياتنا الضعيفة , ثمّ اتصلنا باخواننا في الدين والتاريخ والمصير المشترك , فكانت المساعدة الأولى للثورة الجزائرية بل للشعب الجزائري من العالم العربي , فالأخوة المصريون هم الأوائل في المساندة السياسية وتدبير الأسلحة من الدول العربية , وأول مساعدة مالية لشراء الأسلحة كانت من المملكة العربية السعودية . وعندما ذهب جمال عبد الناصر الى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج تحدثّ مع المسؤولين السعوديين حول متطلبات الجهاد في الجزائر فخصصت المملكة مبلغ 100 مليون دولار لدعم المقاومة في المغرب العربي . فأخذ منها صالح بن يوسف وشوشان نصيبا لتغطية مصاريف المقاومة التونسية , والباقي كان من نصيب الثورة الجزائرية التي اشترت به أسلحة وذخائر عن طريق مصر , أما المقاومة المغربية فلم تأخذ شيئا من هذا المبلغ على حدّ علمي قال محمد بوضياف , كما كانت هناك مساعدات جمّة من نظم وشعوب العالم العربي كالمغرب والعراق وسوريا وتونس وليبيا ولبنان وغيرها , كما لعب العالم الاسلامي دورا كبيرا في مساعدة الثورة الجزائرية في المحافل الدولية . وتؤكد الوثائق , وشهادات مفجريّ الثورة الجزائرية ومنهم محمد بوضياف أنّ العالم العربي والاسلامي ساند الثورة الجزائرية منذ تفجير الثورة والى الاستقلال . وكان العالم العربي والاسلامي يرى في الثورة الجزائرية ضد فرنسا والحلف الأطلسي ملحمة ومفخرة للعرب والمسلمين .. الاستقلال وبداية الكارثة : كان محمد بوضياف يحلم بجزائر قويّة تعتمد على نفسها , وتعمل على ترجمة الأهداف الكبرى التي سطرتها ثورة التحرير المباركة بدماء مليون ونصف مليون من الشهداء , وكان بوضياف يأمل أن أن يتحد رفاق الأمس الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل تحرير الجزائر , الاّ أنّه شاهد بداية تمزق صفوف الثوّار وانحرافا عن خطّ الثورة الأصيلة , وعايش بنفسه ظهور المحاور والتكتلات التي كادت تتسبب في اندلاع حرب أهلية في الجزائر . وكان متضايقا من تهميش بعض مفجري الثورة الجزائرية , وهاله أن يحتل ضباط فرنسا المواقع الأمامية على حساب الثوّار الحقيقيين . وتعود قصّة التمزق الى ما قبل الاستقلال الجزائري بقليل عندما فرض بعض عقداء جيش التحرير الشعبي أراءهم على باقي الثوّار وسعوا لخلق تكتلات داخل صفوف الثورة الجزائرية , ويعترف رئيس الحكومة المؤقتة يوسف بن خدّة أنّ الخصام بين ثوّار الأمس قد بلغ الذروة , وهو لذلك فضّل الانسحاب من الساحة السياسية في وقت مبكّر . ورغم الدعوة المتكررة لاعادة كتابة تاريخ الثورة الجزائرية بسلبياتها وايجابياتها , فانّ العديد في الجزائر ما زال يضع العراقيل في وجه هذه الدعوة , وربما يخشى هذا البعض من رفع الغطاء عن العديد من الذين خانوا الثورة الجزائرية وأسعفهم الحظ على تولّي مناصب حسّاسة في الجزائر . وهذه المتناقضات بين ثوّار الأمس في عهد الاستقلال كادت تؤدي الى حرب أهلية , ولما تفاقم الصراع خرج الشعب الجزائري متظاهرا في الشوارع رافعا شعار : سبع سنوات تكفينا , في اشارة الى السنوات السبع التي قضّاها الشعب الجزائري في محاربة الاستعمار الفرنسي . وقد حسم الصراع لصالح قيادة الأركان والتي عينّت أحمد بن بلة على رأس الدولة الجزائرية الفتية . وقد اعترف بن بلة أنّه كان ضئيل الثقافة والخبرة ورغم ذلك فقد حاول مع رفاقه أن يبني معالم الدولة الفتية , وكان رفاقه يأخذون عليه استحواذه على ثمانية مناصب حسّاسة في وقت واحد , وهو الأمر الذي أثار حفيظة بعض رفاقه الذين فسروا تصرفه أنّه سلطوي وديكتاتوري . و كان محمد بوضياف أحد الناس الذين هالهم تحريف الثورة الجزائرية عن مسارها وتغليب الأنا في معالجة الأمور بدل المصلحة الوطنية العليا , ولما كان أحمد بن بلة يخشى جانبه أمر باعتقاله وايداعه السجن ثمّ حكم عليه بالاعدام بتهمة التأمر على أمن الدولة . وعن هذا الاعتقال قال محمد بوضياف : أنّ اعتقاله تمّ بطربقة بشعة حيث كان يتجول في الشارع وجرى اعتقاله ثمّ أبدى استغرابه لكون الشخص الذي امر باعتقاله البارحة من دعاة الديموقراطية اليوم . وبعد أن تدخلت أطراف متنفذة ولاعتبارات تتعلق بماضي بوضياف التاريخي أطلق سراحه, ففضّل مغادرة الجزائر وبشكل نهائي , وأقام بشكل مؤقت في باريس حيث أسس حزبا معارضا اشتراكيّ التوجه , كما ألّف كتابه الشهير الجزائر الى أين ! وفي هذا الكتاب تحدث عن مصير الثورة الجزائرية والخلل الذي انتاب مسيرتها , وبعد فترة لم تدم طويلا قام بالغاء حزبه , وفضلّ الاقامة في القنيطرة في المغرب, وقد أقام مصنعا للأجر وظلّ يتابع الأحداث في الجزائر دون أن يدلي بأي تصريح أو تعليق لوسائل الاعلام. وقد رفض محمد بوضياف جميع الدعوات التي وجهها اليه هواري بومدين بالعودة الى الجزائر غداة اطاحته بأحمد بن بلة في 19 حزيران – جوان –1965 , الاّ أنّه رفض كل هذه الدعوات محبذا المنفى على معايشة مشاهد اغتيال الثورة الجزائرية . وكان محمد بوضياف في المغرب محط رعاية العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني رحمه الله , كما كان محل احترام السكان المجاورين له . وقد استطاع وهو في المغرب وكما قال هو شخصيا أن يحقق ثروة تكفل له ولأبنائه وزوجته العيش بكرامة , ولذلك لما عيّن على رأس المجلس الأعلى للدولة في مطلع سنة 1992 رفض أن يتقاضى راتبا ليؤكّد على نزاهته , وأنّه يختلف عن الأخرين الذين اختلسوا أموال الجزائر وصيرّوها بعد غنى وثراء فقيرة تستجدي العون من البنوك الدولية.. الجزائر من الأحاديّة والى التعدديّة بعد خريف الغضب في 05 تشرين اول –نوفمبر – 1988 أضطّر الشاذلي بن جديد ولتجاوز الانتفاضة الشعبية العارمة وأثارها , أن يعلن وعلى مسمع ومرأى الشعب الجزائري عن مشروع للاصلاحات السياسية والاقتصادية , ودعا الشعب الجزائري لابداء رأيه في الدستور الجديد المعدّل الذي تصبح التعددية السياسية بموجبه متاحة وكذا التعددية الاعلامية . وتمّت الموافقة الشعبية على هذا الدستور في شهر شباط –فبراير – 1989 وكان ذلك ايذانا بميلاد التعددية السياسية والاعلامية , وشرع المعارضون التقليديون للنظام الجزائري بالعودة الى الجزائر بدءا بحسين أيت أحمد الذي كان يدير حزبه جبهة القوى الاشتراكية انطلاقا من أوروبا ,ثمّ تلاه أحمد بن بلة الذي كان مقيما في سويسرا وهناك كان يتزعم حزبه الحركة من أجل الديموقراطية . وبعودة هؤلاء الرموز الذين كانوا وراء تفجير الثورة الجزائرية , تساءل بعض الجزائريين عن موعد عودة محمد بوضياف الى الجزائر ! لم ينتظر السائلون كثيرا اذ جاءهم الجواب من خلال تصريح لبوضياف لبرنامج لقاء الصحافة المتلفز والذي خصص للثورة الجزائرية , وقد سئل بوضياف لماذا لا يعود الى الجزائر ! فأجاب بأنّه لا يؤمن بهذه الديموقراطية ولا بالمشروع الديموقراطي المطروح في الجزائر والذي أملته ظروف معينة - ويقصد أحداث خريف الغضب في شهر أكتوبر – وأنّه لما يشعر بجديّة التجربة سيعود الى الجزائر أو في حالة وجود ما من شأنه أن يجعل العودة الى الجزائر واجبا وطنيا ... وزاول بوضياف عمله التجاري في منفاه في مدينة القنيطرة في المغرب , حيث كان يتردد عليه بعض الجزائريين الباحثين وغيرهم ويسألونه عن قضايا وملفات تتعلق بالثورة الجزائرية , ونقل عنه بعض زائريه أنّه كان قلقا للغاية على مصير الجزائر , وكثيرا ماكان يسأل الجزائر الى أين ! وهو عنوان كتابه الذي ألفّه في بداية الستينيات أي بعد استقلال الجزائر بسنتين فقط . و أزداد اهتماما بالجزائر عقب الاضراب الذي دعت اليه الجبهة الاسلامية للانقاذ في 25 ماي 1991 لالغاء القوانين التي سنتها حكومة مولود حمروش بغية تزوير الانتخابات . وقد أدى هذا الاضراب الى اندلاع صراع دموي بين الاسلاميين والسلطة الجزائرية والذي انتهى بتدخل الجيش وفرض حالة الحصار العسكري وحظر التجول واقالة حكومة مولود حمروش وتعيين وزير الخارجية في ذلك الوقت سيد أحمد غزالي على رأس الحكومة . وجاء اعلان الحصار في الجزائر في 04 يونيو 1991 ليؤكد ماذهب اليه محمد بوضياف من أنّ الديموقراطية الجزائرية شكلية وتدخل في اطار التنفيس عن أحداث دامية كانت تعصف بالدولة الجزائرية . و أثناء عودة محمد بوضياف الى الجزائر في أواسط يناير 1992 اعتبرت أوساط سياسية جزائرية أنّ عودته في هذا الوقت تحديدا كانت غير مناسبة وغير لائقة و قالت هذه الأوساط أنّ بوضياف تنطبق عليه مقولة الرجل المناسب في الوقت غير المناسب ورأت هذه الأوساط أنّه لو تولىّ الحكم بعد خريف الغضب مباشرة لكان خيرا له وللجزائر . امتدّت فترة الحصار العسكري أربعة أشهر أعلن الشاذلي بن جديد بعدها أنّ الانتخابات التشريعية ستجرى في 26 ديسمبر 1991 . استعدّت القوى السياسية لهذه الانتخابات وعاودت نشاطها السياسي بعد صمت استمرّ أربعة أشهر كان منطق الرصاص والصراع الدموي بين السلطة والاسلاميين هو سيّد الموقف . وفي اللحظات الأخيرة قررت الجبهة الاسلامية للانقاذ بقيادة المهندس عبد القادر حشّاني المشاركة في الانتخابات . وكان الشعب الجزائري متحمسا لهذه الانتخابات خصوصا وأنّ الصورة الرسمية التي قدمت له أنّه أصبح صاحب الارادة والقرار يزكّي من يشاء ويختار من يشاء بعد أحادية سياسية ستالينية شلّت طاقته وحتى قدرته على التفكير . وبعد أيام قليلة من هذه الانتخابات أعلن وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير عن النتائج التي جاءت كما يلي : - 188 مقعدا للجبهة الاسلامية للانقاذ . - 20 مقعدا للجبهة القوى الاشتراكية . - 16 مقعدا للحزب جبهة التحرير الوطني . وبمجرد شعور التيار البربري والفرانكفوني واليساري وتيار في المؤسسة العسكرية برجحان الكفة لصالح الجبهة الاسلامية للانقاذ قامت قيامة الجزائر في أعنف صراع , حيث كان أصحاب الاتجاهات المذكورة يرون أنّه من المستحيل السماح للانقاذ بتكريس مشروعها الاسلامي . وهاهنا حسم بعض الجنرالات الموقف وذلك باقالة الشاذلي بن جديد وقلب الطاولة من أساسها,والعجيب أن بعض أقطاب التيار الفرانكفوني اعتبر الشعب الجزائري غبيا لا يحسن الاختيار وغير ناضج ديموقراطيا. وقد أقسم بعض الناس في الجزائر أن لن يتوجهّ أبدا الى صناديق الاقتراع , ما دامت الدبابات تلغي اختيار الشعب بطلقة مدفع واحدة . وقبل تنحيّة الشاذلي بن جديد , وقبل اجراء الانتخابات التشريعية بأسبوع واحد , قال الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد في ندوة صحفية أنّه سيذهب بالمشروع الديموقراطي الى أبعد حدّ , وسوف يحترم القوة السياسية التي تفرزها ارادة الشعب الجزائري مهما كان لون هذه القوة السياسية . كما أنّ القوى السياسية برمتها أعلنت أنّها ستحترم ارادة الشعب الجزائري و قواعد اللعبة الديموقراطية و سوف تقبل نتائج الانتخابات بروح رياضية , لكن كل هذه الالتزامات تبخرّت مع بروز النتائج الأولية وبدأت عقارب الساعة في الجزائر تتراجع الى الوراء , فسعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري والذي صرحّ قبل اجراء الانتخابات التشريعية أنّ حزبه سيحترم افرازات المشروع الديموقراطي هددّ بأنّه سيعلن الحرب على الأصولية , وأعلن أنّ حزبه لن يقبل بأن تتحول الجزائر الى ايران أو سودان ثانية . والهاشمي شريف زعيم حزب الطليعة اليساري دعا الجيش الجزائري للتدخل وصرحّ أنّ حزبه يقبل بنظام بينوشي ولا يقبل بنظام اسلامي توليتاري رجعي ظلامي . والفرانكفونيون واليساريون والبربر والعلمانيون وأصحاب كل المتناقضات الأيديولوجية أسسوا وفي يوم واحد جمعية انقاذ الجزائر , وقد منح وزير الداخلية في ذلك الوقت الجنرال العربي بلخير الاعتماد لهذه الجمعية في ظرف ربع ساعة , في حين تنتظر الجمعيات الأخرى مدّة ستة أشهر للحصول على الاعتماد . والجمعيات النسوية التحررية أقامت مهرجانات للمطالبة بحقوق المرأة كاملة وكل تلك الأمور كانت في الواقع رسائل سياسية من جهة , كما كانت مؤشرا على وجود قوة فاعلة تحرك كل هذه الصور من خلف الكواليس كمدخل لما هو أعظم ! العربي بلخير وزير الداخلية وأحد أكثر المتنفذين داخل المؤسسة العسكرية عقد اجتماعا موسعا صبيحة ظهور نتائج الانتخابات مع القيادات الأمنية استعدادا للمرحلة المقبلة . سيد أحمد غزالي رئيس الوزراء والذي وعد الأمة الجزائرية عشية تعيينه على رأس الحكومة في 04 يونيو 1991 بأنّه سيشرف على انتخابات حرّة ونزيهة ,أعلن أنّ ظنه في الشعب الجزائري قد خاب لأنّه صوتّ لصالح الجبهة الاسلامية للانقاذ, وكان غزالي قد قدمّ ضمانات للمؤسسة العسكرية بأنّ القوة الثالثة العلمانية هي التي ستستحوذ على البرلمان . جنرالات الجيش وعلى رأسهم وزير الدفاع الجنرال خالد نزار اجتمعوا ولمدة أسبوع كامل بالشاذلي بن جديد وطالبوه بالغاء الانتخابات التشريعية باعتبار أنّ صلاحياته تخوله ذلك , وقد أدّى رفض الشاذلي لطلبهم الى عزله حيث قدم استقالة رمزية أوضح فيها سبب الاستقالة , وقال أنه سيضحّي من أجل الجزائر , وحتى تكتمل اللعبة أمر بحل البرلمان الجزائري ,وقد أعلن رئيس البرلمان عبد العزيز بلخادم أنّه سمع بأمر حل المجلس الشعبي الوطني – البرلمان – من خلال التلفزيون الرسمي . وقد توالت الأحداث بسرعة مذهلة لتنتهي الجزائر بلا رئاسة ولا مجلس شعبي منتخب ولا مجلس دستوري ولا بلديات منتخبة . انّه الفراغ الدستوري المركّب , انّه الشغور التام , انّه بداية انهيار الدولة ومؤسساتها . فما المخرج !!! شغور الدولة : بعد انسحاب الشاذلي بن جديد وحلّ المجلس الشعبي الوطني وجدت الجزائر نفسها تعيش فراغا دستوريّا رهيبا . والدستور الجزائري ينصّ على أنّه في حالة استقالة رئيس الجمهورية أو موته يتولىّ رئاسة الدولة رئيس المجلس الشعبي الوطني –البرلمان – وذلك لمدّة 45 يوما تجرى بعدها انتخابات رئاسية . الاّ أنّ المجلس الشعبي تمّ حلّه , وعبد العزيز بلخادم رئيس البرلمان والذي كان يفترض أن يتولى الرئاسة في المرحلة الانتقالية أعلن أنه سمع بقرار حلّ البرلمان في التلفزيون الجزائري . و يبدو أنّ اللعبة كانت محبوكة بدقة لابقاء الجزائر في ظلّ هذا الوضع , وفي قبضة المؤسسة العسكرية , لأنّه وبعد انهيار كل المؤسسات بقيت المؤسسة العسكرية هي الوحيدة التي تدير مقاليد الأمور . ولمعالجة حالة الشغور اجتمع رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي ووزير الخارجية الأخضر الابراهيمي و وزير الداخلية العربي بلخير ووزير الدفاع الجنرال خالد نزار وكان الاجتماع في قصر الحكومة , و أطلق على هذه النواة اسم اللجنة الاستشارية , وللتذكير فانّ الهيئة الاستشارية دستوريّا لا يحق لها اتخاذ القرار , ووظيفتها الدستورية تكمن في اعطاء المشورة لرئيس الجمهورية في مسائل الأمن القومي , ودستوريا يشترط أن تلتئم هذه اللجنة الدستورية بحضور رئيس الجمهورية وهو في هذه الحالة الشاذلي بن جديد الذي أقيل من منصبه , وقد تجاوزت هذه اللجنة كل هذه الاعتبارات الدستورية بحجة أنّ الوضع الأمني لا يسمح بفلسفة الأمور والوقوف عند حرفية النصوص الدستورية . وقد خرجت اللجنة المذكورة بعد اجتماعها بفكرة الرئاسة الجماعية وهي ما عرف في الجزائر باسم المجلس الأعلى للدولة , ويتكون هذا المجلس من خمسة أعضاء وهم : محمد بوضياف رئيسا وخالد نزار عضوا وعلي كافي عضوا وعلي هارون عضوا وتيجاني هدّام عضوا , وبمجرد الاعلان عن هذا المجلس اعترضت عليه القوى السياسية باعتباره غير شرعي وغير دستوري . وكان البعض في الجزائر يتوقع أن يتقدم رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي لرئاسة الدولة خصوصا وأنّ بعض المتنفذين في الجيش أوحوا له بذلك , الاّ أنّ الاضطرابات الجماهيرية والاحتجاجات المتواصلة على قرار الغاء الانتخابات التشريعية جعلت صنّاع القرار في المؤسسة العسكرية يستنجدون بشخصية من وزن محمد بوضياف لتغليب شرعيته التاريخية على الشرعية الشعبية الملغاة بقرار علوي . وكان الجنرال خالد نزار قد أجرى اتصالات بمحمد بوضياف ودعاه الى الجزائر لمدة أربع وعشرين ساعة , وتمّ تكليف علي هارون صديقه القديم بالتوجه اليه حيث يقيم في مدينة القنيطرة بالمغرب , وأوهم علي هارون بوضياف بأنّ الجزائر على وشك الدخول في حرب أهلية يحترق فيها اليابس والأخضر , ومما قاله محمد بوضياف لعلي هارون أنّ السلطة عليها أن تستأنف الانتخابات وتواصل الدورة الثانية من هذه الانتخابات وعليها أن تقبل بنتائج الانتخابات , وحاول هارون اقناعه بأنّ ذلك غير ممكن وأن المشروع الأصولي خطر على الجزائر . وعندها أمهل بوضياف على هارون فترة وجيزة للتفكير , وبعد مداخلات حثيثة من الجنرال خالد نزار وزير الدفاع قرر أن يعود الى الجزائر رئيسا بعد أن غادرها منفيا . وبعد عودته الى الجزائر التقى محمد بوضياف وزير الدفاع خالد نزار , حيث سأله بوضياف عن السبب الذي يحول دون استلام الجيش السلطة بشكل مباشر , وردّ عليه خالد نزار بقوله أنّ الدستور يحصر مهمة المؤسسة العسكرية في حماية الدولة ومؤسساتها , والواقع أن المؤسسة العسكرية وصنّاع القرار فيها كانوا على الدوام يحبذون توجيه دفّة الحكم من وراء الستار . وبعد أن استمع الى وزير الدفاع كل ما أراد أن يقوله , غادر الجزائر عائدا الى المغرب لترتيب وضعه , وليعود الى الجزائر وسط ضجة اعلامية بدأ الرسميون في الجزائر يمهدون لها. وفي القنيطرة في المغرب حاول أهله عن ثنيه لقبول دعوة خالد نزار لتوليّ الرئاسة لأنّ ذلك ينطوي على مخاطر جمّة خصوصا وأنّ التركة ثقيلة ولا يمكن لبوضياف تطويقها أو وضع حدّ للدوامة التي تعصف بالجزائر منذ خريف الغضب سنة 1988 . عودة محمد بوضياف : في 15 يناير 1992 وفي الساعة الخامسة مساءا وصل محمد بوضياف الى مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة بعد غياب طويل دام 27 سنة . وكان في استقباله لدى وصوله وزير الدفاع الجنرال خالد نزار, ووزير الداخلية الجنرال العربي بلخير و رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي , و بقية أعضاء المجلس الأعلى للدولة علي كافي , علي هارون تيجاني هدّام وغيرهم من الرسميين الجزائريين . توجّه بوضياف الى باحة المطار حيث قال لوسائل الاعلام أنّه جاء الى الجزائر لانقاذها . ومن المطار توجه مباشرة الى قصر الجمهورية , وأبلغ الشعب الجزائري أنّ محمد بوضياف سيلقي خطابا على الأمة في الساعة الثامنة مساءا . وكانت الأنظار كل الأنظار مشدودة اليه ,ومما جاء في الخطاب أنّه سيعمل على الغاء الفساد والرشوة ومحاربة أهل الفساد في النظام واحقاق العدالة الاجتماعية , ودعا القوى السياسية الى التوحّد لمواجهة التحديّات الجديدة , وطلب من الشعب الجزائري مساعدته في أداء مهامه , وقال : هذه يدي أمدّها الى الجميع بدون استثناء . أماّ الجبهة الاسلامية للانقاذ التي صودر انتصارها في الانتخابات التشريعية , فقد أبرقت الى محمد بوضياف محذرّة أياه من مغبّة تلويث سمعته التاريخية ودعته لعدم الوقوع فريسة في أيدي ما أسمته الجبهة الاسلامية للانقاذ بالطغمة الحاكمة التي تريد استغلال وتوظيف سمعة محمد بوضياف ورصيده الثوري . وأصرّت الجبهة الاسلامية للانقاذ في مطالبتها السياسية على ضرورة العودة الى المسار الانتخابي وقد قابلت السلطة الجزائرية هذا الطلب بالمجابهة العنيفة . وعاشت الجزائر عندها أحلك أيامها , فرضت عندها حالة الطوارئ , وقام وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير بحلّ الجبهة الاسلامية للانقاذ , و تمّ اعتقال كافة القيادات الانقاذية , والعناصر المتعاطفة مع الجبهة الاسلامية للانقاذ ولأنّ السجون لا تسع عشرات الألاف من الناس فقد تمّ اقامة معتقلات في الصحراء الجزائرية . وفي 07 فبراير 1992 شهدت العديد من المدن الجزائرية انتفاضات عارمة جوبهت بالدبابات وحتى بالصواريخ كما وقع في مدينة باتنةالجزائرية . وظلّ محمد بوضياف في كل خطبه يتهجم على الجبهة الاسلامية للانقاذ , وأحيانا كان يلجأ الى السخرية والاستهزاء من جبهة الانقاذ الاسلامية , كما شنّ هجوما على حزب جبهة التحرير الوطني وأمينه العام عبد الحميد مهري الذي كان يعترض على الغاء الانتخابات التشريعية , وكان يطالب بردّ الاعتبار للجبهة الاسلامية للانقاذ وكل هذه المواقف لم ترق للسلطة التي وضعت خطة للانقلاب على عبد الحميد مهري ومن داخل جبهة التحرير الوطني ونجحت الخطة في وقت لاحق ! وفي خضّم الفراغ السياسي القاتل الذي شهدته الجزائر بعد الغاء المسار الانتخابي دعا محمد بوضياف الى انشاء التجمع الوطني الديموقراطي الذي أراده الرسميون تيارا ثالثا بديلا عن الجبهة الاسلامية للانقاذ وحزب جبهة التحرير الوطني ورغم أنّ هذا التجمع كان شعاره الجزائر أولا وقبل كل شيئ الاّ أنّ هذا الشعار الجميل والمنمّق لم يثر حماس كثيرين في الجزائر الذين كانوا يرون أنّ الجزائر تعيش حربا شرسة بين شرعية الانقلاب وشرعية الصناديق المقلوبة ! فالمؤسسة العسكرية كانت مصرة على ابقاء الوضع على حاله وعدم الرجوع الى المسار الانتخابي مهما كلفّ الأمر , والجبهة الاسلامية للانقاذ كانت مصرة على التغيير الجذري للنظام وتطهير الجزائر من النظام الذي جرّها الى الهاوية . مشكلة الشرعية في الجزائر : مشكلة الشرعية في الجزائر مطروحة بقوة مع بداية الاستقلال الجزائري , ولعلّ عدم ايجاد حل لها هو السبب وراء كل الكوارث السياسية التي حلّت بالجزائر , فمنذ ثلاثين سنة والجزائر تنتقل من محطة الى محطة أخرى بشرعيات متعددة. فعقب استقلال الجزائر في 05 يوليو 1962 حسم الجيش الجزائري الصراع الذي كان دائرا بين ثوّار الأمس لصالحه , وأسند منصب رئاسة الدولة لأحمد بن بلة وكانت مرجعية هذه الدولة وسندها الشرعية الثورية , غير أنّ هذه الشرعية لم تعصم رفاق الثورة من التقاتل والتصفيات الجسديّة , وباسم هذه الشرعية سجن محمد بوضياف في 1963 , وقتل العقيد شعباني ومحمد خيضر وكريم بلقاسم , وباسم الشرعية الثورية أطاح هواري بومدين بحكم الرئيس أحمد بن بلة في 19 يونيو 1965 , وكان قادة الانقلاب يسمون ما حصل تصحيحا ثوريا , وبشرعية هذا التصحيح ظلّ هواري بومدين يحكم الى أن وافته المنيّة في سنة 1978 . وبعد وفاة هواري بومدين , تمّ ايصال الشاذلي بن جديد الى الحكم من قبل المؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات العسكرية الذي كان على رأسه أنذاك قاصدي مرباح . وعلى الرغم من أنّ الشاذلي بن جديد كان يحرص على اجراء انتخابات رئاسية الاّ أنّه كان المرشح الوحيد والفائز الوحيد لثلاث فترات متتالية . ومثلما دفعت المؤسسة العسكرية الشاذلي بن جديد الى الواجهة فقد أقالته في 11 يناير 1192 . وبتنحية الشاذلي بن جديد دخلت الجزائر مجددا مشكلة الشرعية , وظلّ الصراع قائما بين الجبهة الاسلامية للانقاذ والسلطة الجزائرية وكل منهما يدعّي أنّه صاحب الشرعية المفقودة . عاد محمد بوضياف الى الجزائر في وقت كانت فيه الجزائر تلتهب وتتهاوى , وسط صراع دموي ومرير بين المؤسسة العسكرية القوة المنظمة الوحيدة بتعبير أحد الصحافيين الجزائريين , والجبهة الاسلامية للانقاذ القوة المنظمة الجديدة . وقد أدى هذا الصراع الى تفجير الموقف الأمني ودخلت قطاعات واسعة من الناس في مجابهات مع القوى الأمنية والجيش الجزائري , ولم ينحصر الزلزال الأمني في ولاية واحدة بل باتت كل الولايات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا عرضة لهذه الاضطرابات و السبب يعود الى أنّ المنضمّين الى الجبهة الاسلامية للانقاذ جاوز عددهم ثلاثة ملايين وقد هالهم جميعا أن يتم الغاء الانتخابات التشريعية التي فازوا فيها , كما هالهم أن تحلّ الجبهة الاسلامية للانقاذ , وأن يزجّ بقادتها في المعتقلات . ووسط هذه الأجواء بدأ عهد محمد بوضياف الذي بات دون أن يشعر طرفا في اللعبة وخصوصا عندما قام لدى استلامه مهامه بزيارة الى وزارة الدفاع حيث استقبله هناك وزير الدفاع خالد نزار وجنرالات الجيش , وقد أعتبرت هذه الزيارة خطأ بروتوكوليا لأن موجهّي المؤسسة العسكرية هم الذين ينبغي أن يتوجهوا الى قصر الجمهورية لتقديم الولاء لرئيس الدولة خصوصا وأنّ الدستور الجزائري ينص على أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية أكثر سعة من صلاحيات المؤسسة العسكرية , لكن يبدو أنّ ذلك على القراطيس فقط ! وأقحم محمد بوضياف في اللعبة , وبعد أن كان يحمل شعار انقاذ الجزائر , بات يتهجم على الأصولية والظلامية وضرورة انقاذ الجزائر من السرطان الانقاذي والأصولي , وكان يعتبر أنّ الغاء الانتخابات التشريعية كان ضرورة وحتمية علما أنّه كان يرى في ذلك مصادرة للديموقراطية . أمّا الشارع الجزائري الذي كان يرى في بوضياف شخصية ثورية نزيهة فقد بدأ يغير رأيه فيه خصوصا وأنّ السلطة أيّ سلطة كفيلة بتشويه العبّاد والزهاّد فمابالك بالناس العاديين , وبات الشارع الجزائري يردد أنّ بوضياف عاد لانقاذ مجموعة من العسكريين المتورطين في تفجير الفتنة الجزائرية وليس لانقاذ الجزائر , ويبدو أن هناك من أوصل هذه الانطباعات الى محمد بوضياف الذي بدأ يكتشف سلسلة من الحقائق المذهلة وهو داخل دوائر القرار كما بدأ يكتشف المعادلات الصعبة في تركيبة النظام الجزائري كما أسرّ بذلك الى نجله , وهذا ما جعله في وقت لاحق يتهجم على رجالات النظام الفاسدين والمرتشين ومن أسماهم محمد بوضياف بمختلسي أموال الشعب الجزائري , وعندها علقّ الشارع الجزائري مجددا بأنّ بوضياف لن يسلم ! ولمّا صعدّ من تهجمه على المافيا كما سماها المتحكمة في شرايين الدولة الجزائرية بدأ يستشعر بدائرة النار تدنو منه , وقد نقل مخاوفه هذه الى صديقه محمد يزيد مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجزائر وأحد روّاد الثورة الجزائرية , وقد أعلن محمد يزيد عقب اغتيال محمد بوضياف أنّ المافيا الجزائرية هي التي قتلت بوضياف وأنّها تتمتع بنفوذ واسع داخل النظام الجزائري . عندما عاد محمد بوضياف الى الجزائر التفّت حوله شخصيات جزائرية تنتمي الى ثالوث الفرانكفونية واليسار والبريرية , وعينّ بعض الجزائريين الذين يحملون الجنسية الفرنسية كمستشارين له , وعندما أقدم على تأسيس المجلس الاستشاري البديل للبرلمان الملغى كان كل أعضائه من التيار الفرانكفوني واليساري والبربري وأبرزهم رضا مالك الذي أصبح لاحقا وبعد اغتيال محمد بوضياف عضوا في المجلس الأعلى للدولة . ويعتبر رضا مالك الذي كان رئيسا للمجلس الاستشاري من أبرز منظري حزب فرنسا في الجزائر ومن الدعاة الى بعث تجربة كمال أتاتورك في الجزائر . وكان من أعضاء هذا المجلس الاستشاري مصطفى الأعرج الذي كتب سلسلة من المقالات قبل وبعد فوز الاسلاميين في الانتخابات التشريعية الملغاة أعتبر فيها الدين الاسلامي أفيون للشعب الجزائري , وأعتبر أنّ اللغة العربية لغة ميتة والأفضل للشعب الجزائري أن يطرحها جانبا لأنّ هذه اللغة هي في حكم اللغات المنقرضة . وقد ردّ على مقالاته الأستاذ عثمان سعدي - رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية في الجزائر وسفير الجزائر سابقا في العاصمة العراقية بغداد – على صفحات جريدة الشعب الناطقة باللغة العربية . وقد لعبت البطانة الفرانكفونية واليسارية والبربرية دورا كبيرا في تأخير المصالحة كما الحل السياسي في الجزائر , وكلما كانت تلوح في الأفق بادرة للحلحلة السلمية كانت هذه البطانة تفجر الموقف وتصعّد الأزمة وبهذا الشكل بقيت الجزائر تراوح مكانها . وكان المجلس الاستشاري يضطلع بمهام البرلمان حيث كان يسنّ القوانين , كما كان يوافق على القوانين التي يشرعّها المجلس الأعلى للدولة . ولما دعا بوضياف الى تشكيل التجمع الوطني الديموقراطي لملء الشغور السياسي الرهيب عقب تجميد التعددية السياسية الحقيقية والجادة , بادر اليسار الجزائري وعلى رأسه الهاشمي شريف والحركة البربرية وعلى رأسها سعيد سعدي بالاستحواذ على توجهات التجمع , وكان بوضياف من خلال مدير ديوانه رشيد كريم يعمل على مد جسور مع حزب الطليعة الاشتراكية اليساري بزعامة الهاشمي الشريف و التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية بزعامة سعيد سعدي . وكان البعض في دوائر النظام يروّج للفكرة الثالثة أو الاتجاه الثالث بين التيار الاسلامي الذي تمثله الجبهة الاسلامية للانقاذ والتيار الوطني الذي تمثله جبهة التحرير الوطني , وكان رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي أحد الدعاة الى هذا الطرح , وكان قوام الاتجاه الثالث الفرانكوفونيين والتغربيين الذين لفظتهم صناديق الاقتراع وحاولوا التكتل لاسترجاع زمام المبادرة , والمفارقة أنّ سيد حمد غزالي كان يعتبر هذا الاتجاه ديموقراطيا وهو أول من طالب بمصادرة هذه الديموقراطية عندما تعلقّ الأمر بفوز الاسلاميين ,وهذا الاتجاه هوالذي طالب أيضا بزجّ الجيش في المعركة السياسية والغاء المسار الانتخابي . بعد اقالة مولود حمروش أثناء أحداث يونيو سنة 1991 عين سيد أحمد غزالي على رأس الحكومة , ومنذ تعيينه على رأس الحكومة عمل على تصفية حسابه مع حزب جبهة التحرير الوطني التي همشته الى أبعد الحدود , وعمل على تصفية الجبهة الاسلامية للانقاذ , وكان ذلك في الواقع استجابة لأراء بعض الصقور في المؤسسة العسكرية الذين كان لديهم حساسة من الوطنية العروبية ومن الاسلام السياسي . وفي كل مؤتمراته الصحفية كان يتهجم على التيار الوطني والتيار الاسلامي , وبموازاة هذا التهجم بدأ يعدّ لتشكيل قوة ثالثة قوامها المجتمع المدني ذو الميول الفرانكفونيّة . و أستغلّ سيد أحمد غزالي نقمة محمد بوضياف على حزب جبهة التحرير الوطني الذي همشّه وأقصاه من المشهد السياسي الجزائري بشكل كامل على مدى ثلاثة عقود , وتمكنّ بوضياف – غزالي من تضييق الخناق على حزب جبهة التحرير الوطني وذلك من خلال سنّ قوانين تجرّد جبهة التحرير الوطني من المقرات والممتلكات التابعة لها , كما سحبت منها صلاحية الاشراف على جريدتي الشعب والمجاهد . و قد أكتشف محمد بوضياف أنّه أصبح بيدقا في يد هذه التيارات والتكتلات ,وأعلن ذات يوم أنّ الجزائر تسير بناءا على أوامر تصل الى الجزائر عن طريق الفاكس من قصر الاليزي في باريس ! وبدأ بوضياف يكتشف بعض المتناقضات حيث أخبر نجله ناصر بوضياف بأنّ الوضع معقّد للغاية في الجزائر , وكان ناصر بوضياف يقوم بزيارة أبيه في الجزائر قادما من المغرب حيث بقي هناك يواصل الاشراف على مصنع الأجر الذي كان أبوه يديره قبل عودته الى الجزائر . وغير المتاعب السياسية والأمنية التي صادفها محمد بوضياف , فقد وجد وضعا اقتصاديّا مزريّا ومديونية بلغت 26 مليار دولار عدا الديون العسكرية , كما فوجئ بوضياف بكساد الزراعة و المؤسسات الانتاجية العاطلة والبطالة المتفاقمة واختلاسات بالجملة الأمر الذي جعل مهمة صندوق النقد الدولي في فرض مزيد من الشروط على الجزائر سهلة للغاية . و المشروع الوحيد الذي كان بحوزة رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي هو عرض أبار حاسي مسعود النفطية للبيع . ووسط عجز كامل في مواجهة التحديات , وعندما كانت الدماء تراق في كل أزقّة الجزائر ومساجدها وأحياءها و ساحاتها , طرح بوضياف مشروع التجمع الوطني الديموقراطي الذي كان ناقصا في أطروحته , وكل ما طرحه محمد بوضياف في هذا السياق هو ضرورة أن يعيش الجزائريون من أجل الجزائر وأن يتحدّوا فيما بينهم لتجاوز الأزمات الخانقة التي تعصف بالجزائر . وكان شعار هذا التجمع الجزائر أولا وقبل كل شيئ , وقد ظلّ هذا التجمع يراوح مكانه بسبب عدم اقدام الناس على الانتساب اليه . ومن جهتها الأحزاب الثقيلة التي فازت في الانتخابات التشريعية أعتبرت التجمع الوطني بمثابة العودة الى الأحادية السياسية , وأنّه مناورة جديدة من السلطة لتجميد التعددية السياسية والغاء المسار الديموقراطي , وقد أعتبرت الجبهة الاسلامية للانقاذ في بياناتها أنّ هذا التجمع يعّد لاغيا وأنه يندرج في سياق مصادرة اختيار الشعب الجزائري , أما عبد الحميد مهري الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني فقد أعتبر أنّ تجمع بوضياف مشروع لم يتضح بعد كامل الوضوح ولم يتبلور بعد بالرغم من بيانات وتصريحات حوله وأعتبر أنّ التعددية في الوقت الراهن ضروريّة وأنّها الضمان الوحيد للانتقال من نظام الحزب الواحد الى النظام الديموقراطي التعددي , أمّا جبهة القوى الاشتراكية بقيادة حسين أية أحمد فكانت ترى أنّ المجلس الأعلى للدولة ومعه التجمع الوطني لا شرعية لهما , وهما تكريس للأحادية السياسية التي رسمت معالم النظام السياسي في الجزائر منذ الاستقلال . ورفضت بقية الأحزاب الوطنية فكرة التجمع الوطني باعتباره محاولة من السلطة لبناء قاعدة جماهيرية لها , وكان بوضياف ينوي اتخاذ خطوات على غاية من الخطورة ضدّ هذه الأحزاب في 05 يوليو 1992 الاّ أنّ اغتياله في دار الثقافة في مدينة عنّابة حال دون تنفيذ العديد من الطروحات . وكانت السلطة قبل هذا جردّت العديد من الأحزاب من مقراتها وصادرت جرائدها , وفتح محمد بوضياف عليه كل الجبهات ودفعة واحدة كالاعلام والقضاء والأصولية والتيارات السياسية , وحتى المؤسسة العسكرية دخل معها في خصام قبل اغتياله مباشرة وخصوصا عندما قابل العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني رحمه الله في الرباط لدى زيارة خاصة قام بها الى المغرب ووعده بحل قضية استخدام المؤسسة العسكرية الجزائرية لصنيعتها البوليساريو في خلق القلاقل في الصحراء المغربية. وفي كل خطبه ظلّ بوضياف يدعو الى الانضمام الى تجمعه الذي بقي مجرد فكرة حتى بعد اغتياله , كما كان في خطبه يركّز على قوة السلطة الجزائرية وضرورة استرجاع هيبة الدولة المفقودة , هذا بالرغم من أنّ صناع القرار الفعليين في الجزائر يعرفون حق المعرفة أن الجزائر أمام خيارين فامّا المصالحة الوطنية الشاملة , وامّا الزلزال الهائل الذي لا يبقي ولا يذر شيئا من أمر الجزائر , وكان بوضياف قبل اغتياله يدرك أنّ الحل السياسي يكمن في المصالحة الشاملة كما تحدث في بعض خطبه عن عودة وشيكة الى المسار الديموقراطي ويبدو أنّ بوضياف كان يغرّد خارج السرب ! ليس هذا فحسب بل انّ محمد بوضياف كررّ مرارا مصطلح المافيا التي تمسك بمقاليد المال والنفوذ في الجزائر , وكان بوضياف يحملّها أسباب تردي الأوضاع في مجملها في الجزائر . وأخذ محمد بوضياف يصعّد من هجومه على المافيا المتنفذة في الجزائر بقوله أنّها هي التي نخرت الاقتصاد وفقرّت الشعب وأختلست ملايير الدولارات , وكان في خطبه يطالب الشعب الجزائري بتطهير السلطة من الفيروسات التي نبتت في شرايين الحكم ودوائر القرار. ولم يجرؤ بوضياف على تسمية عناصر هذه المافيا ولا المناصب التي يشغلها المنتسبون لهذه المجموعة , علما أن الشباب العاطل عن العمل يرددّ في المقاهي أسماء بعض من هذه المافيا والأرصدة التي بحوزتهم في بنوك العواصمالغربية , وكان الشارع الجزائري يتصوّر في البداية أن بوضياف يناور لامتصاص النقمة الشعبية , وبعد أن بدأ في تنفيذ مخططه لتصفية هذه المافيا علقّ الشارع الجزائري بقوله : أيّ مستقبل ينتظر بوضياف!! أمر محمد بوضياف بايداع الجنرال مصطفى بلوصيف السجن العسكري في مدينة البليدة بسبب اختلاسه أموال طائلة من وزارة الدفاع , وقيل عندها أنّ المسألة لا تعدو عن كونها صراعا خفيّا بين الصقور والحمائم داخل المؤسسة العسكرية . وقدمّ بوضياف 400 ملفّا لأحد الجنرالات تتعلق بمختلسي ملايير الدولارات والذين سلم جميعهم أما بوضياف فكان مصيره الاغتيال . وكان لسان حال المافيا أنّ بوضياف اذا أراد أن يتعشّى بنا سنتغذى به , واذا أراد الشهادة في عهد الاستعمار سنمنحه اياّها في عهد الاستقلال !!