عبد الله العروي مثقف فد جسور. ليس فقط ، لأنه مثقف جدير بصفة الموسوعية: مؤرخ وفيلسوف التاريخ وباحث وروائي.. بل لأنه « وفي لمنهج «..» يعي ضرورة القطيعة ويقدم عليها..». ولأن القطيعة من عمل التاريخ، أو من التاريخ العامل، فإنه لا يصح ولا يجوز مقارنة قيمته الثقافية بالقدماء من مفكرينا، أو من مفكري الحضارات الأخرى. لكن بالمقارنة بالحاضر، أستطيع القول، دون أن أخشى المبالغة، أنه بخطابه التاريخي المنطقي والواقعي ? وبعموم خطابه الفكري والأدبي ? المتكامل والشامل، يكاد يمثل ظاهرة ثقافية فريدة في حاضرنا الثقافي : فريدة برصانتها وصرامتها المعرفية.. بجرأتها النقدية الصّريحة.. بحسها التاريخي الثاقب.. بانطلاقها دوما وأبدا من معطيات التاريخ وعناصر الواقع قبل المفهمة والتأويل والحسم.. بتحررها من السلط الاجتماعية والأخلاقية والسياسية التي يمكن أن ترهن أو توجه أو تؤدلج اختياره المنهجي..وقبل كل هذا وبعده، بحرقتها العميقة الصّادقة بالهمّ الإصلاحي . ولأنها تعي جيدا (في حالتنا المغربية على الأقل)الشروط المجتمعية والسياسية والجغرافية والثقافية المعيقة للإصلاح ( المغرب جزيرة مطوقة، لا يمكن في نطاقها السماح للنفس بالمغامرة بعدم الاستقرار..كما يقول .. ) إن هذه الإنقطاعات تحديدا هي التي تؤمن الإستمرار يانيس ريتسوس الدولة المزيجة: دولة تمزج بين حكم الواحد والقلة والجمهور. دولة ثلاثية التكوين، ظهرت في مطلع العهد الحديث الأوربي حيث الملك في القمة والنخب في الوسط والشعب في الأسفل. فأصبح مفهوم السلطة مجسدا في ثلاث هيئات :النظر والفصل والتنفيذ. وحتى ? الدولة الإسلامية?(مع أنه لا توجد نظرية عامة مقنعة عن وجود الدولة الإسلامية بخصوصيات إسلامية متفردة)هي من النوع المزيج الثلاثي الهيكلة:العامة والخاصة والسلطان. نخلص مع ع الله العروي إلى أن السياسة بالمعنى الحديث تنافي الأمية. والأخيرة لا ترتفع بإتقان القراءة والكتابة (...)بل عندما يستقل المرء بذاته ويرى فيها المادة التي يشيد بها الكيان السياسي. وهذا مجال لابد له من تربية مدنية (مناقضة لتربية الأم) بها تتغير اللهجة، تتجرد المفاهيم، يتسع الأفق، تكثر المثل، وتتنوع التصورات(ص147 ).أي لابد له من طفرة ..لابد له من قطيعة. وهذه لم تحصل عندنا بعد بأسباب تحكم وضغط وتأثير تربية الأم. تكاد تخترق جميع مفاصل الكتاب، تحت عدة مسميات:التربية الأولى، تربية البيت، التربية الأولية، الأمية، ثقافة الأم، لغة الأم، تربية الزاوية. نقيضها الجامع هي التربية المدنية، التي تتبنى وتتمثل بالضرورة تجارب غير تجربة الأم. إن الأمي هو من لا يزال في حضن أمه(ص146 )لا يتعدى أفق حياتها حتى عندما يهاجر بعيدا عنها (ص147 ).والأمية لا ترتفع بإتقان القراءة والكتابة، بل عندما يستقل المرء بذاته ويرى فيها المادة التي يشيّد بها الكيان السياسي. والأخير لا بد له من تربية مخالفة، بل ومناقضة لتربية الأم، هي التربية المدنية القائمة على العقل عوض الغريزة، والاستقلال عوض الإتباع، والهمة عوض التوكل، والمواطنة عوض المبايعة. تربية الأم هي التي تصنع العقلية العامة، أو الذهنية السائدة ، أو التقاليد والأعراف، أو الشخصية النمطية. فعندما نقول أحنا المغاربة (شعوب أخرى تقول عن نفسها جملة أخرى لها المعنى نفسه) يقوم سلوكنا على الطمع والخمول والتملق والطاعة والتهرب من المسؤولية والتقليد، فذلك بفعل وأثر التربية الأولى، تربية البيت أو الأم التي تربي الصبي كما الحيوان. إذ أن نوازعها الطبيعية الغريزية، كالطمع والطموح والخوف والولاء.. نلمسها بنتائجها. وهي لا تختلف كثيرا عن الترويض والتدجين. مقامها الأول هو البيت حيث الأم حاضن الأسرة ومركزها (الوالد يكون زائرا في أفضل الحالات)، المربية الوحيدة الدائمة، الوالدة المرضع، الواصل بين الطبيعة والمجتمع.هي أم أمية، و لكن غير جاهلة. وظيفتها لا تتغير من البادية إلى المدينة إلى العرب إلى الأمازيغ إلى المختلطين إلى الشرفاء إلى العامة إلى المخزن إلى السوقية إلى الطرقية إلى السلفية. من هنا تحيل لفظة ? أم المعارك? إلى الأم التي ترتبط بها الأمة، وربما الأمية إذ الأمي هو الأصلي الفطري الحر الصافي (هذا مضمون النبي الأمي). إن التربية الأولية، برعاية الأم، وفي إطار الأسرة، هي التي تغرس في جسم ووجدان الطفل معطيات ونوازع الانتماء الاجتماعي والثقافة والعادات والأخلاق واللغة والعقيدة والأفق، وهي التي تعمل على استمرارية هذه المعطيات والنوازع عبر الأجيال.. هذه التربية تغلب دائما التجربة (التربية بالتعريف ثقاف)، بحيث يضعف، بل يذوب أثر المعاناة الشخصية اليومية أمام قوة أثر هذه التربية. فلا يعود للسببية التجريبية معنى أو فعل أمام سطوة وتمكن التربية على النية والولاء. كما أن هذه التربية هي المسؤولة عن تجاهل مصدر وكيفية الإنتاج، إذ الأرزاق حسب هذه التربية مقدرة متفاوتة كما الأعمار(كل واحد ورزقه) ومرتبطة بالهيئة والمرتبة والوظيف، لا بالإنتاج ووسائله. (من هنا أيضا يمكن الإشارة الى دور ومفهوم هذه التربية للرزق، في جعل دينامية النسل والتوالد دينامية طبيعية غريزية حتى متم خصوبة المرأة ). والحال أنه ?لا يدخل مجتمع ما التاريخ الحديث إلا إذا عرف من أين رزقه?(ص41 ). ولأن هذه التربية هي الغالبة في مجتمع تقليدي، ورأسماليته هشة وأمية كمجتمعنا، فإن الحديث عن انصهار الهيئات في طبقة- بالتعريف النظري الماركسي- ربما حلم مجيد، لكنه اليوم وهم خادع، بل الأدهى من ذلك، أننا نلاحظ اليوم، وعلى كل المستويات، أن عملية الانصهار في حالة جزر مستمر يعود الغائب ويطفح الغميس(ص39). الزمن البشري نفسه، يساهم في تعميق وترسيخ هذه التربية، وبالتالي في عودة الغائب وطفح الغميس، فبين وعي الفرد الراشد الذي كونته التربية الأولية، ووعي هذا الفرد نفسه إذ يشيخ، فجوة عمرية قصيرة للتطلع والنقد والإرادة والعزيمة سرعان ما تمحي وتنسى مع قرب توديع الدنيا حيث تسترجع التربية الأولية في هذا الفرد نفسه نشاطها، فيعود للتصالح مع الموروث فيه، أي يثوب. في التربية النظامية تحصل الاستمرارية إذا كان التعليم هو مجرد «تدوين» للغة الأم، سيما في الجانب التهذيبي (جانب القيم والأخلاق)، عندها لا تكون قطيعة ولا يكون انفصال.. بينما في الجانب التأديبي (جانب فنون القول) والتأهيلي (العلوم والصنائع) يحصل مبدأ المقاومة والمطالبة. الإستمرارية، هي من خصائص المجتمعات المتقدمة في التاريخ، إنما هي استمرارية بالقطائع. ما يلفت في هذا المحور(= التربية النظامية) من الكتاب، هو خضخضة ع الله العروي لقدسيات وكليشيهات الحرف والفصحى والأمازيغية والدارجة، بجرأة نادرة، توقف فيها عن الأثمنة التي أديناها وسنؤديها عن حق وصواب : - حفظ الحرف العربي؟ فلو سلكنا منطق الاقتصاد واليسر لكتبنا لغتنا بالحرف اللاتيني كما فعلت عدة شعوب مضطرة أو مختارة.- وحفظ ثقافة الفصحى؟ بحيث أضحت ثقافة الخاصة بل وخاصة الخاصة، بينما الجمهور ينصت فقط، في المسجد وفي الزاوية، إلى ما يغريه ويرهبه بمفعول نوازع الهيبة والنية والولاء والخوف. - وحضانة وتطوير الأمازيغية؟ التي هي سلاح سياسي بين النخب، إذ من الممكن أن يتسع نطاق استعمالها في الفنون والآداب والإدارة، لكن لا يمكن إنكار ما سيترتب ضرورة على هذا التطور من كلفة اقتصادية عالية جدا، ومن تغذية التمايز بين النخب، ومن فسح المجال للغة عصرية أجنبية لكي تكتسح المجال الثقافي المغربي. والنتيجة الكبرى هي إما يتجزأ الحقل الثقافي ثلاثيا.. وإما يختزل إلى قطبين فقط:الأمازيغية ولغة أجنبية من جهة، والعربية ولغة أجنبية قد تكون هي الأولى وقد لا تكون. - واعتماد لغة أجنبية كوسيلة للانفتاح والانصهار؟ إذ أن تركز اللغة الأجنبية ليس فقط لعوامل إقتصادية وعلمية، بل لدوافع اجتماعية ونفسانية قوية . كل هذا لا يفضي بالضرورة إلى التنكر لميراث الماضي، بل إلى التعامل معه بواقعية وتبصر. إذ أن الاختلاف في النطق والتعبير والذوق والهيبة والنفوذ، عندنا كما عند غيرنا، هو الذي يحتم وجود لغة جامعة تذوب الفوارق الدالة والعوارض المشخصة. ولما كان المدار العمومي، حيث يمكن أن نتربى على الثقافة المدنية، منعدم أومحدود، ولما لم يعمل تطور تقنيات التواصل إلا على الزيادة في عزلة الفرد، فإن النتيجة هي المزيد من إعادة إنتاج العودة إلى حضن الطبيعة، إلى روابط التربية الأولية. ومادامت روابط هذه التربية هي الطاغية عندنا، فهي تمد السلفية بتربة ثقافية خصبة تدعو بالعودة إلى الأصول وترفض الواقع لاستعادة ظروف البداوة والأمية، وبعبارة أخرى، مادام البدو والأميون أكثر عددا عندنا، فإن الأصولية تلازمنا في كل معانيها. ولاغرو هنا من أن يكون التأويل الديمقراطي للدستور الملكي المغربي مطوقا بأحوال الداخل العائدة إلى تربية الأم (ص122)، على عكس التأويل السلفي المطوق بالخارج .