ربما لا يكفي، إبرازا لقيمة مؤلف عبد الله العروي، الوقوف عند النتائج التي يتوصل إليها، والأجوبة-البرنامج التي يقدمها، وهي تلك التي كان من المفروض أن تكون، كما تشير المقدمة، إجابات عن أسئلة أحد الصحفيين، أو التي يمكن أن ينظر إليها كما تشير "ص63" على أنها تمخضت عن محاورة، على اعتبار أن أسلوب المحاورة هو الغالب على التأليف السياسي، وهي هنا محاورة مع الذات و"مناجاة بين المتصل والمنفصل، المقيد والمحرر، الإنسان المرتبط، المتشبث بعلاقات النشأة، يتحرر ذهنيا ويحاور ذاته". قيمة هذا الكتاب إذن، لا تكمن فحسب في ما يتوصل إليه من نتائج، وإنما أساسا في توقفه، كما تقول مقدمته، عند المرجعيات والمقدَّمات، كي تأتي الإجابات "بعد فحص وتأمل حسب تسلسل المنطق والتاريخ". هذا الكتاب المعروض على شكل مقاطع يتّبع تسلسلا منطقيا؛ فالمقاطع المرقمة ينبغي أن تقرأ أرقامها على أساس أنها أرقام ترتيبية متسلسلة يحدد فيها السابق اللاحق. والنتائج مترتبة عن مقدَّمات نفسانية اجتماعية وتاريخية، سيكون علينا الرجوع إليها في ما بعد. هذا عن التسلسل المنطقي، لكن الأهم هنا هو التسلسل التاريخي. وهذه قضية أساسية في هذا المؤلف، وربما هي التي تعطيه فرادته، وهي ليست في مكن سوى مفكر مؤرخ لا تستغرقه قضايا الساعة شأن رجل السياسة. ما السبيل الذي ينهجه الأستاذ العروي للوقوف عند واقع الحال، والانكباب على مختلف القضايا التي نواجهها، والتي لا شك أن جلها يتطلب حلولا عاجلة؟ تواجهنا خلال قراءتنا للكتاب جملة تكاد تتكرر بصيغ مختلفة على طوله، مؤداها أن ما نعرفه اليوم وما نواجهه من قضايا ليس مسألة تخصنا وحدنا، ولم تكن دوما لتخصنا وحدنا. فنحن نقرأ في ص44 على سبيل المثال: "لا اختلاف بين المجتمعات في هذه النقطة قديما وحديثا"، وفي ص46: "مطالب نظن أنها خاصة بنا، في حين أنها وجدت وتوجد في مجتمعات لا تربطنا بها علاقة. وبما أنها عامة، فهي ظرفية. لسنا وحدنا في مأزق، ومن غير المتوقع أن نكون الاستثناء في تاريخ البشر". كما نقرأ في ص 50: "لا نظن أن ما نعرفه من ازدواجية لغوية وضع غريب لا مثيل له. تساكن لغتين وثقافتين، وفي عهد سابق كتابتين، هو القاعدة في التاريخ وليس الاستثناء"، وفي صفحة 54: "أن وضع الأمازيغية إزاء العربية ليس استثناء، بل هو القاعدة في السياق التاريخي. لا تكاد توجد دولة كبيرة معاصرة، إلا وفيها لغة رسمية متساكنة مع لغات أو لهجات أصلية"، وفي صفحة67: "المُلك هو القانون، ومن هنا ارتباطه بمفهوم التنزيل، عندنا كما عند غيرنا ومنذ بداية التاريخ المكتوب"، وفي ص74: "التأرجح الذي نعيش في ظله منذ أجيال ليس خاصا بنا"، وأخيراً نقرأ في ص145: "قلنا وأكدنا أن لا خصوصية لنا في ذلك. المَلك ليس اماما، لأن ديننا الإسلام، بل لأنه يقوم بوظيف ضروري لبلورة الاختيار الديمقراطي ليحرر السياسة من اللاسياسة". نتبين من هذه الاقتباسات المتناثرة عبر الكتاب ما يعنيه الأستاذ العروي، حينما يقول، إنه يريد فحص قضايانا على ضوء التاريخ. ذلك أن النهج الذي تسمح به هاته الرؤية هو إذابة ما يبدو قضايا جزئية خاصة بنا في التاريخ العام، لكي نتمكن من النظر إليها داخل مختبر التاريخ، وإدراك وضعنا عن طريق مقارنته بما عداه، وهذا بالضبط ما يأخذه الكتاب على الماوردي على سبيل المثال مقارنة بأرسطو. المعروف أن هذا الأخير "قبل أن يؤلف كتابه عن السياسة، لجأ إلى منهجه المفضل؛ أي الاستقراء. جمع عشرات الدساتير اليونانية وغير اليونانية، كالفينيقية مثلا، وذلك قصد المقارنة"، هذا عكس تحليلات الماوردي التي رغم ما حُملت في ما بعد، فهي لا تنطبق إلا على الدولة العباسية في طورها الثاني "ولا يحق سحبها على ما سبقها من نظم وما تلاها" ص101 إذابة الجزئي في التاريخ الكلي، تجعل الواقعة حالة يمكن النظر إليها على ضوء حالات مشابهة وتفصلها بالتالي عن ميول المنظر ونزواته ومحدداته الذاتية. إلا أنها أساسا أداة منهجية تمكننا من طرح قضايا "نا" التي طالما ربطناها بالهوية والمصير، طرحها بعيدا عن هذا ال"نا" وهذا ال"نحن". هي إذن، أداة تجعل التاريخ وسيلة لتفكيك الميتافيزيقا. بل إننا نتبين في الخلاصات التي ينتهي إليها الكتاب أن المؤلف متشبث بهذا المنظور التاريخي إلى حد أنه لا يتخلى عنه حتى في أكثر القضايا دقة، مثل التقطيع الجهوي الذي يعتقد الأستاذ العروي أنه ينبغي أن يبنى على التجذر التاريخي، ولا يقتصر فحسب على القرب الجغرافي. إلا أن الأهم أن هذا النهج هو الكفيل بأن يربط السياسة بالواقع التاريخي، ولا يترك لها العنان للإغراق في التنظيرات. ذلك أننا لا ينبغي أن ننسى «أن النظرية هي فقط مرحلة في عملية الفهم، الهدف منها توضيح المفاهيم قبل العودة إلى الواقع المشاهد» ص63. لحظة النظرية هي بالضبط الكشف عن هذه القدرة على الانسلاخ عن المؤثرات الموروثة والمفروضة، وعلى الرغم من ذلك، فهي ليست سياسة ولا يمكن أن تكون مصدر سياسة، إذ «السياسة ممارسة ليس إلا. ما قد يستنتج عن النظرية من سلوك ليس سياسة» ص42 هذا المنهج الذي يعتمد التاريخ مختبرا والتحليل المنطقي أسلوبا للكشف والعرض، ليس من شأنه أن يرسم نموذجا أمثل، ويقيم المدينة الفاضلة المتصورة، فهذا الأمر لم يعد اليوم من أهداف السياسة ولا التنظير السياسي. لم يعد الأمر يتعلق ببحث عن نظام أمثل، والسياسة تحكمها ثنائية لا يمكننا البتة أن نأخذ بأحد طرفيها وإغفال الآخر. هذه الثنائية تتخذ في الكتاب صورا متعددة يمكن أن نرجعها إلى الثنائية الأصل التي تحدد الإنسان كحيوان عاقل. لا يمكن للتنظير السياسي أن يقام على أساس «الفرد الحر العاقل، المنفصل عن الحيوانية، والمتحكم في كل النوازع»، فلا يتعلق الأمر بالانتصار لروسو ضد هوبز، أو للفارابي ضد ابن خلدون، وعلينا أن ندرك أن التعارض بين طرفي الثنائية قائم في الطبيعة والسلوك، وهو قائم على الدوام شرقا وغربا، ماضيا وحاضرا، عمليا ونظريا. تتمخض عن ذلك نتيجة أساسية، وهي أن الفرق لم يعد اليوم بين نظام صالح يفسد بالتقادم، وآخر فاسد يصلح بالتدبير. الفرق اليوم، أصبح بين نظام متصور وآخر ملموس، بين مثل أعلى ندركه بالنظر وبه نحكم على واقع يمتزج فيه الخير والشر. ذلك أن «الفساد ملازم للإنسان، والإصلاح لا يعدو أن يكون ترميما مستمرا لفتق متجدد» ص95. الصلاح والفساد يمتزجان بنسب متفاوتة حسب اختلاف الشعوب وتوالي الحقب. «لم يعد الهدف إصلاح الفاسد بقدر ما هو تعديل المختل لكي يستوي ويستقر» ص93. فالسياسة ليست إلا «هندسة هيكل حكومي متوازن». أين يتجلى الاختلال في حالتنا؟ تعبُر الصفحات المائة الأولى للكتاب نغمة قد يقول البعض، إنها لا تخلو من نبرة تشاؤمية، وقد يرى فيها آخرون أنها تتسم بالنظرة الواقعية، ويمكن أن نرصدها في الفقرات التالية: ففي صفحة 42 نقرأ: «ما نلاحظه منذ ثلاثين سنة تقريبا: عودة الغائب، انتعاش اليمين وتقادم اليسار»، وفي ص30: «في وقت ما انخرط الجميع في أحزاب أو نقابات أو جمعيات أو أندية أو تعاضديات، ثم دب الملل إلى النفوس. هل عاد كل واحد منا إلى نفسه أو أسرته الضيقة؟ لا، انتعشت من جديد الزوايا، في ثوب مستحدث، ومعها ارتفعت مرة أخرى أصوات تدعو إلى الخضوع والانقياد، إلى النية والتوسل». لهذه الردة أسباب اجتماعية متجذرة. ففي وقت علق الأمل على انصهار الهيئات في الطبقة، إلا أنه تبين في ما بعد أن ذلك لم يكن إلا وهما خادعا. واليوم «لا سبيل الى تذويب الهيئة الحاكمة في هيئة اجتماعية بعينها، كما لا سبيل إلى تذويب الهيئات المختلفة في طبقة أعلى. حتى عندما نسمي الهيئة طبقة، فإنها لا تزال تتصرف عمليا كهيئة. الشريف اليوم ملاّك، لكنه لا يزال يتصرف كشريف، والشيخ كشيخ والقائد كقائد، ورغم أنه أجير فإن المزارع يتصرف كفلاح والصانع كصنائعي والتاجر كبقال...نلمس على كل المستويات عودة الغائب وطفح الغميس» ص39 لقد تحطمت كثير من الأوهام: الإصلاحية التلقائية، تلك الأوهام المتعلقة بالنفس البشرية التواقة إلى التقدم والتحرر، «بالاقتصاد كقاطرة للتنوير، بالطبقة العاملة كطليعة الإنسان المنتج الحر، بالمثقفين كأنصار العقل والعدل إلخ». نتفهم والحالة هذه، لماذا لا يتم الاستنجاد هنا بالنظريات المتداولة والتحليلات المعهودة، وخصوصا تلك التي تقوم على مفهومات الطبقة والأدلوجة: «نظرية الطبقة والأدلوجة هي في الحقيقة نفي للسياسة كممارسة. إنها تصدق في وضع لا سياسة فيه، لا داعي فيه إلى سياسة» ص43. فما دامت السياسة هي بالضبط ما تعنيه تقليديا الكلمة؛ أي تسيير البشر واستغلال نوازعهم الطبيعية، وما دام الوضع هو كما أتينا على تشخيصه منذ قليل، «فإن الهيئة تظل سابقة على الطبقة، تخضعها لأغراضها بشتى الطرق، ويظل نقد الأدلوجة معرضا باستمرار ليكون هو ذاته أدلوجة، يحجب الواقع ولا يكشفه». إذا انطلقنا من واقع الحال ومن عودة الغائب وطفح الغميس والحاح الموروث واستحالة الفطام، اتضح «أن من سيعمل بمفهومي الطبقة والأدلوجة، سيكون ضعيفا في مواجهة خصمه لأنه يطاول الزمن، يراهن ضد القائم وضد الموروث، فهو دائما في حالة الواعظ الداعية» ص43. إذا كانت الأمور على هاته الحال: الأمية متفشية والتعليم النظامي ووسائل الإعلام والنشاط العمومي، كل ذلك لا يفعل سوى إعادة إنتاج الموروث، فما العمل إذن؟ كيف يتم الفطام وتتحقق النقلة المرجوة؟ ص147 إن الأمية، ثقافة الأم، لا ترتفع لا بإتقان الكتابة والقراءة، ولا بحفظ مقولات عن الكون والإنسان الماضي، بل عندما يستقل المرء بذاته، ويرى فيها المادة التي يشيد بها الكيان السياسي. لنقل بلغة كانط: وحده هذا الخروج عن حالة القصور يحررنا من تربية الأم كي نلج التربية المدنية، والسبيل العملي إليه اعتماد برنامج قد يستغرق جيلين نعمل فيه على إرساء أسس ديمقراطية تتجذر في المحلية، ولا ننظر إليها على أنها قد تحل بعد ثورة أو تغيير شامل في الآفاق والنفوس، وإنما على أنها ما نجرب، ما نرى ونلمس، وما لا نفتأ نجدد ونصحح.... وبعد... هذه هي إحدى النتائج الأساسية التي يتوصل إليها الأستاذ العروي في هذا الكتاب المهم. الديموقراطية هي ما نرى ونلمس، ما نجرب ونصحح. لست أدري ما إذا كان من المناسب أن أذكر هنا عبارة لجاك دريدا تذهب المذهب نفسه «أن تكون ديمقراطيا هو أن تقرن أفعالك وأقوالك دوما بالاعتراف بأنك في مجتمع غير ديمقراطي». السياسة «ترميم مستمر لفتق متجدد». إنها هندسة وتدبير، ممارسة وتجريب، وليست نظرية ومفهومات. ربما من أجل ذلك، لا يصح اعتبار هذا المؤلف ضمن سلسلة المفاهيم التي دأب الأستاذ العروي على تأليفها، فهو ليس «في مفهوم السياسة»، وإنما هو «من ديوانها». وربما من أجل ذلك، كان الدخول إلى مختبر التاريخ أمرًا لا محيد عنه في هذا المؤلف بهدف الوقوف عند مختلف المكونات الاجتماعية والثقافية والتاريخية للمجتمع المغربي، والإحاطة بمختلف العناصر التي تدخل في تحديد الوضع الراهن، كل ذلك من غير انسياق نحو أي تفاؤل رخيص، ولا اندفاع أو حماس لأية دعوى أيديولوجية بعينها. الأمر الذي يجعل ربما من العسير الاعتراض عليه في النتائج التي يتوصل إليها، إلا أن ذلك لا يمنعنا على الرغم من ذلك من مساءلته حول بعض مقدّماته، ولعل أهمها تلك الثنائية التي رأينا أنها تتخذ في الكتاب صورا مختلفة، وترتد في النهاية إلى الثنائية الأصل التي تعتبر الإنسان حيوانا عاقلا، وتنظر إلى كل موقف يختزل الفعالية البشرية في السلوك الذي يقوم على العقل والوعي، باعتباره موقفا مغرقا في المثالية. يفترض الأستاذ العروي أن النفسانية هي أساس الاجتماع والسياسة، وأن النوازع هي المادة الأولى للسياسة ممارسة وتنظيرا، بل إن السياسة في نظره هي «توظيف للنوازع» ص7. «فلولا الخوف لما كان أمر، لولا التوهم لما كانت هيبة، لولا الطمع لما كان ولاء، لولا الطموح لما كان سلطان». ص9. يهدف المؤلف كما يقول «الإمساك بالنوازع المؤثرة بصفة دائمة قارة» ص9. إنه يريد إذن، حصر النوازع. ولكن هل في إمكاننا اليوم أن نحصر النوازع ونحدها ونحددها؟ هل بإمكاننا في عصر غدا فيه الإعلام لا يصنع الآراء وحدها، وإنما يصنع الرغبات ويخلق الحاجات ويفتعل النوازع، هل يمكننا أن نقف عند المحددات التي تميز الإنساني في الإنسان عن الحيواني فيه؟ فربما لم نعد اليوم أمام ذلك الحيوان الناطق الذي تكلم عنه أرسطو ومن جرى مجراه، وإنما أمام كائن إعلامي غير معهود. هذا عن حصر النوازع وحدها، فما بالك بتحديدها؟ هل الخوف الذي أصبحنا نعرفه، والذي يجعلنا نترقب على الدوام حدوث ما لا تحمد عقباه، والذي غدا خوفا مركبا، خوفا من الخوف، هل هو الخوف ذاته الذي كنا «نرتاح» إليه حتى وقت قريب، إن صح التعبير؟ ألا يحول عدم الحد والتحديد هذا دون الإمساك بالنوازع التي تفعل في الحقل السياسي؟ ألا يدفعنا بالتالي إلى أن نولي اهتمامنا أيضا وربما أساسا، لا إلى ذلك الحيوان العاقل وحده، وإنما الى هذا الكائن الإعلامي، فنقيم تحليلاتنا على نوع من التحليل السيميولوجي للحياة اليومية، فضلا عن التحليلات النفسانية والاجتماعية والتاريخية؟ صحيح أن ذلك قد لا ينال كثيرا من المقدّمات التي ينطلق منها الكتاب، إلا أن من شأنه على الرغم من ذلك أن «يلونها»، وربما أن «يحيّن» النتائج التي تتمخض عنها.