المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موظف بالمحكمة الابتدائية بطنجة خلف القضبان بتهمة النصب وانتحال صفة    الكشف عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة    المغرب يستعد لإطلاق 5G لتنظيم كان 2025 ومونديال 2030    ينحدر من إقليم الدريوش.. إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس النافذ    الفتح الرباطي يسحق النادي المكناسي بخماسية    أمن البيضاء يتفاعل مع مقطع فيديو لشخص في حالة هستيرية صعد فوق سقف سيارة للشرطة    رابطة حقوق النساء تأمل أن تشمل مراجعة مدونة الأسرة حظر كل أشكال التمييز    بوريطة : العلاقات بين المغرب والعراق متميزة وقوية جدا        ميداوي يقر بأن "الوضع المأساوي" للأحياء الجامعية "لا يتناطح حوله عنزان" ويعد بالإصلاح    الملك محمد السادس يعزي أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    "البيجيدي": حضور وفد اسرائيلي ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب استفزاز غير مقبول    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    "نيويورك تايمز": كيف أصبحت كرة القدم المغربية أداة دبلوماسية وتنموية؟    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    متضررون من الزلزال يجددون الاحتجاج على الإقصاء ويستنكرون اعتقال رئيس تنسيقيتهم    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    أخبار الساحة    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط        فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار المغشوش أو هكذا تكلم عبد الله العروي عن المسألة الأمازيغية بالمغرب (1) (من منظور بلاغة الحوار)
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 02 - 04 - 2011

«...لكن الحوار يفترض أولا (حسن النية)، وإرادة التفاهم، ويفترض قبل كل شيء فكرة الاعتراف بالآخر، الاعتراف بحقه في الوجود، والاعتراف بحقه في الحياة وبحقه في التميز والاختلاف، لا الاعتراف فقط بالتفوق وبحق الأقوى والأغنى والأعلم في فرض رؤيته على الآخر. الحوار الحقيقي ينطلق من مسلمة أساسية هي مسلمة التساوي في الوجود وفي الحق».
محمد سبيلا:»الحوار بين الثقافات: العوائق وشروط الإمكان
أولا - العروي ومغامرة الكتابة السياسية بالمغرب
يبسط الأستاذ عبد الله العروي في كتابه :«من ديوان السياسة« رؤيته الخاصة في مجال السياسة الراهنة بالمغرب، وكل ما يرتبط بها، من قريب أو بعيد، ويرصد مسار تكوينها وتكونها التاريخي، دون أن يغفل رسم معالم الأفق السياسي للدولة الحداثية، كما يرتضيها في المغرب. وهو في كل ذلك يستحضر، بوعي وإصرار، مختلف التجارب السياسية القومية والكونية، عبر مسارها التاريخي البعيد، للعبرة، والاستفادة مما يحلو أن يسميه ب»المتاح للبشرية جمعاء» ( العروي:»مفهوم العقل»، ص:16.)، ويستشهد بمختلف النظريات في العلوم السياسية الحديثة والقديمة، الكونية والقومية (أفلاطون، وأرسطو وهوبز وكانط ومونتسكيو والفارابي وابن خلدون، إلخ). ويتخذ من وضع المغرب الراهن ومستقبله نموذجه بما هو مدار الكتاب ومجاله المركزي، دون أن يزيغ عن أطروحته الماركسية التاريخانية، أو التاريخانية الماركسية، منذ أن اقتنع بها وأعلن عنها في كتابه المرجعي: «الإيديولوجية العربية المعاصرة» رغم «الهزات التي عرفتها المنظومة الماركسية، منذ ما يناهز عقدين من الزمان».(- بنسالم حميش:» نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر»، ص ص: 235/236.)
لكن، هذه المرة، وهو يقارب الراهن السياسي المغربي بالأساس، ويستعرض المفاهيم السياسية المركزية التي قامت عليها الدولة المغربية، ومارست بها السلطة، وما تزال، يقاربه دون مصادر أو مراجع أو إحالات، أو هوامش، على عادة البحوث الأكاديمية، ودون استشهاد أو استئناس بآراء مجايله في الموضوع، أو إشارة إلى موقف من مواقف متاخميه الفكريين أو السياسيين في تلك المسألة أو أخرى، مما يدخل في دائرة السياسة، والسياسة المغربية بالتخصيص. وكأنه يريده كتابا بلا رقابة أكاديمية، ولا إكراهات علمية، ولا حتى مساجلة أو محاججة مع أحد، باستبدال العرض بالحوار، (ص:5) مع أنه كتاب حجاجي بامتياز، وهو ما سيتضح على امتداد هذه الدراسة.
فقد أراد الأستاذ العروي، على ما يبدو، أن يكون كتابه ذاك خريطة طريق لكل ممارس مغربي للشأن السياسي، بأدوات السياسة ودائرتها الخاصة، معتمدا في كل ذلك، من جهة، على لغة مألوفة ومتداولة، وأقل تجريدا، وفي الوقت نفسه على عبارات فضفاضة مقتضبة ومكثفة، ومقاطع مركزة وموحية وغامضة محيرة، من جهة أخرى، دون إسهاب وإطناب أو»تشقيق الكلام»( العروي:» الإصلاح والسنة»، ص: 127.). فجاء الكتاب من هذه الناحية، في شكل محاورة للذات ( الديوان، ص5)، وقد بلغت من النضج المعرفي مبلغها، وارتقت في مدارج التأمل الفكري ارتقاء. وتلك حالة كبار المفكرين والكتاب، بعد مراس علمي ومنهجي، وخبرة ثقافية ومعرفية، صيرتهم بذلك حجة معتمدة، فيما يكتبون، دون إحالات، أو حاجة إلى سند، كيفما كان، يسند رأيا من آرائهم، أو إلى عضد يعضد موقفا من مواقفهم، يكسبه الشرعية والمصداقية والموضوعية، فيندرجون بذلك ضمن دائرة ما يسميه الأستاذ عبد الفتاح كيليطو «بالمؤلف الحجة (عبد الفتاح كيليطو:»الأدب والغرابة»، ص:15.)؛ وبكل تأكيد يعد الأستاذ عبد الله العروي واحدا منهم بامتياز.
(2)
لقد رصد الأستاذ العروي في كتابه الديوان مجموعة من المفاهيم السياسية ذات المضمون التقليدي التي قامت عليها «الدولة» المغربية، عبر سيرورتها التاريخية، ومارست بها السياسة، وساهمت، إضافة إلى عوامل أخرى، بقدر وافر في «البؤس» السياسي الذي يعيشه المغرب في العقود الأخيرة من تاريخه، ودرجة الانحطاط والتبخيس الذي يجتازه العمل السياسي والحزبي في الآونة الأخيرة. وهي المفاهيم التي ارتأى الأستاذ العروي أن يعرضها على مشرحة النقد والتحيين، ويقترح إزاءها مفاهيم سياسية ذات مضامين حداثية، في أفق بناء دولة ديمقراطية حقيقية، تقوم على المواطنة واللامركزية، من مدخل اعتماد آلية التأويل الديمقراطي (الديوان، 121/153)، على مختلف المستويات.
وفي أفق الوصول إلى هذا المبتغى، ورفع العوائق الموصلة إليه، توسل الأستاذ العروي بآلية الحوار، بما هي آلية من آليات توليد المعارف وتوصيلها، وبناء المواقف والإقناع بها، وبما هو آلية من آليات التجريب التي كان مولعا بها، وموفقا في أجرأتها، إضافة إلى ما تتيحه له من إمكانات لمقاربة الراهن السياسي المغربي المنفلت مقاربة جريئة وواقعية، بما فيها مساءلة أجهزة الدولة المخزنية العتيقة، ونقد المفاهيم السياسية القائمة عليها، ورصد دقائقها ومميزاتها، وفي الوقت نفسه، اقتراح بديل لها تكون مدخلا حاسما نحو الدولة الديمقراطية المرجوة تضمن للمغرب موقعا «محترما» ضمن باقي دول العالم المتحضر والمتقدم، في ظرف تاريخي وسياسي مفصلي من تاريخ المغرب ومستقبله، وفي ظل أجواء عالمية لا ترحم ولا تذر، ومن منطلق أن الظرف التاريخي، كما يقول العروي نفسه، في توأم كتاب:»الديوان»، «يفرض علينا فرضا أن نغامر ونتقدم في الحقول الملغومة» (العروي:»السنة والإصلاح، ص:163).
بهذا المعنى، وبعبارات أخرى، يعد كتاب:»الديوان» من هذه الناحية، نوعا من المغامرة في التأليف السياسي في أرضية مغربية ملغومة، أهميته حيوية بالنسبة لكل مهتم بالنظر السياسي عموما، ولكل ممارس للشأن السياسي خصوصا بالمغرب. فهو بمثابة مفتاح لمعرفة خريطة المجال الحقيقي للسياسة (العقل)، وما ليس مجالها الحقيقي (النوازع). ومن ثمة يمكن النظر إليه باعتباره حفرا أركيولوجيا في أعماق النفس البشرية، ورصدا مدققا لآليات الممارسة السياسية، وبحثا معمقا في الثقافة (ثقافة الأم) التي ساهمت، عبر مسار التاريخ السياسي، الكوني والمغربي، في تكوين «اللاشعور السياسي» للإنسان المغربي، ونتائج هذا التكون على الوضع السياسي المغربي الراهن، ومآله المستقبلي.
إن كتاب «الديوان» كتاب مرجعي ومؤسس في مجاله، وعصارة ما راكمه المؤلف، ونشره في مختلف كتبه السابقة، بل وخزان/ ديوان لا غناء عنه للتزود بآليات تحليل الخطاب السياسي، وطرق اشتغاله، خاصة في حالة المغرب، ما دام يخاطب فيه مختلف النخب السياسية والثقافية، وكل الفاعلين المساهمين فيها، بهذا القدر أو ذلك، ويفتح معهم باب «الحوار الهادئ» و»المعتدل»(الديوان، ص53) في مسائل سياسية حيوية ومصيرية بالنسبة للبلاد، كالمسألة الجهوية، والمسألة الدستورية، والمسألة الديمقراطية، ومسألة النخب، ومسألة الدولة، ومسألة الإصلاح، وغيرها من المسائل والإشكالات المصيرية التي يطرحها الكاتب، وتحتاج إلى نقاش واسع، وحوار رزين.
وبالطبع، لن نناقش كل هذه المسائل وغيرها في هذه الدراسة المحدودة، على مركزيتها في الكتاب، وأهميتها على مستقبل المغرب الممكن، إنما سنكتفي، في هذا المقام، بمناقشة المسألة الأمازيغية، وما يتصل بها، كما تناولها الأستاذ العروي في كتابه «الديوان»، رغم حساسية هذه المسألة، وأبعادها السياسية، وصعوبة المقاربة لطبيعة الموضوع المنفلت والمتحرك، ومن منظور بلاغة الحوار، بما هي «العلم الذي يتناول مكونات الحوار وأخلاقياته وآليات اشتغاله» ( العمري: بلاغة الحوار:المجال والحدود، مجلة فكر ونقد، العدد 61.).
(3)
وهكذا، ستنصرف هذه الدراسة إلى فتح حوار مواز حول المسألة الأمازيغية بالمغرب مع الأستاذ العروي، وإن كنا نعتبره، منذ البدء، حوارا غير متوازن، ويحمل على الإذعان والتسليم، لقامة المحاور الفكرية، وخبرته الثقافية، ومراسه الأكاديمي، (حجية السلطة المعرفية)، وندعي، منذ الآن، أنه من ناحية غير متكافئ، وبالتالي «حوار مغشوش» ومن ناحية أخرى «حوار مدخول»، لاعتماده آليات متهافتة حجاجبا، لاعتبارات وحيثيات ستنجلي على امتداد هذه الدراسة.
وهذه المعطيات أو بالأحرى هذه العوائق، مع ذلك لن تلغي إقامة هذا الحوار/ المغامرة على أساس حجاجي وبالتالي بلاغي، من منطلق أن «الحجاج هو عمود البلاغة»(العمري:» البلاغة الجديدة، ص:50)، علاه يعمق النقاش، وينضج شروطه، ويفتح آفاقا جديدة حول المسألة اللغوية بالمغرب عموما، والمسألة الأمازيغية خصوصا، مع حفظ حق الاختلاف بما هو حق ثابت ومكفول بين المتحاورين، وينبغي الإقرار به، مهما اختلف مقامهما، وتباعدت المسافة بين المدعي والمعترض.
ثانيا- الحوار في كتاب «من ديوان السياسة»: منطلقاته وامتداداته
(1)
من تحصيل الحاصل القول إن الحوار نشاط إنساني تتفاعل فيه ذاتين أو أكثر، حول قضية من القضايا الخلافية، بغرض التأثير والإقناع؛ ولذلك يقع في صميم عملية التواصل بما هي سيرورة اجتماعية وثقافية متعددة الأبعاد والوسائط والغايات. فهو بمعنى من المعاني، بحث مشترك بين المتحاورين عن الحقيقة المحتملة، وبنائها، وفق شروط تخاطبية، وضوابط أدبية وأخلاقية محددة، تكفل مختلف التفاعلات الحوارية القائمة على الحق في الاختلاف، وضمن دائرة الحوار ومحيطه. إنه، بعبارات الأستاذ الباهي:»طريق لتعميق الرؤى وتطوير المفاهيم ومسعى لإدراك الحقيقة التي لا يحتكرها، أو ينفرد بها طرف دون سواه». (حسان الباهي:»جدل العقل والأخلاق في العلم»، ص:28.)
فلكل مدع الحق أن يدعي ما يشاء من الآراء والمواقف التي يعتقد بها، وعلى المعترض أن يعترض على دعاوى المدعي/المحاور في محاولة لإبطال دعاواه. فللمعترض الحق ألا يسلم لمحاوره بأية قضية/دعوى، حتى يقلبها على وجوهها المختلفة، ويتحقق من تمام معقوليتها وانسجامها، بمقتضى قواعد العقل، وآليات الخطاب الحجاجي، من أجل حقيقة تبنى في منتصف الطريق بين المتحاورين.
وعادة لا ينمو الحوار ويثمر إلا في مناخ ديمقراطي، أو على الأقل إذا توفر له هامش من الحرية واتسع. من هنا ارتباط الحوار بأجواء الديمقراطية، ومفهوم الحرية، وما يقتضيانه من قيم وشروط، وما يرتبط بهما من حجاج وتواصل في قضايا خلافية واحتمالية، ومتنازع حولها، ما دام الاختلاف وتدبيره من دواعي ممارسة الحجاج.
بموجب هذا، فالحوار ممارسة تواصلية بامتياز، تقتضي الاستعانة بالحجاج، بما هو مجموعة من تقنيات الخطاب وآليات اشتغاله، تتوخى التأثير على المتلقي/المستمع، واستمالته إلى رأي دون آخر، أو إقناعه بموقف أو آخر، أو تنبيهه لمفارقات معينة قد تفتح الآفاق. أو بمعنى آخر فالحوار «تخاطب من أجل الإقناع بقضية أو فعل. أو بعبارة أدق هو كل تخاطب يتوخى تجاوب متلق معين، ويأخذ رده بعين الاعتبار من أجل تكوين موقف في نقطة معينة سلفا بين المتحاورين قريبة من هذا الطريق أو ذاك أو في منتصف الطريق بينهما».(العمري:دائرة الحوار، ص9)
ولبلوغ هذه النقطة، وتكوين ذلك الموقف بين المتحاورين لا بد من مراعاة قواعد للحوار متفق حولها، ومسلم بها تمنح الحوار مشروعيته، وتضمن فعاليته، يلتزم بها المتحاورون حتى يمكن أن يقوم بينهم الحد الأدنى من التواصل والفهم والإفهام، ومن هذه القواعد والمبادئ نُذكَر ببعض ما أورده الأستاذ محمد سبيلا في قوله: «يفترض في الحوار أولا، (حسن النية)، وإرادة التفاهم، ويفترض قبل كل شيء فكرة الاعتراف بالآخر، الاعتراف بحقه في الوجود، والاعتراف بحقه في الحياة، وبحقه في التميز والاختلاف، لا الاعتراف فقط بالتفوق وبحق الأقوى والأغنى والأعلم في فرض رؤيته على الآخر. الحوار الحقيقي ينطلق من مسلمة أساسية هي مسلمة التساوي في الوجود وفي الحق»(سبيلا: الحوار بين الثقافات).
فهل التزم الأستاذ العروي بهذه الضوابط في بناء موقفه حول المسألة الأمازيغية بالمغرب؟ وهل احترم تلك القواعد في محاورته للصحفي الأمازيغي، في استدراجه لاستصدار المواقف التي أراد، عن سبق إصرار وترصد حول المسألة نفسها؟
(2)
عاد الأستاذ العروي في كتابه الموسوم ب: «المغرب والحسن الثاني» إلى بعض الحوارات التلفزية التي أجريت معه في التلفزة المغربية، في أجواء الإعداد للتناوب التوافقي بين القصر والمعارضة، مفصلا في سياقاتها، ومذكرا بإكراهاتها، ومنبها لبعض الحيثيات المتحكمة فيها، وآثارها على المشاهد لها، ومعرجا على ذكر بعض خصائص الصحفيين المحاورين له ومميزاتهم› ( العروي: المغرب والحسن الثاني، ص 217/218).
ومن هذه الزاوية، فالمتأمل في كتاب: «الديوان» والمتتبع لمسار الكاتب لا بد أن يدرك، بهذا القدر أو ذاك، أن الكتاب يستحضر تلك الحوارات ويستثمرها، وبالتالي فهو امتداد لها (إحالة على برنامجين تلفزيين، أولهما مع الصحفية فاطمة الوكيلي، المقربة جدا من اليسار، في برنامج «رجل الساعة» سنة 1992؛ وثانيهما مع الصحفية مليكة مالك، التي نعتها بالمقتدرة والصريحة مقارنة مع زميلتها، في برنامج «الواجهة» في القناة الثانية. والعلاقة بين الحوارين أساسا، وكتاب الديوان» مما لا تخطئه المقارنة. إضافة إلى برامج «وجوه وقضايا» في القناة الأولى مع الصحفية بديعة الراضي، ناهيك عن كثير من الحوارات غير التلفزية مع مختلف المفكرين والصحفيين. (انظر «المغرب والحسن الثاني»( في ص ص:217 و218 وما بعدهما، وكذا كتابه: خواطر الصباح، 1982/199، ص:156...)، وتعميق لمجراها، وإن في شروط أخرى تتيح لصاحبها ما لم تتحه له تلك الحوارات الإعلامية المحكومة بإكراهات الحوارات الشفهية التي تحول دون الفحص الكافي لمختلف القضايا السياسة الراهنة المطروحة وقتها للحوار، كما يرتضيه المحاوَر، ويرجوه المحاور، ويقبل عليه المشاهد/ المتلقي، ويقتنع به.
ولا غرابة في هذا، متى علمنا بأن كتاب «الديوان» ليس سوى إجابة موسعة ومدققة لطلب «صحفي معروف» ومفترض، طلب أن يحاور الأستاذ العروي عن الوضع السياسي الراهن في المغرب، وبالتحديد أن يحاوره «عن الحكومة وأدائها، الأحزاب وبرامجها، اليسار وتشرذمه، اليمين ومستقبله، الدين ودوره في الحياة العامة، إلخ» (ص:5).
فما تعذر قوله في الحوارات الإعلامية، مع صحفيين مباشرين، ولم يتم الإفصاح عنه لهذا السبب أو ذاك، ولم تتح الفرصة الملائمة للتدقيق في تلك القضية، والإلمام بتلك، تم تداركه في كتاب:»الديوان». وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار كتاب الديوان امتدادا لتلك الحوارات، وتكملة لها، لما يوفره الكتاب من شروط ملائمة لتعميق النظر في القضايا التي لم يستوف النقاش فيها بالقدر المطلوب، ومناسبة لفحص المقدمات، واختبار دعاوى محاوره الصحفي، ثم ممارسة التحليل السياسي، باستحضار السياقات التاريخية، وإبعاد التخمينات السياسية، وتأمل الراهن السياسي المغربي بعد انقضاء تجربة التناوب التوافقي، و»تعثر» الانتقال الديمقراطي، وكذلك فرصة لعرض المرجعيات ونقدها، واقتراح معالم الطريق للخروج من «البؤس» السياسي الذي يعيشه المغرب منذ عقود من الزمن، والآفاق الممكنة لذلك، زد على ذلك أنه مناسبة لمعالجة المسألة اللغوية بالمغرب، وعلى رأسها الوضع الملتبس للغة الأمازيغية، وآفاقها المستقبلية.
(3)
يبدو أن الصحفي المعروف، الذي ذكره العروي في مستهل كتابه «الديوان»، أو بالأحرى ذلك «الصحفي المتخيل» الذي اختلقه الباحث، كما اختلق من قبله شعيب وإدريس، والمرأة الأمريكية المسلمة، في مختلف كتبه السابقة، هو مجرد تقنية للكتابة قد تسعفه لمعالجة تلك القضايا والإشكالات المؤرقة في المغرب، ومسلك من المسالك الممكنة لممارسة التحليل المعمق، والتبليغ الحر، والمعالجة الصارمة، باستحضار المرجعيات، وبناء المقدمات، حتى يكون الجواب عنها، وعن الصحفي المحتمل، وغيره، خاضعا لمنطق التاريخ، ومحكوما بتسلسل المنطق، وعبر آليتي الفحص والتأمل.
ولكن، هل يتمتع هذا الصحفي بالمواصفات التي تؤهله ليحاور الأستاذ العروي، بقامته العلمية والمعرفية الشامخة، ويرتقي بحواره معه ليهتم بالمرجعيات عوض الإجابات، وبالمقدمات بدل الخلاصات، بعيدا عن إكراهات الارتجال، ومطبات الشفهية، ومناورات الإعلاميين؟
(غد الجزء الثاني)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.