أوزين: "الهمزة" تتربص بالسياسة .. و"المغرب الأخضر" بلا نحر لن يُنسى    وقفة احتجاجية وسط الرباط ترفض "تنصل إسرائيل" و"مقترح ترامب"    دوري أبطال أوروبا لكرة القدم.. أرسنال يتفوق بنتيجة عريضة على إيندهوفن (7-1) ويضمن بنسبة كبيرة تأهله إلى الربع    دياز يقود ريال مدريد لهزم أتلتيكو مدريد ب 2-1 فى قمة مثيرة بدوري أبطال أوروبا    دياز: "لا أحب الحديث عن نفسي"    الرباط تشهد وقفة احتجاجية حاشدة تضامنا مع الشعب الفلسطيني وتنديدا بالعدوان الإسرائيلي    إحداث أزيد من 95 ألف مقاولة بالمغرب عند متم 2024.. هيمنة القطاع التجاري والشركات ذات المسؤولية المحدودة    انطلاق فعاليات المعرض الدولي للسياحة ببرلين بمشاركة المغرب    المغرب وإسبانيا يوقعان إعلان نوايا مشترك لتعزيز التعاون القضائي استعدادا لكأس العالم 2030    دوري أبطال أوروبا.. دياز يتألق ويمنح ريال مدريد الفوز على أتلتيكو (2-1)    دياز يقود ريال للفوز 2-1 على أتليتيكو في دوري الأبطال    بوريطة: إعلان القاهرة يعكس موقفًا عربيًا قويًا في دعم لجنة القدس ويُبرز أهمية الدور الذي تقوم به وكالة بيت مال القدس    لقاء دبلوماسي بين المغرب ومصر    القمة العربية غير العادية تتبنى خطة شاملة لإعادة إعمار غزة    أسعار اللحوم في رمضان: انخفاض في أزمور وارتفاع في باقي جماعات إقليم الجديدة    نشطاء إسبان ينددون بالتجنيد العسكري لأطفال مخيمات تندوف    موقف واضح يعكس احترافية الكرة المغربية وتركيزها على الميدان بدل الجدل    الاستئناف يرفع عقوبة آيت مهدي    انطلاق فعاليات المعرض الدولي للسياحة ببرلين بمشاركة المغرب    لقاءات بوريطة على هامش القمة    قرعة كأس العرش تفرز مباريات قوية    من بينها الحسيمة.. تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح الأمن الوطني    خلال أسبوع.. 15 قتيلا و2897 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية    النيابة العامة تكشف تفاصيل توقيف متهمين في قضية التشهير والابتزاز    تساقطات مطرية وثلجية في تنغير    بطمة تعود بحفل فني بالبيضاء    عمرو خالد يكشف "ثلاثية الحماية" من خداع النفس لبلوغ الطمأنينة الروحية    أخصائية حمية وتغذية تقدم نصائح لمرضى السكري لصيام صحي وآمن    المصادقة على عقد برنامج تنموي بقيمة 5.8 مليار درهم لتعزيز التنمية الجهوية بالشمال    في رمضان.. توقيف أربعة أشخاص بحوزتهم 2040 قرص مخدر وجرعات من الكوكايين    "شفت أمك بغا طول معنا".. جبرون: التلفزة تمرر عبارات وقيما مثيرة للاشمئزاز ولا تمثل أخلاق المغاربة    ارتفاع التحويلات النقدية للمغاربة المقيمين بالخارج خلال يناير    الذهب يواصل مكاسبه مع إقبال عليه بفضل الرسوم الجمركية الأمريكية    وزارة الثقافة تطلق برنامج دعم المشاريع الثقافية والفنية لسنة 2025    دراسة: البدانة ستطال ستة من كل عشرة بالغين بحلول العام 2050    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    أحوال الطقس ليوم الأربعاء: برد وزخات مطرية في مناطق واسعة من البلاد    مصرع شخصين في اصطدام عنيف بين شاحنتين بطريق الخميس أنجرة بضواحي تطوان    ترامب يعلق جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد أيام من مشادته مع زيلينسكي    وكالة بيت مال القدس تشرع في توزيع المساعدات الغذائية على مؤسسات الرعاية الاجتماعية بالقدس    بنك المغرب يحذر من أخبار مضللة ويعلن عن اتخاذ إجراءات قانونية    التفوق الأمريكي وفرضية التخلي على الأوروبيين .. هل المغرب محقا في تفضيله الحليف الأمريكي؟    انتخاب المغرب نائبا لرئيس مجلس الوزارء الأفارقة المكلفين بالماء بشمال إفريقيا    "مرحبا يا رمضان" أنشودة دينية لحفيظ الدوزي    مسلسل معاوية التاريخي يترنح بين المنع والانتقاد خلال العرض الرمضاني    ألباريس: العلاقات الجيدة بين المغرب وترامب لن تؤثر على وضعية سبتة ومليلية    الركراكي يوجه دعوة إلى لاعب دينامو زغرب سامي مايي للانضمام إلى منتخب المغرب قبيل مباراتي النيجر وتنزانيا    القناة الثانية (2M) تتصدر نسب المشاهدة في أول أيام رمضان    الصين تكشف عن إجراءات مضادة ردا على الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على منتجاتها    الإفراط في تناول السكر والملح يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان    الفيدرالية المغربية لتسويق التمور تنفي استيراد منتجات من إسرائيل    القنوات الوطنية تهيمن على وقت الذروة خلال اليوم الأول من رمضان    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    كرنفال حكومي مستفز    وزارة الصحة تكشف حصيلة وفيات وإصابات بوحمرون بجهة طنجة    فيروس كورونا جديد في الخفافيش يثير القلق العالمي..    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    المياه الراكدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في رحاب الفكر: من ديوان السياسة لعبد الله العروي وعوائق الديمقراطية
نشر في بيان اليوم يوم 05 - 08 - 2011

لقد عوّدنا الأستاذ عبد الله العروي، منذ كتابه الأوّل الأيديولوجيا العربية المعاصرة على تقديم فكر عميق وتحليل رصين ونظرة استباقية لكثير من الأحداث التي عرفها العالم العربي، لا ينكرها إلا معاند أو مكابر. نعم، مع العروي تشعر حقا أنّك أمام مفكّر متبصر وملتزم، لا يكتب من أجل الكتابة أو لأجل أغراض أخرى تشذّ عن هموم الوطن أو تنأى عن شواغل الأمّة العربية في مجموعها؛ فحتّى في رواياته مثل «أوراق» و»الغربة»، وفي يومياته المعنونة ب»خواطر الصباح»، بقي الرجل منشغلا بمسألة الإصلاح في شقّيها الثقافيّ والسياسيّ. ومن المعلوم أنّ قوّة الأستاذ العروي تكمن في قدرته المتميّزة على التحليل والمقارنة مستفيدا من رصيده المعرفيّ الواسع، خصوصا الفلسفيّ والتاريخيّ، ممّا يجعل القارئ يستنتج بنفسه الخلاصات والنتائج، معرضا قدر الإمكان عن تقديم نتائج نهائية وأحكام قاطعة. لذلك يجوز القول إنّ كتابات العروي من النوع المفتوح على أكثر من تأويل، ويبقى لكلّ تأويل وجاهته ومبرّراته. ولأنّ الزمن مخلاف والتاريخ ماكر شاهدنا فيه تقلّبات المثقفين العرب، أمام كثرة الكبوات وتوالي النكسات، وقفزهم من اليسار إلى اليمين ومن القومية إلى الأصولية، فإنّنا مع العروي نجد أنفسنا أمام مفكّر مصرّ على القول إنّنا نعيش تأخّرا تاريخيا يمكن تجاوزه بتضمين مكتسبات الفكر الليبرالي للقرنين السابع عشر والثامن عشر، وثابت على عقيدته التاريخانية، التي اعتنقها عن قناعة بالمعنَييْن، رغم ما عرفته هذه الأخيرة من هزّات وانتقادات ليست بالقليلة. وهو نفسه قد أشار إلى ذلك في أكثر من مرّة، ففي إحدى محاضراته أعلن أنّه تطرّق إلى مسألة نقد التاريخانية وعرض الاتجاهات الفلسفية التي انتقدتها وبيّن أنّه استمتع بذلك، لكنه في نفس الوقت صرّح: «ولكنها زهور لا تغذيني، ليست من الأمور التي تسدّ رمقي»(1).
في بداية كتابه «من ديوان السياسة» أعلن العروي أنه اتبع نفس المنهج الذي سلكه في كتاب السنّة والإصلاح، ليؤكّد أنّ الكتابين متوازيان «مجال الأوّل العقيدة ومجال الثاني السياسة»(2)، لكن قد علمنا من خلال الحوار الذي أجراه مع مجلة إكونوميا أنّ عنوان الكتاب الأوّل كاملا هو «السنة والإصلاح: عقيدة لزمن الشؤم»(3)، فهل يكون عنوان هذا الكتاب: السياسة في زمن البؤس؟ خصوصا مع تبخّر كثير من المشاريع القومية والتقدمية وردّة المجتمعات العربية ونكوصها نحو التقليد وتنامي الأصوليات ورفعها من جديد للشعار المتآكل، «الإسلام هو الحلّ».
وليس يخفى على أحد واقع المشهد السياسي في المغرب، تنظيرا وممارسة، فالاضطراب والالتباس عمّا جلّ الأحزاب السياسية، قيادات وقواعد، وصار اليأس السمة العامّة المخيّمة على الآفاق؛ عزوف عن المشاركة السياسية، ضعف التأطير، تشابه البرامج، غياب الديمقراطية داخل الأحزاب، إلى غير ذلك من الآفات والعوائق التي تزيد المشهد السياسي عقما وتعقيدا. والعروي نفسه يسجّل بنوع من المرارة «نتشكّى باستمرار من ضعف الصحافة عندنا، من شحّ التأليف واتباعيته، من سخافة برامج الإذاعة والتلفزة، من سذاجة الزعماء السياسيين، من عجز الأحزاب والنقابات وحتى الجمعيات. تظهر للعيان هذه العيوب خاصة أثناء الحملات الانتخابية. فنخجل مما نسمع ونرى، سيما إذا تزامنت الحملة عندنا بأخرى خارج حدودنا فتفرض علينا المقارنة»(4).
عند التدقيق وانطلاقا من الصفحات الأولى لكتاب «من ديوان السياسة»، يدرك القارئ أن الكتاب يختلف عن سابقه «السنّة والإصلاح»، مضمونا ومنهجا، حيث أنّ كتاب العقيدة قد كتب بلغة متأمّلة وعميقة نُسجت بأسلوب جمع بين الكثافة والنفحة الشعرية، ممّا طبع الكتاب بروح فلسفية عميقة تذكِّرُ بشذرات هيراقليطس وشعرية بارميندس، بينما جاءت الكتابة في «من ديون السياسة» منقادة وسلسة، بعيدة عن الصعوبة التي تسم جلّ كتاباته، ويمكن الزعم أنّها تسلّم مضامينها من أوّل قراءة ودون عناء كبير. فهل لهذا الاختلاف من مغزى أم أنّه وليد الصدفة ونتيجة لمزاج وقت الكتابة؟ غالب الظن أنّ ذلك كان مقصودا، ولعلّ العروي أراد أن يوجّه خطابه إلى رجل السياسة الذي لا تعنيه كثيرا الأصول وتعقيداتها، أو لنقل إنّ الرجل أراد أن يوسّع من دائرة المتلقّي ويُفتي في مجموعة من القضايا الراهنة والمستقبلية، التي بات لكل تأخير في معالجتها تداعيات سلبية وعواقب وخيمة على المدى القصير والطويل. حقا، إن الأمر في كتاب «من ديوان السياسة» يكاد يكون بيانا للمهتمين بالشأن السياسي العربي وخصوصا المغربي إذا لم نقل للقائمين عليه، أو للنقل إنه جواب عن السؤال التاريخي الملحاح: ما العمل؟
بعد أن قام العروي بما يشبه جينيالوجيا الفكر السياسي، منقّبا ومسائلا، توقّف عند اتجاهات الفكر السياسي الحديث الموزّعة بين اتجاهين، فمن جهة هناك الواقعيون أمثال مكيافيلي وهوبس ومونتسكيو، ومن جهة ثانية هناك المثاليون كسبينوزا ولوك وروسو، ليقرّر أنّ الغلبة في المسار السياسي كانت للاتجاه المثالي الذي ينطلق من الإنسان الحرّ، العاقل، المتفوّق على شقّه الحيواني. لكن هل الوقائع التاريخية تؤيّد هذا التصوّر المثاليّ؟ فحتى التعريف القديم والمتداول للإنسان بأنه حيوان ناطق يعكس جدلية بين الحيوانية بكلّ نوازعها والنطق بجميع لواحقه، وهذه الجدلية هي الأصل في نشوء السياسة وتطوّرها حيث كان القصد دائما هو كبح الجانب الحيوانيّ وإخضاعه لسلطة العقل. وفي المسار التاريخي وبناء على خلفية تلك الجدلية ظهرت مختلف أشكال الحكم من ملكيّ عادل إلى استبداديّ قاهر، أو بلغة أفلاطون من حكم الملك الفاضل أو الفيلسوف إلى الحكم التيوقراطي إلى الحكم الأوليغارشي مرورا بحكم العامّة ووصولا إلى دولة الطغيان.
وقبل النظر في القضايا العربية عموما والمغربية على وجه الخصوص، قام العروي باستعراض تجارب سياسية كثيرة منذ حكم اسبرطة ودستور لوكورغوس، إلى الديمقراطيات الحديثة ليستنتج أن الحكم الأفضل هو حكم «الأخيار، الأفاضل، العقلاء، مهما تكن الهيئة التي ينتمي إليها أصلا كل واحد منهم. وهذا الحكم لا يظهر إلا بعد تثقيف وتهذيب»(5). وهذا الاستنتاج لم يكن وليد تأملات نظرية مفصولة عن التاريخ ووقائعه، بل إنّ قوّة عبد الله العروي تتجلى في كونه رجل تاريخ يولي الأهمية للواقعة قبل تحولها إلى مفهوم نظريّ، ويكفي الرجوع مثلا إلى تصريحه في محاضرته (عوائق التحديث)، حيث يقول: «كلنا نعلم أن الواقع سابق على المفهوم»(6). إذن يمكن التشديد على مسألتي التثقيف والتهذيب المفضيَيْن إلى الفضيلة باعتبارها من ركائز الحكم الصحيح، وبالتالي فإنه لا يمكن الحديث عن أيّ إصلاح سياسيّ في غياب التثقيف والتهذيب.
سوف لن نعرض لكل الأمور التي تناولها الكتاب والتي تبقى في صميمها مركزة على الشأن السياسي المغربي وعلاقته بما هو اجتماعي وتاريخي وثقافي، وعوض ذلك سنقف مع العروي وقفة تأمل عند مفهوم الديمقراطية الذي نراه من أكثر المفاهيم إغراء وأشدها لَبسا وغموضا، خصوصا في أوطاننا العربية التي ما زالت تتلمس الطريق نحوه بكثير من التخبط والتردد. فالحديث عن الديمقراطية، حسب العروي، «هو من نوع السهل الممتنع»(7)، لذلك نجده قد طرح بدايةً السؤال التالي: «هل الديمقراطية واقع يعاش أم هي حلم لا يتحقق أبدا ما دام الإنسان هو الإنسان، أي حيوان أنيس؟»(8) ولكي يجيب عن هذا السؤال انطلق من مثال مشهور وضعه كمقدّمة قارن فيه بين الواقع وبين النظرية، أي بين ما سُطِّر في كتب التاريخ من أن «إيران ويونان من عرق واحد، كلاهما آري، وإن الحكم هنا وهناك دائما حكم قلة... وأن لا علاقة عضوية بين هذا الحكم والعقل أو الحلم والفضيلة»(9) وبين ما دون في كتب الأدب ويستشهد به في الخطب من أن «الديمقراطية يونانية غربية أوروبية من خصائصها العقل والاحتراس والاعتدال، وإن الاستبداد إيراني شرقي آسيوي من طبيعته العدوان والسفه والإسراف»(10). أمام هذا التعارض انتقل العروي إلى التناول النظري لمفهوم الديمقراطية، على غرار المنظرين المحدثين كجون جاك روسو، فبدأ بافتراض أن شروط قيام الديمقراطية متوفرة والمعيقات الطبيعية لتحققها منتفية، وهنا استحضر الأنموذج البارز في التاريخ، أي ديمقراطية أثينا اليونانية التي تم تأويلها في العصر الحديث على أسس واقعية، لأنه وكما يقول: «هناك توافق واضح بين أوضاع أثينا وأوضاع جنيف الكالفانية، البندقية الكاثوليكية، هولندا البروتستانتية، انجلترا الأنجيليكانية. الفارق البين يتعلق بالمساحة. لذا كانت جنيف جمهورية، هولندا رئاسية، انجلترا ملكية.»(11) وإذا ما تساءلنا عن مقومات أثينا قديما وخصوصياتها التي جعلتها ديمقراطية، يجيب العروي: المدنية ومحدودية النطاق ووحدة اللغة والعقيدة وتجانس المجتمع وتضامنه ثم وحدة الهدف، أي «الحفاظ على المواطنة الذي يضمن الحرية والرخاء». أما ما يميز الديمقراطيات الحديثة على مستوى الوضع الاجتماعي فهو «الرفه، التجارة، الحرية، المواطنة، التهذيب، الفضيلة، وحدة اللغة والعقيدة»(12) أما على المستوى الحكومي فهناك تفويض للحكم سواء لفرد او لجماعة. وهنا سيلجأ العروي إلى أسلوب المقارنة فاختار سويسرا الديمقراطية نظريا وواقعيا وقارنها بليبيا الديمقراطية نظريا، فلاحظ أن أهم شيء تفتقر إليه ليبيا هو: المهارة والحنكة والخبرة ثم التهذيب بمعناه العام ثم الإديولوجيا الديمقراطية، ليستنتج حكما جديرا بالتأمل ويمكن تعميمه على كل البلدان العربية؛ فأكبر عائق لقيام الديمقراطية عندنا هو التربية الأولية، القبلية بالتحديد، المسيطرة على النفوس والمتحكمة في السلوك، خصوصا و أن «كل بلد ينتمي كليا أو جزئيا، قديما أو حديثا، إلى عالم العروبة والإسلام، لا تفهم أوضاعه السياسية إلا بالرجوع إلى الذهنية القبلية»(13).
وتجدر الإشارة إلى أن عبد الله العروي قد نظر إلى الأمية، أي ثقافة الأم، التربية الأولية وحلقة الوصل بين الطبيعة والمجتمع، كمفتاح لفهم وتفسير سلوك الإنسان العربي عموما والمغربي على وجه الخصوص، حيث يقول: «الأمي هو من لا يزال في حضن أمه. يتكلم بلهجتها، يتصف بصفاتها، يتوخى أغراضها، يعمل على إرضائها، يعيش في حماها ولا يتعدى أفق حياتها حتى عندما يهاجر بعيدا عنها»(14)، فكلما كانت هذه الأم قريبة من الطبيعة كلما كرست في الأبناء نوازعها كالولاء والطمع والخوف، فقد يكون الفرد متعلما وجامعيا، لكنه لم يحقق الانفصال المطلوب، أي لم يصبح فردا متحررا من عقال الولاء للأم التي ينصت إليها ويطبق وصاياها، والولاء للقبيلة أو للزاوية أو الطائفة التي ينتمي إليها حقيقة أو توهما ويبقى وفيا لها وجدانيا. أمام هذا الوضع ماذا يكون الحل؟ بل كيف يكون التحديث وبناء مجتمعات ديمقراطية ما دامت هذه حال الشخصية العربية القاعدية، المرسخة في أذهان الأفراد والمجسدة في سلوكاتهم عن وعي وعن غير وعي؟
نستشف من طرح العروي أن التحديث الحقيقي يتمثل في الفطام، والقطع مع ثقافة الأم ينبوع التقليد، حيث يقول: «ندخل هنا في مجال جديد. لابد لنا فيه من تربية مخالفة بل مناقضة لتربية الأم، هي تربية المدينة. وهذه التربية تتمثل بالضرورة تجارب غير تجارب الأم»(15). من هنا يحضر من جديد الطرح الوجيه لعبد الله العروي، والذي لم ينل ما يستحقه عند الكثير من المثقفين والفاعلين السياسيين في البلاد العربية، والمتمثل في ضرورة ربط الإصلاح السياسي بالإصلاح الثقافي، بل جعل الأول جسرا للعبور إلى الثاني. فلكي نلج عالم السياسة بالمعنى الحديث لابد من تجاوز آفاق الأسرة والقبيلة والطائفة ونركز على «بلورة الوعي بالمواطنة عند الفرد»(16)، وهذا من أوجب واجبات المثقف الذي عليه تحمل المسؤولية والدفع بالمجتمع نحو التحديث والقطيعة مع التقليد، عوض اجترار مقولات جوفاء عن الأصالة والشرع المنزل الصالح لكل زمان ومكان، فلو صح ذلك، كما يزعمون، «لما حاد عنه أحد ولما احتجنا إلى إحيائه بعد قرون من الفساد والانحطاط»(17)، هكذا يحسم العروي الأمر مع كل فكر ذي نزوع سلفي.
ووعيا من العروي بفشل الأيديولوجيات الوحدوية وإدراكه لخصوصيات البلدان العربية على مستوى التنوع الديني والطائفي والمذهبي، فإنه ركز على مفهوم الديمقراطية المحلية وراهن على استثمارها في اتجاه البناء الديمقراطي الصحيح، ليصبح ما يعتبره البعض عائقا أمام الديمقراطية عاملا مُفعّلا ومدعما لها، خصوصا حينما نجده أنه كان قد صرح بكل وضوح «إن وجود أقلية مسيحية في المجتمع الإسلامي، إضافة إلى الأقلية اليهودية أو غيرها، هو ضمان لنجاح المشروع الديمقراطي في البلاد، وهذه قناعتي...إن هذا التنوع هو ضمان الديمقراطية»(18).
ولا يسعنا في الختام سوى التذكير بأن العروي في كتاب من ديوان السياسة قد ركز، في المقام الأول، على النظر في الشأن السياسي المغربي، نابشا في جذوره الاجتماعية والثقافية ومسلطا الضوء على قضاياه اللامفكر فيها، كقضية التعريب والتعدد اللغوي والتنوع العرقي، بالإضافة إلى خصوصية الدستور المغربي الممنوح سنة1961م وما يتيحه من إمكانيات تأويلية، سواء في الاتجاه السلفي أو في الاتجاه الديمقراطي. وينبه عبد الله العروي أن التأويل السلفي محكوم عليه بالفشل، لذلك ليس أمام النخب السياسية والثقافية في المغرب سوى الذهاب في اتجاه التأويل الديمقراطي الذي يعتبره هو الأساس لتحرير السياسة من كل المجالات الأخرى كالدين والقيم وغيرهما. فمن المفارقات أن البلدان الديمقراطية تمارس السياسة ولا تتحدث عنها كثيرا، بينما في البلدان العربية العكس هو الحاصل، دائما نقدم الاسم على الفعل، القول على الممارسة وتلك من أكبر معضلات تخلفنا.
الهوامش:
1 - العروي، عبد الله، الحداثة وأسئلة التاريخ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، الدار البيضاء، 2007.
2 - العروي، عبد الله، من ديوان السياسة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2009، ص. 5.
‏3 -« Le Grand Interview de Abdallah Laroui » La revue Economia, n°4/ Octobre 2008 - Janvier, 2009.
4 - من ديوان السياسة، ص. 147.
5 - ن، م، ص. 78.
6 - العروي، عبد الله، عوائق التحديث، سلسلة محاضرات الشهر، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2006، ص. 13.
7 - من ديوان السياسة، ص. 78.
8 - ن،م، ص. 79.
9 - ن، م، ص.81.
10 - ن، ص.
11 - ن، م، ص. 83.
12 - ن، ص.
13 - ن، م، ص. 26.
14 - ن، م، ص. 146-147.
15 - ن، م، ص. 147.
16 - ن، م، ص. 140.
17 - ن، م، ص.120.
18 - عبد الله العروي، الحداثة وأسئلة التاريخ،184.
عن موقع الأوان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.