عبد الله العروي مثقف فد جسور. ليس فقط ، لأنه مثقف جدير بصفة الموسوعية: مؤرخ وفيلسوف التاريخ وباحث وروائي.. بل لأنه « وفي لمنهج «..» يعي ضرورة القطيعة ويقدم عليها..». ولأن القطيعة من عمل التاريخ، أو من التاريخ العامل، فإنه لا يصح ولا يجوز مقارنة قيمته الثقافية بالقدماء من مفكرينا، أو من مفكري الحضارات الأخرى. لكن بالمقارنة بالحاضر، أستطيع القول، دون أن أخشى المبالغة، أنه بخطابه التاريخي المنطقي والواقعي ? وبعموم خطابه الفكري والأدبي ? المتكامل والشامل، يكاد يمثل ظاهرة ثقافية فريدة في حاضرنا الثقافي : فريدة برصانتها وصرامتها المعرفية.. بجرأتها النقدية الصّريحة.. بحسها التاريخي الثاقب.. بانطلاقها دوما وأبدا من معطيات التاريخ وعناصر الواقع قبل المفهمة والتأويل والحسم.. بتحررها من السلط الاجتماعية والأخلاقية والسياسية التي يمكن أن ترهن أو توجه أو تؤدلج اختياره المنهجي..وقبل كل هذا وبعده، بحرقتها العميقة الصّادقة بالهمّ الإصلاحي . ولأنها تعي جيدا (في حالتنا المغربية على الأقل)الشروط المجتمعية والسياسية والجغرافية والثقافية المعيقة للإصلاح ( المغرب جزيرة مطوقة، لا يمكن في نطاقها السماح للنفس بالمغامرة بعدم الاستقرار..كما يقول .. ) إن السياسة كنظرية ليست هي السياسة كتدبير عفوي للبشر. تتميز الأولى عن الثانية، عندما يتبلور في الذهن الاختلاف/ التنوع الأصلي، والوحدة المأمولة. عندها تتباعد الإنسانية عن الحيوانية. ويتجسّر الانتقال من العادة / العرف / المنطوق/ التعدد إلى القانون / المكتوب / الوحدة. فالقانون هو الدولة لأنه مجسد دائما فيها، ولأنه وجد قبلها كعادة، كعرف. القانون هو التحكم في العادة، عبر توحيد المسطرة على عادات متنوعة ومتباينة. لهذا كانت دولة الواحد أبسط وسيلة لتجسيد القانون العام. حيث الملك (بضم الميم)كان ضرورة حكمية، مفهوم منطقي، وحيث في الملك تتوحد جميع الإرادات، أرضية وسماوية، مكشوفة ومستورة.حصل هذا قبل ملكية الاستبداد.أي قبل أن يجعل الواحد من نزواته أمرا وقانونا(= ملكية الاستبداد). هذا التطور اللاحق هو الذي جعل القرآن،مثلا، يذكر ملوكا طغاة متكبرين مستبدين. والحاصل أن الملكية الاستبدادية المطلقة لا تكون إلا بالأمية والريف العامر والفلاحة والتدين.أي أنها لا تكون إلا لسياسة الإنسان الحيواني. حكم الواحد متعدد الأشكال والمضامين.اتجاهه التاريخي من الملكية إلى الاستبداد. وبينهما مسارات وحوادث تقع في لحظة معينة من تاريخ كل شعب. وبعد النقلة، أي الفطام، يحصل تأرجح ، حسب الظروف ، بين القهر والإقناع، التخويف والترغيب. وهو عينه التأرجح الذي نعيش في ظله منذ أجيال. وهو على كل حال ليس خاصا بنا(ص84 ). وهكذا، فحكم الواحد إما صحيح باستيفاء الشروط، وإما فاسد(طاغية) بانتفائها. إن لحظة النظرية في السياسة هي لحظة للفهم وتوفير القدرة على الانسلاخ من التقليد والموروث. فالسؤال ما السياسة؟ محاورة بين سائل مرتبط، ومجيب حر.ودلالة على مخاض تسيّس. الحال أننا لسنا متحررين في اختيار مواقفنا السياسية عن الموروث(تربية الأم) وعوامل أخرى مضافة. إذ في السياسة عندنا يتحكم الطبع والإرث أكثر من التأمل والعقل.?مكونات السياسة عندنا هي في الوقت نفسه موانع السياسة?(ص62 ). لا أخفي استرشادي بمفعول النوازع النفسانية لمحاولة فهم وتفسيرالكثير من قضايانا وهمومنا السياسية اليوم. فالطموح السياسي، على سبيل المناسبة، يختلف بحسب الأجيال. وفي نفس الجيل يختلف الطموح بين مرحلة الشباب ومرحلة الكهولة. والطموح السياسي واعز لفهم وتفسير التكوينات الحزبية بالطبيعة أو بالانشقاق، ولفهم وتفسير الانشقاقات نفسها. والطموح السياسي يفسر بيسر ومقبولية لماذا تكون، مثلا، حزب الأصالة والمعاصرة، ولماذا التحقت به الكثير من الفعاليات اليسارية؟؟ الطموح السياسي يغذيه، طبعا، وضع اجتماعي ورمزي معين. لهذا لا يرتهن هذا الطموح لمبادىء وأسيجة الإيديولوجيا في اختياراته التنظيمية الحزبية، إذ بإمكانه، دائما، أن يبرر لاختياراته إيديولوجيا مناسبة. وهذه ليست حالة مغربية خاصة حتى يجوز الطعن فيها والتحامل عليها. الطموح واعز بشري عام. إنما الفرق كل الفرق، بين طموح حيواني أمي متنطع لا سياسة فيه، أو لنقل أن السياسة فيه طاغية معمّرة.. وطموح مدني متحضر حيث السياسة مستقلة كبيرة القيمة، وفقط تجربة أو مرحلة من العمر?حيث يستطيع المرء أن يقول:هناك حياة قبل وبعد السياسة? ( ص153 ). لا غرابة، إذن، من أن يغلب على نخبتنا الاجتماعية، التي تتحكم في إنتاجها الطبيعة عبر النوازع وبوسيلة التربية الأولية، طابع الاستمرارية والمحافظة بين الأجيال بدل القطيعة. ولا غرابة من أن تنهل نخبتنا السياسية من نفس التربية، فتتجدد بدورها بالطبيعة ، على الرغم من الانتخابات، أو بنتيجة هذه الانتخابات - ذات الثقافة الأولية القبلية العقدية أو المالية ? نفسها. ولأن الأصل في السياسة ومفهومها هو ثنائية الحيوان والإنسان، النفس والعقل، الملموس والمحجوب.. فالثلاثي : الملك( البركة، الوسيط بين قوى الطبيعة ومافوقها..)، والسلطان( فيه تنفصل القوتان)، والطاغية (المهمل للسلطة غير المرئية بالاعتماد الكلي على السيف)، يمثل دورة: ملك فسلطنة فاستبداد ففوضى فملك... ومن لم يجرب السلطنة والطغيان لا يعرف حقا معنى الملك، ومن جربهما ولم يستخلص الدرس فإنه يعيش الدورة مجددا(ص75 ). يصنف ع الله العروي أشكال الحكم السياسة عبر تطورها التاريخي في الشرق والغرب، كما يلي : - دولة القلة: وهي الحكم العادي والطبيعي والغالب في السياسة. هو الحكم الأصلح، أو الأقل سوءا. هو حكم الأمر الواقع، ببساطة لأن السياسة هي الملك(بضم الميم).ومن طبيعة الملك ا لتفويض، والأخير يكون بالضرورة لعدد محدود من الناس بالقرعة، أو بالتصويت. فحكم الملك بالحاشية أو البطانة أو الأصحاب (أهل الدار) هو، مثلا، حكم قلة. والقلة قد تحافظ على الواحد فيها، وقد تستغني عنه. وذلك حسب درجة وطبيعة قوة علاقة الهيئات(= مكونات القلة) مع المجتمع. إن الحكم الأفضل ليس هو حكم القلة. الأخير أمر واقع في كل الأحوال.الحكم الأفضل هو هل هذه القلة من الأفاضل العقلاء، مهما تكن هيئتهم، أم لا؟ الحكم الأفضل يحتاج إلى تربية قوية قوامها التثقيق والتهذيب. وهكذا فحكم القلة إما صحيح (حكم الأفاضل) وإما فاسد (حكم الأرذال). ? دولة الجمهور: إن الكلام عن الديمقراطية من السهل الممتنع :هل هي واقع يعاش أم حلم؟ لهذا يصعب الانفلات من المغالطة في الحديث عنها قديما، كالقول أنها أوربية يونانية، وأن الاستبداد شرقي آسيوي. ويصعب، بالتالي، الانفلات من التحيز.أما في العصر الحديث، فقد اهتم المنظرون بالديمقراطية كفكرة (وليس كواقع أو لاواقع)? الديمقراطية فكرة جميلة لولا أنها غير قابلة للتطبيق?(ص82 ).لهذا يجب التمييز بين الديمقراطية كوضع اجتماعي مستوفي الشروط، والديمقراطية كشكل حكومي يختلف بالظروف: فسويسرا، مثلا، ديمقراطية فعلية بشروط. وليبيا جماهيرية ديمقراطية نظرية بغياب شروط التهذيب والخبرة وحضور التربية الأولية البدوية. وهكذا فحكم الجمهور إما صحيح هو الديمقراطية، وإما فاسد هو الديماغوجية، أي حكم الغوغاء، الجمهور الأمي الجاهل غير المهذب. والقضية، في الأخير، هي مسألة مقاربة ومقارنة (ص 82 ). ولما كان من السهل نظريا القول والتمييز بين حكم صحيح يعمم الفضيلة، وحكم فاسد ينشر الرذيلة، فإن التاريخ الفاعل يكشف عن جدلية متأصلة، هي جدلية الفضيلة والرذيلة. قد تسبق الواحدة الأخرى وتهيّء إليها. ففي التاريخ لا وجود لدورة كاملة، ولا لتسلسل واضح. غير الاكتمال، إذن، قديم وحديث، شرقي وغربي.الفجوة في هذه الجدلية هي بين ثنائية الإنساني والحيواني. فالحكم الفاسد بفساد الحاكم والمحكوم معا. والعكس أيضا صحيح. وكما يتماهى في الإنسان الحاكم والمحكوم، أي يصير بالاكتساب منزها عن الغرائز الحيوانية، يصير من الممكن عندئذ الحديث عن اللادولة. هذه هي خيال المدينة الفاضلة. في أواسط القرن التاسع عشر الأوربي تقوى هذا الخيال بفكرة الديمقراطية هي حكم العموم(على عكس الديمقراطية التمثيلية) والعامل الصناعي هو جمهور هذا الحكم. فصرنا أمام طوبى جديدة حاول لينين تحقيقها، لكن بعد سبعة عقود فشل الحلم، لأن مجتمع متخلف كروسيا حيث التربية الأولية ما تزال متجذرة ومؤثرة، أحال مسعى الطوبى إلى حكم القلة (الحزب الشيوعي) ثم إلى حكم الواحد المستبد(رئيس الحزب). ومع ذلك فالطوبى ما تزال مطروحة على طاولة التاريخ، بكل بساطة لأن النظر في الديمقراطية هو النظر في الحرية وشروطها، والثقافة وشروطها، والهمة البشرية وشروطها.(ص92 ). ولما كان الرأي الليبرالي، الذي يعتبر الجمهور هو الجمهور، والواقع هو الواقع، فيه الفساد باستمرار، بينما الإصلاح مطلوب للصيانة فقط، لذا وجب تمثيله كما هو، باعتبار أن الديمقراطية هي ما نرى ونجرب ونلمس، رأيا متشائما وقحا، فإنه يوفر منبتا خصبا لليأس والعدمية والدمار الشامل، على اعتبار أن الطاغية حيوان لا يقاوم إلا بوثبة حيوانية يخسر فيها الجميع.