احتفاء بجزء من ذاكرتنا الثقافية المشتركة ، واستحضارا لعطاءات مبدعينا وإسهامهم في إثراء رصيدنا الابداعي الوطني والعربي ، نستعيد ، في هذه الزاوية ، أسماء مغربية رحلت عنا ماديا وجسديا ، لكنها لاتزال تترسخ بيننا كعنوان للإبداعية المغربية ، وللكتابة والفن المفتوحين على الحياة والمستقبل. 1 - لم يكن يستطيع مواجهة الموت في عز ذاك المصيف سوى شاعر اسمه: عبد الله. يتأبط داء تسلل دون رقيب، وينفت شعرا عميقا، يعاني مرارته، ويكابد آن قراءته، ربما كان راجع وحده من وصف الموت دون أنين ولا وجل، وهو يعلم أن نهايته تقترب: لأني أحس بأن النهاية أقرب من شفتي إلي وأكتشف الموت يرصدني في الممر ويطرق بابي في مكتب أو يتابعني في الرصيف بل تصور حال الرفاق وقد جلسوا بعد غيبته يذكرون قصائده، يستعيدون ملامحه: سيذكرني لحظة في المقاهي التي عرفتني رفاق رأوا جبهتي تتغضن قبل الأوان يقولون راح هذرا وهذرا وكان يطارحنا الهم حينا بهذا المكان وحينا يخبئ حزن البلاد وراء ابتسامته ثم كان وكان وكان إنها سمة المبدعين العظام وقد رحلوا باكرا، غادروا الأهل عز العطاء. وابتسامته لم تفارق جبينا غزته التجاعيد قبل الأوان يختفي ألم الشعر ، تنسحب الصدمات التي عاشها زمنا وبشوشا يقص علينا حكايا اللئام. 2 كانت الجلسات سبيلا الى ضحك يتمادى ليغضب بعضا من العابسين وقد حلقوا حول مائدة ينحرون النصوص وأصحابها طيلة المهرجان. ظلت الخطوات ذهابا إيابا على الجسر بين الرصافة ظهرا وبهو الرشيد مساء، نخاطب فينا (ابن جهم) وقد أسرته عيون المها قرب هذا المكان، وكنت أعاتبه فالسجائر تهلكه، كان يسخر مني كعادته ويقول: (الصحة مشات بقا غير الفانت). (عرق) يتصبب منا انتشاء ونحن جلوس بمقهى (نواسي) وتمثاله الرائع المنتصب. وتذكرت مقهى ابن بطوطة المغربي وكان ملاذا لنا، يصطفي ثلة ومزيجا من الشعراء وبعض رجال الصحافة والمخبرين وساسة ذلك الزمان المعارض، كنا نتوج أحلامنا ونغذي من الشعر أوهامنا، وكعادته، سيفاجئنا شعره، يصف الهم ينحت كل تفاصيل جلستنا وفضاءتنا: من بريد، وساحته، ومحطتنا، والحمام الذي يستفزه ذاك المجال: البلاد ارتمت في البلاد: البريد ومبنى المحطة والحافلات التي تستفز الحمام وهذا المدى كل هذا المدى شيق غير أن القصيدة جرح توغل قدر المسافة بين المدى والخيال 3 وتذكرت إلحاحه أن أسافر صحبته مرة، كي يبدد وحشته، فالمشافي هناك رتابتها غير محتملة. ويخاطبني مازحا (كلشي خالص مالك انتا؟) بيد أن الطبيب المعالج آثر أن يكتفي بالدواء وأقراص لا تستجيب إلى الذوبان ولا حاجة للسفر. وتسرب دمع خفي، وأنا أتمعن نصا تسامق بعد الرحيل وقد ذكر الأصدقاء وقد ألفوا موعدا مستداما بنفس المكان، كان قد خصني بنصيب المحبة (يا صاحبي) حيث قال: سلام عليك عنيبة كيف تجر الخطى شيقا بين غيم القصيد وغيم الإدارة، هل نحتسي قهوة؟ لن نقول ليوسف: أهلا فيوسف لا يستطيب التحية إن كان يكتب بعد قليل سيقبل نجمي نزوج ريما بأيمن ثم نغمس أحلامنا في المحال سلام عليك عنيبة لم أكتب اليوم شيئا فقد طار سرب الحمام وخلف لي ريشه أتريد القصيدة يا صاحبي أم تريد الظلال؟ 4 كثرت مفردات العزاء أسابيع ثم خبت واختفت من سنين. كلما ذكروا راجعا زفروا حسرة، واكتفوا بالملام، والمدرج كان مليئا ومزدحما بالخطب، تلك جمهرة النابحين، تطبل ثم تزمر في كل آن، تتزيا لباس المواسم في فرح أو ترح. والغريب انبراء المعزين من شعراء (الرثاء) وقد دبجوا للوداع (نصوصا) كعادتهم تتجدد كل وفاة وتحمل حزنا رتيبا أليفا لكل عزاء، ويظل هناك استثناء، قال المجاطي: أهي المنون برتك عبد الله أم خذلتك أشرعة القوافي بات منك العصف مأكولا وأسلمك المداد الى الرماد جل الذي سواك من أرق وطرز بالكوابيس احتماء الروح بين شفير وجهك والفؤاد 5 كان ذاك الصباح مثار اعتزاز لنا، زمرة من رفاق الفقيد، ونحن نحاول مد جسور التذكر عبر (الشواهد) حين تكفل صم الحديد بأسماء من رحلوا (أحمد الجوماري، أحمد بركات، عبد الله راجع)، لتخلد بعض الشوارع أسماؤهم، أو نسمي شوارع باسمهم، ب «المعاريف» يصحبنا الراشدي عبد المقصود وكانت مبادرة منه دون ضجيج. الختم للشاعر: ولست جديرا بكل بلاد يكون المرور إليها جواز سفر جدير بكل بلاد جوازاتها أن تحب القمر وأن يملأ الكادحون بها المدنا لذلك أرحل عنكم وعني فما وجدت نبضتي مستقرا ولا جسدي وطنا.