جرت مياه كثيرة منذ كان المرحوم محمد الخامس يقف وسط العمال، بمناسبة فاتح ماي ويخطب في «العمالة» كما كان يسمي الطبقة الشغيلة. وجرت دماء كثيرة أيضا بهذه المناسبة منذ كان الملك المرحوم يعتبر العيد الأممي عيدا«قوميا» للمغاربة أجمع، ويقول بأن العمال ليسوا في حاجة إلى أن يتخذوا السبل العنيفة في الدفاع عن مطالبهم، لأنها مطالب ملكهم وأمتهم. وقد مضى اليوم أزيد من 55 سنة على تأسيس أول مركزية نقابية مغربية، ويبدو أننا في عودة لانهائية إلى البداية. الشغيلة المغربية اليوم، كما يقر بذلك النقابيون المخلصون والموضوعيون.. لم تعد تتسابق نحو النقابات، وكما قال عبد الرحمان العزوزي في احتفالات فاتح ماي يوم السبت، «هناك نسبة ضئيلة جدا من التنقيب، مما يعني تراجعا كبيرا في الإقبال على الأداة النقابية للدفاع عن الحق. لماذا، أو ما هو سؤال الأسباب؟ تقول الاستنتاجات العجولة أن السبب هم النقابيون ،... وبس! الحقيقة وللتاريخ، هناك ما هو أعمق وأن السبب البشري والفردي لا يمكن إلغاؤه، لكن هناك ماهو أعم وأشمل. هناك تراجع عام للعمل الجماعي، واتجاه نحو تمجيد الخلاص الفردي وتبخيس كل لقاء للمغاربة حول فكرة أو مشروع، وهناك تدمير متواصل للقيم التي تعكس الإرادة الجماعية في الفعل والانعتاق. والأهم من كل شيء، لكم كانت خمسة عقود ونصف كافية لكي تكرس قواعد عمل نقابي واضحة، جامعة ومتفق عليها. فنحن اليوم بعد 55 سنة لم نبلور بعد شكل النقابات التي نريد، والطريقة التي بها يتحقق التحول المنشود وسط عالم يتحرك، ووسط أشكال جديدة في التأطير، وحول هذا الموضوع لايمكن أن نغفل الإذاية التي تعرض لها النقابيون رمزيا وسياسيا واجتماعيا، لأنهم كانوا على الضفة الأخرى من الدولة، ولا يمكن أن نلغي العنف الذي ووجهت به الإطارات النقابية والحرص الشديد على أن يتم إلغاء التأطير النقابي المسؤول، الواضح والمعارض. ولحد الساعة مازال يراد لبعض النقابات التي تدافع عن استقلاليتها بأن تجيب عن سؤال ليس مطروحا عليها بتاتا: لماذا تدافع عن العمال وعن الجانب الاجتماعي إذا كانت السياسة قد فرضت على بعض أطرها التواجد في التسيير، كما لو أن الثابت هو إخراج كل قرار مستقل من دائرة الفعل. والواضح أيضا أننا شعب بلا طبقة وسطى أو بلا طبقات حتى، مع استثناءات ضئيلة تمتص الثروات، ونحن شعب بلا ممارسة نقابية تغطي كل مساحات الفعل الاجتماعي، ونحن شعب 3 ملايين من أبنائه النشيطين.. مهاجرون، ونحن شعب لا يراد له أن يمارس النقابة بما يجب وكيف يجب ويزج به في صناديق اليأس أوالتفكير المرعوب من الغد عوض العمل المسؤول.. والسؤال الذي يلي كل هذا هو، من يملأ الفراغ النقابي والفضاء العمومي بشكل عام؟ أية حركة تملأه خارج حركة الشخير الوطني العام؟ إنها حركة القلة القليلة من الذين مازالوا يؤمنون بأن الفعل الجماعي الواعي قادر على أن يغير شيئا، وقادر على أن يطرح الأسئلة التي لابد من طرحها. حركة الفدراليين، وغير قليل من الفاعلين في نقابات أخرى تعمل في ظروف صعبة، ظروف كان فيها جزء من دائرة القرار يعوض الحماية الاجتماعية للعمال بالحماية النقابية والسياسية للصوص النقابيين! ورأينا كيف تنفجر ملفات الفساد الذي كان له من يحميه في لعبة تبادل المواقع على حساب الشغيلة والعمال وعموم الفقراء المحصيين في الصناديق الاجتماعية!! ليس هناك حاجة أكبر من العمل النقابي وتطوير الحركية الاجتماعية القادرة على الاقتراح وإعطاء البدائل والدفاع عن الملفات الاجتماعية بروية وبمراعاة الشرط الوطني.. الحاجة اليوم تخلق الحدث في أكبر الدول وأغناها، ونحن نتابع في فرنسا مثلا النقاشات الكبرى حول التقاعد، وكيف أن النقابات تتحد مواقفها لكي يحدد الآخرون مواقفهم، وكيف أن الدولة والوزراء وزعماء العمل السياسي يحددون مواقفهم وتطغى الأحداث ذات الصلة بالمعيش اليومي للفرنسيين على كل الأشكال.. بما فيها حكاية زاهية التي «تزهى» مع اللاعبين فوق ملاعب ليست دوما معشوشبة!! لقد تحول شعارنا الذي كنا نعيده باستمرار: يا عمال العالم اتحدوا بدون معنى تقريبا، لأن المطلوب الآن هو أن نرفع شعار«أينكم أيها العمال لكي نوحدكم من بعد؟» وفي خضم كل ذلك مازال نقابيون جديون يقبضون على الجمر ويواصلون الصراع بكل معانيه، وبإرادة وتطوع لا يريدون من ورائه جزاء ولا شكورا، لكل هؤلاء، القابعون وراء المتاريس .. صناع الأمل الفعلي والحقيقي نقول سلاما..