بحلول فاتح ماي، تخرج المركزيات النقابية المغربية مثل نظيراتها عبر العالم، في مواكب ومظاهرات وتجمعات، تُرفع فيها الشعارات وتُحمل فيها اللافتات وُتلقى خلالها الخطب والأناشيد والكلمات. الصورة الحالية لمشهد الاحتفال بفاتح ماي تتمثل اليوم أساسا في كثرة المركزيات وضعف جماهيريتها، وتراجع نسب المشاركين سنة بعد أخرى، وتناقص درجة الحماس، وانخفاض مستوى اهتمام المواطنين بالحدث. هل نعيش اليوم «عزوفا نقابيا» يضاف إلى العزوف الانتخابي؟ وإذا كنا لا نستطيع الجزم بأن العزوف الانتخابي هو مجرد تشخيص لوجود عزوف سياسي، فإننا أيضا لا نستطيع في الوقت نفسه أن نؤكد بسهولة أن غياب العمال عن تظاهرات فاتح ماي هو انعكاس لشعورهم بعدم الحاجة إلى النقابة. فبالعكس، يلاحظ في الواقع العملي أن هناك طلبا على تدخل النقابة وإحساسا بضرورتها واقتناعا بأهمية وظيفتها، لكن المشكلة ربما توجد في قلب البنية النقابية وليس في محيطها. ومع ذلك، ففاتح ماي هذه السنة سيكون ممهورا بحدثين هامين سيضفيان طعما خاصا على تخليد هذا العيد الأممي: الحدث الأول هو قرار الكنفدرالية الديمقراطية للشغل بسحب مستشاريها من الغرفة الثانية للبرلمان، والتلويح بإمكان إعلان إضراب وطني عام من طرف هذه المركزية التي يظهر باختصار أنها قررت تغيير لهجتها، والتزام مزيد من الحزم في مواجهة مخاطبيها، بعد حقبة من الزمن سجل فيها الملاحظون، اتسام سلوك الكنفدرالية باتجاه واضح إلى تفادي التصعيد وبجنوح إلى هدنة وطنية عامة تتخللها بين الفينة والأخرى معارك قطاعية أو محلية. لقد تصورنا خلال مرحلة معينة أن الكنفدرالية قد قررت بصورة نهائية هجر أسلوب الإضراب الوطني العام، إلى أن جاءت كلمة المكتب التنفيذي التي ألقاها نوبير الأموي في المجلس الوطني ومساندة أعضاء المجلس لمضمونها بصورة إجماعية وبدون تحفظ من أحد. الحدث الثاني هو حريق مصنع ليساسفة الذي أودى بحياة عشرات العمال في الدارالبيضاء، وكشف كيف يتم استغلال ظاهرة البطالة، من طرف البعض، لجعل العمال يقبلون بظروف للعمل قاسية ولاإنسانية. لقد أصبح بإمكان بعض أرباب العمل أن يفرضوا قانونهم الخاص، وأن يصنعوا بعمالهم ما يريدون بدعوى حمايتهم لهؤلاء العمال من خطر البطالة. وهكذا كشفت التقارير الصحفية كيف تُصرف للعمال أجور زهيدة لا تكفي لسد حاجيات العيش في حدودها الدنيا، وكيف يُخضع نظام العمل لترتيبات منافية للكرامة البشرية كإغلاق محلات العمل بالمفاتيح، وكيف يتم التشغيل بناء على عقود مؤقتة تتجدد كل ثلاثة أشهر لتفادي ترسيم علاقة العمل، وكيف يتم تجاهل وضع معدات السلامة الضرورية في صناعات تستعمل مواد خطرة وقابلة للاحتراق، كأن العاملين في تلك الصناعات ليسوا بشرا بل مجرد فئران للتجارب يمكن التضحية بحياتهم في أية لحظة. فبالإضافة إلى نيران الأسعار والبطالة، فإننا نجد أن فقراء المغرب يواجهون الحرائق في محلات العمل إذا اشتغلوا، ويواجهون حرائق السجون إذا دفعتهم ظروف البؤس والتشرد إلى الجريمة. وها هو المغرب كله يواجه ظاهرة استئساد فئة واسعة من أرباب العمل واختيارهم بكل اطمئنان أن يمعنوا في التحدي والاستهتار، منطلقين من أن البطالة تمنح مشروعية لصنيعهم وتفرض قانونا للصمت. إن فاتح ماي، هو مناسبة لاستعراض كل هذه الأشياء، وتتبع مجرى تطور وضع العمال وظروف العمل، وجرد ما تحقق وما لم يتحقق، والتعريف بالبرامج المستقبلية للنقابات، وتحديد مواقفها من قضايا الشأن العام ومن الأحداث التي يعرفها الوطن والعالم. ولا شك أننا نعيش فاتح ماي لهذه السنة في ظل إحدى أشد لحظات الاحتقان الاجتماعي التي عرفها المغرب المستقل. ويظهر أن البرامج الاعتيادية للدولة لا تقدم من تلقاء نفسها ضمانات حقيقية لمعالجة الأزمة، لأنها بكل بساطة برامج مستندة إلى منهجية تعتبر أن بالإمكان الوصول إلى حلول ناجعة دون حاجة إلى إحداث تغييرات جوهرية في المقاربة الاجتماعية. وقد أكدت الأحداث أن تلك المنهجية غدت متجاوزة وعقيمة. هل نحن إذن على مشارف مرحلة نقابية جديدة تتسم بانتهاء حالة عشناها سابقا تشبه الهدنة النقابية، أطرها خطاب يدافع عن اختيار التهدئة باعتباره أضمن لمصالح البلاد وأكثر مراعاة لدقة الظروف التي تجتازها، وينوه بدور الوزير الأول السابق في حل عدد من الملفات. هذا الخطاب الذي ترافق مع تصويت الكنفدرالية الديمقراطية للشغل على قانون المالية، كان أيضا يعلن مباركته للأوراش الكبرى والمبادرات الملكية، إلا أن هذه المباركة استمرت حتى في ظل الانعطاف الأخير الذي شهده الموقف الكنفدرالي. إن المفاجأة التي فجرتها الكنفدرالية، تعني أن هذه المركزية ليست فقط بنية تشتغل في ظل كاتب عام يسمى محمد نوبير الأموي، بل هي أكثر من ذلك تعكس بشكل حرفي شخصية هذا القائد في كل أبعادها، وفي كل تموجاتها وإبداعاتها، وتترجم ولعه بركوب السبل غير المنتظرة. وبما أن القرارات لا تُتخذ هكذا عفوا وبطريقة عشوائية من طرف منظمة نقابية كبرى، فيفترض بالنسبة إلى قرار الانسحاب من مجلس المستشارين، أن الكنفدرالية أعدت لنفسها «البدائل» لتعويض هذا الانسحاب وهيأت نفسها لما بعده، وقدرت أنها لم تعد في حاجة إلى التواجد بتلك الغرفة. وبالنسبة إلى قرار محتمل بشن الإضراب الوطني العام، يُفترض أيضا أن الكنفدرالية وفرت لنفسها وسائل إنجاحه. لقد ولى الزمن الذي كان فيه القرار في حد ذاته معركة كبرى، فإعلان الإضراب العام كان يمثل التحدي الأكبر سواء نجح أم لم ينجح وسواء نُفذ أو أُرجئ. كان الشارع يتلقى القرار كأمر يومي ويتجاوب معه ويعتبر أنه مناسبة لإبداء العرفان والامتنان ورد الجميل لرموز يقدر أنها تقف إلى جانبه، وتحمل هم قضيته، وتذود عن مصالحه. إن القادة الكنفدراليين يتابعون تحولات الظروف الاجتماعية والسياسية، ويعرفون أنهم مطالبون برسم خطط التعامل مع هذه التحولات. ولا حد يتصور أن «القرار» وحده يخلق شروط تنزيله وتفعيله، ويفتح في حد ذاته سبيلا كان مغلقا، ويكشف عن قوة كانت مخبوءة ومطمورة تحت الأرض. وفي هذا الإطار، يطرح التساؤل عما إذا كان العمل الوحدوي ضروريا للنهوض ببعض المعارك النقابية «الكبرى»، أم أن مركزية واحدة تستطيع بمفردها أن تحشد خلفها الشغيلة في جميع المعارك مهما اختلف حجمها وإطارها. وهل هناك اليوم إمكانية لتحقيق الوحدة النقابية وتجاوز حالة البلقنة بعمل واع ومسؤول للأطراف الفاعلة في الميدان. لقد مر التاريخ النقابي للمغرب المستقل من ثلاث مراحل: مرحلة أولى شخص خلالها الاتحاد المغربي للشغل إطار «الوحدة النقابية» واكتسب قوة جماهيرية كاسحة، وكان أعضاؤه يعدون بمئات الآلاف. وتخليد فاتح ماي كان يعرف حضور رموز الدولة ورموز الحركة الوطنية في آن واحد، ويخرج فيه عشرات الآلاف من العمال في العاصمتين الاقتصادية والإدارية وحدهما. ولما قرر حزب الاستقلال إنشاء مركزية نقابية أخرى، قدم الآخرون الأمر على أنه مؤامرة ضد الطبقة العاملة المغربية، ولاقى أعضاء الاتحاد العام للشغالين صنوفا من التنكيل والاضطهاد، واعتبرت المنظمة الوليدة إطارا «غير شرعي» ولا حق له في الوجود. وكان ذلك يمثل الوجه غير المشرق لتاريخ نقابي مغربي حكمته في فترة من فتراته أطروحة النقابة الوحيدة. مرحلة ثانية عرفت تقاطبا ثنائيا بين كل من الاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل. مثل القطاع الخاص عنصر قوة المركزية الأولى، ومثل القطاع العام عنصر قوة المركزية الثانية، التي أنشئت بمبادرة من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في نونبر 1978 ك»بديل نقابي» من أجل تحقيق أربعة أهداف أساسية: ربط النضال النقابي بالأفق التحرري والتقدمي العام ومناهضة خطة تحييد الطبقة العاملة في الصراع السياسي القائم، أي بعبارة أخرى بناء منظمة نقابية لليسار تساهم في النضال من أجل التغيير الديمقراطي الشامل والعدالة الاجتماعية، وتمثل سندا وحليفا لصف المطالبين بالتغيير. كان الاتحاد المغربي للشغل قد رفع، في مرحلة خلافه مع «الجناح السياسي» للاتحاد الوطني للقوات الشعبية شعار «سياسة الخبز» تعبيرا عن الرغبة في عدم الخوض في السياسة والحرص على عدم الاصطدام مع النظام، ورأى اليسار المغربي عموما في ذلك مجرد تكريس لنوع من النقابية الصفراء التي تخدم الوضع القائم. دمقرطة الإطار النقابي وضمان حقوق الأعضاء في التعبير والمشاركة والتداول ومراقبة عمل الأجهزة النقابية ومحاسبتها وتغييرها عند الاقتضاء. كان بعض القياديين في إ.م. ش بمثابة «أساقفة» في نظام كنسي عتيق، يتربعون على كراسي المسؤولية مدى الحياة، ويستعملون لتحقيق ذلك ترسانة من أدوات الضبط اللانظامية، بما في ذلك تشكيل فرق ل»اليقظة» تساعد في قمع الرأي الآخر وإيذاء أصحابه وطردهم أو منعهم من حرية الحركة داخل المركزية، أي أن هذه الأخيرة في نظر خصومها أُخضعت لنظام أمني داخلي تعسفي وصارم لا يتيح للديمقراطية الداخلية فرص الحياة الحقيقية. خوض النضالات الضرورية دفاعا عن حقوق الطبقة العاملة. كانت قيادة الاتحاد المغربي للشغل، في نظر الكثيرين، تبدع وسائل فرملة النضالات وإجهاضها، إما بسبب وجود شبه التزام مسبق بعدم تجاوز سقف معين أو نتيجة تسويات وصفقات قد لا تكون مربحة بالنسبة إلى العمال المعنيين، إلا أنها «مربحة» للقيادة النقابية. استرجاع جماهيرية ووحدة الطبقة العاملة في إطار مركزية قوية وأساسية تلم الشتات وتحتضن الزخم المهدد بالتبديد. فلقد لوحظ أن العمال يغادرون أحيانا إ.م.ش، ويلتحقون بالاتحاد العام أو يباشرون الدفاع عن مصالحهم خارج أي تأطير نقابي. بعد ميلاد الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، ساهمت نسبيا في تحقيق بعض هذه الأهداف، وأخفقت في تحقيق أهداف أخرى، وتقدمت في مجال وتراجعت في آخر. عبرت الكنفدرالية عن مواقفها السياسية في الوقت المناسب، ودعمت حركة الصف التقدمي والديمقراطي، بل كانت أحيانا محرك النهوض السياسي وأداة انطلاقه، بل إن دورها السياسي وصل إلى حد احتضان أغلبية أطرها الوطنية لفكرة تأسيس حزب يساري جديد. وبالنسبة إلى الديمقراطية الداخلية، نجحت الكنفدرالية في تأمين أكبر خارطة تعدد سياسي في طاقمها القيادي، مقارنة مع المركزيات الأخرى. إلا أن الوسائل التي استُعملت في مواجهة الأطر النقابية التي ظلت على ولاء للاتحاد الاشتراكي بعد انسحاب أغلبية القادة الوطنيين الكنفدراليين من الحزب المذكور، وملابسات عقد مؤتمر العيون بشكل استعجالي، شكلت شرخا في المسيرة الديمقراطية للكنفدرالية، نتمنى أن يتم الوعي بضرورة تجاوزه، وأن تنجح المركزية في تفادي تحول كاريزمية القائد إلى أداة تعطيل للديمقراطية. وعلى مستوى الرصيد الكنفدرالي من المعارك، فالملاحظ الموضوعي لا بد أن يسجل المنحى النوعي الذي اتخذه النضال النقابي بواسطة مبادرات الكنفدرالية سواء من خلال الإضرابات الوطنية العامة في 1979 و1981 و1990 أو القطاعية في 1979 أو غيرها من المعارك. وعلى مستوى الجماهيرية والوحدة، نجحت ك.د.ش في استقطاب فئات جديدة من المأجورين، وأعطى تنسيقها مع الاتحاد العام للشغالين نفسا للعمل الوحدوي. لكن المرحلة الأخيرة شهدت تراجعا على مستوى حجم التأطير الجماهيري للنقابات عمومًا، ويؤشر ذلك لمرحلة ثالثة في مسار النقابات المغربية. مرحلة ثالثة طبعتها الانشقاقات والانتقال من حالة وجود مركزيتين قويتين وأساسيتين إلى حالة تشتت للقوى، فظهرت مركزية نقابية «إسلامية»، وظهرت مركزيات نقابية يسارية جديدة (الفدرالية الديمقراطية للشغل والمنظمة الديمقراطية للشغل)، وظهرت سلسلة من النقابات القطاعية المستقلة عن المركزيات الموجودة، وتقهقر إشعاع بعض الإطارات النقابية في الإجمال، وأصيب الموقف النقابي بالكثير من مظاهر التذبذب والغموض، واضطرت أطراف في اليسار المعارض إلى إبداع تنسيقيات لمناهضة ارتفاع الأسعار، في محاولة لسد فراغ خلفه انحسار رقعة عمل كانت تتولاه النقابات. وبدأت بعض المركزيات تعتمد البحث عن حلفاء لها داخل بنية النظام كوسيلة لحماية نفوذها ومكانتها أكثر من اعتمادها على ضخ دماء جديدة في شرايينها كمصدر لتعزيز وجودها، ولم يقع أي تقدم في كفالة شفافية التدبير المالي للنقابات. إن المغرب اليوم، في حاجة إلى قانون جديد للنقابات، يتضمن بعض المقتضيات الموازية لتلك التي جاءت بقانون الأحزاب، وخاصة في الجوانب المتعلقة ب: تفعيل المراقبة العمومية لمالية الاتحادات النقابية المنصوص عليها قانونًا، وإقرار المزيد من ضمانات التدبير السليم والشفاف للمالية النقابية. ربط مواصلة الدعم العمومي بشرط عقد المؤتمرات في أجل معقول. دمقرطة طريقة اختيار ممثلي النقابات في المؤسسات المنتخبة واختيار المنقطعين... إلخ. والمغرب في حاجة أيضًا إلى اتحادات نقابية كبرى لتعزيز فاعلية العمل النقابي، من خلال عمليات اندماجية يمكن أن تُفضي إلى تقليص عدد المركزيات النقابية الموجودة. والعمليات الاندماجية، في نظرنا، لا يمكن أن تُكلل بالنجاح إذا لم تتم مراعاة التقارب الفكري العام للأطراف المندمجة، والتزامها الكامل بقواعد الديمقراطية الداخلية المنفتحة، واحترامها لميثاق عمل جماهيري يحدد أخلاقيات التعامل بين نشطاء الحقل النقابي والمدني الحداثي في المغرب.