"في أول مرة سمعت إحدى الحقوقيات تقول أن (الأفلام الإباحية هي صور للدعارة) أنار ذلك فكرة داخل ذهني: كيف تم الفصل بين الاثنين ابتداءً؟" ميليسا فارلي، باحثة أمريكية في علم النفس(1) في اعتراف ترويه إحدى العاملات في المجال الإباحي عن أحد المواقف التي تعرضت لها أثناء التصوير: "في أحد المقاطع تم ضربي بقسوة.. لقد تم إخباري قبل الفيديو أنه في لحظة معينة فإن معظم الفتيات يبدأن في البكاء لأنهن يتعرضن للأذى بطريقة سيئة جدًا، والعجيب أنهم كانوا يقولون ذلك بكل فخر! وفي المشهد المقصود، لم يكن باستطاعتي التنفس، كان يتم ضربي وخنقي. كنت في قمة غضبي لكنهم لم يتوقفوا، واستمرّوا في التصوير. بل إنك في الفيديو تستطيع أن تسمعني وأنا أصرخ: "أغلقوا الكاميرا!" وهم مستمرون"(2). هذا المقطع لا يتم تصويره لعرضه في فيلم رعب وإنما بوصفه محتوى "مثير" و "جذاب"، ويطرح سؤال هنا: أين تكمن الإثارة بالضبط في امرأة يتم تعذيبها على الكاميرا؟!والسؤال الأهم: إذا كانت هذه اللاآدمية هي ما تحدث أمام الكاميرات، فما الذي يتم إخفاؤه وراءها؟ وما هي خفايا الصناعة الإباحية التي لا يطلع المنتجون المشاهدين عليها؟! متى بدأت الأفلام الإباحية؟ "تستحق صناعة الأفلام الإباحية النقاش حولها لأنها تعيد تشكيل مشهدنا الثقافي"(3). (الناشطة الأمريكية شيرا تارانت، دكتوراه في العلوم السياسية) في عام 1896م أنتج الفرنسيان يوجين بيرو وألبرت كيرشنر أولى الأفلام الإباحية في التاريخ، تضمنت هذه الأفلام مشاهد لنساء يرتدين ملابسهن أو يغتسلن في الحمامات، وبسرعة تطورت المشاهد ليكون عام 1908م هو أقدم تاريخ معروف لأول فيلم إباحي مازال متوفرًا حتى الآن(4). كان الفيلم من إنتاج فرنسي، وتبعه عام 1910م فيلمًا ألمانيًا يتضمن أفعالًا أقرب ما تكون للمَشاهد الموجودة في الأفلام الإباحية اليوم. ومنذ 1960 فصاعدًا بدأت المسارح الإباحية في الظهور حيث يتجمع الجماهير في قاعة تشبه قاعات السينما ليشاهدوا أفلامًا إباحية على شاشة مسرحية، وبلغ عدد المسارح الإباحية في الولاياتالمتحدة وحدها 750 مسرحًا عام 1970، وحقق أحد الأفلام المنتجة عام 1972 والمعروض في أكثر من 70 مسرحًا أرباحًا تتجاوز 3 مليون دولار خلال سبعة أشهر فقط، بمعدل مشاهدة يتجاوز 5000 مشاهد أسبوعيًا في أحد المسارح(5). وبين عامي 1988 و2005 أي خلال أقل من عشرين عامًا فقط، تضاعف عدد الأفلام الإباحية المنتَجة عشر مرات(6). لكن الصناعة الإباحية لم تتوقف في القرن العشرين على الأفلام المصوّرة فحسب بل امتدّ الإنتاج ليشمل المجلات الورقية كذلك، فصدر أول عدد من مجلة (Playboy) الأميركية عام 1953م، وأول عدد من مجلة (Penthouse) البريطانية عام 1965م، وأول عدد من مجلة (Hustler) الأميركية عام 1979م، وكانت هذه المجلات الثلاث تتسابق أيهم يتربع على عرش المجلة الأكثر مبيعًا، واستنتج مؤسسو هذه المجلات أنه كلما كان المحتوى الإباحي المعروض في المجلة أكثر صراحة وسخونة، كلما كانت مبيعات المجلة تزداد(7). ومع تضخم الصناعة وتسهيل وسائلها وتوسع قاعدة جماهيرها ومستهلكيها، بلغت أرباح الصناعة الإباحية عام 2015م فقط ما بين 5 إلى 12 مليار دولار(8). وفي عام 2011م بلغ الراتب السنوي لمارك بل، مدير إحدى شبكات التواصل الإباحية، 800 ألف دولار(9). وفي إحصائية مدهشة، بلغ إجمالي عدد المشاهدات في موقع واحد فقط من المواقع الإباحية عام 2016م حوالي 92 مليار مشاهدة(10)! وهو رقم شديد الضخامة يعكس الانتشار الأخطبوطي الشاسع للأفلام الإباحية في عالمنا الحديث.. وقد عرضنا في تقرير سابق(11) كيف تعد الأفلام الإباحية إدمانًا مثل إدمان الكحول والنيكوتين والمخدرات، فالسؤال هنا: كيف تؤثر الأفلام الإباحية على الأذواق الجنسية والمعايير الجمالية للرجال على وجه الخصوص؟ علميًا: مشاهدة الإباحية مثلها كمثل إدمان الكحول والمخدرات تعميم الذوق الإباحي الشاذ حتى نتعرّف على طبيعة ما يشاهده المستهلكون للإباحية ابتداءً، فعلينا أن نلقي نظرة على الدراسة التي أجرتها جامعة كارنيجي ميلون الأمريكية، حيث كشفت هذه الدراسة البحثية(12) أن حوالي 50% من التحميلات (Downloads) من المواقع الإباحية تتضمن ممارسة الجنس مع الحيوانات، أو زنا المحارم، أو ممارسة الجنس مع الأطفال! وأشارت الدراسة إلى أن أقل من 5% فقط من التحميلات كانت تتضمن ممارسة رجل للجنس مع امرأة بشكل طبيعي. هذا الذوق الإباحي الشاذ يؤثر في الخيالات الجنسية للمشاهد، مما يعني شعوره بالمتعة عندما يفكر في هذه العلاقات الشاذة مع شريك حياته أو حتى مع أشخاص (أو حيوانات!) أخرى، وهو ما يؤثر بالسلب على علاقاته الإنسانية ونظرته إلى العالم من حوله. وعلى صعيد آخر، وبحسب باتريك ترومان مدير المركز الوطني للاستغلال الجنسي بالولاياتالمتحدة، فإن الأفلام الإباحية تسبّب "وباءً من الضرر" حيث أنها تزيل حساسية الرجل تجاه الألم الذي تعاني منه المرأة جراء الاستغلال الجنسي(13). فبحسب ترومان فإن هذا الذوق الشاذ يؤدي إلى ضمور شعور الرجل بالتعاطف تجاه المرأة التي تتعرض إلى العنف مما ينعكس على تصور الرجل للمرأة فيراها على أنها أداة للجنس لا أكثر، والأثر المباشر والواضح لذلك هو عدم اكتراث الرجل برضا المرأة أو حالتها النفسية قبل أو خلال العملية الجنسية، فهي قد أصبحت بالنسبة له لا تمثل أكثر من أداة بلا روح يفرغ فيها شهوته فحسب. الإباحية قد تؤدي إلى الموت! إذا كانت الإباحية "صناعة" مثلها كمثل سائر الصناعات، فما هي الأخطار الصحية التي يتعرض لها العمال في هذه الصناعة؟! في دراسة أجرتها ثلاثة مؤسسات صحية مشتركة، استنتج الباحثون أن 28% من الممثلين والممثلات في الأفلام الإباحية مصابون بمرض السيلان و/أو المتدثرة، وهما مرضان جنسيان(14). وأثبتت دراسة أخرى أن العاملين والعاملات في الصناعة الإباحية معرّضون للإصابة بالمتدثرة 34 ضعف أكثر من عموم الناس، ومعرّضون كذلك للإصابة بمرض السيلان 64 مرة أكثر من عموم الناس(15). والخطير أن المستهلك للإباحية عادة ما يقلّد ما يرى في الأفلام الإباحية بما أنه يستمد ثقافته الجنسية منها، وحيث أنه لا يتم تعريف المستهلك بهذه الأمراض أو خطورتها فإنه يظن أن الممارسات المعروضة في الأفلام ممارسات صحية وطبيعية، فيسعى إلى تنفيذها في الحقيقة فيُصاب بهذه الأمراض. كاميرون باي، ممثلة إباحية سابقة أُصيبت بمرض نقص المناعة HIV-AIDS، وهي تبكي في أحد المؤتمرات التي أقامتها أثناء شرحها لكيفية كان يتم معاملتها بشكل لا آدمي داخل الصناعة وفي عام 2013 خرج أحد الداعمين للحريات ليعلن أنه "منذ عام 2004 لم يكن هناك حالة واحدة في صناعة الإباحية تم إصابتها بمرض نقص المناعة (الإيدز – HIV) بسبب أن الإجراءات الصحية لصناعة الإباحية في غاية الكفاءة"(16). ومع ذلك، وبعد أقل من ستة شهور فقط، عقد أربعة ممثلين في المجال الإباحي مؤتمرًا صحفيًا يعلنون فيه إصابتهم بمرض الإيدز. وعلّق أحد هؤلاء الممثلين المصابين بالإيدز على استمرار صناعة الإباحية رغم الإصابات المتكررة بهذا المرض فيها قائلًا: "في النهاية، إنها عمل تجاري. واهتمامهم الأساسي هو الأموال وليس الممثلين أو الصحة"(17). فإذا كانت صناعة الأفلام الإباحية تشمل خطورة صحية قد تؤدي إلى الموت، فما الذي يدفع الناس إلى المشاركة فيها؟ دوافع المشاركة في الصناعة.. إكراه غير مرئي تذكر الباحثة شارون أبوت خمسة أسباب رئيسية تغري الفتاة بالمشاركة في صناعة الإباحية: المال، الشهرة والمجد، الحرية والاستقلال، الفرصة والمكانة الاجتماعية، والحصول على الجنس بشكل مكثف(18). وفي استبيان أُجري على 176 ممثلة إباحية، تبيّن أن الدافع الأساسي للفتيات لدخول العالم الإباحي كان في المقام الأول هو المال(19). والمثير للاهتمام هنا هو أن أسباب دخول الفتيات إلى عالم الإباحية، كما تلاحظ ميليسا فارلي أخصائية علم النفس الأمريكية، هي نفسها أسباب دخولهن إلى عالم الدعارة: الفقر، غياب فرص التعليم والوظائف، النبذ الاجتماعي، الإغراءات التي يقدّمها رجال الأعمال، والتحرش الجنسي في الصغر(20). ومن الاستنتاجات التي تتفق عليها ثلاثة دراسات متفرقة هي أن أغلب العاملات في المجال الإباحي قد تعرضن للاعتداء الجنسي في الصغر(21). وهذا لا يعني إجبار الفتيات بالسلاح على مشاركتهن في الصناعة الإباحية، فالصناعة لا تجبر الناس قسرًا على العمل فيها، وإنما توفر فرصًا ذهبية للمحاصرين ماديًا واقتصاديًا فيضطروا إلى اللجوء إليها كملاذ أخير لإنقاذ حياتهم من التشريد والموت البطيء، فتظهر الفتيات اللاتي لجأن إلى الإباحية وكأنهن قد اختاروا اختيارًا حرًا بالمشاركة فيها. هذه الحقيقة ترويها إحدى العاملات في المجال الإباحي قائلة: "كنت مهددة بالطرد من منزلي بسبب ظروف ما، وخلال قلقي رأيت إعلانًا لمؤسسة إباحية. تواصلت معهم وعرض مالك المؤسسة عليّ مكاناً أعيش فيه والعديد من المهام والامتيازات الأخرى إذا قبلت بالتصوير الإباحي معهم. وفي هذه النقطة في حياتي، لم يكن لديّ في الحقيقة أية خيارات أخرى"(22). لذلك ترى بعض حركات التحرير من العبودية أن العمل في الأفلام الإباحية هو "خيار من لا خيار له" ويمكن النظر إليه ك"اغتصاب معوّض"(23). وجدير بالذكر، كما يقول كاتب القصص الإباحية لوك فورد، أن "أغلب الفتيات التي تشارك في هذه الصناعة [الإباحية] يصوّرن فيديو واحد ثم يستقلن. التجربة بالنسبة لهن شديدة الألم، مرعبة، محرجة، ومهينة لهم لدرجة أنهم لا يكررونها مرة أخرى"(24). العنف المفرط والجرائم الإنسانية في صناعة الإباحية لا تقتصر الصناعة الإباحية على تصوير المحتوى الإباحي فحسب وإنما تمتد لها عدة أذرع في عدة صناعات غير قانونية أخرى مثل الإتجار بالجنس (Sex trafficking)، وشبكات الدعارة. ففي إحدى التحقيقات البوليسية بمدينة لاس فيجاس(25)، كشفت التحقيقات عن مؤجّر لستة مكاتب يستخدمهم في العمل الإباحي، جنبًا إلى جنب مع توظيف الفتيات كعاهرات في الفنادق ولدى العملاء "المتميزين". ووفقاً لمنظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، فإنه يتم خطف 4 مليون إنسان سنويًا واستغلاله في العمل الجنسي بشكل قسري. وللأفلام الإباحية أثر مباشر فيها، لدرجة أن الناشطة القانونية لورا ليدرر تقول: "لا ينبغي علينا أن نقول إن الأفلام الإباحية تؤدي إلى الإتجار بالجنس (Sex trafficking)، الأفلام الإباحية هي إتجار بالجنس"(26). أمّا الباحثة أبيجال براي فتقول إن المسؤولين في الصناعة الإباحية "يشترون العمل الجنسي الحيّ للبشر ثم يتاجرون بها كالقوّاد للمستهلكين عبر الإنترنت. لقد أصبحت الإباحية منتشرة وعادية إلى حدّ أنه أصبح من الصعب التفكير في مسئولي الصناعة كقوّاد أو في الممثلين كعاهرات"(27). وكأي صناعة أخرى، يتم استجلاب العمالة الرخيصة من الدول المتأخرة والنامية، في ظروف صعبة وقسرية للغاية حتى تنخفض تكلفة الإنتاج. ذكرت صحيفة (The Economist) البريطانية في إحدى تقاريرها أنه "معظم منتجي الأفلام الإباحية الغربيين يستخدمون ممثلين من شرق أوروبا على قدر المستطاع لأنهم أقل تكلفة وأكثر جهدًا" (28). وشهد شاهد من أهلها! شهادة شيلي لوبن المهمة أمام القضاء الأميركي والتي شرحت فيها الجرائم الإنسانية التي تعرضت لها خلال عملها في الصناعة الإباحية في شهادة مخيفة كشفت عمّا وراء الكواليس في صناعة الإباحية، قالت الممثلة الإباحية السابقة شيلي لوبن أمام إحدى المحاكم القضائية الأمريكية إنها كانت تتعرض لعنف مفرط أثناء التصوير، واعترفت أنها أدمنت المخدرات أثناء عملها في الصناعة، لأن الكحول والمخدرات كانت موادّ حاضرة دائمًا في مكان التصوير لتساعد الممثلات على مواصلة العمل. وذكرت لوبن أنه تم استغلالها في الدعارة بواسطة مسئولي الصناعة، وقالت بأن البنات اللاتي يرفضن استغلالهن في الدعارة يتم ابتزازهن أو إرغامهن قسرًا على الدعارة. وكشفت لوبن أن كثيرًا من العاملات في الصناعة يعانين من أمراض نفسية أبرزها الاكتئاب الحادّ، وتلجأ بعض الفتيات في الصناعة إلى الانتحار هروبًا من الواقع الأليم الذي يعشنه. وقالت لوبن أن كثيرًا من العاملات في المجال الإباحي لا يستطعن التحدث عن مساوئ وكوارث الصناعة الإباحية لأنهن خائفات، ويتم تهديدهن بشكل مستمر إما بالأذى الجسدي وإما بالتشهير الاجتماعي. هكذا إذن تخفي صناعة الإباحية الوجه القبيح للرأسمالية عن مستهلكيها، فهي تستغل الظروف الصعبة للعاملات في الصناعة فتدفعهم إلى عرض أنفسهن للاغتصاب مقابل أجر مادي وضيع، كما أنها تهضم حقوق العاملين فيها وتنتهك إنسانيتهم وحياتهم، وتعرّضهم لأخطار صحية شديدة تصل إلى الأمراض القاتلة، بالإضافة إلى مشاركة الصناعة بشكل غير رسمي في شبكات الإتجار بالجنس والدعارة العالمية. الإباحية في الحقيقة لا تختلف كثيرًا عن شبكات الدعارة غير القانونية، لكن الفرق الوحيد فيما يبدو أن هناك كاميرا تسجّل ما يحدث لا أكثر.