"حوّلت الأفلام الإباحية حياتي الجنسية إلى شكل من أشكال الخيال العلمي أو الفانتازيا.. لم أستطع ربط هذه الخيالات بأي تجربة بشرية حقيقية" مدمنة سابقة للأفلام الإباحية(1) في عالم تحوّل فيه الجنس من كونه عملية تعبّر عن أقصى درجات الحميمية وأسمى تعبير عن دفء العلاقات الإنسانية إلى صناعة عالمية يفوق دخلها في بعض التقديرات 100 مليار دولار سنويا على مستوى العالم(2)، ويبلغ راتب إحدى العاملات فيه 250,000 دولار سنويا (3)، يقودنا ذلك إلى حقيقة لا يمكن إخفاؤها، إذ إن المحتوى الإباحي في عشر السنوات الأخيرة على الأقل قد حدثت له طفرة بشكل مخيف، خصوصا مع انتشار الهواتف الذكية والإنترنت فائق السرعة. وفي تناقض لافت، تَندُر بشدة الإحصائيات الميدانية في عالمنا العربي حول مدى انتشار مشاهدة الأفلام الإباحية، سواء وسط الرجال أو النساء، المتزوجين أو غير المتزوجين، بداعي الحياء و"العيب" ونحو ذلك، على الرغم من أنه في ذات الوقت لا يخفى على أحد أن المحتوى الإباحي قد صار -أو يكاد- مشكلة داخل كل بيت، فمثلا يرصد موقع "أليكسا" (Alexa) أن 4 مواقع من أكثر 50 موقعا زيارة في مصر هم مواقع إباحية مشهورة(4). فيما أن المشكلة لا تقتصر على العالم العربي فحسب، وإنما تمتد لتشمل العالم بأسره، ففي كندا مثلا فإن 7 من أصل 10 مراهقين في سن 13 عاما قد شاهدوا أفلاما إباحية على الإنترنت(5)، وفي دراسة استقصائية شملت أكثر من 500 طالب جامعي أميركي أقرّ 93% منهم أنهم تعرّضوا للمحتوى الإباحي مرّة واحدة على الأقل قبل سن ال 18 عاما(6). أما في تقرير قدّمه النائب العام للولايات المتحدة الأميركية إلى الرئيس رونالد ريجان، ذكر التقرير أنه "وعلى عكس ما يعتقد كثير من الناس: فإن الأفلام الإباحية لا تعبّر عن التحرّر الجنسي ولا عن التقدّم الليبرالي، كما أنها لا تساعد في تحسين الحالة الجنسية للفرد أو للمجتمع، بل هي في الحقيقة إدمان، وعبودية"(7). فما الإغراءات التي تقدمها الأفلام الإباحية ليُقبل الناس عليها؟ وكيف تؤثر الأفلام الإباحية على علاقتنا الزوجية، وعلى نظرتنا إلى المرأة؟ وما الأضرار المتوقعة من الأفلام الإباحية؟ متعة الفانتازيا.. حتى للمتزوجين! هناك اعتقاد سائد في أوساط الشباب ومشاهدي الإباحية مفاده أن الأفلام الإباحية هي بمنزلة "المرحلة الانتقالية" التي يشاهدها الشاب قبل الزواج وتنتهي عند زواجه، بيد أن دراسة أجرتها داليا دسوقي، الأستاذة بكلية الطب بجامعة المنوفية، على عيّنة شملت أكثر من 1500 مصري، وجدت بشكل يدعو إلى التعجب أن نسبة مشاهدي الإباحية المتزوجين تفوق نسبة المشاهدين غير المتزوجين(8). وهنا يظهر السؤال: لماذا يستمرّ الشباب في مشاهدة الأفلام الإباحية حتى بعد زواجهم؟! توفر الأفلام الإباحية للمشاهد متعة فائقة لا يجد مثيلها في الجنس الحقيقي، حيث تثير الأفلام الإباحية جسم الإنسان بطريقة يسمّيها العلماء "تحفيز فوق-طبيعي" (Supernormal stimuli)، وهي إثارة تتجاوز مستوى إثارة الجنس الطبيعي للإنسان، ويرجع ذلك إلى عاملين أساسيين: الأول: تقدّم الأفلام الإباحية عددا لا نهائيا من الفتيات العاريات التي يمكن الوصول إليها بضغطة زرّ، وهو ما لا يوفره الجنس العادي(9). أمّا العامل الثاني فهو السيناريوهات الفانتازية الخيالية التي تتضمنها الأفلام الإباحية، سواء في مقدّمات العملية الجنسية المعروضة في الأفلام أو في تفاصيل العملية الجنسية ذاتها التي لا تمت إلى الجنس الحقيقي بصلة(10). في تجربة لافتة قام باحثون أستراليون بعرض مقطع إباحي على مجموعة من الشباب بصورة متكرّرة، في البداية كان الفيلم مثيرا بالنسبة للشباب، لكن كلما تكرر عرض نفس المقطع كانت الإثارة أقل، وبعد 18 تكرارا للمقطع كادت الإثارة أن تختفي تماما، ثمّ في المرة ال 19 عرض الباحثون مقطعا جديدا فارتفع مستوى إثارة الشباب إلى نفس مستوى عرض المقطع الأول لأول مرة(11). حيث أوضحت هذه الدراسة أن الإنسان يستجيب جنسيا فقط إلى التجديد المستمرّ ولا يستثار عن طريق التكرار، ممّا يعني أن المشاهد للأفلام الإباحية مرتبط عضويا بالتجديد اللانهائي المتوفر في الأفلام الإباحية فقط لا المتوفر في الجنس الطبيعي، لذلك لا يستطيع كثير من المتزوجين التخلّص من مشاهدتهم للأفلام الإباحية حتى بعد زواجهم. كيف يتطوّر إدمان الأفلام الإباحية؟ في دراسة تناولت تأثير الدوبامين (هرمون السعادة وأحد أهم عوامل الاستمتاع الجنسي) على الإدمان(12) أوضحت الدراسة أنه في بداية فترة مشاهدة الأفلام الإباحية تعطي الأفلام شعورا للمشاهد بالراحة وتزيل التوتر الجنسي لديه. لكن مع الوقت ومع كثرة المشاهدة يحدث التحفيز فوق-الطبيعي جراء تعرّض المشاهد لاستثارات زائدة عن المعدّل الطبيعي، فيضطر المخ إلى تغيير الكيمياء الخاصة به عبر تخفيض استجابته لهرمون الدوبامين مما يعني أن الجرعة المعتادة للإباحية في فترة المشاهدة (أو في الجنس الطبيعي) لن تعطي المشاهد شعورا بالسعادة، وسيتطلب الأمر أكثر من مجرّد ممارسة الجنس أو مشاهدة مقطع أو اثنين حتى يصل الشخص إلى ذروة المتعة. من هنا سيلجأ المشاهد إلى تجربة فئات (Categories) جديدة من الأفلام الإباحية حتى يستطيع أن يحفز جسمه للوصول إلى النشوة الجسمية، لكن المشكلة أنه في عالم الإباحيات لا تنتهي الفئات ولا السيناريوهات، ويستمر انحدار المشاهد وانتقاله من فئة إلى فئة ومن سيناريو إلى آخر بلا نهاية. ومع هذا السيل الجارف من المشاهدات والفئات يظهر السؤال: ما ضرر هذا الإدمان على رؤية الرجل لشريكة الحياة؟ في دراسة أُجريت عام 2007م أثبتت الدراسة أن تعرّض الرجال إلى عدد كبير من صور الفتيات المثيرة يؤدّي بهم إلى تقليل قيمة شريك حياتهم في نظرهم، ممّا يزيد من حالات الطلاق والنفور الزوجي، حيث يرى الزوج زوجته أقل جاذبية من الفتيات الأخريات(13). ووفقا لدراسة بعنوان "أثر الأفلام الإباحية على الرضا الجنسي" أُجريت على شباب من الجنسين تم تعريضهم لمحتوى إباحي على مدار ستة أسابيع فقط، تسببت مشاهدة الأفلام الإباحية في توليد مشاعر النفور من المشاهد (الخاضع للتجربة) تجاه شريكه في الحياة، وأقرّ المشاهدون بانخفاض رضاهم عن شريكهم بصورة ملحوظة منذ أن بدأوا مشاهدة الإباحية، وعبّروا عن سخطهم تحديدا على عاطفة شريكهم، وعلى مظهره الجسماني، وعلى حسّه وأدائه الجنسي(14). أضرار الأفلام الإباحية ذهبت الأخصائية النفسية الأميركية برين رينا إلى أن الأفلام الإباحية لا تتسبب في تدمير العلاقة الزوجية فحسب، وإنما تتسبب في إتلاف الصحة الجنسية للرجل كذلك (15). ففي بحث آخر أُجري عام 2016م شاركت فيه برين مع ستة باحثين بعنوان "هل تتسبب الأفلام الإباحية في أمراض جنسية؟"، رصد الباحثون الآثار المباشرة للأفلام الإباحية في ارتفاع نسبة حدوث ضعف الانتصاب، وتأخر القذف، وخمود الرغبة الجنسية، وفقدان القدرة على الاستمتاع بشريك الحياة(16). واللافت أن أضرار الأفلام الإباحية لا تقتصر على المستوى العضوي فحسب، وإنما تشمل أضرارا نفسية كذلك، أحد الأضرار هي قلة الحساسية (Desensitisation)، وتعني فقدان المشاهد للشعور بالمتعة في أنشطة واهتمامات كان يضعها في أولوياته ويجد فيها متعة وإثارة(17). وتشمل قائمة الأضرار النفسية للأفلام الإباحية كذلك القلق المتزايد جنبا إلى جنب مع الميل نحو ردود الفعل الغاضبة عموما(18)، وفقدان التركيز وعدم القدرة على إنجاز المهام طويلة المدى(19)، بالإضافة إلى طغيان شعور اللامبالاة والخمول لدى المشاهد طوال الوقت مما قد يؤول عنده إلى مرض الاكتئاب(20). الأفلام الإباحية وتحقير المرأة في دراسة أُجريت عام 2010م على 304 فيلم إباحي من أكثر الأفلام انتشارا رصد الباحثون أن حوالي 50% من المشاهد في الأفلام الإباحية تضمّنت عنفا لفظيا، مثل الإهانات والشتائم والتهديد بالأذى الجسدي واستخدام لغة قمعية، وكذلك تضمّنت هذه المشاهد بنسبة حوالي 90% عنفا جسديا، مثل الدفع والعض وشدّ الشعر والوخز واللطم على الوجه والخنق والتعذيب واستخدام بعض الآلات الحادة(21). كان هذا السلوك العنفي غير الآدمي موجّه دائما تجاه المرأة بمتوسط 11 فعلا عنفيا في المشهد الواحد، والغريب أن استجابة النساء في هذه الأفلام تجاه هذه القسوة كان في الغالب إيجابيا ومعبّرا عن رضا المرأة وسعادتها بهذه الإهانة، وهو ما يعزز ثقافة لا-آدمية المرأة في المجتمع. لكن هل هذا التعامل المهين مع المرأة هو ما يجري في العملية الجنسية الطبيعية وهو ما يشعرها بالرضا؟ وفقا لأستاذة علم الاجتماع جيل داينز فإن الرجل في الأفلام الإباحية يمارس "الاضطهاد ضد المرأة، فكلّ فعل جنسي مصمّم في الأفلام ليرسل أقسى كمّ من الإهانة"(22). لذلك ترى أستاذة القانون بجامعة هارفارد ديان روزفيلد أن الأفلام الإباحية هي "محاولة لنزع صفة الذاتية/الإنسانية عمّا يتم تصويره"، وتشرح كيف تصوّر الأفلام الإباحية المرأة على أنها "أداة جنسية" (Sex object) فحسب. ثمّ تسترسل روزفيلد: "تلعب الأفلام الإباحية دورا قويا في تنميط الرجل كسيّد والمرأة كعاهرة، وتعمل كذلك على نشر ثقافة هذه الثنائية وتصوّرها على أنها علاقة مثيرة، وجنسية، ومرغوبة، والحقيقة غير ذلك"(23). هل يمكن التعافي من إدمان الأفلام الإباحية؟ تبدو إذن الأفلام الإباحية كما يصفها أحد المدمنين السابقين لها: "تدخل إلى الجسم كإبرة، وتخرج كخُطّاف"(24)، فهي لا تسبّب تغيّرات في كيمياء المخ والجسم فحسب، وإنما يعاني المدمن عليها من آثار نفسية سيئة، وتسوء صحته الجنسية، وتهدد الإباحية حياته الزوجية، وتغيّر من نمط تفكيره في الأشياء وفي المرأة وفي العملية الجنسية، إنها صناعة تهدف إلى ربط المستهلكين بالمنتجات لا إلى تحسين حالتهم الصحية والجنسية. في وسط هذه المأساة يكون السؤال ملحا: هل يمكن للمشاهد أن يتعافى من إدمان الأفلام الإباحية؟ يقدّر بعض الباحثين مدّة التعافي من الأفلام الإباحية بشهرين على الأقل حتى يستردّ المشاهد كامل صحّته الجنسية، ولكن -مثل أي إدمان آخر- تتضمن عملية العلاج من الأفلام الإباحية -في الغالب- أعراض انسحاب تماثل أعراض الانسحاب من أي إدمان آخر، ولكن أبرز الأعراض لتوقف المشاهدة هو ما يُسمّى بالخطّ المستوِي (Flatline)، وهي فترة تتضمن "موتا جنسيا" حيث يفقد المريض رغبته الجنسية بشكل شبه كامل ويشعر بالخمول الدائم(25)، وهو عَرض انسحاب يزول مع تعافي كيمياء الجسم واسترجاعها لوضعها الطبيعي. لكن ماذا بعد هذه الفترة؟ هل يمكن التعافي بشكل كامل ونهائي من الأفلام الإباحية؟ قام اثنان من الباحثين بدراسة حالة مدمن للأفلام الإباحية ممّن ساءت علاقته الجنسية مع شريكته وفقد الرغبة في العلاقة بشكل كبير نتيجة لإدمانه للأفلام الإباحية، بعد ثمانية أشهر من توقف المريض عن مشاهدة الأفلام الإباحية تحسّنت الحالة الجنسية للمريض، وعادت إليه صحته الجنسية الطبيعية من جديد، واستطاع أن يستمتع بعلاقات جنسية طيبة مع شريكته(26). لذلك، وفي ظل ما يعانيه مجتمعنا العربي من كبت ومشكلات مجتمعية عديدة تتعلق بالجنس مثل التحرش الجنسي والضعف الجنسي وغيرها من المشكلات، تأتي قضية التعافي من الإباحية كأولوية يجب أن يلفت المختصون والمعالجون والواعظون الانتباه إليها، حيث تمثل الإباحية وباء عصريا أطلقته الرأسمالية لينتهك الأجساد والعقول بلا رحمة. إسماعيل عرفة مدون بالجزيرة