ما كان لأم الدنيا أرض الكنانة، وأبناء الفراعنة أن يقوموا بثورة عادية : ثورة الحكام على المحكومين، ثورة الحرية على الاستبداد، ثورة المستقبل المنشود على الحاضر المنبوذ، إنها ثورة من نوع خاص، لأنها لا تجسد فقط طموحات شعب، بل تعكس عظمة شعب، بإشعاعه الثقافي، وإبداعه الفني، وإنتاجه الفكري،بحضارته العريقة، بعروبته المتينة،وبتضحياته الجسيمة، إنها ثورة متميزة بكل المقاييس لأنها : ثورة الماضي على الماضي : ثورة رمسيس بما يحمله من مخزون فرعوني،على مرسي بما يمثله من مخزون إسلامي. التيار الأول يحن إلى الحضارة الفرعونية و يسعى إلى إنعاشها في حلة حديثة، الثاني يحن إلى الحضارة الإسلامية ويهدف إلى إعادتها في حلتها القديمة، كل منهما يجد تعليله وحجته في الماضي، ماضي المصريين مقابل ماضي المسلمين، ذاكرة المصريين بخصوصياتها مقابل ذاكرة المسلمين بعمومياتها. التيار الأول يريد قراءة الماضي لبناء المستقبل، والثاني يهدف إلى نقل الماضي وفرضه على الحاضر. ثورة التاريخ على التاريخ : التيار الأول ينطلق في تحديد تاريخ مصر من يوسف والذئب كتجليات وكشهود لحضارة عريقة. الثاني ينطلق من عمرو بن العاص لأن ما قبله جاهلي، تاريخ الفراعنة مقابل تاريخ المسلمين، تاريخ الآلهة مقابل تاريخ الصحابة، تاريخ النيل مقابل تاريخ يثرب، تاريخ الماضي المتحرك مقابل ماضي التاريخ الجامد. ثورة الوطن على الوطن : التيار الأول يدافع عن دولة مدنية تضمن حرية الرأي والضمير، بقوة الحجة والدليل كوطن لكل المصريين بخصوصياتهم واختلافاتهم، الثاني يسعى إلى بناء دولة دينية كمدخل للخلافةالإسلامية الإسلامية بعمومياتها، كوطن لكل المسلمين بالوعظ والإرشاد إن أمكن،و بالجهاد عند الضرورة، شعار الدين لله و الوطن للجميع، بالتي هي أحسن، مقابل شعار الوطن لله و الدين للجميع إن طوعا أو كرها، دولة المصريين مقابل دولة المسلمين. إنها ثورة المفكرين و الفنانين على ثورة المبشرين و المنذرين، ثقافة الاجتهاد مقابل ثقافة العقيدة، ثقافة الكون مقابل ثقافة المسلمين، ثقافة العقل مقابل ثقافة النقل، حاكمية الله والحكم بما أنزل، مقابل سيادة الشعب والحكم بإرادته، التحرر السياسي مقابل الاستبداد الديني، المسؤولية والكفاءة مقابل الولاء و الطاعة، ثقافة التسامح و الانفتاح، مقابل ثقافة الكراهية والتكفير،الغناء مقابل التهليل، الرقص مقابل الدف. وهكذا متميزة بغناها الفكري، الثورة المصرية متميزة كذلك بحمولتها، لأنها ليست ثورة المصريين على الاستبداد فقط، سياسيا كان أو دينيا، بقدر ما هي كذلك ثورة على منظومة فكرية ذات امتدادات دولية، فلقد أفرزت عدة خلاصات وتفرض عدة تداعيات، أن من أهم خلاصاتها أنها تنعي : بفشل الإخوان المسلمين في ممارسة الحكم وتدبير الشأن العام لأنهم تعاملوا مع المشروعية (La légitimité ( لا كتعاقد بين الشعب و الحاكم ولكن كبيعة تلزم الأول بالطاعة و الولاء وتلزم الثاني بطاعة الله في حدود الشرع .كما تعاملوا مع الشرعية La légalité) بمفهوم الانتخابات) لا كتفويض مشروط من طرف الشعب، ولكن كتخلي من هدا الأخير عن إرادته .لذا فإنهم استخدموا السلطة لا كقوة لحماية إرادة الشعب بل كقوة لحماية إرادة الحاكم. بانهيار حلم الدولة الدينية لأنها وليدة قراءة مزيفة للماضي :لقد بنيت دولة يثرب على حرية الضمير بمضمون القران « فمن شاء فليكفر و من شاء فليؤمن»،وعلى «كلمة واحدة لو اجتمع عليها العرب لفتحت لهم كنوز كسرى و الروم :لا إله إلا الله» كما كان يقول الرسول .وأن الخلافة الراشدة كانت فقط مرحلة مخاض لنظام الملك،وقد بدأت بوادره و معالمه مع حكم عثمان باحتكاره لسلطة القرار وسمو نجم بني أمية داخل الدولة. بنهاية الإيديولوجية الشمولية لأن التحولات التي عرفها العالم بعد تحطيم جدار برلين، لم تعد تسمح للإيديولوجيات الشمولية بحق الوجود .فلقد انهارت الشيوعية كأوراق الخريف، ثم جاءت الثورة المصرية لتعطي الدليل من جديد أن الإسلاموية كإيديولوجية شمولية، ليس لها الحق في موطئ قدم، لأنها غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع في غياب تحليل للحاضروتصورللمستقبل، ولأن القيم الإنسانية اكتسبت طابعا كونيا، لا يحض فقط على نشرها داخل المجتمع الدولي، بل يدافع عنها إن لم نقل يفرضها. أن من أهم تداعياتها أنها تفرض: على التيارات الإسلامية نفسها إعادة النظر في منظومتها الفكرية، إما بالمزيد من التنازلات للتصالح مع الديمقراطية شكلا و مضمونا، والسير في اتجاه التاريخ، لكنها ستفقد هويتها، وإما بالمزيد من التشدد لفرض الدولة الدينية عن طريق العنف والجهاد، ولكنها ستسقط في خانة الإرهاب . على الشعوب العربية والإسلامية، لأنها أصبحت مطالبة بتحديث مواقفها من التيارات الإسلامية، فلقد أثبتت تجربة الإخوان المسلمين أنه ليس لهم لا مشروع مجتمعي ولا منظور للحاضر ولا تصور للمستقبل .وأن التقية التي يتظاهرون بالتحلي بها هي زيف و زيغ، لأنهم عمدوا إلى تمرير السلطة عبر تراتبية التنظيم لا على أساس التراتبية الاجتماعية، وتوزيع المسؤوليات على أساس الولاء لا الكفاءة. خلاصة القول أنه في 30 يونيو عبر الشعب المصري في أكبر مسيرة عرفها تاريخ الإنسانية عن رفضه للدولة الدينية، والإيديولوجية الشمولية، والقفز على تاريخه،وبتر ذاكرته، وتزوير هويته، واختار مصر العميقة بموروثها الغني، ذي التراكمات المتنوعة، وبهويتها العريقة ذات الروافد المتنوعة، كأساس لدولة ديمقراطية وحداثية ورائدة. القرار لم يكن حزبيا و لا طائفيا و لا مذهبيا، بل كان عفويا و تلقائيا لشباب متعطش للحرية وتواق لممارستها، وقادر على حمايتها لأنه في 17 يوليوز أعاد الكرة ونظم مسيرة أكبر حجما لنصرة خريطة الطريق التي أقرها الجيش، وهو بهذا يضع حدا لشعار « الإسلام هو الحل». وأنه كيفما كانت تداعيات الفتنة التي تعيشها الآن مصر، فإن الشعب الذي بنى الأهرام، وقاد ثلاثة حروب ضد إسرائيل، وأنتج جمال عبد الناصر كرمز للعروبة والتحرير،ونجيب محفوظ كرمز للإشعاع الفكري، وأم كلثوم كرمز للإبداع الفني، الشعب الذي نظم أكبر مسيرة عرفها تاريخ الإنسانية للإعلان عن تشبثه بالديمقراطية، يعطي الدليل القاطع على أنه كفؤ لها،لأن الديمقراطية ستجعل منه شعبا أقوى وأعظم وعطاؤه للأمة العربية والإسلامية أفضل، لأن الديمقراطية مصدر للإلهام والإبداع، تفجر الطاقات و تكسر القيود.