حين نقرأ مشروع الدستور المعروض للاستفتاء، ندرك أنه من أول كلمة فيه إلى آخر كلمة، لم يوضع ليكون دستورا يرد إلى الأمة حقوقها التي اغتصبها الطغاة ويساوي بين المواطنين ويضع حدا للتمييز الديني، وإنما وُضع هذا المشروع ليكون غطاء للطغيان وسندا لنظام يعتقد أنه يمثل الشريعة وينوب عن صاحبها، وإذن فهو مصدر السلطة وليس الأمة كما هي الحال في النظم الديمقراطية، إذ لا سلطة لمخلوق، إذا كانت سلطة الخالق ممثلة في النظام! بل نحن نرى أن النظام سبق مشروع الدستور بما اتخذه من إجراءات وأصدره من إعلانات بدت كأنها «بروڤات» أو تجارب مهدت لمشروع الدستور، وبدا مشروع الدستور كأنه اعتراف بها وتصديق عليها وتطبيق لما أمر به المرشد وأعلنه الرئيس. حملة الدكتور «مرسي» على التيارات المدنية التي اعتبرها معادية لهوية مصر العربية والإسلامية، وقراراته وإعلاناته التي جمع بها بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وحصن بها قراراته ضد السلطة القضائية، وضربه عرض الحائط بأحكام المحكمة الدستورية، وإقالته النائب العام، وحملات الإخوان الدائمة على الصحفيين والإعلاميين الذين سماهم مرشد الإخوان «سحرة فرعون»، وتكفيرهم للمعارضين وإرهابهم وإراقة دمائهم؛ كل هذا سبق مشروع الدستور الذي جاء ليترجم قرارات الرئيس ويفرض علينا فكره وفكر جماعته ويخضعنا لحكمها. من المادة الأولى في هذا المشروع المعيب، يتلاعب الذين وضعوه والذين صاغوه بمقومات وجودنا التي نشأنا على احترامها والاعتزاز بها فيسقطون أركانا أساسية لا نستطيع دونها أن نستحضر ماضينا ونعيش حاضرنا ونتمثل ما نحن عليه من تعدد يحقق لنا التنوع والتفاعل والغنى، ويحمينا من الطغيان الذي يفرض الرأي ويطلب الإجماع، ويتهم المعارضين بشق عصا الطاعة والمروق والعصيان. تقول هذه المادة الأولى التي تحدد مقوماتنا السياسية بعبارات لا تخلو من الركاكة إن «الشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية -هنا نتذكر كلام الدكتور مرسي الذي سبقت الإشارة إليه!- ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الأفريقية، وبامتداده الآسيوي، ويشارك بإيجابية في الحضارة الإنسانية». ولا يستطيع أحد أن يشك في عروبة مصر إذا اعتبرنا العروبة ثقافة جامعة ومجالا مفتوحا أمام شعوب المنطقة تتلاقى فيه، وتتبادل الخبرة والمنفعة، وتتفاعل ويسهم كل منها بنصيبه ويعبر عن خصوصيته.. ولا جدال كذلك في أن غالبية المصريين مسلمون لهم في الإسلام تاريخهم واجتهاداتهم التي تنبع من ثقافتهم وتستجيب لحاجاتهم التي تختلف قليلا أو كثيرا عن حاجات غيرهم، أقول إننا بهذا الفهم ننتمي إلى العروبة والإسلام، لكننا إلى جانب العروبة والإسلام ننتمي إلى تاريخنا الذي سبق الإسلام وتلاه. لقد سبقت حضارتنا غيرها من الحضارات الإنسانية وبقيت مزدهرة مؤثرة في ما حولها آلاف السنين، ولقد بدأت عقيدة التوحيد في مصر، وموسى نبي اليهودية تعلم في قصر فرعون وعرف التوحيد أول ما عرفه في مصر، والثالوث المسيحي الذي وحد بين السماء والأرض امتداد للثالوث المصري إيزيس وأوزوريس وحورس، ومصر العربية الإسلامية لم تأت من فراغ أو مجهول وإنما هي امتداد لمصر الفرعونية المسيحية، ومصر كيان كامل بذاتها وليست جزءا من غيرها كما جاء في مشروع الدستور الذي لم يشر بكلمة إلى علاقتنا بحضارة البحر المتوسط وبالحضارة الغربية بوجه عام، وهى طرف أساسي في حوارنا الذي لم ينقطع مع العالم، لا في الماضي ولا في الحاضر. دولة البطالمة التي اتحد فيها الشاطئان المصري واليوناني، وامتزجت الحضارتان، وتربعت الإسكندرية على عرش العالم القديم بمنارتها الهادية ومكتبتها الجامعة وشعبها المختلط الذي جمع بين شعوب البحر المتوسط كلها، المصريين واليونانيين واليهود والرومان. ولست في حاجة إلى التذكير بالدور الأساسي الذي لعبته أوربا في نهضتنا الحديثة التي يريد الإخوان والسلفيون أن يمحوها من تاريخنا ويعيدونا إلى ما كنا عليه تحت حكم بكوات المماليك وولاة العثمانيين. لقد اتصلنا بالعصور الحديثة وعلومها وفنونها ونظمها السياسية ومؤسساتها حين اتصلنا بأوربا، وبفضل الأوربيين عرفنا الدولة الوطنية والديمقراطية والدستور وحقوق الإنسان، بل نحن لم نعرف أنفسنا، ولم نكتشف حضارتنا القديمة إلا بجهود الفرنسيين والإنجليز والألمان والإيطاليين والروس. والذين لم يذكروا حضارة مصر الفرعونية ومصر المسيحية ومصر الحديثة لم يقعوا في سهو أو خطأ غير مقصود، لأنهم أشاروا في السطور التي قدموا بها مشروعهم للحضارة الفرعونية وللكنيسة المصرية، ولكنهم اعتبروهما ماضيا لم يعد له وجود في الحاضر، فلا مكان لهما في مشروع الدستور الذي أراد واضعوه -ومعظمهم كما نعلم جميعا من جماعات الإسلام السياسي- أن يفتتحوا به مشروع الخلافة الإسلامية التي يسعون إلى إحيائها، ولهذا قرروا أن تكون مصر مجرد جزء من الأمتين العربية والإسلامية، أي أن تكون ولاية في دولة الخلافة، ولو ضحوا بأعظم ما أنجزته مصر في تاريخها. وما الذي يبقى لنا حين نسقط من تاريخنا لاهوت الفراعنة ومبادئهم الأخلاقية، وقوانينهم وإيمانهم بالله الواحد، وبالبعث والحساب، وحين نهدم معابدهم ومقابرهم ونبدد آدابهم وفنونهم؟ وهل قدمنا بعد الفراعنة شيئا يفوق ما قدمناه في نهضتنا الحديثة؟ نحن لم نشارك في ثقافة العصور الوسطى إلا بالقليل الذي كان في معظمه نقلا ومحاكاة لغيرنا، حتى إذا خرجنا من هذه العصور ودخلنا عصر النهضة حُلت عقدة ألسنتنا واستعدنا طاقتنا الخلاقة وقدرنا على الإبداع والتجديد، فترجمنا عن اللغات الأوربية من علوم العصر وفكره وفلسفته، وقدنا حركة الإحياء الأدبية واللغوية وحركة الإصلاح الديني والحركة الوطنية والدستورية وحركة تحرير المرأة والحركة العقلانية وحركات التجديد في الشعر والقصة والنقد والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، فكيف نسقط هذا كله من حسابنا؟ وفي سبيل أي هدف ومقابل أي مكسب يجرد الذين وضعوا مشروع الدستور مصر من حضارتها القديمة ونهضتها الحديثة، ويحصرونها في عصر واحد من عصور تاريخها، ويضنون عليها باعتبارها أمة مكتملة بذاتها، ويسلبونها هذا الحق الذي يعترفون به لغيرها، وهي أولى به وأحق. يقولون إن «الشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية»، وفي هذه العبارة ثلاث مغالطات، فالمصريون ليسوا مجرد شعب والعرب لم يصبحوا أمة بعد، والمسلمون أمم شتى وليسوا أمة واحدة. المصريون ليسوا مجرد شعب، إذا كان المقصود بالشعب أنه جزء من كل، هو الأمة التي تحققت شروطها في المصريين منذ وقت بعيد، فالأمة جماعة من البشر ترتبط في ما بينها بروابط تشخصها وتميزها عن غيرها، منها الأرض والتاريخ واللغة والثقافة والدولة التي تمثل الأمة وترعى مصالحها وتعبر عن شخصيتها وإرادتها، ولا أظن أحدا ينكر أن هذه الشروط كلها متحققة في المصريين، الذين سبقوا غيرهم إلى الاستقرار والاجتماع وزراعة الأرض والتوطن والوحدة القومية والدولة المركزية، ولا أظن أحدا في المقابل يزعم أن هذه الشروط متحققة بهذا الاكتمال في العرب أو في المسلمين. ولا شك أن بين الشعوب العربية -ومنها مصر بالطبع- روابط مشتركة تصلح لأن تكون أساسا لكيان مشترك، غير أننا لا نستطيع حتى الآن أن نقول إن العرب أمة واحدة، لأن الأسباب التي تفصل بين البلاد العربية تعادل الأسباب التي تجمع بينها، ونحن نرى أن مشروع الوحدة العربية الذي سار خطوات في عقود سابقة عاد في العقود الأخيرة فتراجع بشدة، لأن الحكام الطغاة الذين رفعوا شعاراته شوهوه وعطلوه وأساؤوا إليه، وكما فعلوا في الماضي يفعلون في الحاضر، فالطغيان لا يصنع الوحدة ولا يحميها، سواء كان طغيانا دينيا أو دنيويا، بل إن الطغيان يهدم ما هو قائم موحد بالفعل، طغيان صدام حسين الدنيوي مزق العراق وأشعل الحرب بين العرب والأكراد، وطغيان عمر البشير الديني فصل جنوب السودان عن الشمال، وطغيان حماس فصل القطاع عن الضفة، ولا أريد أن أستطرد فأتصور ما يمكن أن يحدث عندنا! فإذا لم يكن العرب أمة واحدة، رغم الروابط القوية التي تجمع بينهم، فهل يكون المسلمون أمة واحدة؟ نحن نعرف أن المسلمين أمم شتى تمتد بلادهم من نيجيريا في غرب أفريقيا إلى إندونيسيا فى شرق آسيا، ومن البوسنة وألبانيا في جنوب أوربا إلى أوغندا وجزر القمر. كلهم مسلمون، لكنهم شعوب وقبائل، سُمر وسود وصفر، وبيض لغات وثقافات وحضارات وتواريخ وارتباطات ومصالح. كيف يكون العرب، والفرس، والترك، والمغول، والتتار، والشركس، والألبان، والأفغان، والهنود والسنغاليون، والماليون أمة واحدة؟ نستطيع، بالطبع، أن نتحدث عن مثل وقيم وعواطف ومشاعر وآمال تجمع بين المسلمين، لكننا لا نستطيع أن نعتبرهم أمة واحدة، فبأي منطق اعتبرهم الذين وضعوا مشروع الدستور أمة واحدة؟ بالمنطق الذى شرحته فى بداية هذا المقال، وهو المنطق الذى يخلط بين الدين والسياسة، وبين لغة القانون وخطبة الجمعة، والذى أراد للدستور أن يكون غطاء للطغيان، وسنداً لنظام يعتقد أنه مفوض من الله، وأنه ممثل للشريعة، وأنه لا يسأل عما يفعل، فليست فيه للأمة حقوق، ولا للأفراد حقوق. لا فصل فى هذا الدستور بين السلطات، ولا استقلال للقضاء، ولا حرية للصحافة، ولا مساواة بين المسلم وغير المسلم ولا بين الرجل والمرأة. إنه وثيقة تنازل عن كل ما حققناه في نهضتنا الحديثة، وثيقة تنازل عن حقنا في الحرية، وعن حقنا في الكرامة، وعن حقنا في المساواة. دستور يصلح لإمارة إخوانية ولا يصلح لمصر. دستور يردنا إلى لعصور الوسطى، ويفتح علينا أبواب العنف، ويمكن الإخوان وحلفاءهم من الانفراد بالسلطة والبقاء فيها، وإلا فالميليشيات حاضرة مستعدة. فلنحم أنفسنا من هذا المستقبل المظلم، ولنقل إلى هذا المشروع: لا! لا! لا!