في نقد الأطروحتين القومية و الإسلامية 1- التيار الإسلامي و التيار القومي .. في توضيح سوء التفاهم منذ ظهور التيار الإسلامي الحركي؛ في علاقة بتجربة (الجماعة الإسلامية) مع أبي الأعلى المودودي؛ بدأت تتشكل النواة الأولى للحركة الإسلامية في العالم العربي؛ و ذلك مع تجربة (جماعة الإخوان المسلمين) التي قادها الشيخ حسن البنا. و قد تميزت هذه التجربة في علاقتها بالتيار النهضوي؛ بكونها حاولت نقل التجربة الفكرية التي أسس لها النهضويون إلى المجال السياسي؛ من خلال تدشين نضال سياسي من أجل بناء (الدولة الإسلامية) المنشودة . خلال هذه المرحلة بالذات؛ كان العالم العربي يعرف تشكل تجربة فكرية/سياسية قومية؛ و ذلك في علاقة بعوامل خارجية وأخرى داخلية؛ على المستوى الخارجي حضرت الدولة القومية في الغرب؛ كما حضرت التجربة الصهيونية؛ كنموذج للاقتداء في العالم العربي؛ أما على المستوى الداخلي فقد كان التفكير في فك الارتباط عن التبعية للإمبراطورية العثمانية و مواجهة سياسة التتريك التي مارسها العثمانيون في العالم العربي؛ كمحاولة منهم لإحياء تجربة الدولة العباسية؛ حينما تحكم الفرس في مفاتيح الحكم؛ و مارسوا عنفا رمزيا خطيرا على رموز الحضارة العربية تحت ما سمي ب (الشعوبية) . لقد كان استحضار هذه الخلفية التاريخية ضروريا؛ لمحاولة توضيح سوء التفاهم القائم بين التيارين القومي و الإسلامي في العالم العربي؛ و نحن نزعم أن سوء التفاهم هذا يعود بالأساس إلى بدايات التأسيس الأولى؛ حيث كان لكل تيار فكري/سياسي منطلقاته و رهاناته الخاصة؛ فإذا انتصر التيار الإسلامي لفكرة الجامعة الإسلامية التي طرحها التيار السلفي خلال مرحلة عصر النهضة؛ حيث يسبق الإسلام العروبة بدرجة؛ فإن التيار القومي كان يتجه لبلورة تجربة الدولة القومية؛ حيث تسبق العروبة الإسلام بدرجة؛ و هذا ما يؤكده زعيم إسلامي في المغرب بقوله: ( ولاء العرب القوميين للغة التي نزل بها القرآن كولائنا للقرآن) (1) و قد تعمق سوء التفاهم هذا أكثر؛ حينما حضرت العلمانية بمفهومها الفرنسي/الأتاتوركي؛ كمنطلق إيديولوجي لتشكيل تجربة فكرية و سياسية؛ كان الهدف منها؛ الفصل بين العروبة و الإسلام؛ كرد فعل على سياسة التتريك التي مارسها العثمانيون . لقد جمعت بين التيارين منذ ظهورهما علاقة صراع؛ و خصوصا لما وصل التيار القومي/البعثي إلى السلطة؛ في مصر و سوريا و العراق؛ و ذلك ما جسدته العلاقة المتوترة بين جماعة الإخوان المسلمين و النظامين القوميين في مصر و سوريا؛ حيث كان الصراع بين مشروعين متناقضين في منطلقاتهما و رهاناتهما. إننا و نحن نستحضر هذه العلاقة المتوترة بين التيارين القومي و الإسلامي؛ نستحضر في نفس الآن سوء التفاهم الكبير بين العروبة و الإسلام في المشروعين معا؛ حيث اقتصر تعامل القوميين مع الإسلام؛ من منظور إقصائي؛ معتبرين أن العروبة أساس الوحدة بين العرب (بمسلميهم و مسيحييهم) أما الإسلام فهو دين يتجاوز العرب إلى الفرس و الأتراك ... و في المقابل؛ تعامل الإسلاميون مع العروبة بنفس المنهجية؛ حيث اعتبروا أن العروبة انتماء قومي ضيق بينما الإسلام انتماء حضاري أوسع؛ و قد انتشرت هذه الدعوى بشكل أوضح في الأقطار العربية المتسمة بتعدد عرقي؛ حيث تم الارتكاز على هذه الفكرة لنفي البعد العربي للإسلام؛ مستدلين في ذلك بالآية ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات / 13 .) لقد تم تشويه الحقيقة في المشروعين معا؛ و تمت التضحية بجوهر الحضارة العربية الإسلامية؛ خدمة لأجندة سياسوية رخيصة؛ في الأخير؛ و نحن هنا لا نميز بين الإسلاميين و القوميين؛ لأنهما معا أسسا لمشروعهما الفكري و السياسي على أساس رد الفعل؛ من دون استحضار العمق الحضاري للإسلام في اتصاله بالعروبة؛ و كذلك من دون استحضار العمق الحضاري للعروبة في اتصالها بالإسلام؛ و ذلك باعتبارهما معا وجهين لعملة واحدة؛ لم ينفصلا منذ القرن السابع الميلادي. و يعود سبب هذا التشويه؛ إلى الخلط المنهجي (المقصود) الذي وقع بين العروبة كانتماء عرقي ضيق؛ ارتبط بسكان الجزيرة العربية خلال المرحلة ما-قبل الإسلامية؛ و بين العروبة كانتماء حضاري ثري و متنوع؛ ساهمت في بنائه شعوب مختلفة؛ أبدعت في مجال الأدب و الفلسفة و العلوم الدقيقة... بلسان عربي فصيح و بمتخيل عربي واسع الأفق . لقد حيكت مؤامرات كثيرة؛ سواء في الماضي البعيد أو القريب؛ لفصل العروبة عن الإسلام. فمن جهة؛ حاول الفرس خلال العهد العباسي و كذلك الأتراك خلال المرحلة العثمانية؛ إقصاء المكون العربي. و من جهة أخرى؛ حاول المسيحيون العرب و مختلف التيارات الليبرالوية و اليساروية؛ باعتماد مفهوم مشوه للعلمانية؛ إقصاء المكون الإسلامي؛ معتبرين أن العروبة مكون حضاري مستقل بذاته. لكن تجارب التاريخ؛ تؤكد أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل؛ و ظل الإسلام مرتبطا بالعروبة؛ ليس من خلال اللغة فقط؛ و لكن كذلك من خلال الفكر الإسلامي الذي تشكل عبر القرون؛ و ظل يمتح باستمرار من معين العروبة؛ كرؤية للعالم تحضر بقوة في الفكر والإبداع و الممارسة كذلك. و هذا يطمئننا؛ طبعا؛ على مصير هذه العلاقة المتشابكة بين العروبة و الإسلام مستقبلا؛ لأن أي مشروع فكري/سياسي يسعى إلى الفصل بين المكونين؛ سيكون مصيره الفشل الذريع؛ كما حدث مع باقي التيارات الفكرية/السياسية المؤدلجة؛ و هذا ما سيتكرر مع التيار الإسلامي الحركي؛ إذا لم ينتبه إلى خطورة هذا النوع من اللعب بالنار . 2- في نقد الإيديولوجية الشعوبية 2-1- في التجسيد القديم للشعوبية جاء في لسان العرب لابن منظور: الشعوبي؛ الذي يصغر شأن العرب و لا يرى لهم فضلا على غيرهم. (2) و جاء في الموسوعة البريطانية(3): الشعوبية كل اتجاه مناوئ للعروبة anti-arabisme. و قد سارت جميع التعاريف في نفس هذا الاتجاه الدلالي؛ باعتبار الشعوبية؛ قد ظهرت في البداية كثورة و تمرد على الطابع العربي للإسلام. و حتى نكون أقرب إلى الموضوعية يجب أن نقر؛ أن الشعوبية ظهرت في أجواء من التوتر بين المكون العربي؛ و بين ما أطلق عليه (الموالي)؛ باعتبارهم المسلمون من غير العرب؛ هؤلاء الذين تم تهميشهم خلال المرحلة الأموية؛ التي عرفت عودة النزعة القبلية الضيقة؛ كنزعة حاربها الإسلام حينما ساوى بين جميع المسلمين. لكن ما يجب آن نقر به أيضا؛ هو أن هذه النزعة القبلية الضيقة لم تكن موجهة ضد الموالي من غير العرب فقط؛ بل تجاوزتهم إلى العرب من غير قبيلة قريش؛ بل و أكثر من ذلك؛ ضاقت الدائرة أكثر و تم تهميش الهاشميين رغم انتمائهم القرشي؛ و رغم انتمائهم لسلالة الرسول (صلعهم). غير أن استيلاء الأمويين على السلطة؛ و تحويل نظام الحكم إلى ملك متوارث؛ ساهم أكثر في تأليب الشعوب؛ قريبة العهد بالإسلام على العرب؛ و قد كان الفرس على قائمة هذه الشعوب حيث لم يخفوا؛ منذ البداية؛ نزعتنهم للمشاركة في نظام الحكم و الاستفادة من الكعكة. لذلك؛ وجدوا في الدعوة الجديدة؛ التي تعارض نظام الحكم الأموي القائم؛ فرصة ذهبية لتشكيل تصور سياسي بديل؛ يمكنهم من الانخراط في نظام حكم بديل عملوا على بلورته؛ فيما بعد؛ عبر تشكيل معارضة قوية. و لعل ما يؤكده التاريخ هو أن العباسيين؛ في صراعهم ضد بني أمية؛ استغلوا الجنس الفارسي؛ مستثمرين في ذلك تلك الحرب الشرسة التي شنها الأمويون على الأجناس غير العربية في الدولة الإسلامية؛ و ذلك لتحقيق حلم الانتصار بعد صراعات دامية دارت رحاها بين الطرفين. و لذلك؛ نجد (أحمد أمين) (4) يذهب في اتجاه تأكيد هذه العلاقة؛ بين التشيع و الشعوبية بقوله: وأما التشيع فقد كان عش الشعوبية الذي يأوون إليه وستارهم الذي يتسترون به . و هذا الاتجاه هو ما يؤكده المفكر الإيراني/الشيعي (علي شريعتي) في كتابه( التشيع العلوي والتشيع الصفوي) (5) : (وبغية ترسيخ أفكارها وأهدافها في ضمائر الناس وعجنها مع عقائدهم وإيمانهم، عمدت الصفوية إلى إضفاء طابع ديني على عناصر حركتها وجرها إلى داخل بيت النبي، إمعاناً في التضليل لتتمخض عن ذلك المسعى حركة شعوبية شيعية مستغلة التشيع، لكي تضفي على الشعوبية طابعا روحيا ساخنا، ومسحة قداسة دينية، ولم يكن ذلك الهدف الذكي متيسراً إلا عبر تحويل الدين الإسلامي وشخصية محمد عليه الصلاة والسلام وعلي رضي الله عنه إلى مذهب عنصري وشخصيات فاشية، تؤمن بأفضلية التراب والدم الإيراني والفارسي منه على وجه الخصوص) . لكن؛ و رغم ارتباط الشعوبية بالفرس؛ فإنها لم تقتصر عليهم وحدهم؛ بل تجاوزتهم إلى الأتراك كذلك؛ إبان المرحلة العثمانية؛ حيث استغلوا سيطرتهم على معظم أرجاء العالم الإسلامي؛ و حاولوا نقل مركز الاستقطاب الحضاري نحو البعد التركي؛ مضحين بذلك؛ بقرون من الامتداد الحضاري؛ حيث ارتبطت العروبة بالإسلام دائما . 2-2- ما بين الشعوبية القديمة و الشعوبية الجديدة جاء في كتاب للمفكر الفرنسي (فرانسوا بورغا)؛ أن العروبة مرت من مرحلة التمسك بها دون قيد أو شرط (..) إلى رفضها الصريح من جانب تيار الإسلام السياسي. (6) و هذا الرأي الأكاديمي يؤكد الواقع الحقيقي؛ في علاقة الإسلام بالعروبة في المشروع السياسي للحركة الإسلامية؛ خصوصا و أن هذا المشروع ينطلق من رصيد تاريخي؛ يبدأ مع الجماعة الإسلامية؛ التي أسسها أبو الأعلى المودودي في الهند؛ و قد تم تأكيد هذا الطابع؛ بعد نجاح الثورة الخومينية في إيران. و سواء مع المودودي أو مع الخوميني؛ فقد كان التوجه واضحا لفصل الإسلام عن امتداده الحضاري العربي؛ بادعاء أن الإسلام دين و أن العروبة قومية/عرق؛ لكن الحقيقة التي يعمل هؤلاء على محاولة مواراتها هي انطلاقهم؛ أنفسهم؛ من زاوية عرقية ضيقة؛ تسعى إلى تزوير التاريخ؛ حينما تنتقل بالعروبة من تشكل حضاري ساهمت في بنائه قوميات و أعراق مختلفة؛ إلى تشكل قومي/عرقي ضيق؛ في ارتباط بالمرحلة ما قبل الإسلامية؛ قبل أن ترتبط خلال القرن السابع الميلادي بالإسلام؛ و تنفصل عن بعدها العرقي . إن هذا المسار هو الذي تحكم؛ في الأخير؛ في تشكيل اتجاه الحركة الإسلامية في العالم العربي؛ و قد ساعد على ذلك؛ أكثر؛ تنامي المد القومي؛ الذي اتخذ بعدا علمانويا؛ حاول تهميش البعد الديني/ الإسلامي في الثقافة العربية. كل هذه العوامل ساعدت؛ في الأخير؛ على خلق نوع من التوتر بين العروبة و الإسلام في مشروع الحركة الإسلامية؛ حيث حدث نوع من الخلط بين العروبة كبعد ثقافي و حضاري؛ و بين الإيديولوجية القومية/البعثية؛ التي استثمرت العروبة؛ كرأسمال سياسي للوصول إلى الحكم؛ و فرض مشروعها في الهيمنة على الشعوب العربية؛ باعتماد شعارات تروج للأصالة العربية. يحاول شيخ جماعة العدل و الإحسان في المغرب أن يقيم توترا وهميا بين العروبة و الإسلام؛ محاولا ربط محاولته بالتيار القومي؛ و هذه عملية تبريرية لا جدوى منها: ( إن العروبة في محنتها التاريخية الحاضرة؛ و هي محنة المسلمين؛ تتشبث باللغة العربية كما يتشبث الغريق بيد منقذه؛ فعليها معولهم و إليها مرجعهم من كل خيبة؛ بها و منها النهضة؛ و بها الحياة و البطولة؛ لسر عظيم يقدرونه لها؛ كما نؤمن نحن بالله عز و جل و تأييده ) (7). قد نستغرب لهذه المقارنة التي يقيمها الشيخ بين العربية من جهة و الله من جهة أخرى؛ لكن الأمر يتضح أكثر؛ حينما نفهم أن الشيخ يقود حربا دونكشوطية ضد العروبة؛ محاولا فصل الإسلام عنها؛ و لكي يغطي على موقفه؛ فهو يربط بشكل أوتوماتيكي بين العروبة؛ كلغة و حضارة؛ و بين العروبة كقومية ضيقة؛ و هذا لا يستقيم؛ إلا من منظور إيديولوجي ضيق؛ هو الذي قاد الشيخ في استنتاجه؛ كما قاد تيار الحركة الإسلامية. و كنتيجة لهذا الخلط؛ فقد حاولت تيارات الحركة الإسلامية في العالم العربي؛ خلق نوع من الشعوبية الجديدة؛ و خصوصا في بعض الدول التي تعرف تنوعا عرقيا؛ حيث عملت على ترويج بعض الأفكار المغلوطة؛ حول انفصال الإسلام عن العروبة. و لعل آخر حدث يمكن أن نستدل به؛ على هذا التشويه المقصود؛ هو ما وقع في اجتماع وزراء خارجية دول المغرب العربي؛ باعتباره أول اجتماع يضم وزراء يمثلون الحركة الإسلامية (المغرب-تونس)؛ و خلال هذا الاجتماع استغل الوزير المغربي (الإسلامي) فرصة اللقاء ليطرح على الطاولة مقترحا في غاية الغرابة و بشكل متسرع للغاية؛ و ذلك عبر اقتراح استبدال (اتحاد المغرب العربي) ب (الاتحاد المغاربي)؛ و هذا المقترح لا يعبر سوى عن رغبة في اغتنام أول فرصة؛ بهدف تغيير المسار؛ أو بالأحرى رد الدين للتيار القومي/البعثي؛ و كأن الانتماء للعروبة يعني الانتماء للمشروع القومي/البعثي . إن تركيزنا على موقف الحركة الإسلامية في المغرب؛ من علاقة الإسلام بالعروبة؛ لا يعني أن موقف باقي التيارات الإسلامية في العالم العربي كان مختلفا؛ بل يمكن أن نقرر؛ أن هناك موقف واحد هو الذي تحكم في معظم؛ إن لم نقل كل؛ تيارات الحركة الإسلامية؛ و هو موقف لا يستجيب للتوازن و الوضوح الفكري بل تحكمت فيه؛ إلى ابعد الحدود؛ مصالح سياسية ضيقة؛ في صراع حركات الإسلام السياسي مع التيار القومي؛ سواء في مصر الناصرية أو في سوريا البعث؛ و هو صراع دموي و عنيف؛ أودى بالكثير من رموز الحركة الإسلامية؛ و هذا الصراع ذو بعد سياسي/إيديولوجي؛ لا دخل للعروبة كامتداد حضاري فيه. لذلك؛ نرجو أن تتجاوز الحركة الإسلامية موقف رد الفعل هذا؛ و أن تسعى إلى استعادة التوازن الفكري المطلوب؛ عبر إعادة تقييم العلاقة بين الإسلام و العروبة؛ و ذلك من منظور أن العروبة امتداد حضاري؛ ساهمت في بنائه قوميات و عرقيات مختلفة؛ و ليست انتماء قوميا/عرقيا ضيقا؛ كما صاغه التيار القومي/البعثي المؤدلج . 3- في نقد النزعة القومية/البعثية إذا كان التيار القومي العربي قد فكر و ناضل من أجل بناء الوحدة العربية؛ فإنه تصور هذه الوحدة من منظور علماني (فصل الدين عن الدولة)؛ و هذا يعطينا صورة حقيقية عن العلاقة بين العروبة و الإسلام ضمن هذا المشروع؛ خصوصا و أن العلمانية قد اتخذت بعدا إيديولوجيا؛ في علاقة بالتصور الماركسي للدين من جهة؛ و كذلك في علاقة بالتصور العلمانوي الفرنسي/الأتاتوركي من جهة أخرى . في حديثه عن علاقة الدين بالدولة في الخطاب السياسي العربي؛ يؤكد الأستاذ محمد عابد الجابري؛ أن الخطاب الليبرالي العربي انطلق من شعار (فصل السلطة الروحية عن السلطة المدنية) في دولة الغد؛ دولة النهضة لينتهي به الأمر إلى البحث في دولة الأمس؛ بهدف إعادة ترتيب العلاقة بين العروبة و الإسلام في التاريخ العربي. (8) و يفسر الأستاذ الجابري هذه العلاقة بقوله: ( على أن قضية العلاقة بين العروبة و الإسلام لم تطرح فجأة و لا جاءت متأخرة بهذا الشكل (..) بل يمكن القول إنها كانت الوجه السياسي المباشر لقضية العلاقة بين الدين و الدولة؛ كما طرحت في أواخر القرن الماضي و أوائل هذا القرن تحت حكم الإمبراطورية العثمانية. (9) إن تحليل الأستاذ الجابري؛ في الحقيقة؛ يدفعنا إلى إعادة النظر في مجموعة من القضايا التي كان المشروع القومي يتعامل معها باعتبارها مسلمات؛ سواء تعلق الأمر بقضية العلمانية؛ أو بقضية العلاقة بين العروبة و الإسلام. فنحن نتحدث عن مشروع؛ قام على أساس رد الفعل؛ من دون أن يكون نتيجة بناء فكري رصين أو قراءة سياسية عميقة للواقع العربي؛ و هذا ما يفسر موقف الأستاذ الجابري من العلمانية في الثقافة العربية؛ لأنه لم يكتف بالضجيج الذي أثير حول المفهوم؛ و لكنه تجاوز ذلك إلى البحث في علاقته بالتوجهات الإيديولوجية السائدة. لقد كان التيار القومي؛ بجناحيه الليبرالي و اليساري؛ يفكر في العلمانية؛ من منظور فك ارتباط العروبة بالإسلام؛ و هذا ليس موقفا فكريا مؤسسا؛ بل هو موقف سياسي؛ تحكمت فيه نزعة استقلالية؛ في علاقة بالإمبراطورية العثمانية؛ و ذلك بهدف تشكيل كيان عربي مستقل. و لعل هذا الاتجاه هو نفسه الذي تحكم في باحث سياسي كبير مثل (فرانسوا بورغا) الذي يؤكد أن العروبة؛ بدأت تبتعد شيئا فشيئا عن إطارها المرجعي الديني؛ و يرجع ذلك؛ في نظره إلى مجموعة من العوامل: - استخدامها في التعبئة ضد السيطرة الدينية/ العثمانية - مشاركة الصفوة المسيحية فيها. - ارتفاع العروبة إلى مستوى خطاب الدولة مع الناصرية و كذلك بعد وصول حزب البعث السوري إلى السلطة.(10) إن مجموع هذه العوامل؛ هي التي يمكنها أن تفسر العلاقة المتوترة التي أقامها التيار القومي؛ بين العروبة و الإسلام؛ و هي عوامل سياسية؛ بالدرجة الأولى؛ يغيب عنها أي حس فكري؛ و إذا نظرنا إلى خطورة النتائج؛ يمكننا أن نفهم جيدا كيف تم التقرير في قضايا حضارية جد حساسة؛ باعتماد نزعة إيديولوجية متهافتة؛ تقوم على أساس (البريكولاج) مع غياب أي حس استراتيجي. و هذا ما أن يفسر طبيعة هذه القرارات السياسية الفجة و المتسرعة؛ و التي تحولت؛ باعتماد الضغط العسكري؛ إلى نظرية فكرية يروج لها كبار دهاقنة أحزاب البعث. لقد تغافل القوميون العرب؛ في صراعهم ضد الإمبراطورية العثمانية؛ الامتداد الحضاري العميق الذي ربط العروبة بالإسلام؛ على امتداد أربعة عشر قرنا؛ و لذلك فقد كانوا يهددون الأمن الروحي و الفكري و الاجتماعي و السياسي... للشعوب العربية/الإسلامية؛ حينما حاولوا فصلها عن جذورها الحضارية التي تمدها بالحياة؛ و كأن أوربا؛ باعتبارها النموذج الذي سعى هؤلاء إلى استنساخه في العالم العربي؛ يمكنها أن تنفصل يوما عن امتدادها الحضاري المسيحي؛ بدعوى القومية و العلمانية. لقد صيغت الهوية العربية؛ على امتداد قرون؛ من خلال التداخل و الامتزاج بين العروبة و الإسلام؛ و غياب هذا الوعي عن الحراك الفكري و السياسي القومي؛ هو الذي أفشل جميع المشاريع الفكرية و السياسة. إن الفكر القومي؛ بجناحيه اليساري و الليبرالي؛ و هو يخطط للعلمانية في الثقافة العربية؛ كان يكتفي باستنساخ النموذج الفرنسي المسيحي على شاكلة أتاتورك في تركيا؛ و لذلك فإنه نظر إلى العلاقة بين العروبة و الإسلام؛ كمدخل لاستمرارية نموذج الدولة الدينية؛ و لتحقيق الرهان العلماني يجب الفصل بين المكونين. و هذا ما يقره الأستاذ الجابري؛ حينما يقول: (إنها العلمانية؛ التي تطل برأسها عاليا من خلال حرص الخطاب القومي على فك الارتباط تاريخيا؛ بين العروبة و الإسلام). (11) و لذلك؛ يمكن أن نعتبر أن التيار القومي قد وقع في خطأ منهجي مزدوج: - من جهة؛ في علاقة بمفهوم العلمانية ذاته؛ الذي لم يتجاوز تلك الشحنة النفسية العدائية ضد المكون الديني؛ باعتباره أفيون الشعوب من منظور ماركسي مذهبي؛ أو باعتباره ترسيخا لسلطة رجال الدين (الإكليروس) من منظور فرنسي. و هذا ما يطلق عليه الأستاذ محمد أركون (العلمانوية) laïcisme باعتبارها تجربة ارتبطت بالثورة على الإكليروس؛ الذين كانوا يوظفون سلطة الكنيسة لفرض هيمنتهم على الدولة و المجتمع؛ و لذلك كان رد الفعل ضد الدين عنيفا؛ بحيث تم تهميشه في الحياة المدنية؛ و هذا النموذج هو الذي اعتمده أتاتورك في تركيا؛ و حاول الفكر القومي استنساخه في العالم العربي. و لذلك ينطبق عليه ما قاله الأستاذ أركون في حق النموذج التركي: إن تجربة تركيا العلمانوية قد ذهبت بعيدا في جرأتها؛ لكنها لم تكن في الواقع إلا (كاريكاتيرا) للعلمنة؛ رافقته بعض التطرفات؛ كما حدث في فرنسا سابقا؛ لكن الشعب التركي لم يستجب لهذه التجربة التي دوخته؛ مما يفسر العودة الدينية العنيفة" (12) - و من جهة أخرى؛ في علاقة الثقافة العربية بالدين الإسلامي؛ وهي العلاقة التي شكلت لقرون الهوية العربية/الإسلامية. و الخطأ المنهجي الفادح الذي وقع فيه القوميون؛ هو محاولتهم تفكيك هذه الهوية المنسجمة؛ و فصلها إلى ما هو عربي و ما هو إسلامي؛ و كأن كل جماعة اجتماعية بإمكانها أن تصوغ رؤيتها للعالم و نموذجها الفكري le paradigmeعلى مقاسها الخاص؛ حيث تدمج ما تريد و تقصي ما لا تريد. و هذا إن دل على شيء فإنما يؤكد؛ أن الإيديولوجية أخطر أفيون على الشعوب؛ يمكنها أن تبني الحقائق بطريقتها الخاصة؛ حتى و لو كان هذا البناء لا يستجيب لأبسط مقومات التنظيم الهندسي . و بالنظر إلى هذا التهافت المنهجي؛ الذي وقع فيه الفكر القومي؛ فإن كل ما أنتج من خطاب فكري و كل ما وقع من ممارسة سياسية؛ في علاقة بقضية الانفصال بين العروبة والإسلام؛ يعتبر جزءا من هذا التصور المنهجي الفاسد؛ و ذلك لأن المكونين معا؛ ظلا لقرون بمثابة ركنين مؤسسين للهوية العربية الإسلامية؛ و لم ينفصلا رغم قوة المؤامرات التي حيكت منذ قرون و ما زالت إلى حدود اليوم . لقد وضع الأستاذ محمد عابد الجابري أصبعه على مكمن الجرح؛ حينما تنبه إلى الخلل الذي اعترى المشروع القومي العربي؛ بطموحاته الليبرالية و اليسارية؛ سواء في علاقة برهان العلمانية أو في علاقة برهان العدالة الاجتماعية؛ و ذلك لأن هذا المشروع لم يكن على تمام الوعي بالعلاقة المتشابكة بين العروبة و الإسلام؛ و من ثم فإنه كان يبحث عن حتفه من دون وعي منه؛ حينما فكر في إقصاء الإسلام؛ كمكون أساسي من مكونات الهوية العربية؛ باعتماد تأويل إيديولوجي متهافت لمفهوم العلمانية؛ في علاقة بالأدبيات الماركسية المصكوكة؛ أو في علاقة بتصور الثورة الفرنسية؛ الذي لا يمكن تعميمه على جميع الشعوب و الأمم . - على سبيل الختام : إننا و نحن نسعى إلى مقاربة إشكالية العلاقة بين العروبة و الإسلام؛ من المنظورين القومي/البعثي و الإسلامي/الحركي؛ لم نكن نسعى لزرع بذور الشقاق بين التيارين؛ لأننا على وعي تام بطبيعة العوامل الذاتية و الموضوعية التي خلقت هذا التوتر. و لكن؛ كنا نراهن؛ بقوة؛ على الدينامكية الجديدة التي خلقها الربيع الديمقراطي العربي؛ و التي بإمكانها أن تدفع التيارين معا إلى مراجعة تصوراتهما؛ بخصوص العلاقة بين العروبة و الإسلام في مشروعيهما؛ و ذلك من منظور تصالحي؛ في منأى عن أي نوع من التفكير- عبر رد الفعل؛ كنموذج إيديولوجي مهلهل لا يمكنه أن يقاوم حركية الفكر و التاريخ . لقد آن الأوان اليوم؛ لكي يتحول التيار الإسلامي إلى خدمة أجندة في صالح وطنه و أمته؛ من منظور استراتيجي واضح المعالم؛ لأن الشعوب العربية التي قادته إلى السلطة؛ في انتخابات حرة و نزيهة؛ لا يمكنها أن تقبل الطابع الشعوبي الذي ميز مشروعه لعقود؛ لأن هذه الشعوب لا تميز بين العروبة و الإسلام؛ بل تعتبر المكونين معا وجهين لعملة واحدة. و في نفس الآن؛ يجب على التيار القومي أن يراجع مشروعه الفكري/السياسي؛ في اتجاه ربط العروبة بالإسلام؛ و هذا يفرض مراجعة شاملة لمفهوم العلمانية الذي تبناه؛ لعقود؛ بتأثير من الفكر الماركسي أو بتأثير من النموذج العلمانوي الفرنسي/الأتاتوركي. كما يفرض مراجعة العلاقة بين العروبة و المكون الديني/الثقافي المسيحي الذي أثر بشكل عميق في نسج خيوط الإيديولوجية القومية. إن أحداث الربيع الديمقراطي العربي؛ تفرض بقوة مثل هذه المراجعات؛ خصوصا و أنها أبانت بشكل واضح و مباشر؛ عن الروح العربية/الإسلامية؛ التي وجهت الجماهير العربية؛ في مطالبتها بالحرية و الديمقراطية؛ و نحن لا نرى أي تناقض؛ بين خروج المظاهرات من المساجد و ارتباط أضخمها بيوم الجمعة؛ و بين ارتباط هذا المد الثوري بالعالم العربي؛ مشرقا و مغربا؛ حيث ساهمت الثقافة و اللغة المشتركة؛ في نقل لهيب الثورة من قطر عربي إلى آخر . الهوامش: 1- عبد السلام ياسين – الإسلام و القومية العلمانية – دار البشير للثقافة و العلوم الإسلامية- ط2 - 1995 ص: 9 2- ابن منظور – لسان العرب – لفظة شعوبي 3- أنظر": الموسوعة البريطانية 4- - أحمد أمين - ضحى الإسلام ج1- مكتبة النهضة المصرية – ط: 7 - ص: 62 5- علي شريعتي التشيع العلوي والتشيع الصفوي- ترجمة و تحقيق: حيدر مجيد- دار الأمير للثقافة و العلوم- ط: 2 - 2007 - ص: 122 6- فرانسوا بورغا – الإسلام السياسي صوت الجنوب- ترجمة: د. لورين زكرى – نشر: دار العالم الثالث – ط: 2 – 2001 - ص: 10 7- محمد عابد الجابري- الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية-مركز دراسات الوحدة العربية – ط: 5- 1994: 74 8- نفسه – ص: 74 9- فرانسوا بورغا – الإسلام السياسي صوت الجنوب – المرجع السابق ص: 49 -50. 10- محمد عابد الجابري – الخطاب العربي المعاصر – المرجع السابق - ص: 77 11- محمد أركون – تاريخية الفكر العربي الإسلامي – ترجمة: هاشم صالح – المركز الثقافي العربي – ط: 2 – 1996- ص: 278 *كاتب و باحث أكاديمي