ماذا تعني اليوم مفاهيم كالعروبة والقومية العربية والذات العربية والعقل العربي؟ ألا يمكن اعتبارها مفاهيم كانت، في يوم ما من التاريخ السياسي للمجتمع العربي، رهينة تضخيم إيديولوجي قومي، خصوصا بعد عصر النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر وريح القومية العربية الذي تقوى مع التيارات الناصرية والبعثية والأنظمة العسكرية الاشتراكية بالعديد من الأقطار العربية؟ أليس حريا بنا، اليوم، إعادة مساءلة قضية القومية بعد هذه الحركات الثورية التي تعرفها العديد من الدول العربية (من أقصى الغرب العربي إلى أدنى الشرق)؟ وإذا كانت المساءلة مشروعة من الناحية السياسية، على اعتبار إعادة تركيب بعض الأنظمة السياسية أو إعادة تلوينها، فما هي الأدوات السوسيولوجية والمفاهيم التي من الضروري إعادة صياغتها، حتى يتسنى للعلم والمعرفة أن تعرف وتفسر ما حدث وتتنبأ بما سيحدث في المجتمعات العربية؟ من هو الإنسان العربي في آخر المطاف؟ وما هي البنى الاجتماعية والرمزية الجديدة الممكن بناؤها على أنقاض ما تم تشييده طيلة عقود مما كان يصطلح عليه «العالم العربي الإسلامي»؟ والسؤال الأخير يفضي، منطقيا، إلى طرح أسئلة أكثر دقة وأكثر خطورة: ما هي المقومات الحاسمة لبناء مجتمعات عربية حداثية؟ وما موقع الدين فيها؟ وموقع المرأة؟ وموقع السلطة وأساليب ارتكاسها الجديدة والحتمية؟... مفهوم الهوية العربية وإعادة تقدير مواقع اللغة والدين يعد مفهوم الهوية من بين المفاهيم التي تم الاستثمار على تخصيبها على امتداد عقود طويلة عرفت سجالا في الساحة الثقافية العربية بين تيارات متنافرة ومتضاربة، منها تيارات الفكر الهوياتي العربي الإسلامي، على اعتبار اللغة والدين من بين أبرز المحددات الكبرى والنهائية لما يمكن أن نصطلح عليه «المقومات الهوياتية المشترَكة للذات العربية» (الجابري، طرابيشي، شرابي وغيرهم)، والتيارات الفكرية (التي يعتبر محمد أركون وعبد الله العروي من روادها)، والتي عارضت بشدة المقاربة المركزية والأرثوذوكسية للذات العربية التي ربطت سياسيا (وليس ثيولوجيا) شيئا اسمه الهوية العربية بالمركب الديني واللغوي وقلصت كل الهوامش الأنثروبولوجية والإنسانية الأخرى، وهو التيار الفكري التصحيحي للذات والفاعلية العربية، الذي سعى إلى تحليل المجتمع العربي ومكوناته (اللغة -الدين -البنيات الاجتماعية والسياسية) وفق منهج تاريخاني يعطي للحدث التاريخي (ولو كان حدثا دينيا أو سياسيا) معناه التاريخي في إطار السياق والفاعلية والجدلية التاريخية والبنيات الاجتماعية التي أفرزته وفي إطار علاقات السلطة المتحكمة في حدوثه، وكلها مقومات تحليلية تُسقِط القداسة عن الحدث التاريخي وتضع كل حدث تاريخي عربي محط تحليل تاريخاني يبحث عن العلل المادية والموضوعية والمصلحية (السياسية) لحدوثه وتطوره وزواله (دورة ابن خلدون). وبالنظر إلى مختلف الاتجاهات الفكرية في تحليل الذات العربية، ما هي أهم المقولات الهوياتية التي هي اليوم موضع نقد إبستمولوجي؟ أهم المقولات هي ارتباط الهوية العربية باللغة. وقد تم دائما استثمار جهد هوياتي لقرون في اتجاه منح القداسة للغة العربية، ربما بفعل عوامل تاريخية موضوعية، كنزول الدين عربيا وبزوغ مشروع الأمة الإسلامية عربيا ونجاح الحقبة الأولى من الفتوحات الإسلامية ذات المتون العربية. فتعريب المجتمع الإسلامي والمجتمعات الأخرى المحايثة له كان بمداخل دينية قوية، قبل أن تتلوها المداخل السياسية المتعاقبة، كمدخل دولة الخلافة، ثم مدخل الدولة القومية العربية لمناهضة الاستعمار ومناهضة لغته (تقوية تعريب المؤسسات في الدول العربية بعيد الاستعمار). وقد تم تشكيل هذا الوعي الهوياتي بأبعاد ثلاثة متساوقة، فهناك البعد الديني والبعد اللغوي والبعد السياسي (دولة الخلافة وإمارة المسلمين)، وهي الأبعاد المشكلة لكل وعي هوياتي عربي إلى حد اليوم، حيث نما وتطور هذا الوعي دائما وفق اتجاه مركزي، ولقرون، باعتباره وعي بذات عربية تنطق بلغة لها مقومات دينية قدسية لخدمة نظام له أهداف دينية بحتة (نشر الدعوة وإحداث إمارة مسلمة). ولترسيخ مقوم الهوية اللغوية، تم استحداث العديد من الوظائف المؤسساتية لتقوية مركزية اللغة العربية داخل المجتمع العربي. فبعد القرآن الكريم (ككتاب مقدس وكمنهاج للحياة والحكامة) وبعد مجالس الشورى والقضاء (لأن اللغة العربية هي لغة أولى المؤسسات القضائية والاستشارية والعسكرية والمالية لبلاد الإسلام الناشئة)، جاءت أداة ترجمة الفكر اليوناني والفارسي إلى العربية كجسر للانفتاح واكتساب سلطة المعرفة المفضية إلى ممارسة السلطة السياسية (أغلب القضاة والنواب والمستشارين كانوا من القضاة والأطباء والفلاسفة المتكلمين). وهو العامل الذي قوى مؤسسات الإفتاء والاستشارة وقوى معها مكانة اللغة العربية كلغة لمؤسسات السلطة السياسية (الممارسة دينيا). وبعد حقبة انحطاط الحضارة العربية، التي دامت تقريبا من القرن ال12 إلى القرن ال19، وقع ما أسماه محمد أركون اضمحلالا شديدا إلى مستوى الانقراض لمستوى الوعي بالذات العربية. ولعل أهم شيء سيتحقق مع عصر النهضة مع محمد عبده والطهطاوي والكواكبي وأرسلان وغيرهم هو بالضبط إعادة تشكيل هذا الوعي العربي بالذات. وسيلعب الآخر -غير العربي- دائما دور المرآة العاكسة للذات. وسيكون لهذه «الآخرية» (التي وعت بها الذات العربية المتعلمة مع الأوربي المستعمِر) دور حاسم في ترسيخ مقومات الهوية الأصلية، والتي هي اللغة والدين. فالاستعمار الأوربي لبقاع عديدة من المنطقة العربية ساهم -عكس ما كان متوقَّعاً- في انسداد فتحات عديدة من التماهي مع الغرب وأقفل كل إمكانيات بناء تيارات فكرية قوية لنقد التراث. وقد حاول كثير من المفكرين العرب استلهام مناهج الفكر الغربي العلمي التاريخي (الذي اكتسبته أوربا قرونا من قبل) وإسقاطه على قراءة التراث العربي الإسلامي، لكن سلطة المنع والمقاومة كانت شديدة (أشهر مثال هو ما وقع لطه حسين ومن بعده حسين مروة ومحمد أركون). لكنْ، اليوم، ماذا تعني الهوية العربية الإسلامية؟ وهل الثورات السياسية الحالية التي عرفتها مصر على الخصوص (باعتبار دورها القومي الريادي) هي إشارة إلى تجدد وعي هوياتي جديد؟ ما من شك في أن الثورة ضد المستعمر -التي خاضتها الشعوب العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي- كرست الهوية اللغوية والدينية (بمستويات انتماء مرتفعة) وهو الوعي الذي خدم في بناء الأنظمة السياسية العربية الحديثة التي كانت جلها تدور في فلك العروبة والإسلام والوحدة والقومية، والتي تشكل امتدادا إيديولوجيا لعصر النهضة. اليوم، وبعد استنفاذ صلاحية العديد من هذه الأنظمة الحاكمة (باسم القومية والعروبة والدين)، هل تتجه المجتمعات العربية إلى تشكيل وعي هوياتي بديل؟ تحتاج الثورات إلى رموز من أجل تغذية فتيلها، ولم تُستعمَل لا في تونس ولا في مصر ولا في اليمن ولا في ليبيا رموز لها بعد ديني... فكلمة «dégage» أصبحت رمزا، والعلَم المصري رمز، والياسمين أو الزيتون رمز والبوعزيزي رمز، وليبيا تسترجع العلم السنوسي الملكي كرمز للثورة... والوصلات التلفزية الدعائية للثورة المصرية تستعمل بُعدَ حوار وتلاقي الأديان والمصالحة مع الأقباط ، كما تتم اليوم مصالحة كبيرة مع الشباب باعتبارهم حاملين لهوية عربية جديدة... وهناك من التحليلات التاريخية ما يعتبر أن خروج الشرارات الأولى لهذه الثورات من بلد علماني كتونس سيكون له أثر بقعة الزيت على باقي الدول الثائرة، لأن لكل المطالب صفات مؤسساتية وعلمانية واضحة تستلهم قيم الممارسات الديمقراطية اليوم (كسمة الانتخاب ومصداقية ممارسة السلطة وأهمية المحاسبة والتقييم). هناك طرح تاريخي وجيو -سياسي آخر يبرز أهمية التدخل الأجنبي لتفادي سقوط الأنظمة العربية في سلطة الحكم الديني، وهو ما سيساعد في إرساء أنظمة بديلة (تونس ومصر) ستكون علمانية أكثر، مع إعطاء فرص وافرة للتيارات السياسية الإسلامية للمشاركة وتسيير الشأن العام، وهو ما سيضعها في مواقع محاسبة شعبية هي أيضا، وبالتالي الخروج من حيز القدسية وسياسة «الأيادي البيضاء». سيسمح إصلاح الدولة ومحاربة الفساد واسترجاع الثروات وتوازن تقسيمها ومحاسبة الحاكمين ودمقرطة الممارسات السياسية بتشكيل نخب جديدة وخطابات سياسية جديدة ستكون صانعة لوعي جديد بالهوية.، ففي الأزمات، تتطور الهويات الوطنية، حيث لم يحس الليبيون من قبل بوطنيتيهم إلا في هذه الفترة، حيث اللا وطن واللا سيادة (ويا لها من مفارقة). ويحس التونسيون بمخاطرة ومجازفة التركيز واليقظة، حتى يتم المرور بسلام إلى بناء أسس وطنية وديمقراطية تخدم مصالح كل التونسيين. ولم يكن المصريون يعتقدون أن بإمكان ثورتهم أن تمنحهم سلاح الديمقراطية الذي يمنحهم بالتالي قوة محاسبة البطش والعبودية... كلها معطيات تاريخية وسياسية جديدة ستجعل من الإنسان العربي مركزا أكثر على معيشه وتحسين مؤشراته وتقليص الحجم الكبير -شديد الانتفاخ- للقومية والعروبة وتعويضه بالديمقراطية الوطنية، حيث لا قومية عربية إلا بعد انتهاء أوراش بناء الأوطان ديمقراطيا، وهو ما سيشكل وعيا بأهمية بناء هويات يكون قوامها الديمقراطية لا غير. مشروع العلمانية والحداثة في العالم العربي إذا كانت العلمانية هي تسيير شؤون المواطنين بالقوانين الوضعية وعدم استخدام الدين في السلطة والسياسة، فإن ولادة الممارسات العلمانية كانت -وستظل- عسيرة في الأوطان العربية، لأن الإسلام أولا هو دين للحكم أو ربما أصبح كذلك منذ وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بالرغم من مجهودات الرسول لإرساء أحد أهم الدساتير علمانية في التاريخ السياسي الإسلامي وهو دستور المدينة (الذي اختفى من وثائق بيت الإسلام من بعد)، وهو الدستور الذي جاء لمراعاة مصالح المسلمين والأقليات الأخرى، من يهود ونصارى، وضمان حقوقهم التجارية والشعائرية. وقد شكل دستور المدينة حدثا تاريخيا حداثيا آنذاك (محمد أركون). وبعد الحقبة الطويلة للإسلام السياسي -غير العلماني- جاءت حقبة القومية التي حاربت الاستعمار بالإسلام وبمقومات العروبة، وهو ما شكل الانكماش الحضاري العربي الثاني عن الذات (بعد الانكماش الأول بعيد وفاة الرسول) وهو كذلك ما شكل أولى عقبات إرساء نظام علماني (بالنظر إلى الأهمية المحورية للدين والعروبة). ولأن أغلب الأنظمة السياسية العربية تستمد مقوماتها وشرعيتها السياسية من الدين (ومن شجرات الانتماء إلى سلالة الرسول)، فإن منظومة ممارسة السلطة وفق مقومات علمانية كان ضربا من خيال. يسمح التحليل الميكرو -سوسيولوجي للمجتمعات العربية (تحليلات كيرمين تود وبرتراند بادي وغيرهما...) باستجلاء مقومات صغيرة ونووية لمنظومة حياتية علمانية، حيث المعيش اليومي الضيق غير مستدمج لا لفكرة العروبة ولا لفكرة القومية أو لفكرة محورية الدين، لكن بمجرد الصعود عموديا نحو المؤسسات (التي تصنعها السياسة) يتشكل خطاب القومية وتضمحل المناداة على إرساء العلمانية كنمط لممارسة السلطة. فجل الأحزاب السياسية والنقابات العربية تسطر في بياناتها وخطوطها السياسية على محورية الهوية الدينية لمجتمعاتها، ونجد في ديباجات مختلف الدساتير والقوانين التنظيمية في العديد من الأقطار العربية إشارات إلى محورية البعد الديني كمحور لممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. فما عدا الاستثناء التونسي، لا نجد آثارا لحرية العقيدة كحق فردي وكميزة لسلوكيات الدولة. الممارسات اليومية للشعوب العربية هي علمانية أكثر من السلوكات الرسمية للدول العربية نفسها. فما عدا بعض الاستثناءات (إيران والسعودية) تبقى الممارسات الدينية مؤطرة اجتماعيا وليس إيديولوجيا وتبقى المجتمعات العربية قابلة للاختلاط الإيجابي مع الآخر وتدفع الطبقات الوسطى التي تتشكل الآن دافعة لمزيد من مساحات التعبير والتسامح والديمقراطية. وكم هي كثيرة تلك التحليلات السوسيولوجية التي تقر اليوم بزيادة الحاجة إلى الديمقراطية وإلى آليات علمانية في ممارسة السلطة (تضمن الحياد الديني والقبلي والطبقي والسياسي) اطّرادا مع تشكل بورجوازيات عربية جديدة تواقة إلى الانفتاح أكثر على العالم والعولمة ولديها الوسائل الذاتية والطبقية الكفيلة بالدخول في المنظومة السياسية والاقتصادية العالمية (التي تسيرها العلمانية ابتداء من القرن ال19). وضعت عوامل الاتساع الطبقي الداخلي وعوامل التنميط المعولم الخارجي الأنظمة السياسية العربية في محك ومأزق تجديد وتطوير نفسها... وحيث إن حركية التاريخ حتمية، فإن من حكم لعقود بإيديولوجيا القومية أو بإيديولوجيا قداسة الانتماء العائلي سيُكتَب له إما أن يساير موجات الحداثة السياسية التي تعرفها دول العالم وإما الاندثار. والحداثة السياسية هي بالضبط تطوير آليات «تنخيب» (élitisation) الطبقات الوسطى المتعلمة وفتح مساحات كبيرة لدمقرطة ممارسة السياسية وتسيير الشأن العام. هذا هو عمق الحراك السياسي في العالم العربي اليوم.