لا أعرف شعباً يتبارى أبناؤه فى سب آبائهم وأجدادهم والتبرؤ منهم كما يفعل المصريون حين يتحدثون عن الحكام الطغاة المستبدين، فلا يجدون إلا الفراعنة أصلاً للطغيان ورمزاً له! والعجيب أن تعلو هذه النغمة الكريهة وتشيع بعد ثورة مجيدة استعاد فيها المصريون وعيهم، وفرضوا إرادتهم، واستردوا كرامتهم، وأسقطوا الطاغية الذى انفرد بالسلطة، وتشبث بها، وحوّل البلاد إلى ضيعة مستباحة له ولأهله وأعوانه. وبدلاً من أن تكون الثورة بداية لعهد جديد نرد فيه الاعتبار لمصر ونعتز بتاريخها المجيد العريق جعلناها مباراة فى سب آبائنا وإهانتهم واتهامهم بارتكاب جرائم لم نستطع حتى الآن أن نكتشف الذين ارتكبوها، ولم نستطع أن نعرف الأسباب التى توطئ للطغاة ظهورنا، وتمكنهم من رقابنا، وتجعلنا هدفاً دائماً للقهر والاستبداد. ولو أن تاريخ الفراعنة كان لايزال مجهولاً كما كان شأنه فى عصور الظلام لكنا معذورين فى هذه الثقافة الخرافية التى يقدم لنا الشيخ عبدالله الشرقاوى، الذى عاش قبل مائتى عام وتولى مشيخة الأزهر، صورة منها فى رسالة سماها «تحفة الناظرين فيمن ولى مصر من الولاة والسلاطين». يقول الشيخ الشرقاوى: «إن أقصر الفراعنة أعماراً كانت أسنانهم مائتى سنة! وكان أطولهم عمراً سنه ستمائة سنة! وإن فرعون موسى كان قصيراً طوله ستة أشبار! وطول لحيته سبعة! وقيل كان طوله ذراعاً واحداً - الصواب واحدة - وإن هذا الفرعون بقى على عرش مصر خمسمائة سنة!». والشيخ الشرقاوى معذور، لأنه لم يتصور أن يكون بناة هذه الصروح العملاقة بشراً عاديين، وإذن فلابد أن يكونوا جنسا من الأفذاذ العماليق! ومع أن تاريخ الفراعنة لم يعد مجهولاً، والفضل لشامبليون ومن ظهر بعده من علماء المصريات، ومع أن تماثيل الفراعنة ومعابدهم ومقابرهم وصورهم وكتاباتهم لاتزال شاخصة شاهدة على حضارتهم، فالذى يعرفه عامة المصريين اليوم عن أجدادهم لا يختلف كثيراً عما كان يعرفه الشيخ الشرقاوى قبل مائتى عام. بل نحن نرى أن جهل المصريين بحضارتهم القديمة جهل جامع مشترك يتفق فيه الكثيرون من الخواص والعوام، والدليل ما نقرأه فى الصحف وما نسمعه فى الإذاعات المسموعة والمرئية عن الفراعنة وعن طغيانهم وتألههم، وذلك فى سياق الحديث عن الطغاة الحاليين الذين رحلوا والذين لم يرحلوا بعد. ومن المؤكد أن الفراعنة لم يكونوا ديمقراطيين، ولم يكونوا رؤساء منتخبين - كالرئيس مرسى! - فهل كانوا طغاة متألهين؟ الجواب أن الفراعنة الذين حكموا مصر منذ الألف الرابع إلى أواخر الألف الأول قبل الميلاد كانوا ملوكاً يتولون السلطة بالقانون ذاته الذى يتولى به الملوك السلطة ويتوارثون به العرش حتى اليوم. سوى أن السلطة فى العالم القديم كانت مرتبطة دائماً بالعقائد الدينية السائدة، لأن المبادئ التى تقوم عليها والمطالب التى تستدعى قيامها كالنظام والأمن والعدل كان مصدرها الدين، وكان الملك رمزاً لهذه المبادئ وحارساً لها، فهو الذى يسهر على حفظ الأمن وإقامة العدل وتطبيق القوانين، ولكى يؤدى الملك هذه الوظيفة الحيوية كان لابد أن يكون حلقة وصل بين السماء والأرض، بين ما هو إلهى وما هو بشرى. لم يكن تأله الفرعون إذن تجبراً أو طغياناً - وإن طغى البعض وبغى - وإنما كان فى أصله توسطا، بين عالم المثل وعالم الوقائع والحوادث وهى عقيدة سائدة وقانون مطرد فى كل الحضارات القديمة، عند السومريين فى العراق القديم كان الملك ممثلاً للإله، وعند الأكديين، وعند الصينيين، وعند اليابانيين، وعند الرومان فى العصر الإمبراطورى، ولقد كان على الإسكندر الأكبر أن ينتسب للإله المصرى آمون ويعلن أنه ابنه لكى يقبله الكهنة المصريون حاكماً شرعياً ويتوجوه فى منف، ونحن نعرف بالطبع أن ملوك بنى إسرائيل شاؤول، وداوود وسليمان جمعوا بين الملك والنبوة. وكما كان الملوك يتألهون كان الآلهة يتأنسون، تموز البابلى كان يتجسد ويموت فى الشتاء ويعود حياً فى الربيع، ومثله أدونيس الفينيقى، وديونيزوس الإغريقى، ولم تكن هذه الأساطير إلا تعبيراً عن حاجات الجماعات الإنسانية فى العصور الأولى لآلهة متأنسنة أو لبشر متألهين يتحكمون فى الطبيعة فيوقفون الشمس وينزلون المطر ويوفرون للناس الاستقرار والعدل والأمان. وهى حاجات اكتشف البشر فى العصور التالية أنهم قادرون على أن يوفروها لأنفسهم، كما اكتشفوا قدرتهم على أن يتصلوا بخالقهم دون وسيط. ولهذا كفوا عن تأليه حكامهم، وإن لم يكف الحكام عن تأليه أنفسهم والاحتفاظ بما ورثوه من سلطات وامتيازات. ومن هنا اشتعلت الثورات التى أسقطت الطغاة وأرست قواعد الديمقراطية. هكذا نفهم الطغيان ونقرأ سيرته. كيف بدأ؟ وكيف انتهى؟ ومع من إذن معركتنا اليوم؟ مع الذين ألهناهم فى الماضى. أم مع الذين يؤلهون أنفسهم فى الحاضر؟ وأنا لا أنزه الفراعنة ولا أزعم أن عصورهم كانت كلها رخاء وعدلاً وحرية، أو أنها خلت من الظلم والفاقة والفوضى، وإنما أقول فقط إن ألوهية الفراعنة كانت عقيدة دينية يعتنقها المصريون الذين كانوا مثل غيرهم من الأمم القديمة فى حاجة لملوك قادرين على كل شىء. فإذا صح أن بعض الطغاة الذين حكموا مصر انحدروا من صلب الفراعنة، وهو أمر مشكوك فيه، فالذى لا شك فيه أن الذين ثاروا على هؤلاء الطغاة وأسقطوهم هم أبناء الفراعنة الذين كانوا أمة متحضرة، وكانت دولتهم. قبل كل شىء دولة مؤسسات وقوانين مرعية، حفظ لنا التاريخ كثيراً من نصوصها التى يستطيع من شاء أن يرجع إليها ليرى أن فيها ما لم تصل إليه حتى اليوم مجتمعات كثيرة، منها مجتمعنا الذى عاد القهقرى فى العصور الوسطى وفقد الكثير مما وصل إليه الآباء والأجداد، ولم يتمكن من استرداده بعد. يكفى أن ننظر فى القوانين التى كانت تنظم حياة الأسرة المصرية وتحدد لكل عضو فيها حقوقه وواجباته. لم يكن للرجل فى مصر القديمة أن يتزوج إلا امرأة واحدة. وكان من حق المرأة المتزوجة أن تتعاقد وتمتلك العقارات. ولم تكن فى حاجة إلى إذن من الزوج أو إجازة، فأهلية المرأة كانت كاملة وذمتها المالية كانت منفصلة تماماً عن ذمة زوجها، ولست فى حاجة لأتحدث عن المؤسسات المختلفة، التى كانت تسهر على تهذيب النفوس وإيقاظ الضمائر وحفظ الأمن وتنفيذ أحكام القضاء. الدولة كلها كانت فى خدمة القانون، وعلى رأسها الفرعون، الذى يقول لوزيره، كما نجد فى نص منسوب لأحد ملوك الأسرة الثانية عشرة: «إذا جاءك الأخصام فاعمل على أن يكون كل شىء وفقاً للقانون بحيث يحصل كل شخص على حقه». غير أننا لا نعرف حضارتنا القديمة من مصادرها هى وإنما نردد ما تحمله لنا بعض القصص الدينية التى تتحدث عن بنى إسرائيل وما حدث لهم فى مصر مما لم يقصد به أن يكون تاريخاً لا لفترة محددة من ماضينا ولا لهذا الماضى كله الذى نتبرأ منه الآن وننظر إليه من الزاوية العنصرية المعادية التى ينظر منها العبرانيون إليه فنراه طغيانا خالصا، ونرى الفراعنة كلهم أمثلة فى الطغيان ونسمى باسمهم كل طاغية متجبر، فالرئيس المخلوع فرعون والرئيس الآخر فرعون آخر. وهو موقف يدل على جهلنا بحضارتنا القديمة، وضعف شعورنا بالانتماء لمصر، واستعدادنا لتبنى التهمة التى يروجها البعض حين يزعمون أن الطغيان مرض متأصل فينا وميراث قومى لا نستطيع أن نقاومه أو نتغلب عليه، وإنما قدرنا أن نخرج من طغيان قديم لندخل فى طغيان جديد، وأن نثور على طاغية مُعيّن ليسرق ثورتنا طاغية منتخب! لا، فالطغيان ليس قدراً خصصنا به، وإنما هو نظام رزح تحته البشر آلاف السنين ثم عرفوا كيف يواجهونه وكيف يقاومونه ويتخلصون منه. وعلينا أن نتعلم منهم ونواجه الطغيان ونفهم الأساس الواهى الذى يقوم عليه، ونضرب فى هذا الأساس وفى البنيان كله ونخرج منه إلى النور والحرية كما خرج غيرنا للنور والحرية. وأنا أنظر فى سير الأمم الأخرى وفى نظمها وحضاراتها فلا أجد أنهم كانوا أقل منا ابتلاء بالطغيان وخضوعا للطغاة. وهل بلغ طغيان الفراعنة ما بلغه طغيان ملوك بنى إسرائيل وحقدهم ودمويتهم؟ اقرأوا فى التوراة سفر التثنية لتروا كيف تطلب التوراة من اليهود أن يحاصروا المدن ويضربوا جميع الذكور بحد السيف ويستعبدوا النساء والأطفال، وهل بلغ طغيان الفراعنة ما بلغه طغيان الحجاج الثقفى؟ وهل بلغ طغيانهم ما بلغه طغيان الخليفة العباسى أبى جعفر السفاح الذى لجأ إليه كبار الأمويين مستسلمين فأمر باغتيالهم بعد أن أمنهم، ثم جلس على البساط الذى لفهم به يتناول طعامه منتشيا وهم يتقلبون تحته فى جراحهم ويئنون تحت وطأة آلامهم حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة؟! وهل بلغ طغيان الفراعنة ما بلغه طغيان ملوك إسبانيا ووحشيتهم مع المسلمين واليهود بعد سقوط غرناطة؟! الطغيان ليس طبيعة فينا، وإنما هو الثمرة المرة للاتجار بالدين. والطغيان لا يأتينا من ماضينا، بل يهب علينا من حاضرنا. فإذا رأيت أن الدستور الذى سودته لنا بليل جماعة الغريانى يخلط الدين بالسياسة فاعلم أننا فى طريق العودة لعصور الظلام. وإذا رأيت أن خطيب المسجد المنافق يزين لرئيس الجمهورية أن يتشبه بالرسول ويجمع فى يده كل السلطات، فاعلم أن الرئيس المنتخب يمكن أن يتحول إلى طاغية منتخب، وأن الثورة يمكن أن تتحول فى يده ويد جماعته إلى انقلاب نفقد فيه الحاضر والمستقبل!