ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيخ عبد السلام ياسين، معادلات الفكر والتنظيم والسياسة
نشر في هسبريس يوم 20 - 12 - 2012


إلى الروح الطاهرة للأستاذ عبد السلام ياسين..
مات الشيخ عبد السلام ياسين،رحمه الله، بعد حياة استثنائية مليئة بالبحث والكتابة والتأليف والقيادة والتنظيم؛بحث في أشد القضايا تعقيدا وإثارة للجدل والخلاف في الفكر الإسلامي،قديما وحديثا؛قضايا الفكر والتظيم والسياسة.وترك لناتراثا غنيا من التحاليل والمقاربات والخطوط نحن مطالبون اليوم بالتاعطي معها أكثر ومدارستها وتمحيصها والاستفادة منها.
أولا – جماعة العدل والإحسان: ديمقراطية القومة.
تتبنى جماعة العدل والإحسان كتابات الشيخ عبد السلام ياسين،رحمه الله، كدليل نظري على مشروعها ومواقفها في السياسة والفعل. ويتميز عبد السلام ياسين بفكر حركي وتنظيمي غزير،وبخلفية عملية موغلة في الممارسة الدينية بمفهومها الروحي والأخلاقي، وصاحب إطلاع واسع على الثقافة الغربية خصوصا في الأدب والفكروالتنظيم. وتتداخل في كتابات عبد السلام ياسين أفكار المفكر ورجل التنظيم وتوجيهات الشيخ المربي العملية. ويصعب اختبار هذه الأفكارعمليا، إلا من خلال حركية جماعة العدل والإحسان في الواقع السياسي، نظرا لبعد المرشد عن مجالات الاحتكاك الفكري والسياسي وخلوده إلى العزلة،طول الوقت،إلى وفاته،رحمه الله.
لقد تنبأ الأستاذ عبد السلام ياسين إلى أن الغرب سيستفيد من درس شاه إيران، ومن زلزال أوروبا الشرقية، فلن يعود مستعدا للتعامل مع الأنظمة الاستبدادية، ولكن الغرب سيسعى دائما لإفشال أية حكومة إسلامية حرة، لكنه عندما يتأكد من قوتها وشعبيتها وفعاليتها سيخطب ودها ويتعامل معها. والحركة الإسلامية القادرة على قيادة هذه المرحلة عند عبد السلام ياسين هي القوة السياسية التي تقوم على البناء القلبي الإيماني لتشكيلاتها، ورباطها رباط ولائي بين المؤمنين؛ هذه الرابطة هي ضمانة ما يحمله الإسلاميون من إرادة وما يرسمونه من أهداف .
ويلح عبد السلام ياسين على ضرورة استعمال الشعار الإسلامي في خطاب الحركة الإسلامية لأنه يخاطب مخزونا نفسيا ودينيا عند المسلمين، فيشعرهم بالثقة والاطمئنان والاحترام للإسلاميين وحاملي الكلمة الإسلامية . لذلك جعلت جماعة العدل والإحسان منطلقها من المسجد والجلسة والتربية وفي صف الصلاة خارج الحلبة السياسية، وخارج المواسم الانتخابية، مما يوثق العلاقات بين أفراد التنظيم والمشروع؛ علاقات "لا يقدر أن يؤسسها ولا أن يرفع بنيانها الانتهازيون ولا المنافقون ولا لصوص الأصوات الانتخابية" ،بنظرالأستاذ عبد السلام ياسين. فالحل الإسلامي، عند العدل والإحسان، ينطلق من المسجد؛ فيه تنسج الخيوط الأولى للولاء بين المؤمنين! قد يبدو هذا الأمر هينا أمام الرسالة التي تحملها جماعة العدل والإحسان وهي رسالة الإيمان إلى عالم متعطش، لترسيخ الوزن الأخلاقي والروحي،بنظر عبد السلام ياسين؛ فالتحدي الثقيل الذي تنهض به الجماعة، ليس هو التخطيط أو كسب العلوم وترويض التكنولوجيا وتوطينها وتثبيتها، ولا هو حل مشكل المديونية التي خلفها المبذرون إخوان الشياطين،ولا تنمية بلاد الإسلام وتحريرها من التبعية، بل حمل الرسالة لعالم يحتاج إلى الدين، بوصف الجماعة مبلغة عن رب العالمين وعن رسوله الأمين! من خلال التجرد من عبودية النفس والشيطان، والتحرر من سلطان الهوى.
ويكون ذلك بالنسبة للعدل والإحسان من خلال المنهاج النبوي كطريقة للقول والفعل والتعليم؛ مصدره إلهي واجتهاده بشري، يعتمد الكتاب والسنة، وموضوعه الإنسان، ومصيره في الدنيا والآخرة ونتائجه إنسانية، وتأصيله في الكتاب والسنة ؛ لذلك ترى جماعة العدل والإحسان بأن مشروعها يقوم على الإخبار الغيبي الذي يبشر بالخلافة الثانية بعد مراحل العض والجبر؛ أي الخلافة على منهاج النبوة ، بما هي استعادة للتجربة النبوية التاريخية. وهذا كاف لتجعل الجماعة هدفها الأساس هو السعي إلى امتلاك السلطة لتطبيق الإسلام؛ فلا يطلق إسم الحركة الإسلامية عندها إلا على الحركات التي تضع الدعوة والدولة في برنامجها، أي السعي إلى الحكم في إطار شمولية الإسلام .
وقد استفاد عبد السلام ياسين،رحمه الله، في بنائه الفكري والتنظيمي من تجربة الخميني في ثورته؛ إذ تقدم هذه التجربة، بنظر ياسين، الدروس الإيجابية والسلبية ما يصلح معيارا عمليا عينيا لحال المسلمين وقابلياتهم الكامنة وقوتهم الظاهرة؛ فقد فجرت الثورة الإيرانية غضبا عارما في وجه الشاه، غضب تغذت روحانيته من محبة الحسين وآل البيت والولاء اللانهائي لهم؛ مع أن الشاه كان محصنا أمريكيا وحليفا يهوديا؛ إلا أن قوة الغضب وشدة المناحات وشجاعة لابسي الأكفان أسقطته ؛ فثورة الخميني فتحت، بنظرعبد السلام ياسين، باب المجد للكلمة الإسلامية وبزت بشمولها وعمقها كل حركة في تاريخ الثورات، وأبانت قدرة الشعب على الصمود في وجه الدبابات وكيد الجاهلية ومؤامراتها.
ويذهب عبد السلام ياسين في إعجابه بالتجربة الخمينية إلى حدود الدفاع عن حقوق الإنسان في ظل الحكم الإيراني، معتبرا المعارضين للنظام الإيراني، منافقين، وهو تعبير رسمي إيراني متحيز، كما يذهب إلى أن محاكمات أولئك المعارضين "المنافقين" يتخذه الآخرون سببا لتشويه النظام الإسلامي؛ بل يرى عبد السلام ياسين أن عدد أربعة آلاف حكم بالإعدام في مدى ثلاث سنوات بعد ثورة عارمة لدليل على أن الثورة الإيرانية أرفق بما لا يقارن من جميع الثورات التي سجلها التاريخ.(كتاب إمامة الأمة). ويدعوعبد السلام ياسين إلى الاستفادة من التجربة الخمينية الرائدة بإيجابياتها الكبيرة وأخطائها الضخمة؛ فلا محيد للإسلاميين عن التعلم منها ومن كل ما بث الله فيها، خصوصا وأن الخميني استطاع إخراج الدعوة من ظلال الحوزات العلمية إلى فضاء الثورة والسلطة الفعلية وبناء الدولة ؛ وهو الشيء الذي سعى الشيخ عبد السلام ياسين إلى إنجازه على مستوى الصوفية، بإخراجها من حالة الدروشة والنكوص والتقوقع الذاتي والتوظيف الرسمي إلى المشاركة السياسية المؤثرة.
كما استفاد عبد السلام ياسين من تراث سيد قطب باعتباره ركز على دين الفطرة، وهو الذي تتلقاه أجهزة استقبال فطرية لم تتعطل وظائفها . وهذا التأثير هو ما جعل الطابع المثالي والمطلق يغلب على الكثير من أفكار العدل والإحسان. ولكن الإعجاب بسيد قطب في الحديث عن "الفطرة"، و"الجيل القرآني الفريد"، لم يمنع عبد السلام ياسين من نقده؛ نقد لغته الغاضبة وغير الحكيمة، ورفض تصنيفه البسيط للناس، ووصفهم بالجاهلية؛ لأن مرض الأمة هو نتيجة تدهور تاريخي طويل في الروح والنفس والفكر . كما انتقد عبدالسلام ياسين التيار الشبابي الحركي الذي تأثر بكتابات سيد قطب وغيره ممن نفضوا يدهم نهائيا من الولاء للحكام المتآمرين على الأمة، وقد زكاهم في ذلك، لكنه آخذهم لأنهم يبنون تصوراتهم وتنظيماتهم على غير أساس؛ إذ يؤمرون أميرا في قطر على مجموعة محدودة ويعطونه البيعة والطاعة ويعدون مجموعتهم هي « جماعة المسلمين»، ومن فارقها مات ميتة جاهلية، ويكفرون المجتمع، وينغلقون في حرفية النصوص، وفي دوائر تنظيمية لا تلبث أن تعشش فيها أنواع الهوام السلوكية، كالعنف والإعجاب بالرأي والرؤيا من زاوية متشائمة للعالم والمستقبل ، وعندها تقع الكوارث! إذ من هذا الشباب نشأت حركات سلفية متطرفة تقرأ فتاوى في كتيبات ثم تنطلق لتعيت فسادا وتدميرا في المجتمع بدعوى محاربة الشرك والبدعة؛ فيقاتل الإبن أباه وأمه وجماعة المسلمين، في مسلسل تآمري عميده الشيطان ووزراءه أعداء الإسلام . فهؤلاء الشباب، بنظر ياسين، يحرفون المعركة عن مسارها الصحيح وهو مواجهة الحكم الجبري وأصوله؛ فمعركة الشباب هي معركة العلم، واسترجاع الأدمغة الهاربة إلى بلاد الجاهلية، وحبك الشبكات العلمية من الخبرات المتوفرة لتبدأ عملية تأثيل التكنولوجيا في بلادنا وتوطينها، وتغذيتها، وإشاعتها، وتصنيعها .
ثانيا- الفتنة قبل الديمقراطية:
ينطلق المشروع الإسلامي عند عبد السلام ياسين من الوعي بلحظة الانكسار التاريخي؛ إذ إن تاريخ المسلمين، بنظره، تاريخ فتن، وخصوصا الفتنة الكبرى التي أعقبها الانكسار منذ اغتيال الخليفة عثمان .(كتاب نظرات في الفقه والتاريخ). فأسباب هذا الإنكسار ليست سياسية أو اقتصادية أو نفسية، بنظر ياسين، فتلك تحليلات من لا يؤمنون بالغيب ! أما جماعة العدل والإحسان فتقرأ هذا الإنكسار في ضوء الحديث النبوي الذي رواه الإمام أحمد و يحدد فيه الرسول (ص) الخلافة في ثلاثين سنة، ثم تنقلب من خلافة شورية عادلة إلى ملك عاض مستبد .كما يوجه عبد السلام ياسين الحديث النبوي المذكور في اتجاه إدانة الأنظمة لمخالفتها منهاج النبوة،والتأكيد على حتمية سقوط الأنظمة السياسية في البلاد الإسلامية قبل إقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة. كما يعتمد حديثا رواه سعيد بن عمرو بن العاص عن أبي هريرة جاء فيه: «هلاك أمتي على يد غلمة من قريش»؛ ويوضح الحافظ ابن حجر أن الغلمة صغر في الدين والمروءة والرأي. فقد سيطر أولئك الغلمة على الأمة،بنظرعبد السلام ياسين، لأنها سكتت وهي ترى عرى الحكم تنتقض وهادنت. ويقتضي تجاوز لحظة الإنكسار هذه استعارة لحظة الخلافة الراشدة عبر جيل قرآني يؤسس دولة القرآن، ترتوي فيها القلوب المتعطشة وكذا العقول.
فحركة البناء عند العدل والإحسان تبتدئ من تجديد الإيمان وليس تجديد الفكر؛ فتحريك الإيمان وتربية الإيمان محور كل عمل إسلامي، وإلا دارت رحا الناس على خواء النفوس وخراب الذمم، ونتانة الهوى، وسوء المنقلب في الدنيا والآخرة . فجذوة الإيمان هي التي تجنب المشروع الإسلامي خيبة الأمل، وهي التي تحول سلوك الإسلاميين من مجرد السخط على الأوضاع الاقتصادية إلى اليقين باليوم الآخر . فالمعادلة في الأخير،عند جماعة العدل والإحسان، معادلة إيمان ويقين وليست معادلة واقع موضوعي معقد وعناصره متداخلة، ولا معنى للنقاش الفكري، بعمقه السياسي والاجتماعي الذي دار بين المعتزلة والأشاعرة والفرق الكلامية الأخرى، لأن المسألة ليست فكرية بل أخلاقية ونفسية وإيمانية؛ فالمعتزلة، بنظرعبد السلام ياسين ياسين، فرسان انتزعوا من الفلسفة الغازية سلاحها ليدافعوا به عن الدين؛ فكان لهم قدم في الدين وقدم في الفلسفة، ولم يكن الهم السياسي غائبا في أحكامهم؛ إذ رفضوا حكم المتغلب بالسيف، وأنزلوه المنزلة بين المنزلتين، بينما الفقهاء دافعوا عن ملوك المسلمين ونظروا إلى ظلمهم نظرة جزئية سطحية، يعدون لهم معاصي يغفرها الله إن شاء. ورغم الدور السياسي الناقد والمعارض للمعتزلة، إلا أنهم، بنظرعبد السلام ياسين، قد بالغوا في التفاعل مع الفلسفة الإغريقية، وتوغلوا فيها بلا حدود، حتى غاب عنهم قصدهم الأول في الدفاع عن الدين، كما غلبت على خطابهم صبغة الحجاج والنظر.
(كتاب العدل). ويستحضر عبد السلام ياسين الصراع الفكري الذي خاضه المعتزلة ضد الفقهاء الموالين للسلطة، للوقوف على لب الانكسار التاريخي الذي حدث وهو خصام السلطان والقرآن وانفصال الدعوى عن الدولة وبداية تشكل الحكم العاض، أي الاستبدادي الذي قرب الفقهاء الموالين واستبعد المعارضين، وقاطعه المتبتلون (مثل الدعوة والتبليغ)، وكذا طوائف من الزهاد والصوفية والعابدين، لحفظ جوهرهم، وهو إيمان الفرد وصلاحه الشخصي . هذا الانعزال هو الذي جاء مشروع العدل والإحسان لينهيه ويبث روحا جديدة في مناضليه للتصدي لهذا الانكسار المستمر ومنازلة الاستبداد والفساد العام.
والفساد العام يعبر عنه عبد السلام ياسين "بالفتنة"؛ وهي مفهوم محوري في مشروعه ؛(ورد مصطلح الفتنة في كتاب المنهاج النبوي أكثر من مائة مرة). ويدل على اختلاط الحق بالباطل، ودخول رواسب "الجاهلية" على الإسلام، من الأوبئة الاجتماعية والشخصيات المزيفة التي أنتجها الترف الطبقي والتعليم النظري المستعلي على المهمات المباشرة العملية .
إن الفتنة كمفهوم محوري، في مشروع العدل والإحسان، استقاه عبد السلام ياسين من الأحاديث الواردة في كتب الفتن والملاحم؛ وهي بالمناسبة كتب مملوءة بالأحاديث عن المستقبل والغيب، والأخبار والأساطير والروايات المحرجة للعقل الفقهي الإسلامي اليوم، والمعيقة لتطور الاجتهاد العقلي والفقهي عند المسلمين،وهي تحتاج إلى مقاربات جديدة بمداخل فقهية وفكرية وسياسيةواجتماعية معاصرة.
يستقي منها عبد السلام ياسين هذا المفهوم ليعبر به عن "الفتنة العينية"، وهي التي تعم الأفراد؛ كفتنة النفس، وفتنة الشيطان، وفتنة الإنسان، وفتنة السلطان. و"الفتنة العامة"، تعم المجتمع؛ من محن تاريخية وثورات وقتال، وفساد الدعوة والدولة؛ فساد الدعوة بصمت العلماء عن قول الحق، وفساد الدولة بفقدان الصفة الشورية ونشأة الاستبداد .(كتاب تنويرالمؤمنات). فالفتنة في الأخير هي مدلولات الأزمة والتخلف وعدم الاستقرار والفوضى، وعلاجها، بنظرعبدالسلام ياسين، يمر عبر التربية الإيمانية القلبية والتي تبث الطمأنينة في النفوس عبر ذكر الله . هذه التربية الإيمانية هي التي تبقي "الحل الإسلامي" "صافيا" و"مثاليا"، مرتبطا بالقرآن والشرع والمسجد، غير متأثر بإعصار الأزمات وبحركية الواقع . إن النفوذ السياسي الضروري للإسلاميين، بنظرعبد السلام ياسين، إنما يتكون من مجموع النفوذ الإيماني الأخلاقي الفكري الأدبي الذي يتاح لهم وسط الشعب..
هذا النفوذ الذي ينقل المشروع من لحظة "الفتنة" إلى لحظة "القومة"؛ القومة كمفهوم محوري آخر في المشروع الفكري والسياسي لجماعة العدل والإحسان؛ والقومة تعني في القاموس التغييري للعدل والإحسان إعداد الأمة المجاهدة والراشدة التي تقرر مصيرها بإرادتها الحرة، وتملك إنتاجها، وعقلها متحرر من الخرافة وفلسفة الإلحاد؛ القومة أن يصبح الأمر في الأمة شورى، وأن تحمل الأمة عبء الحاضر والمستقبل، بقيادة مجاهدة تشد فكر الأمة وعزمها إلى المثل الأعلى المنشود، وأن تسهر على جمع الإرادة المشتتة، لتصنع سهما يخرق الحواجز، وينفخ في جسم الأمة روح الاستماتة والتفاني في نصرة الحق والعدل .(كتاب إمامة الأمة).
ويرسم عبد السلام ياسين للقومة طريقتين: طريقة طبيعية: تقوم على تربية الشعب، واستكمال البناء، واشتداد السخط الشعبي؛ فتبدأ التعبئة للإضراب العام ثم العصيان الشامل والنزول للشارع "حتى يخزي الله المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون"، فيتقوض الباطل ويختار الشعب حكامه .(كتاب المنهاج النبوي). فهذه الطريقة تعتمد إثارة القوة الغضبية للأمة على الظلم والظالمين، ولم طاقاتها الشعورية والعملية، ونزعها من التيارات الحزبية، ومن قبضة الخمول، وإعادة توجيهها، كما حصل في إيران. أما إذا اجتمعت شروط مثل التي عاشها السوريون، سنة 1982، بحيث أعلن الحكام كفرهم الأصلي وحاربوا المسلمين، فحمل السلاح واجب ،بنظر عبد السلام ياسين. أما الطريقة الثانية للقومة، فهي استثنائية تقوم على التربية طويلة الأمد دون رفض الفرص التاريخية واستغلال الفجوات والثغرات في صف المسرفين، والنفاذ إلى الحكم من مسارب جانبية كلما كان التسرب حكمة؛ وهو أمر سيحدث لا محالة بلبلة في تصور الجماعة وفي الاختيار الملائم للمنهج المناسب؛ ذلك ما يتطلب، بنظرعبدالسلام ياسين، الدراية الفائقة بقواعد الحرب السياسية المحلية والعالمية، والقدرة الذكية على مزاحمة الأعداء ومكايدتهم .(كتاب المنهاج النبوي).
ويميز عبد السلام ياسين بين "القومة" و"الثورة"؛ فكتب التاريخ السياسي الإسلامي تعتبر الثوار خارجين على السلطان بغير حق، والثورة تعني الغضب والعنف والغليان والهيجان، أما القائمون (من القومة)، فهم المنابذون للحكم الجائر من أهل العدل والحق؛ مثل آل البيت في التاريخ القديم، والخميني في التاريخ الحديث، والإمام المهدي في المستقبل ! فإذا كانت الثورة تتميز بالغضب، فإن القومة تتميز بالحلم ولا توجه وجهة الانتقام، لأنها تقوم على التربية؛ تربية ترفع القلوب إلى الله، والعقول إلى العلم بشرع الله، والجهود لتنصب في جهاد يرضاه الله . فثورات الغضب كما قادها لينين وتروتسكي وماوتسي تونع وهوكي قامت على التهييج سرعان ما تنشئ قيما فاسدة ناضلت ضدها؛ فغلبت الغريزة العقل فنتج مكرتروتسكي، ودهاء لينين، ووحشية ستالين، وعنف ماو . ويميز ياسين القومة، ومنفذوها من جند الله، عن العنف الثوري ومناضليه؛ جند الله الذين يتميزون بالتقوى والخوف من الله وحسن الخلق ورحمة القلب مع صلابة في الحق، بعيدا عن الحقد والانتقام . أما العنف الثوري فيقوم على الحقد الطبقي الذي يرى المعارضين عبارة عن عصابات تخريب الثورة تستحق التدمير؛ فالثورة والعنف الوحشي، بنظرعبد السلام ياسين، توأمان، أما كلمة "قومة" فهي توحي بالقوة والثبات والثقة؛ فالقومة حركة دينية شاملة، فردية وجماعية، يقودها تنظيم الدعوة ، لتوفير الشروط الموضوعية لها وهي الموجة الشعبية العارمة، واستكمال البناء التربوي، واستكمال البناء التنظيمي، واستكمال البناء الفكري.(كتاب العدل).
ثالثا- معادلة التنظيم /الجماعة وسؤال الديمقراطية:
لا تعتبر جماعة العدل والإحسان نفسها حزبا سياسيا عاديا؛ بل هي تنظيم تربطه روابط هي عبارة عن نواظم معنوية سواء بين الأفراد أو بين الهيئات، وهي "روح التنظيم"، وأما الهياكل والأجهزة فليست إلا جسده؛ فلا تنظيم بالنسبة للعدل والإحسان إلا بنواظم؛ هي الحب في الله، والتناصح والتشاور في الله، والطاعة لله ورسوله ولأولي الأمر . فالجماعة تنظيم محكم، بعيدا عن الفوضوية والعفوية والهيجان، تنظيم تلتحم فيه القيادة بالجماعة بنظام الولاية؛ فتسير الجماعة بأمر القيادة وتنتهي بنهيها، مشكلين "جند الله"، عندها يحصل نصر الله بالقومة والبناء والجهاد ! (كتاب إمام الأمة).بهذه الرابطة الدينية المتينة التي تربط أفراد التنظيم تسعى الجماعة إلى تقوية صفها وتربية رجالها وتنظيم ومغالبة الأحزاب ودول الجور على إمامة الأمة.
ويبدو أن مفهوم الرابطة الإسلامية الذي تتبناه جماعة العدل والإحسان في العلاقة بين أفرادها وفي علاقتها بالقوى السياسية المختلفة قد يشكل عائقا أمام الديمقراطية الداخلية، مادام ميزان الترجيح والتقييم للآراء والأفراد هو ميزان التقوى والعمل الصالح! فعبد السلام ياسين يلح على أن وظيفة التنظيم التربية، وليس الممارسات السياسية اليومية التي تحول الجماعة إلى حزب سياسي أرضي .(ذكر هذا عبد السلام ياسين في أول ندوة عقدها بعد رفع الحصار عنه،جريدة "رسالة الفتوة" العدد 19.)
وعليه، فإن المنهاج النبوي، وهو المرشد النظري والعملي للجماعة ينزع إلى الشمولية التي تشمل الفرد والجماعة والأمة، كما يشمل الدعوة والدولة، والدنيا والآخرة، بمعنى أنه لا يقتصر على مجال دون الآخر، ولا يتموقع في زمان دون آخر، بل يشمل كل المجالات، وينظر إلى الماضي والحاضر، ويستشرف المستقبل؛ فهو بنظر الجماعة مرشد نظري وعملي، أي مانيفيستو شامل يتميز بالوضوح والأصالة والنسقية والإجرائية والمستقبلية .(عمر أحرشان،أضواء على المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان). فالمنهاج النبوي، بنظرعبد السلام ياسين، يشكل جسرا علميا بين الحق في كتاب الله وسنة رسوله وبين حياة المسلمين، لتهيئة الأجيال لخلافة الله ورسوله في الأرض . و يعبر عن وحدة الإرادة ووحدة التصور ووحدة الفعل، أي الجهاد، كما يعبر عن الاكتمال النظري والفكري والتنظيمي للجماعة؛ فالمنهاج محكم؛ "لا خلل يخاف في الصف نتيجة لنقص في التربية، أو لتفكك في التنظيم، أو لغموض في الرؤية، أو لعجز عن الإنجاز والإتقان وتحمل المسؤولية" .(كتاب المنهاج النبوي)،مع أن عبد السلام ياسين أقر أكثر من مرة أن كثيرا من الأفكار التنظيمية في المنهاج النبوي تحتاج إلى تعديل بحكم قدمها وارتباطها بسياقات مرحلية وفكرية أصبحت متجاوزة.
إن المنهاج النبوي هو بمثابة إيديولوجيا جماعة العدل والإحسان، يؤدي الوظيفة التي تؤديها الأيديولوجيا عند الأحزاب الأخرى (كتاب مقدمات في المنهاج)؛ إذ يجلي الرؤية والأهداف والغايات .(كتاب الإسلام غدا). فنحن إذن بصدد تنظيم حديدي؛ يتوفر على كتلة منظمة، بقيادة مطاعة قوية، قناعة أعضائها بالمشروع عالية جدا، وهذه، بنظرعبد السلام ياسين، عوامل أساسية لإحداث التغيير في المجتمع؛ من خلال الاستعداد للتضحية، وسوق الجهود إلى قمة التوتر والفاعلية؛ إنه تعبير عن التميز الذي تختص به الحركات الإسلامية، بنظرعبد السلام ياسين، وهو ارتفاع العامل المعنوي في الجهاد، والهجوم على الموت، بناء على يقين إيماني يرى المعادلة بين الشهادة أو النصر .(كتاب المنهاج النبوي).
وانتقد عبد السلام ياسين مفهوم "البيعة" المنتشرة وسط التنظيمات الإسلامية القطرية، والتي تفتقد إلى المدلول الشرعي، والواقعة في تأويل متحيز ومغلوط لمعنى "أولي الأمر" .(كتاب العدل). كما انتقد مفهوم "التنظيم الدولي"، أي عالمية التنظيم؛ لأن تخطي القطرية يعرض التنظيم لضربات العدو؛ بحيث يسهل عليه كشفه ابتداء من أية حلقة تقع في يده، مع إقرارعبد السلام ياسين بعالمية الدعوة وتقارب أفكار الدعاة والحركات الإسلامية.
رابعا- مطلب تطبيق الشريعة في مشروع العدل والإحسان:
إذا كانت وظيفة التنظيم في تصور العدل والإحسان هي الدعوة والتربية، فإن أهل الدعوة لهم وظيفة أخرى رقابية على أهل الحكم، من خارج مجالات النزال السياسي؛ فهم يراقبون الحكام ويوجهونهم لإقامة الدين، وهو واجبهم الكلي .(كتاب العدل)؛ فالدعاة، وهم بالمناسبة رجال متخصصون في العلوم الدينية، أوهم رجال دين بشكل صريح، تقاس نجاعتهم، بنظرعبد السلام ياسين، بقدرتهم على مراقبة الدولة من خارجها وقد يفوضون لبعضهم الإشراف المباشر على شؤون الحكم، كما يستعينون بالكفاءات من أهل الإيمان . فنحن إذن بصدد رقابة يشكلها رجال دين، وأطر الدولة والكفاءات هم من رجال الدين أيضا، أي أن الجماعة تفترض أن الدولة تطبق الشريعة الإسلامية. وتطبيق الشريعة، بهذه المواصفات، يشكل مطلبا محوريا لجماعة العدل والإحسان؛ لأن التردد، بنظرعبد السلام ياسين، في قبول شرع الله والدينونة لأمره والخضوع مطعن خطير في عقيدة المسلم ومنقصة مخلة بإيمان المؤمن؛ فتطبيق شرع الله كاملا، بنظرعبد السلام ياسين، مطلب لا محيد عنه، وإلا انفسخنا عن ديننا . فتطبيق الشريعة واجب على الحركة الإسلامية، بنظرعبدالسلام ياسين؛ من دون زيادة ولا نقصان ولا تحفظ ولا استدراك ولا إضافة؛ فذلك هو البرنامج الذي حرك الشعب وحمل الإسلاميين إلى الحكم.
وانتقد عبد السلام ياسين أطروحة الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، والقائمة على فصل الدين عن السلطة، واعتبرها فكرة علمانية ذات أهداف سياسية في إطار صراع بين حزب الوفد والملك فؤاد . فتطبيق الشريعة، بنظرعبد السلام ياسين، يعني أن كل جزئية في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يجب إدراجها تحت أحكام الشريعة، من خلال التفاعل مع أصول الشريعة والقواعد الثابتة في الدين .(كتاب إمامة الأمة). من هنا يستشعرعبدالسلام ياسين الصعوبة الفكرية لتطبيق الشريعة مما يحتاج إلى توضيح وبيان وإقناع للانتقال إلى مرحلة التنفيذ . ويتراوح تناول عبد السلام ياسين لتطبيق الشريعة بين البحث العام حينا في الموضوع، وبين تقديم بعض التفاصيل والجزئيات المتعلقة بتطبيق الشريعة، كالحديث عن الأجهزة التي سيوكل إليها تنفيذ شرع الله، والتي تختلف، بنظره، من حيث البنية والأسلوب عن الأجهزة الموروثة. وذكر أمورا تفصيلية في ما يتعلق بجهاز القضاء والمظالم، مثلا، وهو الذي يفصل في الخصومات بين عامة الشعب وأجهزة الحكم والإدارة والنظر في الحق العام، والتقنين، ومراقبة الحكام. وله صلاحيات واسعة وتنفيذ سريع. كما ميز القضاء الإسلامي عن القضاء الوضعي في إطار الثنائية التصادمية الرائجة في كتابات الإسلاميين كثيرا، بين القانون الشرعي والقانون الوضعي؛ فإذا كان القضاء الوضعي يعتمد على المسطرة كضمانة كافية للإنصاف، فإن القانون الإسلامي، بنظرعبد السلام ياسين، يعتمد على ذمة القاضي والمتخاصمين. واعتبر أن هيكلة القضاء الإسلامي مهمة إدارية تغير وجه التنظيم. هذا القضاء يتولاه رجال مؤمنون صالحون، تصنعهم تربية التنظيم ودعوته، فيعطون الهياكل الإدارية مضمونا إسلاميا قادرا على القطع مع إدارة الفتنة وموظفي الفتنة .(كتاب المنهاج النبوي). كما ذكر الخطوط الرئيسة التي تنظم الحكم والشورى، واختيار الإمام وتوزيع السلطة وشكل الحكومة، منتقدا بحدة كبيرة الأنظمة الاستبدادية التي تلبس أقنعة دينية . كما أورد أفكارا تفصيلية عن مهمة الدولة الإسلامية في توزيع الثروات، في إطار نظام الاقتصاد الإسلامي.
وتقدم العدل والإحسان نموذجا لعلاقة الدعوة بالدولة يقوم على وحدة الهدف وهو إقامة الدين؛ أما فصل الدين عن الدولة فهو مروق عن الدين، مروق يلمسه عبد السلام ياسين في إسلام الحكام وفي إسلام الأحزاب والتي يهاجمها بقسوة ويعتبرها زاعقة وصاعقة، وهي تستقوي بدين مزيف على الإسلاميين .(كتاب العدل). فرسالة الحركة الإسلامية هي الجمع بين الدعوة والدولة. ومعنى الجمع أي يكون الحكام ومديري دواليب الدولة وإدارة مؤسساتها تحت مراقبة أهل الدعوة ورجالاتها ؛ إنها دولة تخدم الدعوة وتسير في موكبها وتأتمر بأمرها .(كتاب العدل). فالدولة، بنظرعبد السلام ياسين، تتشكل من كتيبتين هما: الدعوة ممثلة في مؤسسات ورجال مهمتهم تربية الأمة ومراقبة التطبيق، ولهم الهيمنة على مصير الأمور، ودولة تتمثل في مؤسسات ورجال وأجهزة وإدارات تسير الشؤون المادية والنظامية والاقتصادية، تحت مراقبة وتوجيه الدعوة ورجالها .(كتاب المنهاج النبوي).
وتأسيس الدولة، ليست نهاية الدعوة، أي الدولة السياسية، ولكن بداية دولة الخلافة على منهاج النبوة، تلتحم فيها الدعوة والدولة، وتبقى الدعوة مراقبة للدولة؛ فالدعوة تمثل القرآن والدولة تمثل السلطان. والدعوة هي التي تعبئ الشعب لإنجاز المهمات الاقتصادية والحضارية والاجتماعية، وصناعة مستقبل الإسلام ؛ إسلام يجسد صراع الوجود وصراع الحضارة وصراع النموذج ضد الجاهلين. دولة تفرض نموذجها السلوكي وتربي الناس عليه ، وتحررهم من النموذج الجاهلي ،(كتاب المنهاج النبوي)، والأمر بالمعروف بالكلمة مباشرة، وحمل الناس عليه بالذراع القوية الحليفة، والنهي عن المنكر، وزجر الناس عنه بقوة الحكومة الموالية .(كتاب العدل). كما يحذر عبد السلام ياسين رجال الدعوة، الدعامة الأساسية للتنظيم، من التدنس بالعمل السياسي المباشر ومزاولة الحكم ومعاناته اليومية، والاكتفاء بالمراقبة والتتبع! فالخطر الذي يواجه "الحل الإسلامي"، بنظرعبد السلام ياسين، أن ينخرط الدعاة بكامل عددهم في السياسة ويتحولون إلى مديرين ووزراء ومستشارين، ويتركون المسجد، ويتركون صحبة الشعب، ويتركون تربية الأجيال، ويتركون مجالسة المسلمين ،(كتاب العدل)، فيفقدون عمقهم الاجتماعي وامتدادهم الجماهيري.
لذلك فصلت العدل والاحسان، من الناحية المنهجية، بين العمل الدعوي، وهو الوظيفة الأساسية للتنظيم، وبين العمل السياسي، وهو الأداة المساعدة لتحقيق المشروع والتقدم في إنجازه على أرض الواقع، فأحدثت الدائرة السياسية كإطار يهتم بقضايا الشأن العام، ويبشر برؤى الجماعة وتصوراتها والتعريف بها في الواقع السياسي.
فالتقسيم منهجي ووظيفي، وإلا فالدائرة السياسية تشتغل تحت إشراف الأجهزة المسؤولة داخل الجماعة، الجماعة التي تحتكر الوظائف الأساسية، أي: التربية والدعوة والتعليم. فالدائرة السياسية مؤسسة وظيفية تعمل على الإعداد الفعلي للدولة الإسلامية، من خلال وضع برنامج الحكم الصالح للتطبيق .(أحرشان،أضواء على المشروع المجتمعي لجماعة العدل والإحسان). كما تقوم الدائرة السياسية بدور التواصل مع مكونات المجتمع، من ذوي النفوذ، المعنوي أو الاقتصادي أو السياسي، ورفع الحصار الإعلامي المضروب على الجماعة والذي يشوه مواقفها وسمعتها . وبرغم أن الدائرة السياسية تنبئ عن خطة الجماعة للمشاركة السياسية، فإن عبد السلام ياسين ظل يحذر من المشاركة السياسية الباهتة والقسمة الضيزى للقرار السياسي والحكم بين السلطة والحركة الإسلامية؛ قسمة يفقد فيها علماء الملة الخاشعون لله من أهل القرآن سلطة النظر والمراقبة والتوجيه، والسيادة الفعلية والخلقية ،وهذا مايخلف تصادما واضحا،وعلى أكثر من مستوى، بين تنظيرات المرشد العام وممارسات الجماعة ودائرتها السياسية على أرض الواقع.
خامسا- العدل والإحسان والمعارضة بين المشاركة والمقاطعة!
لا تخفي جماعة العدل والإحسان الهدف الأساس لمشروعها التغييري وهو الوصول إلى الحكم؛ حكم يتقلده مؤمنون يتحدون به الجاهليين الذين يحملون شعار الديمقراطية؛ هذه الكلمة أي الديمقراطية،، بنظرعبد السلام ياسين، كلمة جوفاء لكنها تحمل معاني النبل والعدل في خيال الناس . كما تعلن الجماعة مواقفها الصريحة من رفض العنف والاغتيال السياسي وحمل السلاح، بل تدعو إلى العفو الشامل بعد القوة .(كتاب المنهاج النبوي).
ويتميز الخطاب النقدي المعارض الذي تمارسه جماعة العدل والاحسان بشحنة دينية وفقهية مرتفعة جدا؛ فخطاب عبد السلام ياسين تجاه السلطة السياسية يركز على نقد الشرعية الدينية للنظام معتبرا أن ظهر المسلمين قصمه التمويه عليهم بأحاديث السمع والطاعة ولزوم الجماعة؛ أحاديث يقدمها أولو الأمر العاضين الجبريين ومن يخدمهم من علماء القصور أو من ديدان القراء علماء السوء على أنها الكلمة الأولى والأخيرة وعلى أنهم منا، مرسخين طاعة السيف التي عرفها تاريخنا الإسلامي منذ لحظة الانكسار التاريخي الذي عرفته الأمة .(كتاب الشورى والديمقراطية). وشغل موضوع أولي الأمر حيزا من الرؤية السياسية لجماعة العدل والإحسان؛ فأولو الأمر عند عبد السلام ياسين هم "أبناء الآخرة"، أمثال أبي بكر وعمر، شرطهم اللازم، إضافة إلى المعرفة بما يجري في العالم، أن تكون دنياهم منتظمة انتظاما إيمانيا .(كتاب العدل). وهذا لا يتوفر، بنظرعبد السلام ياسين، إلا في الزهاد والعباد والصوفية. والأمر لا يعطى للحريص على الرئاسة، بل يعطى للربانيين الخبراء الجامعين لصفتي القوة والأمانة .
كما ركز عبد السلام ياسين على نقد السياسة الدينية الرسمية؛ ذلك أن النظام الذي يوزع الزكاة، ويقطع يد السارق، ويقيم حفلات تجويد القرآن هو نظام منافق حائد عن الجادة، وكذا النظام الذي يسمي جماعته مجلس شورى، .(كتاب إمامة الأمة)؛ فالنصوص الدينية في خطاب السلطة،بنظرعبدالسلام ياسين، تؤدي وظيفتها في تخذير الأمة، كما أن المصاحف والكتب والمسابقات القرآنية ومدونات الفقه، يستثمرها فرسان وفقهاء مأجورون، فرسان البلاغة والتنظير والتبريء، مدججين بالعمامات والدكتورات، يقرون الحكام الفسقة على جورهم، متجاوبين مع ما يطلبه الخارج، خصوصا أمريكا، وكل قوى الاستكبار ، في استغلال فاضح وماكر للشريعة ولمظاهرها، كذبا على الأمة وتمويها على الناس وتملقا للشعور الإسلامي.(كتاب العدل).
إن معيار معارضة العدل والإحسان للسلطة السياسية تقوم على مخالفتها لتصورها للإسلام، مما يشكك في العمق الديمقراطي للمعارضة السياسية التي تمارسها الجماعة؛ فعبد السلام ياسين يؤكد على أن الخط السياسي الواضح لا يقوم على معارضة حكام الجبر معارضة الأحزاب على مستوى تدبير المعاش بل معارضة تسمى "عصيانا"؛ أي تعصي الجماعة النظام لأنه خرج عن دائرة الإسلام، إلا أن يتوب توبة عمر بن عبد العزيز؛ تعصي وتعارض لأنهم خربوا الدين. إن العصيان أكبر من المعارضة السياسة بنظرعبد السلام ياسين .(كتاب المنهاج النبوي).
والمعارضة، عند عبد السلام ياسين، ليست مجرد عقد اجتماعي مدني سياسي بل هي عهد الله، وذمة الله، وشرع الله، والبيعة والوفاء، والطاعة في المعروف، والإعانة على الحق؛ إنها معارضة محكومة بمعيار أخلاقي إيماني شرعي .(كتاب العدل). إن العصيان، كخط من الخطوط السياسية التي تعتمدها جماعة العدل والإحسان، يقوم، بنظرها، على الوضوح ورفض السرية وعدم الرضا بأنصاف الحلول، ورفض كل أساليب المكر والخداع والغش، مع المرونة . برغم ذلك يقر عبد السلام ياسين بالمشاركة في ما يسميه "اللعبة الديمقراطية"، لكشف زيف الدعوى الديمقراطية، مثل ما حدث في تونس. كما ترى الجماعة أن المشاركة السياسية تتيح لها فرصة مزاحمة الغير على كسب الرأي العام، والاستفادة من التسهيلات الرسمية في التحرك، والتضييق على الإسلام الرسمي، وعلى إسلام الأحزاب السياسية. هذه الأحزاب، بنظرعبد السلام ياسين، أصبحت ترفع شعارات الإسلام أعلى فأعلى منذ تيقن العالم، وببرهان إيران وأفغانستان، أن القومة الإسلامية هي حقيقة المستقبل، وعربونها الصحوة الإسلامية الصاعدة. ويؤصل عبد السلام ياسين للمشاركة السياسية في التاريخ، من صلح الحديبية، وفي تاريخ الحركات الإسلامية، من تجربة حسن البنا . هذا التصورالذي يقدمه عبد السلام ياسين يختلط فيه العصيان بالمعارضة بالقومة، حتى ليحار متتبع المتن الفكري والتنظيمي والسياسي للعدل والإحسان: هل هي مع المشاركة أو مع المقاطعة؟ مما يضفي، بنظر المنافسين السياسيين، الكثير من علامات الغموض والالتباس على الفكر السياسي للجماعة، وعلى شكل المعارضة التي تمارسها.
سادسا- العدل والإحسان والمسألة الديمقراطية، كوابح الفكر وإكراهات السياسة:
يرى عبد السلام ياسين أن الديمقراطية ليست نقيضة الكفر بل نقيضة الاستبداد، لأن القول بأن الديمقراطية نقيضة الكفر يعني، بالحساب المنطقي، أن الاستبداد يعني الإيمان مما يعني القبول بكل مستبد يقول: أنا مسلم! ويؤكد ياسين أن لا نزاع له مع الديمقراطية إذا كيَّفناها مع المطالب الإسلامية .(حوار مع الفضلاء الديمقراطيين).
إن قضية التغيير اليوم، بنظرعبد السلام ياسين، هي قضية مصير أمة، تعيش على هامش التاريخ؛ فليست المسألة تداول على السلطة وحسب، من خلال نظام ديمقراطي، بل أكبر من ذلك. ثم إن الديمقراطية التي ينبغي الانطلاق منها هي تلك التي لا تخفي تحت أثوابها العداوة للدين، لأن الحوار في هذه اللحظة سيكون حوار صم؛ فكل فكر دخيل على الإسلام، بنظرعبد السلام ياسين، لا يمتثل لكلمة الله وسنة رسوله شجرة خبيثة. فأرضية اللقاء الديمقراطي إسلامية، لأن المستقبل للإسلام ! ولا يخفي عبد السلام ياسين حماسه لديمقراطية تحرر الأمة من أغلالها لتختار من يحكمها، كما تتيح لها، بنظره، الفرصة لكشف أعداء الدين الذين يسرون تحت عباءة الديمقراطية نية اغتيال الدين وإقصائه والتآمر عليه في تحالف مع المستبد الداخلي والحامي الخارجي . كما تفاعل ياسين مع الأفكار الداعية إلى تخليق الديمقراطية، مما يقربها من المرجعية الدينية، لكنه يعتبر الأمر صعبا إن لم يكن مستحيلا، لأن الذي يستطيع أن يخلق الديمقراطية هو رجل الدين أو رجل الآخرة .(كتاب الشورى والديمقراطية).
ورغم ذلك فإن الديمقراطية، بنظرعبد السلام ياسين، تتيح الفرصة للإسلاميين للاتصال والتواصل والمساومة والالتحام بالناس وإبلاغ كلمتهم وأفكارهم، واقتحام الحصار الإعلامي المضروب على المشروع الإسلامي . فالهدف الأول للجماعة ليس هو الديمقراطية بل الإسلام؛ والديمقراطية، في هذه الحالة، ليست إلا آليات لتنظيم الخلاف وترتيب تعددية الآراء داخل نظام تعددي مكون من أحزاب مختلفة.
فالديمقراطية، بنظرعبد السلام ياسين، تنظيم لا بأس به؛ هي مجالس نيابية، وغلبة أصوات، وأقلية تضمن لها حقوق، وحرية في التعبير والاعتراض والاختلاف، وتداول على السلطة، ودستور، ومؤسسات، واستقلال قضاء، مع سمو روح الشورى عنها لطابعها الديني وسياقها الرباني .(كتاب حوار مع الفضلاء الديمقراطيين)؛ إن الديمقراطية النظيفة،بنظر عبد السلام ياسين، خير من الاستبداد الوسخ، لكن كيف نستفيد من الديمقراطية دون العلمانية الملتصقة بها، والملازمة لها لزوم الظل للشاخص إلا قذى في عين الدين وصداعا في رأسه؟ ورغم حساسية عبد السلام ياسين من اللغة الحديثة المصاحبة للنقاش حول الديمقراطية، تسعى الجماعة إلى تلطيف لهجته في استعمال اللغة المتعارف عليها في المجال السياسي، معتبرة أن الواجب يقتضي القبول بالرأي المعارض، والاحتكام، عند المناقشة، إلى ما تفرضه الديمقراطية من حرية إبداء الرأي واحترامه مع نقده وتفنيذه بوسائل الإقناع المعتبرة أخلاقيا وقانونيا وعرفا وأدبا، مع الاحتكام في الأخير إلى رأي الأمة واختيارها وترجيحها . لكن الخطاب الفكري لعبد السلام ياسين ظل مسكونا بهاجس المقابلة بين الديمقراطية والشورى إلى حدود التناقض، كما خلق تعارضا بين المجتمع المدني وجماعة المسلمين، سواء على مستوى القاعدة، أو على مستوى العلاقات بين الأفراد؛ إذ تكون، بنظره، الرابطة في المجتمع المدني عبارة عن مصالح مادية على حساب الروابط المعنوية. فأساس العلاقة في مجتمع جماعة المسلمين هو الولاء الإيماني «والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض» (التوبة/72)؛ روابط معنوية.
كما يحصل التناقض بين الشورى والديمقراطية من حيث الهدف؛ إذ هدف الديمقراطية، بنظره، هو مقاومة الاستبداد وتأسيس المجتمع الديمقراطي، أما الشورى فهدفها مقاومة الكفر وتأسيس المجتمع الشوري لجماعة المسلمين بإقامة الصلاة والاستجابة لنداء الله والتوكل عليه ،(كتاب الشورى والديمقراطية)، كما يختلفان في الباعث؛ إذ باعث الديمقراطية التحرر من عبودية البشر، أما باعث الشورى فهو التحرر من كل عبودية لغير الله، سواء كان بشرا أو ثروة أو نفسا أو هوى . إن حافز الديمقراطية، بنظرعبد السلام ياسين، دنيوي محض، وحافز الشورى جمع الدنيا والآخرة مع تغليب كفة الآخرة. «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ »)القصص/60 ). كما تفارق الشورى الديمقراطية من حيث الآليات؛ فالشورى مبدأ عام ترك تفصيله لاجتهاد الناس، لكن وازعها الإيماني أهم وأكبر من مقتضياتها التنظيمية. كما يختلفان من حيث النظرة إلى الإنسان والدولة؛لذلك فالديمقراطيون، بنظرعبدالسلام ياسين، يريدون دولة القانون، والإسلاميون الشوريون ينشدون دولة القرآن .
أمام هذا التعارض الذي يقيمه عبد السلام ياسين بين الديمقراطية والشورى ينتهي إلى أن الديمقراطية مسكونة بروح اللاييكية (العلمانية)، أي معاداة الدين لما يلج الحياة العامة، عكس الشورى التي هي استجابة لأمر الله .(حوار مع الفضلاء الديمقراطيين). وعلى هذا الأساس يهاجم عبد السلام ياسين بقسوة اللايكيين العرب الراغبين في الفصل بين الدين والدولة في بلاد القرآن، ويعتبر ذلك مروقا عن الدين . كما يربط فصل الدين عن الدولة بالعقلانية؛ إذ بنظره، العلمانية، أو فصل الدين عن الدنيا، شرط من شروط العقلانية! عقلانية قائمة على عقل مطلق، يسميه ياسين "العقل المعاشي"، بعكس ما يتصوره هو عقلا إسلاميا وهو فعل القلب المؤمن بالله وبالآخرة وبالنبوة وبالشريعة ، عقل لا يجتهد،بنظره، إلا في حدود الشريعة.
إن التعارض الذي أحدثه عبد السلام ياسين بين الديمقراطية والشورى وبين المجتمع المدني وجماعة المسلمين، هو تعارض أسس على قراءة فكرية وسياسية، تحتاج اليوم إلى تحيين فكري كبير؛ إذ أصبحت الديمقراطية،عنده، معادية للدين، تريد نفض اليد منه، وتنقية الأدمغة منه . وأصبحت العقلانية مذهبية فلسفية تنكر الغيب، وليست منهجية علومية، وهي مملوءة بالتدليس، لتكون الديمقراطية والعقلانية مجرد بضائع فكرية مستوردة وكاسدة إلى جانب مفاهيم: التنمية، وحقوق الإنسان، ودولة القانون... كلها مفاهيم محاطة بهالة من الطهر والقداسة، ومملوءة بالتزوير والتحوير والتهويل ،(كتاب حوار الماضي والمستقبل)، لذلك كله نجد البناء الفكري للعدل والإحسان تجاه الديمقراطية يحتاج إلى تجديد وإضافة؛ فعبد السلام ياسين لا يتحفظ على العقل الاجتماعي ولكنه متوجس من المجتمع المدني، ويفضل عليه مفهوم "جماعة المسلمين" ،(كتاب الشورى والديمقراطية) كما لا يتحفظ على سيادة الشعب مادامت تلغي الاستبداد.
ولكنه متوجس من حقوق المواطنة، ما لم تضف لها الحقوق المعنوية والحقوق الشرعية التي تميز جماعة المسلمين، وعدم الاقتصار على الحقوق المادية وحسب . كما لا يتحفظ على الدستور وفصل السلط للمراقبة، ولا يتحفظ على دولة القانون لتفادي الفوضى والعشوائية والاستثناءات والقطع مع الأساليب الفرعونية في القول والعمل، لكنه يتحفظ على مكانة العقل في إنتاج هذا الركام التشريعي والتنظيمي الديمقراطي، لأن العقل يحيل على الفلسفة والدنيا والمطلق الأرضي .(كتاب حوار الماضي والمستقبل). كما لا يتحفظ على الحريات العامة، وحرية الصحافة، وحرية نقد الحاكم، وحرية مقارعة الآراء، لكنه متخوف من مبدأ حرية التعبير مستعيدا، مرة أخرى، التعارض المفتعل بين النظام الديمقراطي والنظام الشوري؛ ففي الأول تنشأ حرية التعبير في خضم رأس المال وتأثيره في صناعة الرأي العام، وتأثير أصحاب الأموال، ومن ورائهم قوى سياسية تتحكم في الإعلام وتوجيه الرأي العام بما يخدم مصالحها، مما قد يقود المجتمع، بنظر عبد السلام ياسين، إلى مهالك كثيرة؛ هذا يقود عبد السلام ياسين إلى التحفظ على حقوق الإنسان التي تصطدم بالشرع، بنظره ، من خلال التأكيد على أن السيادة للقرآن وعلماء الدين(كتاب العدل) ، وهم المكلفون، بنظرعبد السلام ياسين، بتنصيب خليفة المسلمين، أو تنصيب الإمام القطري في كل بلد تحرر . واحترام القانون في دولة الإمام،بنظرعبد السلام ياسين، يختلف عنه في الدولة الديمقراطية؛ فإذا كان احترام القانون في الدولة الديمقراطية، يكون احتراما طوعيا بناء على عقد اجتماعي، وبباعث الوطنية والمدنية، فإن الطاعة في دولة الإمام (الدولة الإسلامية) تكون ملزمة من جانب المحكوم مقابل التزام الحاكم باتباع الشرع بموجب عقد حقيقي صريح يتم الاتفاق عليه في بيعة لها قواعدها الشرعية وموجباتها ومبطلاتها، عكس العقد الاجتماعي المدني الذي أسسه روسو، فهو عقد وهمي أو ضمني. وعضد عبد السلام ياسين موقفه بتعريف البيعة كما ورد في مقدمة ابن خلدون .(كتاب العدل).
سابعا: تقويم وتركيب:
أ- عندما يكون الفكر كابحا للديمقراطية:
يرد الحديث كثيرا عن الدولة الإسلامية في أدبيات الحركات الإسلامية بعامة، كما يبرز عند الحركة الإسلامية المغربية؛ فجماعة العدل والإحسان التي تتخذ المشروع الفكري للشيخ عبد السلام ياسين مرشدا نظريا وإيديولوجيا في الفكر والحركة تعتبر وظيفتها الأولى تأسيس الدولة الإسلامية القطرية في أفق الخلافة على منهاج النبوة، من دون تقديم ما يفيد أن هذه الدولة الإسلامية هي نفسها الدولة الديمقراطية. ويبدو أن الشيخ ياسين يميل إلى أطروحة سيد قطب الذي يرفض الصياغة النظرية الإسلامية للقوانين والتصورات والأنظمة قبل القيام الفعلي للسلطة الإسلامية السياسية والمجتمع الإسلامي الذي يعلن خضوعه لتلك السلطة وإيمانه بها والإقرار بالحاكمية لله ورفض التشريعات الوضعية .(سيد قطب،معالم في الطريق).
وتشكل أفكار سيد قطب، رحمه الله، في المشروع الفكري لعبد السلام ياسين كابحا أساسيا للفكر؛ فقد وردت تحليلاته في أكثر من مكان، وهي تعبير عن تفاعل الحركة الإسلامية المغربية مع الفكر الحركي المشرقي خصوصا في فترة تشكل الأطر الفكرية والمرجعية للحركة الإسلامية المغربية في السبعينات وبداية الثمانينات، مع العلم أن فكر سيد قطب كان يمثل منحى خطيرا في الفكر الإسلامي الحديث، إلى درجة أنه كاد أن يقوض فكر حسن البنا الذي كان يقوم على مسؤولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادة الأمة. كما لم يكن يرى حسن البنا تعارضا بين الإسلام والأنظمة الديمقراطية؛ كالنظام النيابي، ولا يرى تعارضا بين الدساتير الوضعية والإسلام في كتابه (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي)، إذا كانت تلك الدساتير تعترف بسيادة الشريعة الإسلامية، وقصور العقل البشري، وهذا عكس أطروحة حزب التحرير الذي يرى كل الدساتير باطلة وتطبيقها في البلاد الإسلامية يحولها إلى "دار كفر" . ولكن بمجيء سيد قطب، في سياق ظروف خاصة كانت تمر بها جماعة الإخوان المسلمون،من فراغ أيديويلوجي وتنظيمي، و


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.