يميز المؤرخون المسلمون بين "القومة" و"الثورة" . يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: "كان المسلمون يكتبون في تاريخهم كلمة" ثورة" بإزاء كل خروج عن السلطان من طائفة باغية. ويستعملون كلمة"القائم" لوصف خروج أصحاب الحق الغاضبين بحق على السلطان الجائر"(1). ويقول:" المسلمون في تواريخهم يستعملون كلمة "ثورة" للدلالة على خروجٍ عنيف بغير حق. وفي كلمة "ثورة"إيحاء بالعجلة والعنف والاضطراب. ويستعمل مؤَرِّخونا كلمة "قومة" للإخبار عن الخارجين على الظلمة بحق. وكلمة "قومة" موحية بالقوة والثبات والثقة"(2). تختلف "القومة عن "الثورة" حسب الأستاذ ياسين في الحوافز والأساليب والأهداف. فالثورة أسمى ما يحركها الغضب ضد الظلم، أما القومة فإن دافعها الأساس غضب لله، غضب على انتهاك حرمات الله وتضييع حقوق الله. يقول الأستاذ ياسين: "تكون الحركة ثورة طائشة تهدم لا قومة لله تبني إن غلب الغضب على الحكام الظلمة وأعوانهم الغضب الأخر السامي"(3). غضبٌ سامٍ لا ينفي الغضب الفطري الآخر، الذي هو الغضب ضد الظلم، بل يضبطه ويوجهه. ويتحدث الأستاذ المرشد بوضوح عن علاقة الغضب السامي بالغضب على الظلم، علاقة الطليعة بعموم الشعب، والتي لا مندوحة للقائمين من معرفتها وفهمها، إذ يقول:"لا مناص من أن تضاف إلى حيثيات القومة اعتبارات تفصيلية للاستضعاف. ينبغي أن لا نكون من البلادة بحيث ننتظر قومة مجردة للحافز السامي وحده، ولا أن نكون من السطحية بحيث نترك الحوافز الدنيا تقود المعركة. المحسنون المتجردون لله قلة عددا، والعضل اللازم للقومة غذاؤه الغضب الطبعي. فليكن جهاد المحسنين، وطليعة المؤمنين، أن يحقنوا العضل الشعبي بجرعات إيمانية. وبلقاء الحافزين، وبقيادة الاعتبار الاحساني، وهيمنته، وجدارته وقدرته على ضرب المثال، نرتقي بالحركة عن مستوى الغضب الجماهيري إلى مستوى القومة لله"(4). وإذا كان أسلوب الثورة العنف وسفك الدماء والاغتيال السياسي فإن أسلوب القومة الرفق من غير ضعف، والقوة من غير حيف (لنتذكر تفسير القرطبي من غير ميل إلى أقاربكم أو حيف على أعدائكم) يقول الأستاذ ياسين: "إن الثورات تبني قوتها على الغضب الجماهيري على الأوضاع القائمة المكروهة وعلى الوعود بالبديل الأفضل. ثم لا شيء بعد نجاح الثورة واستقرار الانقلاب، إلا العنف الثوريُّ وتصفية الناس. في القومة الإسلامية نسأل أسئلة عمرو بن عبسة من نحن؟ ومن ابتعثنا؟ وبماذا ابتعثنا؟ ونستحضر أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعلن منذ البداية أن دينه صِلَةُ الرحم وحقن الدماء، لكنَّ دينه أيضا كسر الأوثان وتقويض بناء الشرك وإقامة دولة التوحيد والعدل والإحسان. وفي عمله الشريف صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة أمثلة فائقة للتؤدة والرفق والعفو والصفح الجميل"(5). يؤكد الأستاذ ياسين في أكثر من كتاب على أن القومة الإسلامية في المنهاج النبوي تعتمد أسلوب الرفق والتدرج. من ذلك قوله: "إن الرفق أصل عظيم من أصول العمل الإسلامي. وأعطيت للدعاة حرية اختيار أسلوب القومة في حدود مرسومة، حد مبدئي هو وجوب عصيان من لا يطيع الله من الحكام، وحد عملي تطبيقي يقول لك: إلى هنا يمكن أن تتصرف"(6). ويحدد الحد العملي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبته ويقاتل لعصبته فقتل فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه." رواه أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة(7). وعن التدرج يقول: "التدرج في مراحل القومة "لأمر جامع" يجمع جهود حزب الله المتعدد في واجهة الدولة، الواجهة الأفاقية، ريثما تتقارب الأنفس وتتبنى منهاجا واحدا للدعوة، ونظاما واحدا، وقيادة موحدة أمر ضروري. ولا عجلة فالتدرج صبر ومصابرة. أتى أمرالله فلا تستعجلوه"(8). لكن هذا التدرج وعدم الاستعجال لا ينبغي أن يتحول إلى استرخاء وانتظارية. يقول الأستاذ ياسين: "استرخى أو يكاد ذلك الذي أرسل القومة الإسلامية إلى أجل غير مسمّىً ريثما تتربى أجيال على الإيمان وتتألف القاعدة الواسعة. وعرض نفسه للخيبة العاجلة من تعجل فحسِب أنه بديل للعُقاب آكلِ الجِيَف بينما هو لا يزال فرخاً لم يُزْغِبْ. ربما يكون فرخ نسر قناص غلاب، لكنه فرخ في العش لا يزال"(9). بين الاسترخاء والاستعجال تأتي سنة التدرج بما هي استجابة لأمر الله الشرعي في العمل والإعداد، وتسليم لأمر الله القدري قبل كل عمل ومعه وبعده. ثم إن القومة تختلف عن الثورة في الأهداف. فإذا كانت هذه الأخيرة تنتهي في أحسن الأحوال إلى القضاء على الظلم، وإقرار توزيع عادل للثروات، والقضاء على الفوارق الطبيعية، فإن القومة تشمل ذلك "لا يمكن ولا يجوز أن نسمي أنفسنا قائمين إن لم يكن عدل الحكم بالشورى والعدل الاجتماعي بالقسمة الرشيدة أبرز بندين في برنامجنا"(10) وتمتد إلى أبعد من ذلك، يقول الأستاذ ياسين: "التمييز الطبقي أساس فلسفي وعملي لثورة الجاهليين يمكنهم بواسطة "دكتاتورية البرولتاريا" من تصفية طبقة وإحلال طبقة أخرى محلها...أما قومة الإسلام فلا يكفي فيها القضاء على الفارق الطبقي... إن كان العدل الإسلامي -عدل القضاء وعدل الأرزاق- هو أول المهمات وأظهرها لعين المراقب، فإن التغيير الجذري للأمة هو هدف القومة".ويقول: "القيام بين يدي الله عز وجل هو لب القومة ومغزاها وروحها". مضيفا:" القومة نريدها جذرية تنقلنا من بناء الفتنة ونظامها، وأجواء الجاهلية ونطاقها، إلى مكان الأمن والقوة في ظل الإسلام، وإلى مكانة العزة بالله ورسوله، ولابد لهذا من هدم ما فسد هدما لا يظلم ولا يحيف، هدما بشريعة الله، لا عنفا أعمى على الإنسان كالعنف المعهود عندهم في ثوراتهم"(11). ----------------------------------- (1) كتاب "سنة الله"، ص 290. (2) كتاب "العدل، الإسلاميون والحكم"، ص 246. (3) كتاب "المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا"، ص 372. (4) نفس المرجع، ص 263. (5) كتاب "الإحسان"، ج: 2، ص 315. (6) كتاب "سنة الله"، ص 296. (7) نفس المرجع، نفس الصفحة. (18) نفس المرجع، ص 300. (9) كتاب "تنوير المومنات"، ج: 1، ص 99. 10- كتاب "الإحسان"، ج: 2، ص 502. 11- كتاب "المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا"، الصفحات 263، 16، 9 على التوالي