شهدت الساحة المغربية نقاشا ساخنا على خلفية موضوع إصلاح التعليم وتعديل المناهج المدرسية..واحتد الجدل بعد صدور مشروع جديد يروم استعمال اللهجة الدارجة للتدريس بدل العربية الفصحى. جدل احتدم بقوة هذه الأيام بعد انفجار مهزلة استعمال كلمات بالدارجة في الكتاب المدرسي. استعمال العامية بدل الفصحى ليس موضوعا جديدا ولا حدثا راهنا. فقد بدأ في المشرق العربي خلال القرن التاسع عشر. وكان يرمي إلى القضاء على اللغة العربية، بإبعادها عن التعليم والإدارة وسائر المرافق الحيوية. وتفجر في المغرب في السنوات الأخيرة بعدما تبناه “نور الدين عيوش”، عضو المجلس الأعلى للتعليم المغربي ورئيس مؤسسة زاكورة للتربية، تحديداً عام 2011، إثر اختتام ندوة دولية حول إصلاح التعليم. ورفعت بعدها “مذكرة عيوش” أو “وصفته السحرية” لإصلاح المنظومة التعليمية. وكانت هذه الندوة مناسبة للإعلان عن ميلاد مشروعين جديدين حول “اللغة الدارجة”، أحدهما إنجاز معجم خاص باللغة الدارجة، والثاني، إنتاج برامج تلفزيونية لتعليم الدارجة للمغاربة. بعيدا عن الأسباب الخفية التي تخفيها مشاريع عيوش و مدى نجاعة مشروعيتها للنهوض بالثقافة والتعليم وإصلاح الخلل داخل المنظومة التعليمية المغربية. وبعيدا عن كل أهداف سياسية استعمارية تترصد مكامن الوحدة في البلد الواحد لتؤثت فيه قوميات متباينة متنافرة… فإن إدخال الدارجة للمقررات المدرسية سيثير مشاكل أعمق وأعقد مما قد نتصور . خاصة وأن المشاريع تلك لم تحسب حسابا لما سيخلفه اعتمادها عندما يتبنى الكتاب المدرسي لهجة دون أخرى، أخذا في الاعتبار التنوع الثقافي المغربي والتعددية اللغوية والاختلاف اللسني وتباين اللهجات في الإقليم الواحد. ناهيك عن الاختلاف البائن بين الشمال والجنوب والشرق والغرب…وعليه ستتناسل مشاكل غير متوقعة جراء تهميش لهجات واعتماد أخرى… الذي يتجاهله عيوش ومن والاه، هو مشكل التنوع الحضاري والاختلاف اللسني الذي يميز المغاربة عن أشقاءهم المشارقة. وان الربع البسيط من هذا الوطن يتكلم أهله لهجات عدة ويحملون ثقافات متباينة. أذكر هنا على سبيل المثال اختلاف اللهجة بين سكان المدن الشمالية المتجاورة. فبعيدا عن منطقة الريف التي لاتتكلم العربية. يتكلم سكان كل من طنجة وأصيلة وتطوان وشفشاون والعرائش والقصر الكبير، دارجة شمالية تتباين لهجتها ومفرداتها من مدينة لأخرى. وقد تشمل المدينة الواحدة من هذه المدن لهجات مختلفة وثقافات متباينة جراء تزايد الهجرات من القرى المتاخمة. ناهيك عن اختلاف هذه المنطقة بثقافاتها ولهجاتها ومسمياتها عن الداخل المغربي برمته. أستحضر هنا مرحلة إقامتي بمدينة فاس يوم رحلت إليها من أجل استكمال دراستي الجامعية. يومها وجدتني أتكلم عربية مبهمة .. فيها الكثير من الكلمات الإسبانية المتداولة. كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي. وقتها كان التواصل بين الشمال والداخل المغربي محدودا جدا . أذكر كم أثرت من ضحك هنا. و استهجان هناك.. وكم من شخص لم يسمع لهجة الشمال من قبل خالني من جنسية أخرى. ومن أجل تواصل مبين. ودرءا لحرج لايفتر… كان علي أن أعدل كلماتي تسعين درجة. فكان أن أضفت لرصيدي اللغوي كلمات كثيرة منها “ماشكماه” و”الناموسية” و”الغطار ” و”البطبوط” و”المسمن”… وتعلمت في الكيل ” رابعة صغيرة” و “رابعة كبيرة”. وفي العملة تعلمت الحساب بالريال الذي يساوي هناك خمس سنتيم. و كثيرا ما ورطتني المبالغ الصغيرة حين يفاجؤني بها البقال 14ريال و16 ريال و28ريال….. كثيرة هي الطرائف التي أثرتها هناك أو أثارتني. وكثيرا ما حرضت ضحكي أو ضحك من حولي بسبب تباين المعنى في الكلمة الواحدة، فكلمة المومبيا التي تقال في الشمال للمصباح تقال هناك لرجال المطافئ، و الليمون يقال هناك للبرتقال…. أما مراكش الحمراء فقد احتضتني بدورها كما احتضنتي فاس ومكناس والرباط وسلا… خمس سنوات سمان قضيتها هناك ، أثرت ثقافتي ولغتي. والطريف أني تعلمت فيها أن أقول “بيت” “بيتي” اختصارا لكلمة “ابغيت” “ابغيتي” التي تعني “أريد” “تريدين” وفي الدارالبيضاء تعلمت أن العاشق ليس المحب المثيم بل العاشق عند البيضاويين هو ملعقة الطعام و”زكا” تعني كن رصينا . و بعد أن جلت المغرب للإقامة في ربوعه لردح من الزمن.. تبينت عجز القواميس المتداولة عن تقديم تعريف منصف لبلد يزخر بمؤهلات عصية عن العد.. ثروة ثقافية لاحدود لها وغنى حضاريا وتنوعا في العادات والتقاليد تميز كل مدينة عن ماجاورها من المدن والقرى المتاخمة. وتصبغ كل منطقة بسحرها ونكهتها الفريدة. لعيوش ومن سار على دربه أقول لاضير ولاحرج.. شرط احترام الاختلاف…شرط حصول الإجماع.. شرط أن يكون مشروعك أفيد لبلدنا وأبناءه… إن جاء دارءا للخلاف دافعا للفتن.. إن احتمل ثقافاتنا المتنوعة، ولهجاتنا المتباينة… لا أن تسمى الكعكة “غريبة” بل أن تستحضر لتعريفها كل المسميات.