شيخ عبد الله كنون يرد على المستشرق الفرنسي ''كولان": ليست هناك أزمة لغة ولكن هناك أزمة استعمار تقتل اللغة وتبعد الشقة بين الدارجة والفصحى وثيقة تاريخية من الأربعينيات تكشف الجذور الاستعمارية لضرب العربية الفصحى ب ''الدارجة'' تكشف هذه الوثيقة التاريخية للشيخ عبد الله كنون حول ''العامية المغربية'' كما تكشف بالملموس والمؤسسات. الوثيقة تظهر بأن أول من أثار هذا الصراع هم المستشرقون بغاية تدمير الأمن اللغوي للمجتمع المغربي، من أجل التمكين للفرنسية، وهي حقيقة لم تفت المؤرخ عبد الله العروي الإشارة إليها في كتابه الأخير ''في ديوان السياسة''. تفضح هذه الوثيقة التي تعرض مقالين نشرا بمجلة الصباح المصرية، الأول للمستشرق ونشر في العدد 550 من الصحيفة والثاني للشيخ عبد الله كنون في العدد الموالي 551 تعود للأربعينيات من القرن الماضي، وأعاد نشرها في كتابه ''التعاشيب وطبع بالمطبعة المهدية بتطوان والذي كشف عن وجودها الدكتور محمد بن شريفة في بحثه القيم ''حول معاجم اللغة العامية المغربية عرض تاريخي'' والذي قدم في الدورة 65 لمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة ,1999 في نص كنون نجد ردا على المستشرق الفرنسي م.كولان الذي طعن في اللغة العربية الفصحى، بزعم أن الدارجة يُتعامل بها من قبل الناس خاصتهم وعامتهم، في حين تصدر القوانين والاحكام والكتب بالفصحى، ويعتبر كولان أن هذا الوضع يشكل أزمة للفصحى، يدعو ضمنا إلى حلها عبر دعم العامية من جهة والفرنسية من جهة أخرى، والرد القوي الذي قام به عبد الله كنون حين كشف الأغلاط العلمية والخلفيات الإديولوجية لهذه الدعوة وللحجج التي استند عليها كولان، مبرزا كيف يتم توظيف معطيات تاريخية ولغوية واجتماعية أحيانا للدفاع عن العامية المغربية ظاهرا، بغرض التمكين للفرنسية باطنا. وفيما يلي نص الوثيقة: عرض جريدة الصباح المصرية لمزاعم المستشرق م. كولان نشرت مجلة الصباح التي تصدر بمصر في عددها(550) مقالا بعنوان '' بحث إصلاحي للمستشرق م. كولان'' هذا نصه: الأستاذ م. كولان من أبرع المستشرقين الفرنسيين الذين يهتمون باللغة العربية ومقارنة لهجتها وقد وضع أخيرا بحثا قيما عالج فيه مشكلة اللغة في المغرب وتراوحا وتأرجحا بين الفصحى والدارجة ونشرت الحكومة هناك هذا البحث وها نحن نستخلصه للقراء. وإذا كنا نرى أنه يستحق التقدير إلا أننا نرى أيضا أنه يستأهل كثيرا من النقد وسيلاحظ القراء أن ما أشار إليه الأستاذ كولان من مواضع المقارنة بين اللهجتين العامية والعربية في هذا البحث لا ينطبق على بلاد المغرب وحدها وإنما يتجاوزها إلى سائر البلاد العربية (وغير العربية أيضا وهذا ليس من شأننا الآن) إذ تقوم في كل منها لهجة دارجة إلى جانب اللهجة الفصحى وهذا ما يزيد من أهمية هذا البحث ويشعر بضرورة نقده والتعليق عليه: ''تقوم في الغرب وسائر بلاد الضاد لغتان يتعامل بهما الناس لغة فصحى وأخرى دارجة وبالدارجة يتكلم الناس ويتفاهمون. وأما الفصحى فهي لغة الكتابة فحسب ولا يلم بها إلا المتعلمون وهي بعد ذلك لغة القرآن والحديث والشريعة والعلم والأدب. وأنت ترى في المغرب أن الناس خاصتهم وعامتهم من الخدم إلى العلماء يتعاملون بالدارجة على حين تصدر القوانين والأحكام والكتب بالفصحى وهذا الازدواج في اللغة يكلف الأدب المغربي كثيرا فيدخل عليه التصنع ولا سيما أن المرأة ولها أثر في المجتمع بعيدة عن المجتمع المغربي ولهذا يخرج الأدب المغربي مجردا من الحياة الصادقة النابضة ولهذا تجوز تسميته بأدب المتفيقهين. إذن فمشكلة اللغة في المغرب محصورة في أمرين، لغة فصحى وهي وسيلة الثقافة ولكن لا تفهمها إلا قلة ولغة دارجة غير صالحة كوسيلة للثقافة لتعدد لهجاتها وافتقارها إلى التعبيرات العلمية ولهذه المشكلة حلول ثلاث: أولها ما يطالب به الشباب المتعلم في المغرب من نشر الفصحى ونسخ الدارجة. وستند في مطالبته بذلك إلى تحقق هذه الغاية نسبيا في مدن الشرق الكبرى كالقاهرة ودمشق وبغداد. وهذا الاستناد غير صحيح إذ أن أهالي هذه المدن الشرقية منحدرون من أصل عربي ولهذا فإن الدارجة بقيت متصلة بالفصحى في كثير من مواضعها كما أن المتعلمين هناك نسبة كبيرة. على حين أن أهل المغرب ينحدون من أصول متباينة منها البربري و الإسباني والعربي، ولهذا يبدو الفارق بين الفصحى والدارجة لديهم كالفارق بين الفرنسية واللاتينية وهنا تتجلى صعوبة إحلال الفصحى محل الدارجة. وحتى في البلاد التي تيسر فيها هذا الإحلال نرى أنه لم يتيسر إلا في المدن. ومصداق ذلك أن القضاة القاهريين في الصعيد كثيرا ما يستعينون بمترجمين لفهم لهجة المتقاضين. وثاني الحلول، تعميم الدارجة التي يفهمها الجميع واتخاذها كلغة للثقافة. بيد أن هذا القول مردود بكثير من الحجج، منها أن لا وجود للدارجة إلا اصطلاحا إذ هي تنطوي على عدة لهجات واختيار واحد منها وتعميمها لا يتأتى إلا بالاستبداد والإرغام وإذا كان هذا وقع قبلا كما اتخذت لغة قريش للعربية ولغة قشتالة للإسبانية، فإنما لأن هذه وتلك وأمثالها قد صحبها ما يبرر هذه السيطرة من نفوذ ديني أو أدبي أو سياسي على حين أنه ما من واحدة من لهجات المغرب الدارجة تتميز على أخواتها بشيء أو يقوم لها أساس نحوي أو ثروة في التعبيرات العلمية ولا سيما في وجود لغة الله (؟) الفصحى. ثالثها الاستغناء عن الدارجة والفصحى معا إذا لم يكن مستطاعا تغليب إحداهما على الأخرى وتعميم اللغة الفرنسية في المغرب وجعلها وسيلة للثقافة وحدها. وهذا الحل غير منطقي وغير مقبول شكلا ولا موضوعا. وتواجه نفس الصعوبة المواجهة لنشر الفصحى، كما أن الفرنسية ليست لغة الإسلام الذي ينشر ظله على المغرب والقرآن والحديث وهما مرجع الإسلام فاحتلال الفرنسية محل الفصحى إنما يعتبر مزاحمة غير مرغوب فيها إن لم يعتبر عداء صريحا. كان معقولا أن يتاح هذا الحل لو أن العصور الوسطى قضت على الثقافة العربية ولكنها لم تفعل، ولكن الأدب العربي اتصل بالثقافة الغربية في القرن التاسع عشر ونقلت أسفار هذه إلى ذاك واهتم المستشرقون بالأدب العربي وأقبلوا على دراسته وعملوا على إظهار محاسنه وسحره. وأصبحت الفصحى وسيلة صحيحة صالحة للثقافة والترجمة عن الفكر الأوروبي. هذا أهم ما جاء في كتاب الأستاذ م. كولان ونحسب أن القراء قد أدركوا أهمية هذا البحث، وسنعود في الأسبوع القادم إلى تناوله بالدرس والنقد إن شاء الله. هذا عرض الصباح لرأي م. كولان. ودونك ما علقت به عليه في العدد التالي وقد عنونته ( بأزمة الفصحى في شمال إفريقية): رد الشيخ ''كَنون'' منشور بجريدة الصباح '' نشرنا في الأسبوع الماضي موجزا للبحث الذي نشره المستشرق الأستاذ كولان عن أزمة اللغة العربية في شمال إفريقيا (المغرب) والحقيقة أن جميع الأمم الناطقة بالضاد شرقا ومغربا تعاني اليوم كفاحا بين العربيتين الفصحى والدارجة وتؤثر هذه المعاناة في الحياة والأدب أيما تأثير. '' يقول الأستاذ كولان: وهذا الازدواج في اللغة يكلف الأدب المغربي كثيرا فيدخل عليه التصنع ولا سيما أن المرأة ولها أثر في المجتمع بعيدة عن المجتمع المغربي، ولهذا يخرج الأدب المغربي مجردا من الحياة الصادقة النابضة. ويقول أيضا: إن الاختلاف بين الدارجة والفصحى في المغرب أكبر منه كثيرا في البلاد العربية الأخرى لأن أهل المغرب مزاج من عناصر الإسبان والعرب والبربر بينما أهل الشرق أصلهم عربي. ثم اقترح الأستاذ كولان ثلاثة حلول لأزمة العربية في المغرب كما أوردنا في الأسبوع المنصرم. ونحن لا نشك هنيهة في أن للأسباب التي ساقها الأستاذ كولان وجاهتها، بيد أنها لا تؤلف إلا شطرا ضئيلا من الحقيقة.وأما الشطر الأكبر في أزمة اللغة العربية في المغرب فإنما يرجع إلى قوة سلطان الاستعمار هناك. ولو أن هذا الاستعمار قد اتخذ طريقا دستوريا مبسطا أو خفف من وطأة سيطرته قليلا، لما كانت هناك أزمة لغوية قاسية، ونمثل لذلك بمصر فلا يستطيع لأحد أن يقول عن أدبها الحديث أنه أدب المتفيقهين كما يقول الأستاذ كولان عن أدب المغرب، ذلك لأنها بدأت كفاحها الوطني منذ بعيد وكانت الروح الاستعمارية فيها أخف وطأة بكثير منها في المغرب ولهذا وجد التعليم والثقافة واللغة الفصحى متنفسا عندنا. كما أن خروج المرأة إلى المجتمع وهي مؤثر أدبي قوي لم يتجل في مصر إلا منذ 1919 ومنذ حينئذ أخذ يسير بخطى واسعة نتيجة التخفيف الاستعماري شيئا فشيئا حتى كاد يمحى. ولم يحاول الاستعمار في مصر أن يحارب اللغة كثيرا فبقيت اللغة العامية مقصورة على الفصحى المحرفة أما في المغرب فقد أدخلت كلمات كثيرة من الاسبانية والفرنسية والإيطالية على العربية فمسختها ولوثتها، وكم نخشى أن تثبت هذه الكلمات إلى النهاية في المغرب ثبوت الكلمات الفارسية في لغة العرب منذ الفتح العربي في فارس. وأما عن اقتراح الحلول فنحن لا نجد سبيلا نافعا أفضل من نشر التعليم العربي في المغرب بدرجة واسعة حتى تحل الفصحى محل الدارجة. بيد أننا نرى أن هذا الجهد لن يثمر إلا إذا خفت وطأة الاستعمار ورفعت يدها ولو قليلا عن رقاب المغاربة. إن لغة المغرب حتى الفصحى تبتعد عنا حتى في الكتابة وفي طريقة الخط وفي طريقة رسم الحروف، فنرى خطهم العادي بين النسخ والكوفي ونراهم يرسمون نقطة الفاء من أسفل ونراهم يضعون للقاف فقطة واحدة. وأرى أن الحكومة المغربية تكسب خيرا للغة والثقافة لو أنها استعانت بأساتذة مصريين في تنظيم التعليم هناك كما يفعل العراق اليوم. رد الشيخ عبد الله كَنون