رغما عنا تزحف العامية على المعجم العربي الفصيح، تؤازرها في ذلك أجهزة الإعلام والدعوات الإقليمية.. فهل يمكن الوصول إلى شكل من العاميات الفصيحة؟ منذ أكثر من نصف قرن، عرف المشرق العربي (خصوصا في مصر والشام) مساجلات حول ما يمكن تسميته بصراع الفصحى والعاميات، ساهم فيها كُتاب، منهم طه حسين وساطع الحصري وكمال يوسف الحاج، وغيرهم. وكان محور تلك المساجلات يقوم على دعوتين متعارضتين»، واحدة إلى اجتثاث العاميات والقضاء عليها لفائدة تجدر الفصحى وإشعاعها؛ والدعوة الأخرى هي إلى إحلال العاميات محل العربية الفصيحة، ليس في التدريس فحسب وإنما أيضا في شتى أنواع الكتابات الأدبية، الخ. وهذه الدعوة الثانية (التي ساندها إلى حد ما طه حسين قبل اضطلاعه بمسؤولية التعليم وتلقيبه بعميد الأدب العربي) قد فقدت مع الوقت جذوتها وحماتها وكادت تصير نسيا منسيا. وكذلك إلى المصير نفسه آل أصحاب الدعوة الأولى، كما تدل عليه المعاينة والتجربة. إن فشل الفريقين معا كان في الأصل بسبب تضخيمهم للفوارق بين الفصحى والعاميات وتمثلهم لها كمعطى بنيوي لا سبيل إلى تجاوزه أو حتى تليينه وتقليصه. ولعل أول علامة على تصدع هذا التمثل والطرح هو إقدام الأكاديميات العربية في مؤتمرها الأول (1956، دمشق) على استصدار توصية بضرورة فحص الكلمات العامية، العربية الأصل، والتي يمكن للغة الحديثة معجمتها ونشرها. وبعد ذلك كثرت، كما نعلم، الدعوات إلى الفصحى الوسطى، والعربية الميسرة أو الجديدةneo- arabe واللغة المستحسنة، كما يسميها ذ. أحمد الأخضر غزال. وهذه اللغة هي اليوم اللغة السيارة في الإعلام والتدريس، ولو أن البعض ما زالوا يلجون، عن تهافت وجهل، في تسميتها بالعربية الكلاسيكية. أما في بعض بلدان المغرب (خصوصا الأقصى والأوسط) نرى بين الفينة والأخرى نفرا من الصحافيين واللهجويين يعودون إلى الكلام في الموضوع ذاته، لا يهمهم في طرحه التاريخ كخزان تجارب وعبر، ولا منطوقات الدساتير، ولا إعمال مناهج البحث المتزن الرصين. وحتى كتابنا الفرانكفون انساقوا وراء تيار اللامعرفة، للإسهام في الإجهاز على لغة الضاد بدعوى أنها لغة المهزومين (كما يصرح بعضهم علنا) أو للخلوص إلى القول بأن la darija هي «لغتهم الأم»، مع لا أحدَ منهم يكتب بها؛ وهذا كله يجهر به هؤلاء وأولئك في المقالات والإعلام السمعي البصري، كما لو أنه لا توجد دراسات ومعاجم كثيرة تبرهن بالدليل المادي على صلات القرابة والرتق الكثيرة، والمجهولة عموماَ، بين طبقتي العربية، الفصيحة والدارجة، أو كما لو أن الفرنسيين مثلاَ في حياتهم اليومية يتكلمون لغة موليير وفولتيرأو ليست لهم لهجاتهم العامية والإقليمية. إن الدليل المادي الأبلغ والأدمغ على بطلان أقاويل «المدرجين»، النزاعين إلى سلخ العاميات عن جذورها اللغوية المشتركة، المتمثلة في لغة الضاد كلغة وسطى، ليقوم بالذات في صنف من الأبحاث ينضوي في فلك المعجمية، كما عرفها ومارسها العرب قديما، منذ أواخر القرن الثالث الهجري، أي كانشغال باللغة يقضي بجمع مادة مفرداتها وبعرضها مرتبة على هذا النحو أو ذاك، بحسب مخارج الحروف أو أواخر الكلمات أو بحسب الأصول والاشتقاقات أو بالترتيب الألفبائي... أما الأبحاث المشار إليها فإن مدار موضوعها هو الدارجة الفصيحة، تستقي موادها من المعجمية المقارنة، إذ تتمثل في العملية الترتيبية نفسها كلا من العربية الفصحى، كإطار مرجعي عام، وإحدى العاميات المتداولة كوجه من وجود اللغة بالفعل، حسب تعبير الخليل بن أحمد، أو كحقل تداولي جمهري (من الجمهرة) تنطبع فيه الفصحى وتنجز إحدى أهم قدراتها الاستعمالية المعبرة. ولعل العامية المغربية في هذا المنحى بالذات تتسم بأنموذجية معتبرة، وذلك لكون المغرب، كما نعلم تاريخيا، ظل مستقلا عن الباب العالي العثماني، ومن قبله عن التأثيرات الفارسية والرومانية، التي كانت بلاد الشام مرتعها الخصيب. أضف إلى هذا ما ذكره دارسون كثيرون، من أن الأندلسيين النازحين إلى المغرب كانت لهم لهجة أقرب إلى الفصحى وإلى لهجات الحجاز واليمن... تضيق الشقة إن كل الأبحاث المعجمية، مع تفاوت سعتها وتقنياتها، لهي حقا مساهمات عملية في محاولات تضييق الشقة بين الفصحى والعاميات الرئيسية، وبالتالي تقريب الشفوي من المكتوب، وذلك بدل البكاء على جرح الازدواج اللسني (diglossie) وانفصام الشخصية والوعي القومي، الخ. وفي هذا الاتجاه أسهم باحثون مشارقة بأعمال مهمة، ولو أنها متفاوتة السعة والجدة، ومنهم عمر الدسوقي والشيخ أحمد رضا وأحمد أبو سعيد، وغيرهم. وقوفا عند أنموذج الدارجة المغربية، هناك محاولات معجمية سعى أصحابها قدر جهدهم إلى جرد الألفاظ المشتركة بين الدارجة تلك والعربية الفصحى، كما فعل الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله الذي أصدر في الموضوع نفسه نصين، أولهما في عام 1964 وعنوانه: الأصول العربية والأجنبية للعامية المغربية (وهو مطبوع على الآلة الكاتبة)، وثانيهما في عام 1972 يحتوي على الموضوع الأول ويطوره، واسمه: نحو تفصيح العامية في الوطن العربي. إن عمل ذ. بنعبد الله، وإن اقتصر على أسلوب التمثيل بالعينات (أهمها من دارجة الرباط وقبائل زعير) لكاف وحده لإعطاء الدليل المادي على فساد أطروحة لويس برونو في كتابه مدخل إلى العربية المغربية، القائلة بأن العامية المغربية مستقلة عن العربية الفصحى بقدر استقلال اللغة الإيطالية الحديثة عن لاتينية سيسرون؛ وهذا الحكم الاعتباطي السخيف ما زال يكرره بعض الباحثين ممن لا دراية لهم بالموضوع، مثل برونو إيتيان («المجلة المتوسطية، عدد2) وغيره. لكن الدليل المادي ذاك، كما ألاحظ، ما زال بحاجة إلى صقل وتطعيم وبرهنات جامعة، وإنها لغاية يلزم السعي إلى الاسهام في بلورتها وتلبيتها، أكثر مما فعله محمد الحلوي في معجم الفصحى في العامية المغربية (1988). وما بات يقنعني أن هذا الورش يتسوجب عملا جماعيا هو أن اشتغالي به منذ سنوات، ولو على نحو متقطع، ما انفكت تغطيته بعيدة عن المبتغى والمراد، نظرا وفرة المادة وتشعب تقاطعاتها وإحالاتها. أما المنهج العام الذي يحسن إعماله وتطويره في مجالنا هذا، فهو الذي تفرضه طبيعة الموضوع المدروسة من حيث المناسبة والنجاعة، أي المنهج التركيبي السنكروني الذي لا يبحث بالضرورة والأسبقية في نشوء الكلمات التاريخي، بل يقوم أساسا بتثبيت وتجميع الكلمات المشتركة بين الفصحى والدارجة كحالات لغوية واقعة. ويبدو أن هذا المنهج يتحقق بطرق عدة، أهمها: تسجيل سلسلات كلامية عامية كعينات ممثلة مع إجراء قراءات مكثفة في الأدب الشعبي والأزجال والموشحات والأمثال، وذلك قصد اتخاذ موقف الاستفهام والتعجب أمام هيئة الكلمات، ككيانات حية معبرة، ثم التحقق من وجودها أو عدم وجودها في الدوائر المعجمية العربية الفصيحة، عملا بفرضية أن كل كلمة دارجة تنتمي أصلا أو اشتقاقا إلى لغة الضاد، وذلك حتى يظهر العكس. وهذه الطريقة قد تصعب وترهق، لاسيما وأن البحث في إمكانية انتماء عينات من الكلمات العامية إلى الفصحى قد يكون من دون نتيجة ولا طائل. ولمحاولة التغلب على صعوبات تلك الطريقة، قد يكون من الأفيد العمل على رصد والتقاط اللفظ المشترك مباشرة من أمهات الكتب في مختلف فنون القول، وعلى رأسها الشعر ديوان العربية وكذلك تراث هذه اللغة النثري المتنوع الزاخر. مثال واحد لتوضيح الفرق بين الطريقتين وأفضلية الثانية على الأولى: نقرأ لعبد الرحمن المجذوب: «لاتخمّم لا تدبّر/لا ترفد الهم ديمه// الفلك ما هو مسمّر/ ولا الدنيا مقيمه// يا صاحب كن صبّار/ اصبر على ما جرى لك// ارقد على الشوك عريان/ حتى يطلع نهارك[...] عيّطت عيطة حنينه/ فيقت من كان نايم// ناضوا قلوب المحنة/ ورقدوا قلوب البهايم// اللفت ولت شحمة/ وتنباع في السوق الغالي// في القلوب ما بقت رحمه/ شف حالي يا العالي»... فقد لا يلتفت في هذه الأبيات إلى وفرة الكلمات الدارجة الفصيحة إلا العارف المتمرس؛ أما إذا رجعنا إلى المعلقات السبع وقرأنا، على سبيل المثال لا الحصر، لامرئ القيس: «وليلِ كموج البحر أرخى سدولهُ/ عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي [...] ترى بعرَ الأرآمِ في عرصاتها/ وقيعانها كأنهُ حبُّ فلفلِ»، فلا ريب أن ذاكرتنا اللغوية الدارجة ستندهش لوجود كلمات أليفة لديها وتعرفها جيدا كهاته: ليل، البحر، أرخى، سدول، أنواع، الهموم، ليبتلي، بعر، عرصات، قيعان، حب، فلفل؛ وتنضاف إليها مفردات في أبيات المعلقة الأخرى: حنظل، مهراقة، معوّل، المسك، القرنفل، فاضت، كورها، لحم، شحم، المفتل، عقرت، حبلى، مرضع، ألهى، شق، حلفة، مهلا، سلي، ثياب، سهم، بيضة، يرام، الثريا، السماء، لبسة، يمين، حيلة، جر، ذيل، المخلخل، مصقولة، معطل، كتان، واد، جوف، صخر، حط ، الغبار، المركل، يلوي، خيط، ساق، نعامة، سد، عروس، حناء، شيب، صرة، ثور، نعجة، يغسل، شواء، قطن، يكب، نخلة، السباع... وكذلك الحال في مجمل المعلقات كلها.