تكشف هذه الوثيقة التاريخية للشيخ عبد الله كنون حول العامية المغربية أن افتعال الصراع اللغوي بين العربية الفصحى والدارجة المغربية قديم وليس وليد العصر الحديث، كما تكشف بالملموس الخلفيات غير البريئة للداعين اليوم لترسيم الدارجة والتمكين لها في الإعلام والمؤسسات. الوثيقة تظهر بأن أول من أثار هذا الصراع هم المستشرقون بغاية تدمير الأمن اللغوي للمجتمع المغربي، من أجل التمكين للفرنسية، وهي حقيقة لم تفت المؤرخ عبد العروي الإشارة إليها في كتابه الأخير في ديوان السياسة. تفضح هذه الوثيقة التي تعرض مقالين نشرا بمجلة الصباح المصرية، الأول للمستشرق ونشر في العدد 550 من الصحيفة والثاني للشيخ عبد الله كنون في العدد الموالي 551 تعود للأربعينيات من القرن الماضي، وأعاد نشرها في كتابه التعاشيب وطبع بالمطبعة المهدية بتطوان والذي كشف عن وجودها الدكتور محمد بن شريفة في بحثه القيم حول معاجم اللغة العامية المغربية عرض تاريخي والذي قدم في الدورة 65 لمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة ,1999 في نص كنون نجد ردا على المستشرق الفرنسي م.كولان الذي طعن في اللغة العربية الفصحى، بزعم أن الدارجة يُتعامل بها من قبل الناس خاصتهم وعامتهم، في حين تصدر القوانين والاحكام والكتب بالفصحى، ويعتبر كولان أن هذا الوضع يشكل أزمة للفصحى، يدعو ضمنا إلى حلها عبر دعم العامية من جهة والفرنسية من جهة أخرى، والرد القوي الذي قام به عبد الله كنون حين كشف الأغلاط العلمية والخلفيات الإديولوجية لهذه الدعوة وللحجج التي استند عليها كولان، مبرزا كيف يتم توظيف معطيات تاريخية ولغوية واجتماعية أحيانا للدفاع عن العامية المغربية ظاهرا، بغرض التمكين للفرنسية باطنا. وفيما يلي نص الوثيقة: عرض جريدة الصباح المصرية لمزاعم المستشرق م. كولان نشرت مجلة الصباح التي تصدر بمصر في عددها(550) مقالا بعنوان بحث إصلاحي للمستشرق م. كولان هذا نصه: الأستاذ م. كولان من أبرع المستشرقين الفرنسيين الذين يهتمون باللغة العربية ومقارنة لهجتها وقد وضع أخيرا بحثا قيما عالج فيه مشكلة اللغة في المغرب وتراوحا وتأرجحا بين الفصحى والدارجة ونشرت الحكومة هناك هذا البحث وها نحن نستخلصه للقراء. وإذا كنا نرى أنه يستحق التقدير إلا أننا نرى أيضا أنه يستأهل كثيرا من النقد وسيلاحظ القراء أن ما أشار إليه الأستاذ كولان من مواضع المقارنة بين اللهجتين العامية والعربية في هذا البحث لا ينطبق على بلاد المغرب وحدها وإنما يتجاوزها إلى سائر البلاد العربية (وغير العربية أيضا وهذا ليس من شأننا الآن) إذ تقوم في كل منها لهجة دارجة إلى جانب اللهجة الفصحى وهذا ما يزيد من أهمية هذا البحث ويشعر بضرورة نقده والتعليق عليه: تقوم في الغرب وسائر بلاد الضاد لغتان يتعامل بهما الناس لغة فصحى وأخرى دارجة وبالدارجة يتكلم الناس ويتفاهمون. وأما الفصحى فهي لغة الكتابة فحسب ولا يلم بها إلا المتعلمون وهي بعد ذلك لغة القرآن والحديث والشريعة والعلم والأدب. وأنت ترى في المغرب أن الناس خاصتهم وعامتهم من الخدم إلى العلماء يتعاملون بالدارجة على حين تصدر القوانين والأحكام والكتب بالفصحى وهذا الازدواج في اللغة يكلف الأدب المغربي كثيرا فيدخل عليه التصنع ولا سيما أن المرأة ولها أثر في المجتمع بعيدة عن المجتمع المغربي ولهذا يخرج الأدب المغربي مجردا من الحياة الصادقة النابضة ولهذا تجوز تسميته بأدب المتفيقهين. إذن فمشكلة اللغة في المغرب محصورة في أمرين، لغة فصحى وهي وسيلة الثقافة ولكن لا تفهمها إلا قلة ولغة دارجة غير صالحة كوسيلة للثقافة لتعدد لهجاتها وافتقارها إلى التعبيرات العلمية ولهذه المشكلة حلول ثلاث: أولها ما يطالب به الشباب المتعلم في المغرب من نشر الفصحى ونسخ الدارجة. وستند في مطالبته بذلك إلى تحقق هذه الغاية نسبيا في مدن الشرق الكبرى كالقاهرة ودمشق وبغداد. وهذا الاستناد غير صحيح إذ أن أهالي هذه المدن الشرقية منحدرون من أصل عربي ولهذا فإن الدارجة بقيت متصلة بالفصحى في كثير من مواضعها كما أن المتعلمين هناك نسبة كبيرة. على حين أن أهل المغرب ينحدون من أصول متباينة منها البربري و الإسباني والعربي، ولهذا يبدو الفارق بين الفصحى والدارجة لديهم كالفارق بين الفرنسية واللاتينية وهنا تتجلى صعوبة إحلال الفصحى محل الدارجة. وحتى في البلاد التي تيسر فيها هذا الإحلال نرى أنه لم يتيسر إلا في المدن. ومصداق ذلك أن القضاة القاهريين في الصعيد كثيرا ما يستعينون بمترجمين لفهم لهجة المتقاضين. وثاني الحلول، تعميم الدارجة التي يفهمها الجميع واتخاذها كلغة للثقافة. بيد أن هذا القول مردود بكثير من الحجج، منها أن لا وجود للدارجة إلا اصطلاحا إذ هي تنطوي على عدة لهجات واختيار واحد منها وتعميمها لا يتأتى إلا بالاستبداد والإرغام وإذا كان هذا وقع قبلا كما اتخذت لغة قريش للعربية ولغة قشتالة للإسبانية، فإنما لأن هذه وتلك وأمثالها قد صحبها ما يبرر هذه السيطرة من نفوذ ديني أو أدبي أو سياسي على حين أنه ما من واحدة من لهجات المغرب الدارجة تتميز على أخواتها بشيء أو يقوم لها أساس نحوي أو ثروة في التعبيرات العلمية ولا سيما في وجود لغة الله (؟) الفصحى. وثالثها الاستغناء عن الدارجة والفصحى معا إذا لم يكن مستطاعا تغليب إحداهما على الأخرى وتعميم اللغة الفرنسية في المغرب وجعلها وسيلة للثقافة وحدها. وهذا الحل غير منطقي وغير مقبول شكلا ولا موضوعا. وتواجه نفس الصعوبة المواجهة لنشر الفصحى، كما أن الفرنسية ليست لغة الإسلام الذي ينشر ظله على المغرب والقرآن والحديث وهما مرجع الإسلام فاحتلال الفرنسية محل الفصحى إنما يعتبر مزاحمة غير مرغوب فيها إن لم يعتبر عداء صريحا. كان معقولا أن يتاح هذا الحل لو أن العصور الوسطى قضت على الثقافة العربية ولكنها لم تفعل، ولكن الأدب العربي اتصل بالثقافة الغربية في القرن التاسع عشر ونقلت أسفار هذه إلى ذاك واهتم المستشرقون بالأدب العربي وأقبلوا على دراسته وعملوا على إظهار محاسنه وسحره. وأصبحت الفصحى وسيلة صحيحة صالحة للثقافة والترجمة عن الفكر الأوروبي. هذا أهم ما جاء في كتاب الأستاذ م. كولان ونحسب أن القراء قد أدركوا أهمية هذا البحث، وسنعود في الأسبوع القادم إلى تناوله بالدرس والنقد إن شاء الله. هذا عرض الصباح لرأي م. كولان. ودونك ما علقت به عليه في العدد التالي وقد عنونته ( بأزمة الفصحى في شمال إفريقية): رد الشيخ كَنون منشور بجريدة الصباح نشرنا في الأسبوع الماضي موجزا للبحث الذي نشره المستشرق الأستاذ كولان عن أزمة اللغة العربية في شمال إفريقيا (المغرب) والحقيقة أن جميع الأمم الناطقة بالضاد شرقا ومغربا تعاني اليوم كفاحا بين العربيتين الفصحى والدارجة وتؤثر هذه المعاناة في الحياة والأدب أيما تأثير. يقول الأستاذ كولان: وهذا الازدواج في اللغة يكلف الأدب المغربي كثيرا فيدخل عليه التصنع ولا سيما أن المرأة ولها أثر في المجتمع بعيدة عن المجتمع المغربي، ولهذا يخرج الأدب المغربي مجردا من الحياة الصادقة النابضة. ويقول أيضا: إن الاختلاف بين الدارجة والفصحى في المغرب أكبر منه كثيرا في البلاد العربية الأخرى لأن أهل المغرب مزاج من عناصر الإسبان والعرب والبربر بينما أهل الشرق أصلهم عربي. ثم اقترح الأستاذ كولان ثلاثة حلول لأزمة العربية في المغرب كما أوردنا في الأسبوع المنصرم. ونحن لا نشك هنيهة في أن للأسباب التي ساقها الأستاذ كولان وجاهتها، بيد أنها لا تؤلف إلا شطرا ضئيلا من الحقيقة.وأما الشطر الأكبر في أزمة اللغة العربية في المغرب فإنما يرجع إلى قوة سلطان الاستعمار هناك. ولو أن هذا الاستعمار قد اتخذ طريقا دستوريا مبسطا أو خفف من وطأة سيطرته قليلا، لما كانت هناك أزمة لغوية قاسية، ونمثل لذلك بمصر فلا يستطيع لأحد أن يقول عن أدبها الحديث أنه أدب المتفيقهين كما يقول الأستاذ كولان عن أدب المغرب، ذلك لأنها بدأت كفاحها الوطني منذ بعيد وكانت الروح الاستعمارية فيها أخف وطأة بكثير منها في المغرب ولهذا وجد التعليم والثقافة واللغة الفصحى متنفسا عندنا. كما أن خروج المرأة إلى المجتمع وهي مؤثر أدبي قوي لم يتجل في مصر إلا منذ 1919 ومنذ حينئذ أخذ يسير بخطى واسعة نتيجة التخفيف الاستعماري شيئا فشيئا حتى كاد يمحى. ولم يحاول الاستعمار في مصر أن يحارب اللغة كثيرا فبقيت اللغة العامية مقصورة على الفصحى المحرفة أما في المغرب فقد أدخلت كلمات كثيرة من الاسبانية والفرنسية والإيطالية على العربية فمسختها ولوثتها، وكم نخشى أن تثبت هذه الكلمات إلى النهاية في المغرب ثبوت الكلمات الفارسية في لغة العرب منذ الفتح العربي في فارس. وأما عن اقتراح الحلول فنحن لا نجد سبيلا نافعا أفضل من نشر التعليم العربي في المغرب بدرجة واسعة حتى تحل الفصحى محل الدارجة. بيد أننا نرى أن هذا الجهد لن يثمر إلا إذا خفت وطأة الاستعمار ورفعت يدها ولو قليلا عن رقاب المغاربة. إن لغة المغرب حتى الفصحى تبتعد عنا حتى في الكتابة وفي طريقة الخط وفي طريقة رسم الحروف، فنرى خطهم العادي بين النسخ والكوفي ونراهم يرسمون نقطة الفاء من أسفل ونراهم يضعون للقاف فقطة واحدة. وأرى أن الحكومة المغربية تكسب خيرا للغة والثقافة لو أنها استعانت بأساتذة مصريين في تنظيم التعليم هناك كما يفعل العراق اليوم. رد الشيخ عبد الله كَنون في كتاب هذا تعليق الصباح على بحث م. كولان وهو غير كاف في دحض ما يحتويه من أباطيل فضلا عن اشتماله على بعض الأغلاط التي انجرت إليه من تقريره لأسباب الأزمة المزعومة في البحث. ونحن لذلك نعقب عليه بما يكشف عن غره ويميز لبابه من قشره، وهو هذا المقال الذي كتبناه لنشره بالصباح ولكنا غفلنا عن إرساله في حينه حتى برز بها أيضا كلام في الموضوع اعتبرناه كافيا في الرد على أصل المسألة فلم نر حاجة في نشره. قرأنا ما نشرته الصباح الغراء بالعدد (550) عن أزمة الفصحى في بلاد المغرب من بحث للأستاذ كولان وما علقت به عليه في العدد بعده يليه. وقد كانت سبق إلى نشر البحث إحدى جرائدنا الوطنية (جريدة الأطلس العدد 1) وعلقت عليه بما يستحق. وحدانا إلى كاتبة هذه الكلمة أن تعليق الصباح لم يكن إلا بحسب ما يبدو من ظاهر كلام مسيو كولان، وذلك الكلام له باطن كما له ظاهر ونحن نعرف باطن هذا المسيو وغيره من مستشرقي السياسة لا العلم إن صح التعبير. فالأزمة التي يتحدث عنها المذكور لا وجود لها إلا في مخيلته، وفرنسا وإن مضت على فرنسة التعليم منذ نزلت هذه البلاد، لم تقدر أن تخلق هذه الأزمة، لأن الشعب المغربي جد متشبث بعربيته ويقدمها في الطلب على كل لغة أخرى، يساعده على ذلك أساتذة المعاهد الدينية وعلى رأسها القرويين وأساتذة المدارس الأهلية التي وإن تكن قليلة فإنها ذات أثر بليغ من هذه الناحية. فأما أن عامية المغرب هي أبعد عن الفصحى من عامية مصر والشام والعراق فهذا لا يصح ولا يمكن أن يقول به إلا جاهل أو مضلل يريد أن يصل إلى غايته من طمس الحقيقة وتزويرها ولو عن طريق الإفك والبهتان. ولا نريد أن نتعصب للمغرب أو نفاخر الأقطار الشقيقة بما نقول ولا كنا نقرر حقيقة واقعية ونكتب للتاريخ الأدبي فيلزمنا أن نصرح ولا نداجي في شيء بأن عامية المغرب هي من أقرب اللهجات وأقربها إلى الفصحى لكثرة ما تشتمل عليه من التراكيب الصحيحة والكلمات الفصيحة، فهي لا تزال محتفظة بتصاريف الفعل على اختلافها ومراعية الفرق بين المذكر والمؤنث في غالب الاستعمالات، وفي الجمل الاسمية هي أقل العاميات التي سمعناها حشوا وتحريفا للكلم إلى غير ذلك. أما عن كثرة المفردات اللغوية التي تشتمل عليها فحدث ولا حرج حتى أن منها ما قد يعد اليوم عند بعضهم من قبيل الغريب بل إن فيها ألفاظا كثيرة من هذه الكلمات غير القاموسية التي تسمي بعض الأشياء أو تدل على بعض المعاني المستجدة في العصور العربية المتأخرة مما لم يتضمنه كتاب ولا نص عليه قاموس إلى الآن، ودونك جملة ألفاظ من النوعين؛ الغريب والكلمات غير القاموسية الشائعة في العامية المغربية مما استذكرناه الساعة؛ الزمام( لقائمة الحساب ونحوه) مضربة (لنوع من الفراش) العيالات ( النساء) تقلق (أكثر القلق) براكة ( البيت من الخشب ) الجونة الجرى ( للوكيل على الكراء فقط) العظاءة مخدة ( للوسادة) المردية ( لصفات المخنثين، وهي نسبة إلى المرد جمع أمرد ويمكن أن يقال فيها سجعة المردية مردية) الأبجدي ( للأمي نسبة إلى أبجد) بنين ( وصف لشيء جميل) الغضار ( لطبق الطعام وصانعه وهو الغضار يقع ذكره في الكتب) الشياط ( لرائحة الاحتراق) الخلالة ( لما يقال له بالمصرية الدبوس) الغرارة ( معروفة ومن أمثال العامة كسبت الفارة غرارة يقال لمن يباهي بالشيء التافه) مثلثة (لنوع من الفراش) الزلافة ( لصحن صغير ذي كعب في أسفله) التبان، الطارمة ، السهوة ، الكباب، الخضاب ، شنق للدابة ( كبحها بلجامها) البخنق.العتلة وفعلها عتل. السبنية. قفقف. الدرد ( للراسب في الإناء) التبطين الميدة تسوق. انقز ( وثب) المشور. الهيشر هذا من بابة هذا.فهذه ستة وثلاثون كلمة مما أمكننا أن نستحضره ونحيل على مراجعه في هذه الساعة، وغيرها كثير مما يلزم التوفر عليه وتخصيصه ببحث مستقل. ولسائل أن يسأل ما هو السبب الذي بقيت به عامية المغرب قريبة من الفصحى في حين ابتعدت عنها عامية الأقطار العربية الأخرى على قربها من موطن العروبة الأصلي وبعد المغرب عنه؟ والجواب سهل وهو أن سبب ذلك استقلال المغرب الذي لم يتطاول إليه الحكم التركي في حين أن هذا الحكم قد شمل سائر البلاد العربية وعمر فيها قرابة ستة قرون. فقضى على جميع ما كان فيها للعربية من مجد وسمو وبقيت لا ترفع رأسا إلى زمن الانبعاث في عصر محمد علي. أما المغرب فقد سلم من ذلك التسلط الأعجمي وبقي محتفظا بصبغته العربية وزاده قربه من الأندلس وحلول مهاجرة الفردوس المفقود به استعرابا وشدة تمكن من العربية حتى لقد غير عليه عهد كان وحده حامل راية العروبة لا ينازعه فيها منازع. وقد عبر عن ذلك العلامة محمد بيرم الخامس صاحب كتاب صفوة الاعتبار بهذه العبارة البليغة التي هي دليل قاطع في هذا الموضع: لعمري إن صناعة الإنشاء في الدول باللغة العربية كادت تكون الآن مقصورة على دولة مراكش. فبان بهذا أن ليس في المغرب أزمة لغة، وان المغرب كغيره من البلاد العربية يتكلم العامية والفصحى، كما تواطأ على ذلك كل من الصباح و مجلة الصباح؟، وليس عامية المغرب أبعد عن الفصحى من العاميات العربية الأخرى بل هي أقربها أو من أقربها إليها. وأنه إن كانت هناك أزمة على الحقيقة فهي أزمة التعليم كما أشارت لذلك الصباح في تعليقها فإن المغرب على عظمته ليس فيه إلى الآن غير ثلاث مدارس ثانوية وهي كالمدارس الابتدائية التعليم فيها بالفرنسية لا غير. أما العربية فتلقى كلغة إضافية في حصص قليلة جدا وليس بالمغرب تعليم عال ولا جامعي أصلا لا بالفرنسية ولا بالعربية ما عدا التعليم الديني بالقرويين كما هو معلوم. هذا ما يتعلق بأصل المسألة وجوهرها وأما ما أضيف إليها من ذيول وحواش فكله لا أصل له ولا حظ له من الثبوت كقول الباحث أن أهل المدن الشرقية ينحدرون من أصول عربية بخلاف أهل المغرب فإنهم بربر وإسبان ثم عرب ولذلك يسهل تعميم الفصحى بين أولئك ويصعب بين هؤلاء فإن هذا الكلام يمكن أن يكون حجة على الاغمار والبلداء. لما نحن ومعنا أهل العلم بأصول الأجناس ( الأنثربولوجيون) فنعرف أن أهل تلك المدن الشرقية فيهم الفارسي والتركي والديلمي والكردي والأرمني والقبطي والرومي وسواهم كما فيهم العربي ولكن ليس وحده فهم إذن أكثر عجمة واختلاطا. وكذلك قول الصباح المستند إلى هذه الحجة أن كلمات كثيرة من الإسبانية والفرنسية والإيطالية قد أدخل على العربية في المغرب، فإنه بعيد جدا من الصواب، والعامية في المغرب ونعني به المغرب الأقصى لم تتأثر بلغة المستعمر أصلا وفي بقية الأقطار المغربية إن كان وقع شيء من ذلك فهو دون ما وقع للعامية في مصر والشام والعراق وغيرهما من التأثر العظيم بالتركية. أما أن الأدب المغربي بعيد عن الحياة الصادقة بسبب بعد المرأة عن المجتمع فتلك مسألة أخرى ولا خصوصية للمغرب بها بل هي عامة في سائر البلاد الإسلامية. ومع ذلك فإن تباشير النهضة الأدبية الجديدة تحمل على حسن الظن بالمستقبل ولا سيما عند الأخذ بضبع المرأة وتعليمها كي تمكنها المشاركة والتعاون مع الرجل في بناء ذلك الصرح الممرد. ومسألة الحظ التي أشارت إليها الصباح هي كما قالت. والمغرب أخذ في الخط أخذ الأندلسيين الذين حافظوا على الخط العربي الأول الذي حمله بنو أمية معهم إلى هذه الديار. وما أحرى هذه المسألة بالدر في مجمع لغوي يحضره أدباء وعلماء المغرب والمشرق معا فيصلون فيه إلى نتيجة تقرب من شقة هذا الخلاف الواقع بين الخطين. ولسنا ممن يجمد على حالة وجدنا عليها آباءنا إن كان الخير في غيرها ولا ممن يتعصب فيقول لا نترك من أمورنا هذه شيئا فإن أرادوا هم فليتبعونا. وفيما عدا الخط لا نرى أن هناك خلافا بيننا وبين المشرق في هذه العربية أصلا، فقول الصباح إن لغة المغرب(حتى الفصحى) تبتعد عنا حتى في الكتابة وفي طريقة الخط وفي طريقة رسم الحروف، هو من الكلام الملقى على عواهنه الذي ينقصه كثير من التحقيق والتدقيق. هذا المقال، ودونك ما جاء في الصباح تتمة لهذا المبحث بالعدد (553) تحت عنوان المستشرق كولان والتمويه الاستعماري: من طريف الأكاذيب في المذكرة التي وضعها المستشرق م كولان عن أزمة اللغة العربية في المغرب وهي المذكرة التي لخصناها وترجمناها لقرائنا وتولينا الرد عليها بإيجاز منذ أسابيع قلائل، إنه يقول إن القضاة المصريين في الصعيد كثيرا ما يتعذر عليهم فهم لهجة الأهلين هناك، مما يحدوا بهم إلى الاستعانة بمترجمين. وقد تحدثنا إلى الصديق الكريم الدكتور زكي مبارك في هذا الشأن، وهو بهذه المناسبة على صلة بالمستشرق كولان، فأيد ما قلناه أن هذه المذكرة بكل ما جاء فيها ليست إلا تمويها استعماريا يطلى به المستعمرون وجوه الحقائق، ويحاولون بهذه الأراجيف أن يفهموا أهل المغرب أن ما عندهم من ضعف شأن الفصحى وطغيان الدارجة إنما هو من بعض ما عندنا. ولا أدل على سوء نية الاستعمار في المغرب من أن المستعمرين أرادوا في عام (1931) أن يتبعوا مذهب فرق تسد وراحوا يدخلون في روع أهل المغرب أنهم نشأوا عن أصلين عربي وبربري وأرادوا أن يضعوا نظاما قضائيا خاصا للبربر وآخر للعرب ليثيروا الحفائظ والسخائم بين أولائك وهؤلاء، وبهذا يسود الاستعمار. ولكن أهل المغرب تنبهوا آنذاك إلى الدسيسة وثاروا عليها فأسرع إليهم المسيو (دوميرج) واستطاع أن يخمد النار بالملاطفة وإظهار الود إلى حد العناق والتقبيل. ومن محاولة إيقاظ هذه الفتنة القديمة في هذه المذكرة تتضح نوايا المستشرق كولان الاستعمارية، فليست هناك أزمة لغة ولكن هناك أزمة استعمار تقتل اللغة وتبعد الشقة بين الدارجة والفصحى وتدخل الغريب على اللغة. ومصداقا لهذا يقول الدكتور زكي مبارك إن الدارجة في تونس غير بعيدة من الفصحى، بل هي قريبة من دارجتنا في مصر، على غير الحال في الجزائر إذ يتعذر علينا فهم دارجتهم وذلك لشدة وطأة الاستعمار في الجزائر وخفتها في تونس ، ولا سبيل لانتصار الفصحى هناك إلا باضمحلال نفوذ الاستعمار. هذه تتمة الصباح للبحث ونلاحظ أنها تؤيد ما ذهبنا إليه من أن السياسة هي التي أملته على صاحبه، وأن عامية المغرب في العموم فصيحة خلاف ما يزعمه مسيو كولان. وتلك شهادة الدكتور زكي مبارك لعامية تونس، ولا يقاس مسيو كولان بالدكتور زكي مبارك في المعرفة بأسرار اللغة العربية. ونعتقد أن لو سمع الدكتور عامية المغرب لكان حكمه أوضح، ولهجته أصرح لأن أفضل ما يمتاز به بين إخوانه من أدباء مصر عدم المداجاة في الحق. هذا ولا يخفى ما في هذه التتمة من بعض الأغلاط التاريخية المتعلقة بالقضية البربرية، وحيث أنها ليست من موضوعنا فقد غضضنا عنها الطرف.