مرة أخرى، يطلع علينا نور الدين عيوش بندوة حول تدريس الدوارج المغربية في المؤسسات التعليمية المغربية باعتبار ذلك هو المفتاح السحري للخروج من الأزمة التي تتخبط فيها المدرسة المغربية، وهي الندوة التي اختتمت أشغالها برفع توصيات إلى الديوان الملكي. وبما أنني لا أعرف، شخصيا، العلاقة التي تربط عيوش بالتعليم، والحافز وراء هذا الإصرار الغريب على الدخول بالمدرسة المغربية في متاهات جديدة يعلم الله وحده مآلاتها، واقتراح أشياء تتجاوز الدستور وتمس ثوابت الأمة وتتطفل على موضوع هو من اختصاص المؤسسات العلمية والتشريعية، فإنني أذكّر مرة أخرى ببعض التصورات حول هذا الموضوع علّها تلجم بعض المتطفلين وتصرفهم إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة. أذكّر، أولا، بأن الاهتمام باللهجات العربية عموما كان محط انتباه عدد من اللغويين والأدباء القدماء، أمثال الكسائي صاحب كتاب "ما تلحن فيه العامة" والمفضل بن سلمة صاحب "الفاخر في ما تلحن فيه العامة" وابن قتيبة صاحب كتاب "أدب الكاتب" والجوالقي مؤلف كتاب "المعرب" وابن الحسن الزبيدي الإشبيلي الأندلسي صاحب كتاب "لحن العوام" وغير هؤلاء كثير. والملاحظ أن الاهتمام بهذه اللهجات، في التراث العربي القديم، كان الهدف منه التنبيه إلى الأخطاء التي يرتكبها عامة الناس أثناء استعمالهم للغة العربية الفصحى. أما في العصر الحديث فقد عاد الاهتمام بالدوارج العربية في سياقين اثنين هما: 1 - سياق استشراقي واستعماري، كان الهدف منه تمكين الجنود والمعمرين الأجانب من اكتساب هذه الدوارج للتفاهم والتواصل مع السكان، حيث أسس لهذا الغرض عددٌ من المعاهد والمدارس في بعض الدول العربية والأجنبية، وخاصة فرنسا؛ ثم تشجيع استعمال هذه اللهجات ومحاربة العربية الفصحى باعتبارها اللغة التي توحد العرب والمسلمين، والقادرة على منافسة اللغات الأجنبية، بالإضافة إلى كونها لغة الدين، المحرك الرئيسي لثقافة المقاومة، كما هو واضح في السياسة اللغوية الفرنسية في شمال إفريقيا؛ 2 - سياق علمي فرضه تطور الدرس اللساني المعاصر الذي ركز أساسا على اللغات المنطوقة أكثر من اللغات المكتوبة. وفي هذا الصدد، أنجزت عدة أوصاف لبعض اللهجات العربية من لسانيين عرب وأجانب، مثل دراسة ابرهيم أنيس للهجة القاهرة، ودراسة تمام حسان للهجة عدن، ودراسة عبد العزيز حليلي للهجة فاس... وتواترت هذه الدراسات، خاصة بعد توصيات عدد من المجامع اللغوية العربية بدراسة اللهجات العربية من أجل المساعدة على تدريس العربية الفصحى وتسهيل اكتسابها. وعليه، لم تكن اللهجات العربية على امتداد التاريخ العربي والإسلامي محط اهتمام بيداغوجي، وظلت تقوم بوظيفة التواصل اليومي والسريع في توزيع وظيفي تكاملي مع العربية الفصحى، مما حرمها من تطوير نسقها اللغوي، خاصة في جانبه المعجي، للتعبير عن المفاهيم الحضارية والعملية والفنية والتقنية، بالإضافة إلى غياب المسحة الجمالية، ويؤكد ذلك الخليط اللغوي غير المتجانس لبنيتها اللغوية. إن المدرسة فضاء لتنمية مهارات الطفل اللغوية وتطوير كفاياته الذهنية والمعرفية والثقافية والتواصلية والاستراتيجية، وليست فضاء لتكريس واقعه الذي يعيش فيه؛ فإذا كان الطفل المغربي يكتسب نسقه الدارج في البيت والمحيط بطريقة ضمنية، فلماذا ننفق الساعات الطوال في تحصيل الحاصل. ثم إن العربية الفصحى ليست لغة أجنبية عن الطفل المغربي، كما يؤكد ذلك اللساني المغربي الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، بل إن اكتساب اللسان الدارج يشكل جزءا مهما من بناء النسق الفصيح، بسبب التشابهات الكبيرة جدا على كل المستويات؛ فعلى المستوى المعجمي، مثلا، يتعلم الطفل في بيته كلمات (دا، طابلة، رزبية، كاس، لحم، دجاج، حوت، ماء، ضوء، عمي، خالي، جدي، خرج، جلس، لعب، نعس،...)، وهي كلها كلمات فصيحة؛ أما على المستوى الصرفي فيتعلم هذا الطفل صياغة الفعل الحاضر بزيادة صريفة "ك" في بداية الفعل" كيلعب" كما هو الحال في المستوى الفصيح حيث تزاد صريفة المضارعة في أول الفعل "يلعب". ويتعلم وضعَ الموصوف قبل الصفة (ولد صغير)، والمضاف قبل المضاف إليه (كتاب ديال ختي)، والمجرور بعد الجار (فالدار)... وكلها ظواهر لغوية موجودة في الفصحى. ليست علاقة الفصحى بلهجاتها بدعا في هذا المجال، بل هذه ظاهرة تعرفها كل اللغات، باعتراف لسانيين كبار؛ وتبقى المسألة متعلقة بمستوى الاختلاف بين هذه المنوعات اللغوية، لهذا لا يتعلم الطفل الفرنسي بالضرورة نفس الفرنسية المتداولة في بيته ومنطقته اللهجية (خاصة هوامش المدن الكبرى) بل يتعلم الفرنسية المعيار، ونفس الأمر ينطبق على الطفل الإنجليزي الذي يذهب إلى المدرسة لتعلم إنجليزية الملكة أو ما يسمى بإنجليزية BBC، باعتبارها وسيلة لنقل المعرفة ورمزا للوحدة الوطنية، خاصة مع تأكيد الكثير من الدراسات النفسية والسوسيولسانية على تحول التميز اللغوي إلى مدخل للهويات المغلقة، مفتاح الانفصال والتصدع السياسي. استند أصحاب هذه الدعوة إلى التقرير الذي تضمنه البرنامج الاستعجالي بخصوص عدم تمكن نسبة كبيرة من التلاميذ المغاربة في المستوى السادس الابتدائي من التحكم في النسق العربي، لكن هل يعتبر هذا مبررا كافيا لإلغاء هذه اللغة؟ فالتقرير نفسه أكد على ضعف أكثر شدة في اكتساب النسق الفرنسي وإنجاز العمليات الرياضية، فهل يعني هذا الأمر ضرورة إلغاء هذه المواد من البرنامج الدراسي؟ إن تحول لهجة ما إلى لغة مدروسة، أو لغة تدريس، يحتاج إلى معايير صارمة وضعها علماء اللسانيات الاجتماعية، أهمها الانتقاء والمعيارية والمقبولية، فأية لهجة سندرس في المدرسة المغربية؟ خاصة وأن المغرب بلد يعرف تنوعا لهجيا كبيرا جدا في شقيه العربي والأمازيغي، مما حدا بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية نفسه إلى محاولة التوفيق بين مختلف اللهجات الأمازيغية لإحساسه بصعوبة تدريس كل لهجة على حدة. أعتقد أن فوائد تدريس العربية الفصحى على شخصية الطفل المغربي والمدرسة المغربية والمجتمع ككل لا تعد ولا تحصى (منها تزويده برصيد ثقافي ومعرفي ضخم، وربطه بفضاء جغرافي واسع وغني جدا، وتمكينه من الإحساس بالانتماء المشترك إلى نفس الوطن)، لهذا ينبغي توجيه الاهتمام إلى إعادة النظر في طرق تدريس هذه اللغة، وتوفير الظروف البيداغوجية المناسبة، من بينها الإغماس اللغوي، ووضوح الشريك اللغوي، والتركيز على مهارات التواصل والتعبير في كل المستويات، مع تبسيط القواعد اللغوية باستثمار الدرس اللساني المعاصر، والاهتمام بصناعة الكتب المدرسية... خاصة أن بعض التجارب في دول عربية حققت نتائج مبهرة، منها تجربة الطفل "باسل" ابن الدكتور عبد الله الدنان الذي استضمر النسق اللغوي الفصيح بعد قرار الأب التحدث إلى ابنه بالعربية الفصحى منذ ولادته، في حين ترك للأم التحدث إلى طفلهما بالدارجة، هكذا اكتسب الطفل النسقين معا بنفس السرعة والكفاءة. أخشى، إن تحققت أحلام عيوش، أن يأتي يوم يجد فيه المغربي الذي درس بالدارجة صعوبة في قراءة القرآن الكريم وفهم كل ما كتب باللغة العربية، ثم ينغلق المغاربة كل في قوقعته اللغوية والعرقية.. آنذاك سيسود هذه البلاد بؤس كبير، فهل تعقلون؟ محمد نافع العشيري *باحث سوسيولساني وعضو الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية