ما السر وراء عودة الحديث عن الدارجة بعد أن تم إقبارها من قبل المجلس الأعلى للتعليم في عهد مزيان بلفقيه؟ هل هي محاولة لتنفيذ ما أفشلته القوى الحية سلفا؟ أم هي محاولة للاستفادة من العلاقات الخاصة لتنفيذ الأجندات المهددة للمشترك الوطني؟ تعقيبا على مداخلة السيد عيوش في إحدى الندوات التي نظمت مؤخرا بالرباط, قلنا بأن أهم مميزاتها هو التبسيط الذي يصل حد السذاجة في معالجة الإشكالية اللغوية، وليس اكثرها سذاجة إلا المقترح الأخير حول التدريس بالعامية والذي أثار استهجان كل الفعاليات التربوية والأكاديمية. والأمر ليس جديدا على السيد عيوش، لأنه لا يستفيد من دروسه، فلم يفلح تنظيم مؤسسته لندوة اللغة واللغات في يونيو 2010 وجمعه للعديد من الصحفيين والدارسين المغاربة والأجانب للمنافحة عن اللغة المغربية (العامية) ودور لغة التواصل اليومي في الإنتاج المعرفي ومحاربة الأمية ونشر التعليم، في إثبات أطروحته المتهافتة. وفي سياق مناقشة هذه الدعوة ينبغي الإشارة إلى أمور أساسية: 1 الحرب على العربية حرب بالوكالة: لا ينبغي لقارئ خطاب الدعاة إلى الدارجة أن يقف عند حدود الشعارات البراقة المتحدثة عن التعدد اللغوي والخصوصية المغربية والمزايلة الهوياتية والثقافية للمغاربة عن المشارقة والثقافة المشرقية. فدفاع رواد الحركة الوطنية عن الإنسية المغربية لم يتناقض مع منافحتهم عن عروبة الانتماء. ولم يتناف حديث الجابري عن عقلانية المغرب وعرفانية المشرق مع دفاعه المستميت عن العربية والعروبة. مما يعني أن دفاع هؤلاء عن الدارجة لا علاقة له بالخصوصية الوطنية أو الهوياتية وإنما بأبعاد إيديولوجية أكبر من دائرتهم الضيقة. فبشيء من التأمل العرضي سنجد أن الدفاع عن العامية المغربية يجد أصوله الحقيقية خارج الوطن وفي دوائر أعم وأشمل. فيكفي الاستدلال بترسيم الدارجة لغة ثانية بعد اللغة الإسبانية في المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية ورفض إدارة الاحتلال لمشروع ترسيم اللغة العربية لغة ثانية في المدينتين الذي سبق وأن تقدمت به جمعية مسلمي سبتة للبرلمان الإسباني. إضافة إلى الاهتمام المتزايد أوربيا بإحياء الحديث عن الدارجة المغربية وتدريسها وعقد الندوات والمؤتمرات للتبشير بأهميتها. وحين أنجز «الميثاق الأوروبي حول اللغات الإقليمية ولغات الأقليات» أدرجت فرنسا «العربية العامية» ضمن لغات فرنسا، وكانت قد أدخلت هذه العامية مادة اختيارية في امتحان شهادة البكالوريا، أي الثانوية العامة، يُجرى الاختبار فيها شفاهيا، واستمر ذلك إلى يناير 1995، عندئذ جعلت العربية الدارجة مادة كتابية وتركت للتلاميذ الخيار بين كتابتها بالحرف العربي أو كتابتها بالحرف اللاتيني، وأوكلت مهمة الإشراف عليها إلى المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، وكانت على «كرسيّ العربية» فيه الأستاذة الباحثة «دومينيك كوبي» حيث دافعت بحماس فائض على العاميات العربية مستنقصة قدر اللغة الفصحى. وفي معهد اللغات الشرقية أعيد ترتيب قسم العربية وأصبح مشتملا على فروع أربعة: العربية الفصحى والعربية المصرية والعربية المغاربية والعربية الشرقية. وفي الفترة نفسها تمت مراجعة المعيار الترتيبي لمراكز اللغات، فقد كان ذلك يتم بحسب عدد الطلبة المسجلين في كل قسم، فألغي ذلك المعيار وأقيم ترتيب جديد نهائي هو: أولا-قسم اللغة العبرية، ثانيا- قسم اللغة البربرية، ثالثا- قسم العربية. فهذه الأمثلة تفيد أن الأمر لا يتعلق بدفاع عن لغة التداول اليومي بقدر ما يرتبط بأجندات خارجية ودوائر أكبر تستهدف التفتيت لا المزايلة الهوياتية. إن الدفاع عن الدارجة ليس إلا مظهرا من مظاهر الفرنكفونية التي تلبس في كل مرة لبوسا ثقافيا جديدا بغية تفتيت كل مظاهر الممانعة الهوياتية . فالناشط الدارجي يدافع عن انتمائه المغربي إما بلهجته أو بلغة فرنسية . وليس إخراج الورقة اللهجية إلا من أجل المراهنة على التفتيت بدل الهوية .. فحزب فرنسا كما يلقبه أحد الصحافيين قد أخذ على عاتقه محاربة العربية باسم الدارجة وخلق صراع بينهما, مع العلم أن الدارجة المغربية ليست إلا لهجة من لهجات العربية ولكل مجالها التداولي الخاص. 2 الدارجة المغربية لهجة عربية: جل المتدخلين في الموضوع بعيدون كل البعد عن البحث العلمي اللساني الرصين والمؤسس كما تحيل عليه لائحة المشاركين في الندوات المنظمة لهذا الغرض، وغير متمكنين من آليات البحث في السياسة اللغوية، فالأحرى اقتراح نماذج تربوية معينة. فمن الناحية اللسانية يمكننا الخلوص إلى أن العامية المغربية هي لهجة عربية. فكل لغات العالم تعيش الازدواج القهري والمفروض الذي يجعلها تحيا وتتعايش مع لهجات التداول اليومي. ولو تأملنا اللهجات العربية المتناثرة على طول العالم العربي لوجدنا الاختلاف بينها محدود ولا يخرج عن الجانبين الدلالي والصوتي . «فاللهجات العامية المتفرعة عن العربية في بلاد المغرب واليمن والحجاز ، لا يوجد بينها إلا فروق ضئيلة في نظام تكوين الجملة وتغيير البنية وقواعد الاشتقاق والجمع والتأنيث والوصف والنسب والتصغير ...، أما الاختلاف في الجانب الصوتي والدلالي فقد بلغ درجة كبيرة». أي أن وجود العامية المغربية هي حالة طبيعية للتداول اليومي الذي تتداخل فيه المؤثرات الجغرافية والتاريخية والبشرية لتنتج آلية للتواصل العادي العامي تختلف عن الخطاب العربي الرسمي. وفي سيرورة الإنتاج هذه كانت لكل جهة لهجتها الخاصة التي قد تجعل أحيانا التواصل بين أهل الوطن الواحد صعبا, بل قد يكون مستحيلا. فبقليل من التأمل في الاختلاف اللهجي بين شرق المغرب وغربه وجنوبه وشماله نخلص إلى نتيجة واحدة : الاختلاف اللهجي لا ينفي الوحدة الأصلية لكل التنويعات والانتماء الواحد إلى اللغة العربية . والدليل على ذلك هو وجود بعض الآثار الفارسية في الكلام المغربي بالرغم من عسر الاتصال بين فارس والمغرب عن طريق الدخيل في المعجم العربي . وقد أشار عبد العزيز بنعبد الله : «وقد أشار كثير ممن درس أنساب الفصائل السلالية المغربية إلى أن القبائل الرحالة في سهول المغرب الغربية وأقاليم عبدة ودكالة والشاوية وشرقاً بالحدود الجزائرية ما زالت تحتفظ بعروبتها الأصيلة التي طبعتها منذ الفتوح الأولى. وقد أثر ذلك في العنصر البربري ,حيث لوحظ أن عامية القبائلية بالجزائر تشتمل على نحو ثلث الألفاظ العربية». ليخلص إلى وجود توافق قد يغيب عن ذهن القارئ العرضي أو الإيديولوجي غير المختص بين عاميتي القاهرةوالرباط عدا خلاف بسيط في الشكل مثل بات وباح يبات ويبوح بكسر فاء المضارع في القاهرة وبتسكينه في الرباط. *(رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية) ويعرف الخاص والعام بأن الدارجة المغربية هي اللغة المستعملة يوميا من قبل أغلبية المغاربة (أزيد من 85 في المائة حسب الإحصاء الرسمي)، وهي لغة تولدت تاريخيا عن التفاعل العميق بين الأمازيغية اللغة الأصلية لسكان المغرب، وبين العربية اللغة القادمة من الشرق مع مجيء الإسلام، تمّ ذلك عبر تثاقف حضاري طويل المدى، وتمّ بشكل سلمي بعد استقلال المغاربة عن سلطة العرب المشارقة وإقامتهم دولتهم المستقلة، ولهذا فهي تمثل عنصر خصوصية مرتبطة بالشخصية المغربية وتعطي صورة عن عمق التفاعل التاريخي والحضاري الذي كان المغرب مسرحا له منذ قرون طويلة. ولأسباب موضوعية لا علاقة لها بالإيديولوجيات المتصارعة، وجدت الدارجة المغربية نفسها تلج المدرسة بشكل عفوي عبر الخطاب اليومي للمدرسين، حيث يكتشف كل مدرس صعوبة تفاهمه مع التلاميذ بسبب حاجز اللغة ( العربية أو الفرنسية) التي يشعر التلاميذ أنهم لا يفهمونها بالوضوح اللازم، وخوفا من انعدام التواصل بين المدرسين وتلامذتهم بدأت ظاهرة الدارجة منذ عقود تغزو المدرسة، وأصبحت لغة تدريس للعديد من المواد داخل الأقسام، دون أن يكون ذلك موضوع مذكرات أو قرارات إدارية للدولة، وهو نفس الواقع الموجود في مصر وبلدان الخليج بصفة عامة، حيث يكتشف المرء أن بلدان العرب الأقحاح لا تستعمل فيها العربية الفصحى في التعليم إلا عند رجال الدين، بينما تحتل الدوارج والأنجليزية بقية الفضاءات. يمكن القول انطلاقا من هذه الحقيقة بأن هذه اللغة التواصلية اليومية عنصر لصيق بالذات المغربية، وبأنماط السلوك والتعبير اليومي وكذا بالتقاليد والعادات الجمعية، إنها بشكل ما تعدّ بجانب الأمازيغية أحد عناصر الشخصية القاعدية للمغرب، أو بتعبير أوضح أحد مظاهر «روح الشعب» المغربي . لهذا نستغرب من الطريقة التي يواجه بها بعض المحافظين مواطنيهم من الذين يدعون إلى اعتراف الدولة بالدارجة المغربية، واعتبار ذلك تآمرا على العربية وعلى الدين الإسلامي وعلى «ثوابت الأمة»، وهلم جرا من التهم الجاهزة والتي أصبحت من فرط الابتذال أرخص من سقط المتاع. إن المطلوب عوض الهجاء والتحامل هو التفكير العميق في وظائف اللغات بالمغرب، والبحث عن الأساليب الإجرائية لتدبير التعددية اللغوية الوطنية بشكل يضمن المردودية العملية والتواصل وجودة التعليم واكتساب المعارف العلمية، وتحرير الألسن من التردد والتلعثم والخلط بين اللغات الذي أصبح ظاهرة مغربية بامتياز. إن الوضعية التي يدعو إليها بعض المواطنين دفاعا عن الدارجة هي في الحقيقة وضعية قائمة منذ زمن، وهي أن الدراجة لغة تدريس في المغرب، وهي وضعية تترسخ بقوة الأشياء، لا بسلطة التعليمات أو القرارات الفوقية، ف»لغة الشعب» لا بدّ أن تحتل المواقع تلو الأخرى في الإشهار والدراما والفن والخطاب اليومي والمدرسة، دون أن يعني ذلك أنها ضدّ اللغات الأخرى أو أنها مخطط تآمري، إلا إذا كان الشعب يتآمر على نفسه.