يحاول الاستاذ "محمد بودهان" جهد المستطاع، في بعض مقالاته المنشورة على موقع هسبريس التركيز على مسألة أساسيّة، وهي انفصال العلاقة بين الدارجة والفحصى. في محاولة عاملة ناصبة للاستدلال على موت اللّغة العربيّة، بسبب افتقادها، حسب زعمه، الى الوظيفة التواصليّة. كما حاول بتعسف كبير يفتقر لشروط النظر اللسانيّ، الاستدلال على أن الدّارجة المغربيّة نسق ذو أصول أمازيغيّة. من يقرأ المقال بتأن، يتأكد له بالملموس، أنّه تضّمن كلّ شيء، سوى العلميّة والموضوعيّة. فالرجل حاطب ليل جمع شتاتا من أفكار تطبعها الاعتباطيّة، دون أن يجعلك تحس بأنك تقرأ لباحث متمرّس. فلا نظريّة لسانيّة يستند عليها، و لا مراجع علميّة يعضد بها كلامه. و كل ما هنالك، شتم وتنقيص، وتهجم وتجريح تجاه اللغة العربيّة، وكأنّني أسمعها تقول بلسان حالها: واذا أتتك مذمّتي من ناقص فهي الشهادة لي بأنّي كامل نعود الى موضوعنا لمناقشة بعض القضايا التي طرحها الكاتب. و يعلم الله أنّني ما كنت لأردّ عليه، لولا خوفي من أن تعلق هذه الأخطاء في أذهان القراء الكرام، غير المتخصصين، فيلتبس عليهم الحقّ بالباطل. يجمع أغلب الباحثين على أنّ التفرّع اللغويّ ظاهرة طبيعيّة تعرفها جميع اللّغات الطبيعيّة. اذ يحصل أن تتفرّع اللّغات الى لهجات كلّما اختلفت المناطق الجغرافيّة، والطّبقات الاجتماعيّة. وتكون الاختلافات أوضح عندما تتّسع المساحة الجغرافيّة التي تنتشر فيها اللّغة، فتنشأ لهجات ودوارج وعاميات، تختلف عن اللّغة الأصل في الأصوات و الصّرف والتّركيب والدّلالة والتّداول. ويحدث أيضا، أن تتقاسم اللّغة ولهجاتها الوظائف السوسيولسانيّة، وهي ظاهرة تعرف ب "الازدواجيّة اللغويّة" أو" Diglossia". وقد أكّد اللسانيّ الفرنسيّ "أندريه مارتيني" أنها ظاهرة كليّة و عالميّة. لقد انتبه القدماء الى هذه الظاهرة، فوضعوا كتبا ضخمة لاصلاح ما يطرأ من لحن وفساد على ألسنة المتكلّمين، في محاولة منهم لكبح جماح هذا التفرّع الطبيعي. فكتب أبو الحسن علي بن حمزة الكسّائي " كتاب ما تلحن فيه العامّة"، و ألف المفضّل بن سلمة" الفاخر فيما تلحن فيه العامّة"، وصنّف ابن قتيبة" أدب الكاتب"، وصنّف الجوالقيّ كتاب" المعرّب" وألف الحريري" درّة الغوّاص"، وكتب الخفّاجيّ" شفاء الغليل في الدّخيل"، و ألف بن جزي الغرناطيّ" الفوائد العامّة في لحن العامّة"، وكتب الزبيدي" لحن العوام". والأمثلة أكثر بكثير مما ذكرنا. كما انكبت اللّسانيات الحديثة، اهتماما منها باللّسان المنطوق، على دراسة اللّهجات، حيث ظهر فرع من اللّسانيات سمّي ب"علم اللّهجات-Dialectology". وقد حظيت اللّهجات العربيّة بعناية خاصة من لدن المستشرقين و الدّارسين العرب على السواء، كل بحسب خلفيّاته، حيث حاولوا تحديد خصائصها، و مقارنتها بالعربيّة الفصحى. ونخصّ بالذّكر كتاب" في اللهجات العربية" ل"ابراهيم أنيس"، و كتاب "لهجات العرب" لمحمود يتمور، كما قام "تمام حسان" بدراسة لهجة اليمن، و درس "ابرهيم مذكور" اللّهجات العربيّة الحديثة في مصر... أما في المغرب و بعض دول المغرب العربيّ الأخرى، فقد حظيت اللّهجات بدراسات كثيرة، منها الدّراسات التي نشرها "وليام مارسيه" حول " عربية طنجة"، و "اللّهجات العربيّة لأولاد ابراهيم". والدّراسات التي نشرها "لويس برونو"، منها" مدخل الى اللّهجة المغربيّة" و"دراسة حول صيغة فعال في الدارجة المغربيّة". كما نشر "جون كانتينو" كتاب" تأمّلات حول فونولوجيا الدّارجة المغربيّة"، وكتب "دافيد كوهين" عن" الدّارجة المغربيّة الحسّانيّة في موريطانيا"، ولهجة يهود الجزائر". أما الدارسون المغاربة فقد أنجزوا، هم أيضا، عددا من المؤلّفات التي تهتمّ بالدّارجة، منها كتاب" فونولوجيا ومورفولوجيا الفاسية القديمة" لعبد العزيز حليلي، وكتاب" وصف صوتي وفونولوجي للهجة العبابدة" لأحمد الادريسي، وكتاب "من قضايا اللّسانيات العربيّة واللّهجيّة المغربيّة( لهجة الدّار البيضاء نموذجا) لأمينة فنان، بالاضافة الى عشرات من المؤلّفات والأطاريح الجامعيّة التي تناولت الموضوع. ولا يقتصر الأمر على الدّراسات اللسانيّة الصّرفة، بل تعدى ذلك الى الدّراسات السوسيولسانيّة التي تناولت ظاهرة الازدواجيّة في العالم العربي بصفة عامة، و المغرب بصفة خاصة، منها دراسة "وليام مارسيه(1931)"، ودراسة "فرغسون(1959)" و"المعتصم(1974)" و"بنتاهيلا(1983)" و"اليوسي(1983)" و"العباسي(1977)" و"جيفري هيلت(1989)" و"بنسينا(1999)" و "العشيري(2009)"... ويلاحظ المتتبع أنّ كلّ هذه الدّراسات ركزت على وصف بنيات هذه اللهجات، أو المقارنة بينها وبين الفصحى، أو بين بعضها البعض، أو دراسة العلاقة الازدواجيّة بين الفصحى والدارجة. لكن أحدا منها لم يشر الى أن النّسق الدّارج مستقل عن الفصحى، أو أنه مشتق من نسق آخر، كما ذهب اليه صاحبنا، الذي يدّعي أن الأمازيغيّة أصل النسق الدّارج. يقول الباحثان موحا الناجي وفاطمة صديقي( وهما باحثان في اللسانيات الأمازيغية) في كتابهما"Introduction to Modern Linguistics":" تنحدر الدارجة المغربية تاريخيا من العربية الفصحى، والتي تتقاسم معها الكثير من الخصائص البنيوية من قبيل، الصرفات الصرفية التي تحلق الأفعال... لكن الدارجة المغربية، باعتبارها لغة أما، أصبحت عرضة للتغيير تحت تأثير الأمازيغية والفرنسية."(ص168).(مثل عبارة اللحم خضرا- طلاعي في مخي) ان هذه الخصائص المشتركة تشمل جميع المستويات اللسانيّة، بدءا من الأصوات، و انتهاء بالمعجم، ومرورا بالصّرف والتّركيب. فبالنسبة للأصوات، يشترك كلا النسقين في عدد كبير من الصّوامت"consonants" باستثناء بعض الصّوامت القليلة ك "ث" و"ظ" و"ذ" التي تغيب في الدّارجة، كما يشتركان في نفس "المصوتات: "vowels" اذ يتضمنان معا ستّة مصوتات، ثلاثة منها قصيرة و الأخرى طويلة(باستثناء مصوت واحد في الدارجة). بالاضافة الى تشابه بينتهما المقطعيّة، والكثير من خصائصهما الفوقطعية "Suprasegmentals" كالنّبر و التّنغيم... أما من الناحية الصرفيّة، فتنتمي كل من الفصحى والدارجة الى ما يسمى باللّغات غير السلسليّة"non-concatinative"، والتي تنتج عنها العمليات الاشتقاقية، كتوليد المصادر وأسماء الأفعال و أسماء المفعول... لا عن طريق اضافة السّوابق واللّواحق فقط الى الجذع كما يحصل في الفرنسيّة والانجليزيّة مثلا، بل عن طريق تغيير البنية الداخليّة للجذر مثل " رجع- راجع" في الفصحى، و "خدم –خدّام" في الدّارجة. كما يشتركان في الكثير من الصّريفات الصرفيّة الدالة على الزمن والجنس والعدد والتعريف والتنكير. فالدارجة، مثلا، تحافظ على موقع صرفة الزمن( الياء أو التاء أو النون) في بداية الكلمة، مع اضافة متغيّر صرفيّ يختلف باختلاف المناطق الجغرافية والانتماءات الطبقيّة من قبيل "ك" كيلعبو، أو "التاء" تيلعبو، أو اللام" ليلعبو". كما يشتركان في علامات التأنيث" معلمة- معلمات"، و يتاشبهان في أقسام الكلام( ضمائر، أسماء، أفعال، مصادر...)، وفي خصائصها التوزيعية. و اذا قارنا بين الفصحى والدّارجة من الناحية التركيبيّة، نجد أنهما يشتركان في الكثير من الخصائص. فهما معا ينتميان الى فصيلة اللغات ذوات الرتبة "ف.فا.مف"، و يتشابهان في بنيّة المركبات، فالصفة تأتي بعد الموصوف في النسقين معا" كتاب مفيد- كتاب زوين". والمضاف يأتي قبل المضاف اليه ( كتاب التلميذ- كتاب ديال التلميذ). كما يشتركان في بعض قواعد المطابقة بين الفعل والفاعل، و خاصّة اذا تأخر الفعل عن الفاعل كما في " لولاد جاو"، بينما تعتبر جملة" لولاد جا" جملة لاحنة في الدارجة، كما في الفصحى. أمّا من الناحية المعجميّة، فيلاحظ عموما أن الاقتراض ظاهرة عالميّة، اذ ليست هناك لغة خالية من الدّخيل. وهي ترتبط غالبا بمخترعات أو مفاهيم، أو مصطلحات علمية، أو كلمات ذات أبعاد ثقافيّة، كما هو الحال في القرآن الكريم الذي وصفه الله عز وجل باللّسان العربي المبين، رغم تضمّنه على كلمات ذات أصل فارسيّ و سريانيّ و رومانيّ وفينيقيّ...، لكن أغلبها، على قلته، اندغم في النّسق العربي، ومع ذلك قلّما تقترض الأفعال والحروف والرّوابط والظّروف والصفات من لغات أخرى. بخصوص العلاقة المعجميّة بين الفصحى والدارجة، يلاحظ الانسان العاديّ layman والمتخصص على السّواء، درجة التقارب بين النّسقين، وهذا ما يفسر تفاعل الأشخاص الأميّين مع الكثير من القنوات الفضائيّة الناطقة بالفصحى، وسرعة تفاعلهم أيضا مع المسلسلات الناطقة أو المدبلجة بلهجات عربيّة أخرى، و خاصة المصرية و السورية. فاذا أخذنا حقلا معجميّا بسيطا مثل حقل الجسد أو البيت، سنجد تشابها كبيرا بين الفصحى والدارجة. فهناك: الراس- جبهة- شعر- العين- نيف أو منخار- ودن- خد- فم- سنان- عنق- صدر- يد- رجل- ركبة- معدة- كبدة- مصارن...)، بل يتجاوز التشابه بين أسماء من هذا القبيل الى الأفعال ( كل- شرب- نعس- ناض- مشى- رجع- قرا- فهم- جلس- تخاصم...)، والضمائر، بما في ذلك ضمائر الشخص (أنا- نت- هو- هي- حنا...) و ضمائر الاستفهام (شكون: من يكون- علاش: على أي شيء- و مناش: من أي شيء- وقتاش: وقت أي شيء- كيفاش: كيف الشيء....) و ضمائر الموصول( "لي" التي عوضت كل أسماء الموصول في الفصحى)، و ضمائر الاشارة( هنا- لهيه" الى هناك"-، تم...) والحروف( ف دار- على صباح- ب لمفتاح....)، بالاضافة الى الظروف ( تحت- فوق- قدام- مور"من وراء"...). بل الأغرب من ذلك هو وجود كلمات فصيحة في العربيّة تنوسي أصلها الفصيح من قبيل: الصكع( الأصقع: الرجل الذي فقد بعض شعره) و البزبز( أنبوب الماء) و البوطة( البوثقة) و البوجادي( الأبجدي: الرجل الأمي الساذج)، و الجنوي( سكاكين كان تستورد من مدينة جنوة الايطالية) الحادكة( الحاذقة و الماهرة) و خربق( بمعنى أفسد)... ولا يمكن أن تكون هذه التشابهات مجرد اقتراضات أو تفاعلات عميقة بين النسقين، بقدر ما هي عملية انسلاخ لأحدهما من الآخر. ويبقى المعجم العنصر الأساسيّ في التّواصل. اذ قد تتشابه البنيات التركيبيّة والصرفيّة، دون أن تسمح بتحقيق التّواصل، بينما يحدث التّواصل اذا تشابه المعجم، و ان اختلفت البنية التركيبيّة: مثلا يمكن أن نفهم الجملة العربيّة التالية، حتى وان وضعناها في تركيب اللّغة التركيّة التي بنيتها هي: فاعل. مفعول. فعل. - الولد التفّاحة أكل - محمد المدرسة الى ذهب.Mahmet okula gidyorum لكننا في المقابل لا يمكننا أن نفهم جملة في الانجليزيّة، اذا لم نكن نعرف معجم هذه اللّغة، حتى و لو وضعناها في سياق تركيب عربي. مثلا: lives khalid in Rabat. هذه بعض المقارنات البسيطة بين الفصحى والدارجة، وبالرغم من أنّنا لم نتطرق الى الكثير من الخصائص الأخرى الصوتيّة والصرفيّة والتركيبيّة والدلاليّة والتداوليّة والبلاغيّة المشتركة بينهما، و التي تكشف عمق العلاقة البنيويّة بين النّسق الفصيح والدّارج، فاننا نأكّد مرّة أخرى أنّ هذه التشابهات لا يمكن أن تتمّ بين نسقيين أجنبيين مهما تكن درجة التفاعل بينهما. صحيح أن الدّارجة المغربية تشترك مع الأمازيغيّة في الكثير من الخصائص الصوتيّة والصرفيّة والتركيبيّة والأسلوبيّة، وهو ما يعكس عمق التفاعل والتسامح والتعايش بين العرب والأمازيغ على هذه الأرض، لكن هذا لا يسمح لنا من الناحية العلميّة بالتأكيد على وحدتهما، بسبب غياب معيار سوسيولسانيّ حاسم في التمييز بين النّسقين، وهو معيار التّفاهم Mutuel Intelligibility . فاذا التقى عربفونيّ وأمازيغوفونيّ أحاديا اللسان، احتاجا الى ترجمان، بخلاف العلاقة بين الفصحى والعاميّة، و هو ما تؤكّده، كما أشرنا أعلاه، ارتفاع نسبة مشاهدة قنوات الأخبار و الرياضة الناطقة بالعربيّة الفصحى من قبل عدد كبير من الأميّين في العالم العربيّ بما في ذلك المغرب. نستنتج مما سبق أن الدّارجة مستوى من مستويات اللسان العربيّ، حيث تبادلا الأدوار السوسيولسانيّة منذ القديم، وما كان ليحل أحدهما محل الآخر، و ليس كما يدّعي صاحبنا بأن الفصحى فقدت منذ زمن قدراتها التواصليّة. صحيح أنه حدث تقارب كبير في الكثير من اللحظات التاريخية، وهو ما تتجه اليه، حسب بعض الدراسات، اللهجات الحديثة، بفضل تراجع نسب الأميّة وانتشار وسائط التّواصل و الاتصال، لكن الفرق سيظل قائما بين المستويين لأن هذه سنة الله في كلّ الألسنة، و لن تجد لسنة الله تبديلا. أختم هذه المقالة برسالة أوجّهها الى أخينا "بودهان"، أؤكد فيها أن العربيّة محفوظة بحفظ الكتاب، ولها ربّ يحميها، و لطالما تلقّت ضربات من أعداء كثر، لكهنا بقيت وذهبوا. قد تكون اللّحظة مؤلمة، لكن عمر اللّغات لا يقاس بالسنوات بل بالقرون، و يكفي العربيّة فخرا أنها كانت لغة حضارة سادت العالم لقرون مديدة، ولن يعجزها استرجاع تلكم الأمجاد، اذا ما توافرت الارادة الصّادقة عند أهلها، و قد بدأت معالهما في الظّهور. و تلك الأيّام نداولها بين الناس. الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية