تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    الحكومة تصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية بداخل القاعدة الجوية ببنسليمان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    دراسة تؤكد انقراض طائر الكروان رفيع المنقار، الذي تم رصده للمرة الأخيرة في المغرب    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدارجة و"لاتاريخانية" الأستاذ العروي
نشر في هسبريس يوم 11 - 12 - 2013

في حوار مطول مع الأستاذ عبد الله العروي، منشور بيومية "الأحداث المغربية" على خمس حلقات (20، 21، 22، 23 24، و25 نونبر 2013)، كشف المفكر الكبير عن رأيه في مسألة الدعوة إلى التدريس بالدارجة، هذه الدعوة التي أصبحت حديث الساعة منذ أن رفعت جمعية "زاكورة" المذكرة المعلومة إلى الديوان الملكي أواخر أكتوبر (2013) الماضي، تقترح فيها استعمال الدارجة كلغة للتدريس.
تناوُل الأستاذ العروي للمسألة اللغوية بالمغرب يغري، نظرا لصيت الرجل وكفاءته الفكرية، بالمجادلة في الموضوع، ومناقشة الأفكار والحجج التي يدعم بها موقفه من مسألة التدريس بالدارجة.
وأين هو المشكل؟
يستهل الأستاذ العروي حواره حول موضوع الدارجة بالقول إن الدعوة إلى اعمتادها كلغة للتدريس «تقوم على خلط كبير». ثم يوضح هذا الخلط كما يلي:
«الدارجة لكي ترسّم (مع أن الأمر يتعلق باستعمالها في التدريس وليس بترسيمها) يجب أن تكتب بحروف مناسبة. ما هي هذه الحروف؟ إما أن تكتبها بالحرف العربي وإما أن تكتبها بالحرف اللاتيني، لكن إذا اخترت كتابتها بالحرف اللاتيني فعليك أن تخلق حروفا جديدة كما فعل الأتراك لما اختاروا كتابة اللغة التركية بالحرف اللاتيني، وحتى عندما تنجح في هذه المهمة، فهل هذا ممكن أو غير ممكن. إذا كان ذلك ممكنا فحينها ستستقل الدارجة وتصير لغة قائمة الذات، وتنفصل حينئذ عن اللغة الأم. هذا ما حصل في جميع البلدان التي انفصلت فيها اللغات الشفوية عن اللغة الأم»
وأين هو الخلط؟ وأين هو المشكل؟
أين هو المشكل إذا كتبت الدارجة بحروف تناسب نظامها الصوتي؟ وأين هو المشكل إذا كتبت بحروف لاتينية معدّلة كما فعل الأتراك كما يقول؟ لنلاحظ أن الأستاذ العروي حصر اختيار الحرف لكتابة الدارجة في الحرفين العربي واللاتيني فقط. مع أنني أكاد أجزم أنه لو كان يتقن الأمازيغية ويجيد كتابتها بحرفها "تيفيناغ"، لما تردد في اعتبار هذا الحرف هو الأنسب لكتابة الدارجة في حالة ما إذا تقرر استعمالها في الكتابة والمدرسة.
وأين هو المشكل إذا استقلت الدارجة وصارت «لغة قائمة الذات»، وانفصلت «حينئذ عن اللغة الأم»؟ أليس «هذا ما حصل في جميع البلدان التي انفصلت فيها اللغات الشفوية عن اللغة الأم»، كما يعترف بذلك الأستاذ العروي؟ فما دام أن هذه البلدان، التي استقلت فيها لغاتها الشفوية عن لغاتها الأم، وانتقلت إلى مستوى لغات الكتابة والمدرسة، لم تعرف أية مشاكل تمنع هذا الاستقلال وهذا الانتقال، فلماذا تكون لدينا نحن مشاكل تمنعنا من الارتقاء بالدارجة إلى مستوى لغة الكتابة والمدرسة؟
نتساءل إذن: أين هو المشكل في كل ما طرحه الأستاذ بصدد الحرف والاستقلال عن اللغة الأم؟ أليس ذلك هو الطريق الطبيعي (الحرف والاستقلال) للانتقال من لغة شفوية إلى مستوى استعمالها في الكتابة والمدرسة؟ فأين هو المشكل إذن، مرة أخرى؟ وأين هو "الخلط" الذي يتحدث عنه الأستاذ العروي؟
الخلط الحقيقي:
أما الخلط الحقيقي، فهو الذي يقع فيه الأستاذ العروي عندما يعتبر الدارجة بنتا للعربية وتابعة لها، كما يعتقد العامّة استنادا إلى تسميتها ب"العربية" الدارجة، واحتوائها على نسبة كبيرة من الألفاظ ذات الأصل العربي. ولهذا فهو يتخوف وبدون أي مبرر معقول من انفصالها عن العربية الأم. مع أن العلاقة الوحيدة التي تربط الدارجة بالعربية هي العلاقة المعجمية لا غير، وليس العلاقة النحوية والتركيبية. والأستاذ العروي يعرف أن روح اللغة لا يصنعه معجمها الذي هو متغير ومتطور، بل يصنعه نظامها النحوي والتركيبي الذي هو نسق ثابت وقار في اللغة، يعطيها خصوصيتها وتميزَها عن اللغات الأخرى. ومن يقارن بين الدارجة والعربية والأمازيغية، سيقف على حقيقة أن النظام النحوي والتركيبي للدارجة هو نظام نحوي وتركيبي أمازيغي. وبالتالي، فإن الدارجة، وحتى لا نقول إنها لغة أمازيغية، هي عربية في معجمها وأمازيغية في تركيبها، أو هي عربية في جسدها، لكنها أمازيغية في روحها. كما لا ننسى أن الموطن التاريخي لنشأة الدارجة هو شمال إفريقيا والمغرب خاصة، وليس شبه الجزيرة العربية التي هي الموطن التاريخي لنشأة اللغة العربية، وليس الدارجة المغربية. ولهذا إذا كانت الدارجة بنتا للعربية وتابعة لها بناء على القرابة المعجمية، فستكون اللغة الفارسية بنتا للعربية وتابعة لها هي أيضا، لأن أزيد من ستين في المائة من معجمها عربي، ولكانت لغة القرآن ليست عربية فقط، بل أيضا سريانية لأن جزءا هاما من ألفاظ القرآن سريانية في أصلها اللغوي.
أما الخلط الثاني، وهو نتيجة للأول، فهو الاعتقاد بأن الانتقال بالدارجة من الاستعمال الشفوي إلى الاستعمال الكتابي والمدرسي، سيجعلها «تستقل وتصير لغة قائمة الذات». وهو ما يعني أن الأستاذ العروي يعتبر الدارجة المغربية غير متوفرة على وجود لغوي مستقل كلغة قائمة الذات. وهذه فكرة عامّية وخاطئة طبعا، ولكنها منتشرة عند العديد من المثقفين واللسانيين المغاربة.
والدليل أن الدارجة لغة مكتملة وقائمة بذاتها ومستقلة عن العربية الفصحى، وليست تابعة لها ولا ملحقة بها، هو أن الأمي يجيد التحدث بالدارجة المغربية رغم أنه يجهل العربية الفصحى جهلا تاما. وهذا يعني أن وجود أو غياب العربية لا تأثير له على وجود الدارجة، مثلما لا تأثير لذلك على وجود الإسبانية أو الفرنسية أو الروسية... لأن هذه لغات مستقلة عن العربية. الدارجة هي إذن لغة مستقلة عن العربية، تماما مثل الإسبانية أو الفرنسية أو الروسية...، لأنها لا تحتاج، لبقائها ووجودها واستمرار استعمالها، إلى بقاء ووجود واستمرار استعمال العربية الفصحى.
أما أن معجم الدارجة يتكون في جزئه الأكبر من ألفاظ ذات أصل عربي، فهذا لا يغير شيئا من استقلالية الدارجة عن العربية، لأن تلك الألفاظ، حتى وإن كانت عربية في أصلها التاريخي واللغوي، فقد أصبحت جزءا من المعجم الخاص بالدارجة، مثلها مثل الألفاظ ذات الأصل الفرنسي أو الإسباني التي تستعملها هذه الدارجة ضمن مفرداتها. فعلى فرض أن العربية ماتت وانقرضت، فلن يؤدي ذلك إلى موت وانقراض الدارجة، بل سيستمر تداولها واستعمالها، وبنفس المعجم ذي الأصل العربي الذي اقتبسته من الفصحى وأصبح جزءا من معجمها الخاص، كما قلت. وهذا يبين أن الدارجة ليست تابعة للعربية، بل لغة مستقلة عنها وقائمة بذاتها، تماما مثل اللغة الفارسية التي، كما في الافتراض السابق، لن تموت بموت العربية بل ستستمر متداولة ومستعملة بعدها، رغم أنها تستعمل جزءا من معجمها الذي أخذته من العربية.
قلت إن الاعتقاد بأن الدارجة تابعة للعربية وأنها لا تتمتع بوجود مستقل عنها، فكرة عامّية وخاطئة، ناشئة عن مجرد وصف الدارجة ب"العربية الدارجة". ففي الوقت الذي كان على المثقفين، واللسانيين على الخصوص، تصحيح هذا الوصف الخاطئ، وتبيان أن الدارجة لغة مستقلة عن العربية، فإذا بهم يتقبلون هذه الفكرة العامّية ويبنون عليها تحليلهم لإشكالية اللغة بالمغرب.
إذن كتابة الدارجة بحرف لاتيني مثلا، لن تؤدي، كما يعتقد الأستاذ العروي، إلى استقلال الدارجة عن الفصحى «لتصير لغة قائمة الذات»، لأن هذا الاستقلال قائم أصلا وفعلا. وإنما يؤدي الاستعمال الكتابي لهذه الدارجة، حتى لو كان الحرف الذي تكتب به هو الحرف العربي، إلى تنميتها والارتقاء بها إلى مستوى اللغة المكتوبة كشرط أول لاستعمالها المدرسي، مع ما يرافق ذلك ويتطلبه من تهيئتها لتكون لغة تدريس وتعليم.
التعليم الناجح هو الذي يلقن بلغة الأم:
وعلى ذكر لغة التدريس، لا يرى الأستاذ العروي أن الدارجة صالحة لهذه المهمة ولا قادرة على القيام بها كلغة كتابة. ذلك لأن «المدرسة كما يقول لا علاقة لها بالبيت، والمدرسة لا تربطها أدنى صلة بمسائل التفاهم خارج البيت وفي الشارع. هنا تدخل رجل متخصص في الشفوي وأموره العينية، في شؤون المدرسة التي هي شؤون الكتابة، ولا علاقة لها بالشفوي والتواصل في البيت والشارع. العربية هي لغة الكتابة، ولا دخل لها في شؤون التواصل في البيت والشارع، وهي لغة المدرسة»
الأستاذ العروي يريد أن يقنعنا أن القطيعة الموجودة في المغرب بين لغة البيت (الدارجة) ولغة المدرسة (العربية الفصحى) شيء عادي وطبيعي. وهو ما يعني أن الدارجة يجب أن تقوم بوظيفتها الشفوية في التواصل، والعربية بوظيفتها كلغة كتابة ومدرسة. مع أن المشكل، كل المشكل، يكمن في هذه القطيعة بين لغة البيت ولغة المدرسة. وهو الذي يعطي كل المشروعية للدعوة إلى استعمال الدارجة في المدرسة، حتى تكون هناك استمرارية بين لغة البيت ولغة المدرسة. فهذه الهوة بين لغة البيت ولغة المدرسة هي سبب فشل نظامنا التعليمي، لأن لغة التدريس، التي هي العربية الفصحى، لا وجود لها لا في البيت ولا في الشارع ولا في المعمل، مما يؤثر سلبا على التحصيل الدراسي والتكوين الفكري للتلميذ، لأن لغة هذا التحصيل وهذا التكوين لغة نصف حية، تستعمل فقط في الكتابة ولا وجود لها في الحياة. وفد أثبتت جميع الدراسات والبحوث التي تناولت موضوع العلاقة بين اللغة والمدرسة، أن التدريس الناجح هو الذي يكون فيه التلقين بلغة الأم (لغة البيت والشارع)، حيث يواصل التلميذ دراسته باللغة الأولى التي اكتسبها في البيت، والتي ينمّيها ويطورها في المدرسة تبعا لاكتسابه معارف وأفكارا جديدة بمفاهيم ومصطلحات وألفاظ جديدة، لكن دون أن يشعر بأنه أمام لغة أخرى جديدة، عليه أن يبدأ تعلمها من جديد، كما هو حال التلميذ المغربي الذي يفرض عليه، منذ التحاقه بالمدرسة، تعلم لغة جديدة لا يعرفها ولا يتقنها. وهذا هو أحد أسباب فشل منظومتنا التعليمية كما قلت. لأن المدرسة عندنا، بالمغرب، بدل أن تعلّم التلميذ المعارف والعلوم، وتزوّده بالكفاءات والمهارات التي سيحتاجها في مستقبله المهني، بدل ذلك تعلّمه لغة جديدة عليه أن يتقنها أولا ليتعلم بها المعارف والعلوم، مع ما في ذلك من مضيعة للوقت وهدر للمال، ورداءة في الحصيلة وضعف في النتيجة. وهكذا تتحول الوسيلة، التي هي اللغة، إلى غاية في حد ذاتها يقضي التلميذ كل حياته المدرسية وهو يتعلم اللغة العربية، ومع ذلك لن يتوفق في الأخير حتى في كتابة الهمزة بشكل سليم. والخطير، بل الكارثي، أن عدم تمكنه الجيد من لغة التدريس التي هي العربية، يجعل تمكنه من أية لغة أخرى أجنبية أمرا بالغ الصعوبة، لأن الطفل أو التلميذ، كما أثبتت ذلك الدراسات المتخصصة، يكتسب اللغات الأجنبية بسهولة انطلاقا من لغة أساسية أولى يكون قد أتقنها وأجادها واستبطنها، والتي من الأفضل أن تكون هي لغة الأم لهذا الطفل أو التلميذ. ويكفي أن نتأمل المستوى المتدني جدا لتلامذتنا في ما يخص تمكنهم من اللغات الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية)، بعد تعميم التعريب، لندرك أن التدريس باللغة العربية هو بمثابة جريمة اقترفناها في حق أبناء المغرب.
والأستاذ العروي يؤكد هو نفسه أن مهمة المدرسة ليست هي تعليم اللغة عندما يقول: «هل سيتحدث المعلم إلى الطفل ليعلمه لغته التي تربى عليها ويتقن التحدث بها؟! هل سيلقنه الكلام الذي يتكلم به؟![...]. المعلم سيعلم الطفل أمورا أخرى غير لغته التي يتحدث بها في البيت[...]. دور المدرسة ليس هو تعليم الطفل اللغة التي يتحدث بها في البيت». لكنه يورد هذا الكلام، ليس ليقول لنا بأن على المعلم أن ينطلق من لغة التلميذ ليعلمه بها المعارف والعلوم، بل ليقنعنا أنه لا فائدة من استعمال الدارجة في المدرسية لأن التلميذ يعرفها ويتقنها. مع أن ما سنكسبه من التدريس بالدارجة، هو ربح الوقت الذي يقضيه المعلم في تعليم لغة جديدة للتلميذ، والتي هي العربية الفصحى التي يصبح تمكن هذا التلميذ منها هو الغاية من التدريس، وليس التكوين المعرفي والعلمي لهذا الأخير.
الدارجة قادرة على الارتقاء إلى مستوى لغة الكتابة:
يقول الأستاذ العروي نافيا قدرة الدارجة على أن تكون لغة كتابة وتأليف: «أما مسألة الدارجة والانتقال بها إلى مستوى التأليف الأدبي والعلمي، فأظن أن ذلك التأليف ليس مجال الدارجة، لأن مجالها محدود». صحيح أن "مجالها محدود". ولكن لماذا هي محدودة في قدراتها على التأليف الكتابي؟ لأنها لم تدخل المدرسة لتصبح لغة كتابة وتأليف. فهذه المحدودية ليست خاصية لصيقة بالدارجة كدارجة، بل هي نتيجة لإقصائها من المدرسة ومنعها من التأهيل الكتابي. فكل اللغات بدأت شفوية قبل أن تعرف الكتابة. الأستاذ العروي يكرر، بصدد الدارجة، نفس حجج المعارضين لتدريس الأمازيغية: منعوها من المدرسة لتبقى قاصرة وغير متطورة، ثم يقولون عنها بأنها لغة قاصرة وغير متطورة، وبالتالي فهي لا تصلح للمدرسة. مع أن الأستاذ العروي، لو كان ديموقراطيا في موقفه من اللغات الوطنية بالمغرب، لطالب بإعطاء الدارجة فرصة تدريسها والتدريس بها لمدة معقولة، ثم بعد ذلك يجوز له أن يحكم على قدراتها أو محدوديتها بناء على نتائج استعمالها المدرسي.
ولأنه يعتبرها مجرد لغة شفوية تستعمل في «الغناء الشعبي والفكاهة» كما يقول، فهو يعتقد أن إدخالها إلى المدرسة والانتقال بها إلى مستوى لغة كتابة وتدريس، هو بمثابة «حط وتبخيس من قيمة المغرب والمغاربة». فهو يقول: «لهذا أقول في قضية الدعوة إلى التدريس بالدارجة، أرفضها»، «أرفض هذا الاتجاه الذي يسعى إلى أن تصير ثقافة المغاربة ثقافة فلكلوية». فضلا عما يعني هذا الموقف من احتقار لكل ما هو مغربي عريق، ولكل ما هو شعبي أصيل، فإنه يكشف عن نظرة قاصرة، سكونية وميكانيكية ، وبالتالي لاتاريخية و"لاتاريخانية"، إلى طبيعة الانتقال من لغة شفوية إلى استعمال كتابي ومدرسي لهذه اللغة. فليس لأن هذه اللغة تستعمل في الغناء الفلكلوري، ولم يسبق لها أن استعملت في الكتابة والتدريس، فإن استعمالها في الإنتاج الثقافي الكتابي يعني إنتاج ثقافة فلكلورية بالضرورة. فهي مجرد لغة يمكن أن تعبر عن مضامين مختلفة، وليس فقط المضامين الفلكلورية كما في مرحلتها الشفوية. فإذا صح أن هذه اللغة سوف لن تعطينا إلا ثقافة فلكلورية لأنها أصلا كانت تستعمل لإنتاج هذا النوع من الثقافة، فسيكون صحيحا أن اللغة العربية، التي كانت تعبر قبل الإسلام، كلغة شفوية، عن مضامين شركية وجاهلية، ستستمر بعد الإسلام في التعبير كتابيا عن نفس المضامين الشركية والجاهلية. وهذا غير صحيح طبعا.
وأين هو المشكل إذا انقطعت صلتنا بالتراث العربي؟
ومما يبرر به الأستاذ العروي رفضه للدارجة، هو تخوفه من أن يؤدي استعمالها، كلغة مدرسة وكتابة وإنتاج ثقافي ومعرفي، إلى انقطاع صلة الدارجة بالعربية الفصحى، ويحرم المغاربة من الاطلاع على كنوز العربية. يقول: «ستخلق جيلا جديدا منفصلا تماما عن العربية وثقافتها وما تزخر به من كنوز ستحرمه من الاطلاع عليها»، تضم «كتاب "ألف ليلة وليلة" و"بخلاء الجاحظ" و"كليلة ودمنة"».
ومرة أخرى، أين هو المشكل إذا انقطعت صلة الدارجة بالفصحى (والقطيعة موجودة بينهما قبل أن تعرف الدارجة الكتابة كما سبق أن رأينا) ولم نعد قادرين على الاطلاع على التراث العربي وكتب "البخلاء" و"ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة"؟ هل لا بد من هذه الكتب بذاتها وهذا التراث العربي بذاته؟ ألا يمكن أن يطلع المغاربة على تراث ثقافي آخر، وبلغات أخرى يتعلمونها بالمدرسة إلى جانب الدارجة كلغة للتدريس، مثل الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو الألمانية؟
ثم من سيمنع المغاربة من الاطلاع على هذا التراث العربي الذي يمكن لكل مغربي يتقن العربية، التي ستدرّس مثلها مثل الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، بجانب لغة التدريس التي هي الدارجة، أن يقرأ هذه الكتب التراثية العربية بلغتها العربية؟
كما يمكن مستقبلا أن يقرأ المغاربة هذه الكتب مترجمة إلى لغتهم الدارجة، مثلما قرأ العرب أنفسهم "كليلة ودمنة" عندما ترجم من الفارسية إلى لغتهم العربية.
الأستاذ العروي يحذرنا إذن، حتى يثنينا عن مطلب التدريس بالدارجة، أنه بمجرد استعمال هذه الأخيرة في التدريس سنعود إلى ما قبل التاريخ، وإلى حياة البدائية والهمجية التي تخلص منها الإنسان منذ عشرات القرون. فبدون إنتاج ثقافي ومعرفي وعلمي بالعربية، لن تكون لنا ثقافة ولا معرفة ولا علم، كأن كل المثقفين والمفكرين والعلماء في العالم يكتبون ويؤلفون بالعربية.
نعم نريد أن نكون مثل الهولنديين:
ولما سئل الأستاذ العروي عن "تمغربيت" كخصوصية مميزة للمغرب أجاب: «أما مسألة "تمغربيت" فأقول عنها إنها تعود إلى نوع من الانعزالية». إذا كان التمسك بالهوية المغربية هو "انعزالية"، فإن اليابان والصين والهند وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وكوريا وبريطانيا...، ستكون كلها شعوبا ودولا "انعزالية"، لأنها متمسكة بانتمائها وهويتها وخصوصيتها التي تميزها عن باقي الشعوب والدول. الأستاذ العروي يختار لنا إذن "الذوبان"، حتى لا تكون لنا أية خصوصية هوياتية ولغوية تميزنا عن غيرنا من الشعوب والأمم، وذلك خوفا مما يسميه "الانعزالية"، التي قد تؤدي إليها الدارجة، أو صنوتها الأمازيغية لأن كليهما تمثلان خصوصية مغربية.
ويعطي «مثال الهولنديين الذين كما يقول مرت عليهم الآن أربعة قرون حين سعوا إلى الانفصال عن إسبانيا التي لا يجمعهم بها لا الدين ولا اللغة، فكتبوا لغتهم المحلية، وصارت الهولندية كما كتبت تدل على مستوى أعمق من اللهجات الألمانية الأخرى، لأن تلك اللهجات ظلت شفوية، بينما الهولندية صارت لغة مكتوبة، لكنها بالمقابل حفظت وجمدت في هذا المستوى ولم تتجاوزه مقارنة بتلك اللهجات التي استمرت حية. الهولنديون متقدمون الآن اقتصاديا وسياسيا، ولكن من يهتم في العالم بالثقافة الهولندية؟! ومن يقرأ ما يكتبه الكتاب الهولنديون بلغتهم الوطنية؟! هل سبق لك أن قرأت لشاعر هولندي ما كتبه من شعر بلغته الهولندية؟ هل قرأت لروائي هولندي؟ الجواب معروف على أن الثقافة الهولندية أنتجت شعراء وقصاصين وروائيين من الطراز الرفيع، لكن لغتهم المحلية حالت دون شهرتهم على الصعيد العالمي. مبدعون كبار ولا أحد يعرفهم خارج هولندا»
إذن علينا أن لا نفكر في تنمية الدارجة لاستعمالها في الكتابة والتأليف والإنتاج الثقافي، لأننا سنكون "منعزلين"، ولن يقرأ أحد إنتاجاتنا وإبداعاتنا لأنها مكتوبة بلغة محلية وليس بلغة عالمية معروفة.
في الحقيقة، مثال "هولندا" الذي اختاره الأستاذ العروي، غير مناسب لقضيته، ولا يخدمها ولا يدعمها، بل يخدم ويدعم استعمال الدارجة كلغة تدريس وكتابة، ما دام أن ذلك سيجعلنا مثل الهولنديين: فإذا كانت "هولندا" بلدا متقدما اقتصاديا وسياسيا، كما يعترف بذلك الأستاذ العروي، فهذا دليل على أن تعليمها ناجح، وهو دليل بدوره على أن اختيارها للغتها المحلية كلغة للكتابة والتدريس كان اختيارا صائبا وموفقا ساهم في تقدمها الاقتصادي والسياسي. كان من الممكن أن يحذرنا الأستاذ العروي من نموذج هولندا لو أن هذه الدولة تعيش تخلفا اقتصاديا وسياسيا، مثل اليمن أو سوريا أو المغرب أو السودان... أما أن هولندا لا تعرف إشعاعا ثقافيا عالميا لأن إنتاجاتها الثقافية مكتوبة بلغتها المحلية، فهذا ليس مشكلا حقيقيا ما دام يحمي سيادتها الهوياتية واللغوية، ويضمن تقدمها الاقتصادي والسياسي.
لو كان هذا المبرر معقولا ومنطقيا، وأنه لا بد من استعمال غير اللغة المحلية الوطنية حتى تقرأ خارج البلد المعنى إنتاجاته الثقافية والفكرية، لما كانت هناك لغات مكتوبة وطنية أصلا، بل لاختار الجميع استعمال اللغات الأجنبية الأكثر انتشارا ومقروئية في العالم، ولما كانت هناك لغة كاطالانية ولا باسكية ولا مالطية ولا فندليه ولا كورية ولا حتى عربية...
الأستاذ العروي يرفض إذن الدارجة كلغة كتابة، ويدعونا إلى الاحتفاظ بالعربية للقيام بمهمة هذه الكتابة، حتى تقرأ إنتاجاتنا الثقافية والفكرية والشعرية بالعربية، التي هي لغة تعرف انتشارا واسعا حسب رأيه. فهل صحيح أن الكتابة بالعربية تعطي لإنتاجاتنا الثقافية والفكرية إشعاعا عالميا وانتشارا واسعا؟ لا نعتقد ذلك نظرا للعدد غير الكبير من الذين يقرأون بالعربية، وبسبب النسبة المرتفعة من الأمية في العالم العربي، وللمكانة غير المتقدمة للعربية على مستوى السوق اللغوية العالمية. ونذكّر الأستاذ العروي أن الكتب التي عُرف واشتهر بها هي تلك التي كتبها بالفرنسية، رغم أن موضوعها هو القضايا العربية، وأعني كتابي "الإديولوجية العربية المعاصرة" (1967) و"أزمة المثقفين العرب" (1974). فلماذا لم يختر الكتابة بالعربية، حتى تقرأ إنتاجاته على أوسع نطاق كما ينصحنا بذلك؟
ومن جهة أخرى، لا يمكن لأي شعب أن يمارس الابتزاز اللغوي والهوياتي على نفسه: إما أن يذوب في هويات الشعوب الأخرى ويتخلى عن خصوصيته الهوياتية ولغته المحلية الوطنية، وإما أنه سيعيش "الانعزالية" ولن يطلع أحد خارج بلده على إنتاجاته الفكرية والثقافية والشعرية. لو كان الأمر بهذا المنطق التبسيطي، لتخلت جل الشعوب عن خصوصياتها اللغوية والهوياتية ولتبنت لغات وهويات الآخرين.
التدريس بلغة جديدة تسبقه التهيئة لهذه اللغة:
ويقدم الأستاذ العروي، ودائما من أجل أن يقنعنا بلاواقعية مطلب التدريس بالدارجة، مثالا كاريكاتوريا فيه الكثير من المبالغة. مضمونه أن المعلم البيضاوي الذين يعين ب"أشاون" (شفشاون) لن يستطيع التواصل مع تلامذته الذين لا يفهمون دارجته البيضاوية، كما لا يفهم هو كذلك دارجتهم الشاونية، فيتحول هو إلى تلميذ يتعلم من تلامذته دارجتهم الشاونية. يقول: «سيصير التلميذ الشفشاوني معلما وسينقلب المعلم البيضاوي إلى متعلم». إذا كان في هذا المبرر، عندما كان يستحضر لمواجهة الأمازيغية بالقول ما هي الأمازيغية التي ستدرس هل أمازيغية الريف أم الأطلس أم سوس، إذا كان فيه القليل من الحق الذي كان يراد به الكثير من الباطل، فإنه، في ما يخص الدارجة، هو باطل في باطل. لأن كل بيضاوي زار مدينة "أشاون"، يعرف أن ما ذهب إليه الأستاذ العروي شيء مبالغ فيه، لأن استعمال كل من الشاوني والبيضاوي للهجتيهما لا يمنع التفاهم الكامل بينهما رغم بعض الفروق البسيطة التي لا تؤثر على هذا التفاهم. ولدينا دليل مسلسل "ولاد لالا منانة" الذي صور بمنطقة "أشاون"، ويتحدث ممثلوه اللهجة الشاونية المحلية، ومع ذلك فهمه كل من شاهده من المغاربة من مختلف مناطق المغرب.
هذا المثال الذي جاء به الأستاذ العروي ليضخّم لنا صعوبة تدريس الدارجة حسب رأيه، يبين أنه يعتقد أن الدارجة التي ستدرّس هي الدارجة المتداولة في التخاطب الشفوي، بتلويناتها اللكنية والنطقية والمعجمية، والتي هي حقا مختلفة من منطقة إلى أخرى. فإذا استمررنا في استعمال هذه الدارجة "الخامة" في التدريس، فلن نكون قد تقدمنا شيئا إلى الأمام عندما نعتمد هذه الدارجة كلغة مدرسية. فالمعروف أن الانتقال من لغة شفوية إلى استعمالها الكتابي والمدرسي، يخضع لعملية تهيئة وتهذيب وضبط ومعيرة وتوحيد. ويتمثل ذلك في الالتزام بمجموعة من القواعد النحوية والإملائية والمعجمية، ستفرضها وترسّخها المدرسة تدريجيا. فليس هناك لغة تستعمل في المدرسة وفي الإنتاج الكتابي كما تستعمل في التخاطب في البيت والشارع. فهناك دائما فرق بين مستوى التخاطب الشفوي ومستوى الاستعمال الكتابي المدرسي داخل نفس اللغة، حيث تمثل الكتابة مستوى أعلى وأرقى لممارسة اللغة من حيث اختيار الكلمات وصياغة الأسلوب والتقيد أكثر بالقواعد النحوية والإملائية.
ولهذا، إذا كان من السهل تعلم لغة حية في البيت أو الشارع أو المعمل، فإن تعلم الكتابة والقراءة بها، لا بد له من المدرسة أو ما يقوم مقامها. وهذا ما يجعل أن هناك «صعوبة كبيرة أثناء قراءة كلمات الدارجة[..]، مقارنة بسهولة قراءة كلمات العربية المعربة»، كما لاحظ الأستاذ العروي. ولكن ليس لأن كتابة وقراءة الدارجة أصعب من كتابة وقراءة العربية كما فسر ذلك الأستاذ العروي، بل لأن الذي يكتب ويقرأ العربية يكون قد تعلمها في المدرسة أو ما يقوم مقامها ، في حين ليس هناك أحد يكتب ويقرأ الدارجة بعد أن تعلمها في المدرسة. وهذا يصدق على الذين قال عنهم الأستاذ العروي بأنهم اختاروا الكتابة بالعربية وليس بالدارجة أو الأمازيغية، مثل اليوسي والمختار السوسي، ل"يبرهن" بذلك على أن الدارجة لا تصلح للكتابة والتأليف. مع أن هؤلاء لم يكن لهم من خيار آخر إلا أن يكتبوا باللغة التي فرض عليهم تعلم كتابتها وقراءتها، وهي العربية، ودون أن تعطى لهم نفس الفرصة ليتعلموا الكتابة والقراءة بالدارجة أو الأمازيغية.
ولا تعني تهيئة ومعيرة الدارجة، خطّا ونحوا وإملاء ومعجما، أننا، كما يقول الأستاذ العروي، سنجد «أنفسنا بعد خمسين سنة أمام نفس المشكل الذي تعاني منه العربية من حيث هي لغة مكتوبة»، منفصلة عن لغة التخاطب الشفوي. فلا قياس مع وجود الفارق. والفارق هنا أن الاختلاف بين الفصحى والدارجة هو اختلاف بين لغتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى كما سبق بيان ذلك. أما الاختلاف بين الدارجة المعيارية والمكتوبة وبين دارجة التخاطب الشفوي، فسيكون اختلافا في مستويين من استعمال نفس اللغة، حيث إن الطفل (غير الناطق بالأمازيغية) عندما يلتحق بالمدرسة ويبدأ تعلم كتابة وقراءة الدارجة المكتوبة، فإنه لا يشعر أنه أمام لغة جديدة مختلفة. فما سيتعلمه ليس لغة جديدة، بل سيتعلم الكتابة والقراءة وفق قواعد وضوابط، لكن بلغة هو يعرفها، كما هو حال التلميذ الإسباني (نقصد الذي يتحدث اللغة القشتالية) مثلا ، عندما يلتحق بالمدرسة ليتعلم للمرة الأولى الكتابة والقراءة باللغة الإسبانية/ القشتالية.
ويتذرع الأستاذ العروي، كذلك، لرفض التدريس بالدارجة كلغة كتابة، بأنه لا توجد نصوص لتدريسها للتلميذ. هنا مرة أخرى يتعامل مع الدارجة انطلاقا من نظرة ميكانيكية وسكونية ولاتاريخية. فإدماج الدارجة في المدرسة، كلغة كتابية جديدة، لا بد أن يسبقه تكوين جدي وحقيقي وكامل، لغويا وبيداغوجيا، للأساتذة الذين سيسند إليهم تدريس الدارجة والتدريس بها. كما يشترط مسبقا إعداد منهاج متكامل curriculum، يحدد الأهداف المرحلية، والكفايات المراد إكسابها للتلميذ، والعدة البيداغوجية الملائمة لذلك، ومن بينها الكتاب المدرسي الذي سيضم نصوصا أولية مناسبة يؤلفها مختصون، يشتغل عليها التلاميذ. ومع التقدم في تدريس الدارجة والتدريس بها، ستظهر نصوص جديدة مكتوبة بهذه الدارجة، تشكل بداية لتراكم في الإنتاج الكتابي بهذه اللغة، والذي سيتوسع ويتحسن مع الانتشار التدريجي والمتنامي للكتابة بالدارجة.
المدة الزمنية والعبء الاقتصادي:
وهذه التهيئة للدارجة، لتكون لغة كتابة وتدريس، لن تستغرق بالضروري مائة سنة كما يقول الأستاذ العروي، بل قد لا تتجاوز عشرين سنة على أقصى تقدير، أي المدة التي يستغرقها المسار الدراسي لتلميذ تلقى تعليمه بالكامل (الابتدائي والثانوي والجامعي) باللغة الدارجة، والذي إذا التحق بالمدرسة في 2014 سينهي دراسته الجامعية حوالي 2028 2030، وهو ما يقدر بحوالي 15 سنة. وهي مدة كافية لتكون الدارجة المكتوبة جاهزة ومهيأة لتعيد إنتاج نفسها عن طريق المدرسة. لأن هذا التلميذ، الذي دخل المدرسة في 2014 وتخرج في 2030، سيكون منه الموظف والمعلم والأستاذ والقاضي...، وهو ما سيسمح بإعادة استعمال نفس الدارجة المكتوبة التي تلقى بها هؤلاء تكوينهم.
كل هذا يتوقف طبعا على شرط واقف، وهو توفر الإرادة السياسية لإقرار الدارجة كلغة تعليمية. فبمجرد توفر هذه الإرادة، كل الحلول ستكون سهلة وممكنة، لأنها تتعلق بما هو تقني ولوجيستيكي، لا غير.
ويشهر الأستاذ العروي ورقة "العبء الاقتصادي" لتعزيز موقفه من رفض الدارجة، التي تتطلب تهيئتها وإدماجها في التعليم ميزانية إضافية. إذا كانت تنمية هذه اللغة وترقيتها إلى لغة كتابة، تتطلب مثل هذا العبء المالي الإضافي في الخمس عشرة أو العشرين سنة الأولى من إدماجها في المدرسة، فإن ما ينساه الأستاذ العروي هو أن التدريس بالفصحى يبتلع من المال أضعاف ما سينفق على الدارجة، وفي البداية فقط، أي في مدة لا تتعدى العشرين سنة، كما وضّحنا. أما العربية فميزانيتها الضخمة لا تقتصر على البداية فقط أو فترة معينة فقط، بل هي تنفق عليها بشكل مستمر تبعا لاستمرار سياسة التعريب المتواصلة بلا توقف. وما هي نتيجة هذا الهدر للمال العام من أجل العربية؟ الفشل الذريع لمنظومتنا التربوية، والتدني المريع لمستوى تلامذتنا الذين لم يعودا يتقنون لا العربية، التي من أجهلها تقرر التعريب، ولا أية لغة أخرى.
يقول الأستاذ العروي، بصدد ما سماه "العبء الاقتصادي": «بلد فقير يعاني من مشاكل كثيرة، وتضيف إليها خلق لغة جديدة». إذا كان اعتماد الدارجة في المدرسة هو بمثابة إدماج لغة جديدة للمرة الأولى في هذه المدرسة، إلا أن هذه الجدّة تمس فقط استعمالها الكتابي. وبالتالي فإنها لن تعود لغة جديدة بعد تعميم وانتشار هذا الاستعمال الكتابي بعد أقل من عشرين سنة كما سبقت الإشارة. لكن العربية هي لغة جديدة بشكل دائم، لأن التلميذ لا يتعلم كتابتها فقط مثل الدارجة، بل يتعلمها كلغة بكاملها، لا يعرفها ولا يتقنها. فمن يتطلب الأكثر من المال، لغة نتعلم كتابتها فقط، أم لغة نتعلمها بكامل معجمها ونحوها وصرفها بجانب كتابتها؟
ومن يمنع من الترجمة إلى الدارجة كذلك؟
يقول الأستاذ العروي: «عوض أن أخدم الدارجة، أفضل ترجمة مؤلفات روسو إلى العربية، لأن تلك الترجمة ستكون تعريبا لأفكار جديدة، تساهم في منظومتنا الفكرية». لكن هذه الترجمة ليست ممكنة إلا لأنه سبق لك أن خدمت العربية حتى أصبحت متمكنا منها وقادرا على الترجمة إليها. فمن يمنع المغاربة في المستقبل أن يفعلوا مثلك، بعد أن يخدموا الدارجة ويصبحوا متمكنين منها، فيترجموا إليها روسو لأن تلك الترجمة ستكون مغربة أو تدريجا لأفكار جديدة؟ ثم إذا كانت هذه الترجمة لا بد منها للارتقاء بفكرنا وثقافتنا، فلماذا لا يطالب الأستاذ العروي بإلغاء التعريب وفرض لغة روسو كلغة تعليمية لنطلع على مفكري الأنوار في لغتهم ونصوصهم مباشرة، دون المرور بالترجمة؟ فهو يقول: «لو فرض علينا الفرنسيون اللغة الفرنسية أثناء الحماية، وأصبحت لغة الحديث والكتابة كما فعلوا في إفريقيا السوداء، لما كان لي اعتراض، لأننا كنا سنستوعب الفكر الحديث». والحقيقة أن فرنسا فرضت هذه اللغة، وهي التي درس بها المغاربة إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، في الابتدائي والثانوي كلغة أساسية للتدريس، في الوقت الذي كانت فيه العربية مجرد لغة تدرّس. لكن دعاة التعريب هم الذين حرموا الشعب المغربي من هذه "الغنيمة" الفرنسية كما قال عنها كاتب ياسين ليحتكروها لأبنائهم ويمنعوها عن أبناء الشعب. فلماذا لم يستنكر الأستاذ العروي سياسة التعريب المقيتة؟
العربية ليس لها إلا مستوى واحد هو المستوى الفصيح:
يقترح الأستاذ العروي على المطالبين باستعمال الدارجة كلغة تدريس أن يمنحوه الوقت الذي سيضيعونه في تنمية وإعداد هذه الدارجة لتصبح لغة تعليمية، والذي يقدره بمائة سنة، «لبناء اللغة المعربة وخدمتها، ليروا النتيجة دون إحداث قطيعة ثقافية مع إرث الثقافة العربية وما تزخر به من كنوز لا يمكن للدارجة أن تعوضها. مائة عام مدة كافية لحدوث التراكم الكافي لتطور العربية وملء الشرخ بينها وبين الدارجة».
ملء الشرخ بين العربية والدارجة، و«تعميم الفصحى وتخفيض مستواها حتى تنزل بها إلى أفهام العامة، وبالتالي مغربة العربية الفصحى»، كما يقول لنا الأستاذ العروي، هو أوطوبيا utopie حقيقية (أي ما لا يوجد في أي مكان، حسب المعنى اليوناني الأصلي لكلمة "أوطوبيا") تراود كل التعريبيين، الذين يعتقدون أن القضاء على الأمية وانتشار العربية بفضل التعليم، سيؤدي إلى تراجع استعمال الدارجة لتحل محلها العربية المدرسية في التخاطب اليومي. مع أن اللغة العربية كلغة كتابة فقط، يستحيل استحالة مطلقة أن تعود لغة تخاطب شفوي. فعدم استعمالها في التخاطب الشفوي مثل الدارجة، لا يرجع إلى عدم التمكن منها وإتقانها، وهو مشكل يمكن أن يحله تعميم التمدرس، وإنما يرجع إلى طبيعتها كلغة كتابية وليست لغة استعمال شفوي. والدليل على ذلك أن الذين يجيدون العربية لا يتخاطبون بها في ما بينهم. فحتى لو كان المغاربة حاصلين جميعهم على شواهد عليا في اللغة العربية، فإن ذلك لن يجعل منها لغة يتخاطبون بها.
فلمَ يطالب إذن الأستاذ العروي بمائة سنة أخرى لبناء وخدمة العربية، ما دام أن قرونا من هذا البناء والخدمة أوصلتها فقط إلى ما هي عليه اليوم، كلغة معاقة ونصف حية لفقدانها القدرة على الاستعمال الشفوي، أي الاستعمال في الحياة. وهذه "الإعاقة"، التي تميز العربية، هي التي تعطي المشروعية للانتقال إلى الدارجة والأمازيغية كلغتي تدريس، بعد تأهيلهما طبعا لذلك.
فالذين يدعون إلى "لغة معرّبة"، كما يسميها الأستاذ العروي، أو "عربية وسطى"، كما يسميها آخرون، لتقريب الفجوة بين الدارجة والعربية المدرسية، هم حالمون وواهمون وطوباويون، لأنهم ينطلقون من رغبتهم في ما ينبغي أن تكون عليه العربية، وليس مما هي عليه في الواقع. لهذا فهم يعتقدون أن دخول ألفاظ من الفصحى إلى معجم الدارجة، واستعمال هذه الألفاظ في التخاطب الشفوي لهذه الدارجة، هو بمثابة نزول للعربية إلى الشارع وإلى الحياة. نعم الدارجة تستدمج باستمرار ألفاظا من الفصحى، لكن ذلك لن يغير شيئا من العربية المدرسية ليجعل منها لغة تستعمل في التخاطب بناء على استعمال بعض ألفاظها في الدارجة المستعملة في التخاطب. فالعربية لا تعرف، بحكم أنها لغة كتابة فقط، غير مستوى واحد من الاستعمال، وهو مستوى العربية الفصحى، وليس لها مستوى عامّي ولا وسيط ولا معرب ولا دارج... لأن هذه المستويات الدنيا من استعمال اللغة تمارس في الاستعمال الشفوي للغات الحية (التي تستعمل في الكتابة وفي التخاطب اليومي) كما في الفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية... أما العربية، فلأنها لغة كتابة ولا تستعمل في التخاطب الشفوي، فلا يمكن، لا منطقيا ولا واقعيا، أن يكون لها مستوى استعمال آخر غير مستواها الكتابي الفصيح، المدرسي والأكاديمي. وبالتالي فمهما تطور معجم الدارجة ليضم مزيدا من ألفاظ العربية الفصحى، فإن هذه الأخيرة تبقى دائما لغة لا تستعمل في التخاطب الشفوي، ولا يعني إطلاقا استعمال ألفاظها في الدارجة أنها هي المستعملة في هذا التخاطب الشفوي.
"لاتاريخانية" الأستاذ العروي:
لقد اشتهر الأستاذ العروي، منذ سبعينيات القرن الماضي، بمنهجه "التاريخاني" الذي يدعو (العروي) العرب إلى تطبيقه للخروج مما يسميه في كتاباته "التأخر التاريخي"، وذلك بإحداث قطيعة مع التراث العربي الإسلامي، وتبني قيم الحداثة كما تبلورت في أوربا. شيء جميل أن يدعو الأستاذ العروي إلى تجاوز التراث العربي الذي يعتبره عائقا أمام الحداثة والتقدم. لكن ألا تشكل العربية، التي يدافع عن بقائها كلغة كتابة وتدريس رافضا أن تصبح الدارجة هي أيضا لغة كتابة وتدريس، الجزءَ الأهم من هذا التراث، بل هي مفتاح هذا التراث؟
فما هذا التناقض؟: يدعو إلى القطع مع التراث من أجل الدخول إلى الحداثة، لكن بمجرد أن ظهر مطلب الدارجة، حتى انتفض ضدها بدعوى أن استعمالها في الكتابة والمدرسة، ستضيع معه كنوز التراث، وهذا في الوقت الذي يعتبر فيه هذا التراث هو سبب "التأخر التاريخي" عند العرب.
كان على الأستاذ العروي، إذا كان لا زال يؤمن بمنهجه التاريخاني الرافض للتراث والمدافع عن الحداثة، أن يدعو إلى استعمال الدارجة للكتابة والتدريس، كوسيلة وفرصة للقطيعة مع التراث الذي هو مكتوب بالعربية. فلو فعل ذلك لكان منسجما في موقفه التاريخاني والحداثي، الذي عرف به، ولكان منطقيا في تحليله لأسباب "التأخر التاريخي"، وموفقا في الحلول التي يقترحها لتجاوز هذا التأخر.
ومن جهة أخرى، هو يدعو، نتيجة دعوته إلى القطع مع التراث، إلى تبني الحداثة كما ظهرت وتبلورت في أوروبا. لكن هل نسي الأستاذ العروي أن الشرط الأول الذي جعل الحداثة الأوروبية ممكنة، هو القطيعة مع لغة التراث التي كانت هي اللغة الفصحى التي لا تستعملها إلا نخبة محدودة، وتبني اللغات العامية كلغات للكتابة والتدريس، كالإيطالية والفرنسية والبرتغالية والعامية الألمانية...؟ وكان ذلك بداية للنهضة الأوربية، وما صاحبها من حداثة تجلت في الفكر التنويري، وتمجيد العقل والحرية، وظهور نظم حكم ديموقراطية، وانطلاق الثورة العلمية والصناعية...
لهذا يبدو الأستاذ العروي، في موقفه من الدارجة، كسلفي يدافع عن التقليدانية ضد كل تجديد أو تغيير. بل هو يلجأ إلى "المتحف" المتقادم والمهجور "للحركة الوطنية"، ليخرج منه فزاعة "تهديد الوحدة الوطنية"، التي سبق أن استعملتها (الفزاعة)، وبإفراط وتكرار ممل إلى أن أصابها "الصدأ" وفقدت كل بريقها وفعاليتها، هذه الحركةُ، ذات التوجه السلفي الشرقاني، ضد الأمازيغية. فهو يقول عن مشروع التدريس بالدارجة: «أخرجني من مقبعي لأنني أنظر إلى أبعاده التي تروم تقويض الوحدة الوطنية». التدريس بالدارجة يقوّض الوحدة الوطنية؟ لم يبق للأستاذ العروي إذن إلا أن يدعونا إلى قراءة "اللطيف"، الذي يستدعيه رفع "الفزاعة" المعلومة، كما سبق أن فعلت "الحركة الوطنية" التي كانت تجمع بين "اللطيف" و"الفزاعة" لمحاربة الأمازيغية وشيطنتها.
إن المفكرين المغاربة "الكبار"، مثل الأستاذ العروي، الذين حققوا "كبَرهم" عبر اهتمامهم بالقضايا "الكبرى" التي تهم الشأن العربي، ظلوا، لمدة غير يسيرة، "غائبين" عن المغرب، لأنهم كانوا منشغلين بتحليل هذه القضايا العربية "الكبرى". لكن بمجرد ما تثار مسألة الدارجة أو الأمازيغية، حتى تجدهم السباقين إلى "الحضور" لإقناعنا بلاجدوى الدارجة والأمازيغية، وأنه من الأفضل الحفاظ على العربية التي تضم كنوزا من التراث.
في الحقيقة، من خلال هذا النوع من "الحضور"، الذي يستدعيه فقط التصدي للدارجة والأمازيغية، يبرهن مفكرونا "الكبار" أنهم بهذا الشكل من الحضور لا زالوا "غائبين" عن المغرب، لأن رفضهم للدارجة والأمازيغية، اللتين "حضروا" من أجلهما، هو، على المستوى الفكري والإيديولوجي، بمثابة استمرار "للغياب" الذي تفرضه "المرابطة" في جبهة "القتال" العربية، بعيدا عن المغرب وتفاهة دارجته ورطانة أمازيغيته، حسب نظرتهم إلى هاتين اللغتين المغربيتين.
والمشكل مع هؤلاء "الكبار"، هو أنهم عندما يخطئون، فإن أخطاءهم تكون كبيرة، وبأضرار كبيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.