لم تكن مبادرة المغادرة الطوعية التي اعتمدها المغرب منذ سنوات للتخفيف من العبئ المادي الذي ولدته متطلبات الوظيفة العمومية ، لتغري فئة معينة من الموظفين عرفوا في القاموس السياسي الساخر بالموظفين الأشباح ، لأنهم ألفوا الرضاع من المال العام ، في غفلة من القوانين الزجرية ، وفضل الكثير منهم الانحناء للعاصفة كلما بدت له تدابير معينة من هذه الحكومة أو تلك لمحاصرة الموظفين الأشباح ، في انتظار هدوء يتيح فرصة للتفكير في أسلوب جديد لتدبير الأزمة وصرف أنظار الرقباء . وخلافا لما اعتقده كثير من المتفائلين من ذوي النيات الحسنة ، من أن المغادرة الطوعية سترفع الحرج عن كل المدسوسين في جسم القطاع العام ، ليفوزوا بما جادت به ميزانية الدولة ، فقد استمر وباء الموظفين الأشباح يتهدد كل القطاعات ، وبنسب مختلفة ، والسبب في ذلك هو قوة هؤلاء وسلطتهم التي لا يطالها القانون ، أو عجز كل التدابير المتخذة عن اجتثاث الظاهرة من الأصل . وزارة التربية الوطنية باعتبارها تشكل أكبر قطاع مشغل في الوظيفة العمومية ، لا زالت تحتضن الموظفين الأشباح ، بعضهم يمارس وظيفة أو وظائف متعددة ولا يحلو له إلا النهش من المال العام ، وبعضهم يستفيد من أريحية بعض المسئولين الذين ينصبون أنفسهم حماة للقيم الإنسانية ، فينوبون عن القانون الذي لا تأخذه رأفة في المرضى والمعتوهين أو ذوي الظروف الخاصة ، وهكذا تراهم يدخلون في عداد الأطر التي تنتمي لهذه المؤسسة أو تلك ، مع ما يترتب عن ذلك من خصاص يذهب ضحيته التلاميذ أو مصالح المرتبطين بالتعليم ، دون أن تكون لأحد منهم الجرأة على الاحتجاج ، لأنه يجد نفسه محاصرا بين المصلحة الضائعة ، وبين العطف الإنساني ، وأحيانا لا يملك ما يفعل سوى قبول الأمر الواقع ، لتحدث نكسة الوعي . للموظفين الأشباح صور مختلفة ومتعددة في ذات الوقت ، فهم حاضرون ماديا ، يسري عليهم ما يسري على غيرهم من قوانين ، ويستفيدون من كل الامتيازات ، غير أنهم يتميزون بكونهم لا ينهضون بأية مهام تبرر ما يتقاضونه من أجور ، وبعضهم لا حضور له على الإطلاق سوى في ما يصرف له من حوالات ، ومن ذلك ما أصبح يلاحظ بشكل مثير بخصوص بعض الذين فضلوا الهجرة خارج الوطن للعمل في دول أوربية أو في الولاياتالمتحدة الأميريكية ، خاصة بعد أن أصبحت وثيقة مغادرة التراب الوطني غير مطلوبة لكل راغب في السفر . لم يستطع بلدنا المسكين التخلص من ذوي الأسناد والولاءات والدعائم ، فأنت تجد مستشارا يتكئ على الصفة للهروب الكلي من المهمة الأساس ، وتجد منقطعا لمهمة معينة يكتسي بها التفرغ الأبدي ، وتجد لاعبا في فريق رياضي ، وتجد مندوبا ، وتجد ، وتجد ..إنها صور متعددة للشبحية التي وصف بها كثير من الموظفين ، تعرفهم العامة والخاصة ، ولا تصلهم يد الرقيب ، أو تصلهم وقد شلت بفعل ما يملكونه من قدرة على النفاذ . هل مختلف الإحصاءات التي مارستها وتمارسها وزارة التربية الوطنية لم تستطع الكشف عن هؤلاء ، أم أنها إحصاءات لا تستثمر ، لتصبح عملية روتينية وشكلية تضيع معها الأوراق والمجهودات . ففي كل نيابة أو إقليم نماذج من هؤلاء الموظفين الأشباح ، والوصول إليهم أسهل مما يظن . يكفي فقط مراجعة ما يصرف من الميزانية العامة ، وما يصرح به الآباء والأمهات من خصاص مهول في المدرسين وموظفي التعليم الذين بات الكثير منهم يطالب بالحق في الترقية والامتياز، ويزاحم ذوي البذل والعطاء ، وربما تجاوزهم في الاستفادة . إن الحزم في معالجة هذه الظاهرة ، من خلال تتبع عدد الذين لا يلتحقون بمقرات عملهم سنويا ، ومحاسبتهم ، والتدبير الجيد للموارد البشرية لمن شأنه أن يلم شعث ميزانيتنا الناقصة أصلا ، ويفتح الباب للمزيد من التوظيف لسد الثغرات القائمة . فهل هناك إرادة للقطع مع الظاهرة ، ذلك ما يتمناه كل غيور على التعليم المغربي الذي يشكو كل أصناف الهدر ، ومع ذلك نريده أن ينهض . مجلة المدرس 10/10/05