في العتمة تبدو التفاصيل مثل جرح، لا أحد يوقظها، لا أحد يبحث عن نُدب الألم فيها أو تجاعيد الآثار التي يرسمها الزمن. شيء واحد يقترب، يحرّكها فتفيق أو لا تفيق، ثم يتمدد إلى يمينها ويطلق خيوط الرحيل.. شيء واحد اسمه "منتصف الليل". يمتد السكون، ينشر عباءته التي ينسجها الليل حيث لا شيء يهمد أو تغريه الإغفاءة، فالنبض كله لليل، والليل وحده يُنبت الألم والجوع وحكايات الجنس والذكريات الموجعة.. قالت امرأة عابرة: ما أقسى السجن في معتقل بعساكر وأوجاع، وما أقسى السجن بين وردتين.. وما أعمق الليل هنا في دربٍ تتكدس فيه الحمّى والحلمات وضحكات غنج رخيص. لكزني مرافقي في الكتف وقال: "أفِقْ قد أفاق العاشقون". وأكملتُ البيت وضحكنا. فتمايلتِ المرأة العابرة وتكسرت في مشيها وانصرفتْ. *** ما تزال التلة التي لا شأن لي بها تحمل على ظهرها ليلا من ليالي قلعة مكونة، الليل المسكون بالرصاص والجراح، محاطا بسور وهالة، ومطلاًّ على الناس والورد كشيخ نَبَذته القبيلة فجلس بعيدا مستندا إلى شجرة موغلة في الدمع يرقب المدينة بمرارة ونُدب كثيرة تسري في الدم والصوت. والطريق طويل ممتد يقطع المدينة بقسوة ليرتب الورد وفناجين القهوة ومحلات عديدة مثل حبات غير متناغمة في عقد طويل بلا قلادة. قبل أن تغلق المقاهي أبوابها وينسحب المارة والعربات الصغيرة وتنزلق المدينة رويدا رويدا تحت الغطاء الفاحش والقاسي لليل ثم تهمد ضجّاتها، قبل هذا يكون رفاقٌ لي هناك في مقهى قد أثخنهم الشعر وأخبار الثقافة وعويلٌ وصراخٌ وطعناتٌ في قصائد جديدة، وتكون كؤوس الشاي الخفيف بالنعنع قد امتصت كثيرا من سكّر الشعراء وهدوئهم ليقتربوا أكثر من الليل أو يسكنهم بعض منه فيفترقون. أعود إلى جبلي محملا بمرايا آهلة بالقصائد، مرايا متقابلة لا تنتهي رؤاها ولا تبشرني في الغالب بميلاد جديد. وسأكون ملزما أن أفرد الكلام حرفا حرفا أعيد ترتيب العالم بعينيّ. وأشعل فأسا في كل ما قيل، فأطرد ستالين وماركس والثوريين والليبراليين العرب، وأبعد بمسافة لا يحسبها الذراع عن أساطير اليونان واجترار العالم في "إسهال" لا ينتهي، وأقترب أكثر من أساطيري ومن الوحش الذي يسكنني وينتفض كلّ مساء داخل جسدي بقوة حتى تتشقق بشرتي، وأقترب من صرختي وأنصت لحماقاتي فأكتب قصائد رديئة وأكدّسها في انتظار وجبة الوحش الذي يسكنني، أو تقضمها حشرات الشعر حين تتعفن. في الجبل، كانت القصيدة الوحيدة التي لا تتعفن هي سهرات الرفاق وجرعات الخطيئة اليومية التي نختلسها في غمضة القبيلة والجوار. ولأن الحكمة تقتضي أن لا يصرخ أحد في وجه نافورة "لن أشرب ماءك !" فإني مثل لقلاق يحترف الرحيل كنت أرحل وأعود فأجد المقهى أكثر لذة، ليس لأن حياة ما انبعثت بل لأني كنت أضرب موعدا للموت وموعدا للنفي في كل لقاء. فأصدقائي الشعراء –الذين كانوا كتلة من تصوف وكفر وبوذية وأشياء أخرى- علّموني الخطوة الأكبر والقفز اللازم باتجاه الشعر، علموني كيف "أمزق قصائدي" حين لا تتشبث بالصحو، وحين تنغرس عتمة مخبأة في فكرة أو عبارة.. لذا كان النفي والقتل أكثر لذة، وما كان هزائم أليمة، كان ارتقاء يخلف فوضى وخدوش أنساها بسرعة في قمة الجبل وقمم الخطيئة. اكتشفت لاحقا أن قصائدي لم تكن رديئة فقط، بل برية. وعليّ أن أوسع القفز بحذائي المشبع بالألوان باحثا عن غُرف أوسع "للوحش" الذي كبر، وقفزت. فوجدتني فجأة خارج قلعة مكونة أكتب قصصا قصيرة، وهُيِّء لي أن ذاكرة الجمر والاعتقال وأرواح الذين قُتلوا هناك رحّلوني قسرا، وودعوني بصوت واحد: "القلعة ليل أوسع من قصيدة شعر" فأيقنتُ أن لوجه المدينة حارسان: عتمة الليل، وشيخ منبوذ في أعلى التل لا شأن لي به. ليل مكونة صخب في لوحة. كأنما يشوش عبير الورد فيها ضجيج ألوان ولطخات. لطخة تاريخ معتم ولطخة حَلَمة نافرة، وألوان من هامش. صخب يتوهج في جمر ورصاص لا تنسيك قسوتَه أهزوجةٌ أمازيغية معتقة أو فورة الجمال التي تنثرها رقصة أحواش في قصبة أو فندق أو منبسط في محاذاة النهر.