هذه أحوال الطقس لهذا اليوم الأحد بالمملكة    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    وزير الخارجية الأمريكي يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    الجيش الباكستاني يعلن مقتل 16 جنديا و8 مسلحين في اشتباكات شمال غرب البلاد    "سبيس إكس" الأمريكية تطلق 30 قمرا صناعيا جديدا إلى الفضاء    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي        تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري            اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الكريم كاصد الشاعر..خارج النص

* و ماذا عن "ألف ليلة و ليلة" بشكل خاص؟ ما سر هذا السحر الذي ألهب ذاكرتك؟ و ما هو في تقديرك، العنصر التخييلي و الحكائي الذي يتفرد به هذا النص الذي ألهب خيال شعراء وكتاب عالميين أمثال بورخيس وغارثيا ماركيز، وجعلوا منه كتابا أساسيا في المكتبة الكونية؟ و ما تجليات تأثرك بألف ليلة و ليلة في أشعارك؟
** لن أبالغ إذا قلت لك أن "ألف ليلة وليلة" حاضر في أغلب قصائدي بشكل مباشر أو غير مباشر وهذا ما لم ينتبه له إلا القليلون ...
لعلّ من المفيد الحديث عن تجليات تأثير ألف ليلة وليلة لا عن سرّه الذي ينفتح على أسرارٍ أخرى قد لا تنتهي أبداً . ولعل أهمّ تجليات هذا التأثير،على الأقلّ في الأسماء التي أوردتها: بورخيس وماركيز، هو في هذا الالتقاء الحميم بين المعرفة والحلم اللذين افترقا لدى راويي طفولتي (الديوان وخالي موزان) . لم يكن ألف ليلة وليلة سرداُ ماضياً بل نبوءة أيضاً واستشرافاً .. واقعاً وحلماً في آن واحد ، وهذا ما يفتقده الكثير من الشعر وما يعوزه الكثير من الكتاب ولعلّ واحداً من أسباب شعبية هذين الكاتبين هو جمعهما هذين النقيضين لا باعتبارهما حدّين منفصلين بل لأن كلا منهما يتضمن الآخر، في أحداث قاسية تبعث المتعة حتى في أحلك أحداثها مثلما تبعث التفكير حتى في أخف أحداثها وأبهجها.
أليس التأثير نفسه سرّاً؟ في علم النفس التحليلي يتحدث المريض ليشفى من مرضه، وفي الاعترافات المسيحية يتحدث المذنب ليتخلص من خطيئته، أما في ألف ليلة وليلة فإن المحلل النفسي (شهرزاد) هو المتحدث ليشفي المريض الذي هو شهريار.. عبر الحكمة المبثوثة، في مرح، في وقائع وسرد نادرين رغم اعتياديتهما وميلهما إلى الجانب المحكيّ .
إن لحكايات "ألف ليلة وليلة" وهجها الخاص وتحولاتها المبهجة التي لا تعرف قتامة العالم الآخر ..عالم الحروب. كانت هي الأقرب إلى طفولتي ونداءاتها البعيدة وقدرتها على اختراق مراحل حياتي الأخرى ومن يدري لعلّي أجدها منبثقة مرةً أخرى في أثرٍ ما: قصيدة، خاطرة، كتاباً...ولا يزال لحكاياتها عموماً تأثير في شعري تجده حاضراً في الكثير من القصائد والمقاطع حتى أشدّها تعقيداً.
* في صلة بموضوع الحكي، في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" ثمة قصيدة بعنوان "حكاية متعبة للأطفال" تستثمر فيها النفس الحكائي السردي. ألا يقدم الشاعر أي تنازل عن خصوصية الشعر حين تتخذ قصائده لبوس حكايات سردية؟
** للطفل دهاليزه التي اكتشفها علم النفس ومسالكه الوعرة وغرائبه وحكاياته التي لا تقل غرابة عن حكايات الكبار.
سألتني ولك الحق في ذلك عن قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وأبديت خشيتك من تنازل الشاعر عن خصوصية الشعر حين تتخذ لبوس حكاية سردية. هذه القصيدة بالذات لم يتناولها أحد من الدارسين حتى الذين كتبوا عن المجموعة بحبّ. تتحدث القصيدة عمّا يسميه فرويد عقدة الفطام، وما وجد تطبيقاته في إشارات لمّاحة إلى التراث الفرعوني بما فيه من صور تظهر الفرعون، وهو يمص إصبعه طفلاً .
كنت مدرساً لعلم النفس وكنت أدرس فرويد ومدرسة علم النفس التحليلي، وكنت مغموراً بهذا العالم ، لكن لا يعني هذا أن القصيدة هي وليدة هذا العالم التعليميّ المجرّد وإنما هي كقصائدي الأخرى لا رافد لها غير الواقع الحسيّ الملموس.
لم ترضعني أمّي وأنما عهدت بي إلى امرأة أخرى لترضعني، ولا بدّ لهذا انعكاساته على شخصي فيما بعد، غير أني لا أود الخوض في تفصيلات ما انعكس فيّ وفي شعري لأن هذا يقودنا إلى أدب الاعترافات ، فما يشغلني هنا هو ملاحظتك أي الحديث عن الفن وليس دوافعه.
* هلا قدمت لي مزيد إضاءة لهذه القصيدة بالذات؟
**تقول القصيدة:
معذرةً يا أطفال
أجفاني مثقلة
أروي لكم الليلة
عن طفلٍ أثقله الترحال
لكن لم يتجاوز موطئ قدميهْ
لم يعرف حتى موضع شفتيه
كان جميلاً أيّ جمال
حضنته الأمّ وهبّت نسَمَهْ
مدّ فمهْ
صار الصدرْ
صخرْ
هربتْ (لم تتلفّت)
كان الصدر العاري يتفتّت
في الصحراء
فبكى يا أطفال
ثمّ أفاق على حضنٍ حجريّ ذات مساء
مفزوعاً موجع
ملفوفاً بالأسمال
لكنْ حين تأمّل قدميهْ
معذرةً يا أطفال
أبصرمدهوشاً ..
إصبع
الحكاية في القصيدة ليست عادية أو سردية ولا توجد في واقع وإنما هي خيال محض. أمّ تحضن طفلها وقد هبّت نسمة لتهرب به عبر الصحراء غير أن صدرها أصبح صخراً يتفتت. ثمة في القصيدة إشارة إلى امرأة لوط التي تحجرت حين التفتت، غير أن الأم لم يتفتت صدرها الذي استحال صخراً جرّاء خطيئة بل لعنة ربما. القصيدة لم تشر إلى ذلك وليست معنية بهذه الإشارة. عندئذٍ يبكي الطفل وقد أفاق مذعوراً وهو ملفوف بالأسمال، لكن سرعان ما ينسى ذعره وهو يتأمل قدميه حين يرى إصبعه. هل سيكون الإصبع بديلاً لصدر الأمّ . هذا ما تقوله القصيدة وما لم تقلهُ أيضاً ؟ إنها مفتوحة على الاحتمالات والدلالات لا المعنى الواحد.
*إلى جانب المحكي و الشفاهي، ما هي الكتب الأساسية التي وصمت طفولتك؟
** الكتب الأساسية هي شفاهية في جوهرها: قصص المغامرات، القصص البوليسية، ولاسيما قصص ملتون توب وهي سلسلة كتب بوليسية طويلة كنت أستعيرها من صديق يهوديّ كنت أتبادل وإياه الكتب. ما زلت أذكر اسمه: فيكتور منشي. كانت له أخت لا تخرج من دارهم إلا نادراً.. كانت في غاية الجمال.. أتذكرها الآن وكأنها وجه تخيلته في الأساطير. غير أن الدهشة الكبرى هي "ألف ليلة وليلة" التي قرأتها فيما بعد لوالدي، هي و "سيرة عنترة" الصادرة آنذاك عن دار الهلال بمصر.
* و ماذا عن الشعر؟ كيف كان حضوره في تلك المرحلة؟ و أي من الشعراء كان لهم تأثير أكثر في بدايتك. ثم كيف ابتليت بانخطافات الشعر؟
** لا أدري كيف استيقظ الشاعر في الطفل ، وكلّ ما أتذكره هو أنني كنت مشغوفاً بالشعر في طفولتي، أردّده مسحوراً :
بيض صنائعنا خضر مرابعنا سود وقائعنا حمر مواضينا
أما حين أصل إلى : " دون نيل منىً " فإنني أشعر كأن هناك تعويذة في هذه الكلمات أو بالأحرى في هذه الكلمة الواحدة. ففي تكرار النون سحر ما بعده سحر(وهذا ما يسمّى بالجناس اللفظيّ في البلاغة). ولأن هذه القصيدة أو غيرها كانت تجري على لساني كما تجري التعاويذ كان يُنادى على اسمي في الساحة (كنت في الصف الثالث على ما أظن) لأنشدها طرباً، لكنني لا أتذكر أنني كنت أقرأها بخشونة الأطفال المدربين لنيل الإعجاب، وإنما لشغف في نفسي، بترنيم وحب وبساطة ربما كان يعيشها الطفل ولا يعقلها. هل كان هذا الشغف المبكر بالشعر هو طريقى إلى القراءة.. القراءة لا كمعرفة بل حياة في سير وملاحم تتزاحم فيها الأضداد وتفترق بحكمة أو بدون حكمة فلا موضع لتقييم هنا وقد تركته للكبار. لهذا كانت صلتي بالشعر مفتوحة على كل التجارب والشعراء صغارهم وكبارهم ولم تكن لذتي أقل في ما ترجم من شعر كان يسحرني فيه ما أجده من أجواء أفتقدها في شعرنا العربيّ وانسانية نادرة.
أتذكر انفعالي الشديد حين قرأت قصيدة ناظم حكمت عن منصور صباغ الأحذية الذي يشبه نواة البلح وهو يردد في القصيدة، حاملاً صندوقه الخشبيّ الملوّن: "يا عيني .. يا حبيبي".. منصور الطفل يموت في نهاية القصيدة تحت القصف، فتنشر جريدة صورته. هذا الشاعر يسخر منه بعض الكتاب العرب ويعتبرونه شاعراً ملتزماً صعدته حركة سياسية، متجاهلين أنه المجدد الأكبر في الشعر التركي، وأنه الأكثر إثارة الآن في بلدان عديدة ومنها الولايات المتحدة. ما أكثر الأوهام والتقييمات الغبية في ثقافتنا
* عودا إلى فكرة الانخطافات. يبدو أن توظيفك لهذه العبارة لم يكن عفويا، و إنما توجد من ورائه خلفية تؤطر تعريفا ضمنيا للحظة الشعرية بوصفها تلك "اللحظة الخاطفة" التي تضيء القصيدة. هلا قدمت لنا إضافة حول معنى "الانخطاف" و فعاليته في انبثاق الشعر؟
** الانخطاف هو تلك اللحظة الصوفية إذا صحّ التعبير ..اللحظة المنفصلة عن اللحظات الأخرى أو بالأحرى اللحظة المضيئة التي تضئ ما قبلها من لحظات وما بعدها . كلّ شئ يبدو مظلماً وفجأةً ينبثق شيء .. شيء مضيء ..شيء يتوهج شبيه بذلك الاندفاع الذي يهتف بك: "وجدتها".
في قصيدة (الغرف) في مجموعتي (الحقائب) لم أعرف من أين أبدأ. ولأن هناك مداخل عديدة إلى القصيدة ولا مدخل واحد فقد أهملتها زمناً ثمّ فجأة تصطفّ الغرف فإذا هي قصيدة ناجزة، كيف؟..ثمة لحظة تضئ فجأةً فيحضرالمكان بأحداثه وزمنه وحيواته، غير أن الانخطاف وإن كان لحظةً فهو ليس بالضرورة زمناً قصيراً. قد يمتدّ إلى لحظات أخرى سابقة أوتالية في قصيدة تقصر أو تطول. إنه تلك اللحظة التي يتكلم عنها ييتس في أحدى قصائده حين يخطفه فجأة ضوء الشمس المنعكس في كأس البيرة المتوهج في المقهى فكأنه يراه لأول مرة. كما يذكر ذلك كولن ولسن في كتابه عن (الشعر والصوفية) الذي قرأته منذ زمن بعيد. قد يكون الانخطاف شبيهاً بتلك الإشراقة التي تضمنها هذان البيتان:
فجأة .. فإذا الأرض كوكب
وأنا في الفضاء الأمير الصغير
وقد يكون الانخطاف أرضيّا .. إشراقةً ممجّدةً للحياة في لحظتها الراهنة وهي تختزن الفرح فلا تبرح مكانها في الذاكرة أبداً.
* هل يستطيع الشعر بكثافة لغته و استعاراته و تشذر صوره التي تستعصي أحيانا على الإدراك العادي أن يلملم صور الطفولة الهاربة و المتشظية ثم يسكبها كتجربة شاملة في نظيمة أو متوالية شعرية تكون قادرة على نقلها بنفس الواقعية المحتملة التي تعبر بها جماليات الرواية مثلا أو السينما ؟
** لمَ لا؟ مادام الواقع ذاته ينطوي على جانب كبير من الخيال في أحيان كثيرة، وما دامت الأجناس الأدبية لم تعد بذلك التحديد الذي يجعلها قارات منفصلة
*على ذكر السينما، يبدو لي ديوان "النقر على أبواب الطفولة" كأنه قصيدة طويلة مكتوبة ومصممة بلغة السينما. لعل في قراءتي هاته بعضا من مجازفة تأويلية. لكن لم لا نقوم سويا بامتحان مدى نجاعة هذه القراءة. فالقصائد تستثمر لغة حسية بصرية مركزة تنسجم مع رهان الشاعر في إعادة الحياة لصور الطفولة، على طريقة الفلاش باك. ثم ان الديوان مقسم الى فصول، كل فصل عبارة عن متوالية (Sequence) من المشاهد البسيطة و المركبة التي تتكون بدورها من لقطات. هذا علما أنك وظفت تقنية "اللقطة" في قصيدة تحمل نفس العنوان: "لقطات" و هي تقنية ستعود إليها لاحقا في ديوان "وردة البيكاجي" (1983). هذا ناهيك عن توظيف ذكي و شاعري لتوزيع الحركة و السكون، الصوت و الصمت و الضوء و الظلمة، و كذا المشاهد الفردية والجماعية و المواقف الساخرة و المأساوية، كعناصر بنائية لشريط الطفولة هذا.
** يسرني سماع ذلك منك وهذه أجمل مكافأة لي على مجموعتي الصغيرة هذه.
* لنمر إلى مكون أساسي من مكونات الشعر ألا و هو الإيقاع. ما هي الإيقاعات التي رسختها مرحلة الطفولة في وجدان الشاعر عبد الكريم كاصد: أناشيد الطفولة و الأغاني الشعبية وأهازيج الأعراس؟ هل أفدت في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" من ذخيرة الصبا الإيقاعية؟ و هل ما تزال تلك الإيقاعات التي حركت روحك و وصمت طفولتك تغذي و تلهم شعرك الحديث، علما بأن كلمة "النقر" في حد ذاتها تثير جرس إيقاع ما؟
** نعم الإيقاع مكوّن أساسيّ في الشعر، وقد يكون طاغياً لدى شعراء كبار حتى يبدو وكأنه العلامة الفارقة لشعرهم : هوبكنز، ما ياكوفسكي، تنسون، البحتريّ، وآخرون كثيرون، حتّى أن إيقاعهم يلازمك أحياناً زمناً طويلاً تردّده وتتعشقه ولا تعرف سرّه إطلاقاً، غير معنيّ حتى بما يحتويه من معانٍ ودلالات هي الأخرى ذات قيمة كبيرة في شعرهم، وليست مجانية من أجل الإيقاع ذاته، وهذا ما يوضحه ما ياكوفسكي في دراسته الطويلة القيمة المترجمة إلى الإنجليزية في كتاب صغير عن قصيدته في رثاء الشاعر الروسي يسنين. ولأن الإيقاع ليس تجريباً أو مهارة مجردين وإنما هو مرتبط بمادته الحياتية ، لذا كان للإيقاع أشكاله العديدة وتجلياته المختلفة، وتأثيره الطاغي على القارئ حين تتردّد اصداؤه أياماً في النفس. لنأخذ هذه الأبيات للبحتريّ:
ولمّا غرّبت أعراف ليلى لهنّ وشرّقت قنن القنان
وخلّفنا الأياسرَ وارداتٍ جنوحاً والأيامن من إبان
وخفّض عن تناولها سهيلٌ فقصّر واستقلّ الفرقدان
تصوّبت البلاد بنا إليكم وغنّى بالإياب الحاديان
إنه إيقاع له من السحر ما يجعل المسافة بينه وبين بحر الكامل المجرد بعيدة تماماً. إنه شيء يضفو على الوزن بحروفه وامتداداته وأصدائه التي تتردّد في الروح وتتسع كدوائر في الماء. في النقر حاولت أن أعكس إيقاع الواقع نفسه كما اختبرته شخصياً: أصوات الباعة، حديث الناس، أو أخفف منه في قصائدي النثرية التي أصف فيها مشاهد منشغلاً بالسرد كقصيدتي "ليدي ستيك" و"مقهى".
البصرة عبق الأمكنة:
* في إحدى لقاءاتنا هنا بلندن قلت لي بنوع من الحنين: " إن قلبي هناك، في البصرة". بعد أن تناولنا بعضا من شخوص مرحلة الطفولة، أو قل النماذج الإنسانية الأولى التي أثرت في تجربتك الشعورية و تكوينك الأولي، يبدو لي أن مقاربتنا ستبقى ناقصة لو أغفلنا الحديث عن مسرح الطفولة و المكان الأول الذي حضن التجربة منذ البداية، ألا و هو مدينة البصرة.
** كتبتُ مرّةً عن البصرة نصّاً، من بين نصوصٍ عديدة عنها، بعنوان (البصرة مدينة لا مرئية). لقد عدت إليها غير أنني لم أتعرّف عليها إلاّ كما يتعرف الشاعر الجاهليّ على طلله، ولكنني مع ذلك أحسني مشدوداً إلى هذا الطلل بأكثر من سببٍ لا أدري لم اضطربت روحي عندما رأيت تمثال السياب ولم تهدأ إلاّ بزيارة جيكور. ما الذي يشدّني إلى ذلك وجيكور ليست جزءاً من طفولتي إلاّ عبر أصداء الكلمات ونوافذها البعيدة ...
ما زال ثمة آثار.. ما زال ثمة ماضٍ لم يندثر بعد، مطلّ في قسمات أناسٍ أحبهم وحيطان أحبها، وعتبات أعرف ما وراءها وإن لم أجتزها.. وشوارع أستعيد أشكالها.. وأطفالٌ يطلّون بوجوه آبائهم، واصدقاء هرموا غير أن فرحهم البعيد لا يزال مضيئاً في ملامح لم تهرم بعد. إنها مدينتي اللامرئية التي سأبحث عنها طويلاً، حتّى لو أرقني البحث عنها، ولعلّها في اختفائها يكمن عذابي في هوسي الدائم لا ستحضارها أو حضوري إليها. أشعر أنني لم أغادرها مثلما شعرت من قبل إنها لم تغادرني.
في تكريمي في المربد الفائت تحمل أناس مشقة الحضور لا لشئ إلاّ لسماع صوت ابنهم الذي غادرهم منذ ثلاثين عاماً .. هم الذين لا علاقة لهم بالشعر. لقد غمرتني المدينة بمحبةٍ حتّى أنني لم أعد أدري أي وجه حبيب سألتقيه أو يلتقيني في المنعطف القادم في هذا الشارع الذي أسير فيه.
كيف تستحيل المدينة إلى بيت؟ هل يكون الجواب : في الطفولة والشعر.. ولكن أين الطفولة؟ وأين الشعر؟ في أي مكان أعثر عليهما وفي أيّ مكان سأبحث عنهما وهما الحاضران أبداً..الدليلان.. والغائبان أبداً . ولكنني سأجدّ إليهما مثلما سأجدّ الآن في طريقي إلى البصرة باحثاً عن الثلاثة معاً.. هل امتزج الثلاثة حتّى أصبحا شيئاً واحداً:
الطفولة – الشعر- البصرة
الشعر -البصرة - الطفولة
البصرة - الطفولة- الشعر
* متى اضطررت إلى الخروج من المكان، هذا الخروج الذي سميته في أكثر من مناسبة بالهروب؟ ما هي دواعي هذه المغادرة الاضطرارية؟
** غادرت العراق سنة 1978، بعد أن أصبحت حياتي مثل حياة الكثير من المواطنين مهددة بالاعتقال والتعذيب إن لم أنتمِ إلى حزب السلطة، وبعد ساعات فقط من مغادرتي البيت، قدم رجال الأمن ليسألوا أمي عني أجابتهم أنها لا تعرف أيّ شيء، غير أنهم لم يصدّقوها وظنوا ذلك تضليلاً لهم .انتظروا حلول الليل ليتسلقوا سقف البيت بانتظار عودتي وظلوا ينتظرونني أياماً حتى يئسوا.
اختفيت شهرين ببغداد ثم اتصلت بواحدٍ من المهربين وكان قد وعد بإنقاذي ذات يوم إذا ما ساء الظرف ولم أجد وسيلة للهرب. وبالفعل فقد قدم المهرب بشخصه لأصحبه إلى بيته استعداداً للرحلة القادمة عبر الصحراء.
كان هذا المهرب قد فقد جمله في يوم ما فالتجأ إلى أخي الذي كان طبيباً في سفوان البلدة الحدودية المحاذية للصحراء، فطمأنه أخي بإعادة جمله إليه، لما لأخي من حظوة ومنزلة بين الناس، حتى المهربين منهم، وطلب منه أن يذهب إلى البصرة ويقضي ليلته في بيتنا لاستعادته صباحاً، فاستقبلته مرحباً واستمعتُ، بشغف، إلى حكاياته عن الصحراء، ولم أهمل الجلوس معه حين قدمت والدتي من الحج صدفةً في تلك الليلة جالبة معها الكثير من الهدايا التي اجتمع حولها الأقارب والأطفال وهم في أوج حماسهم وصخبهم . ولكي يردّ لي ما حسبه جميلاً أسرني أن السلطة ستشن حملة شرسة ضدّ الكثيرين فإذا ما احتجته فإنّ بإمكاني الاتصال به لمساعدتي على الهرب. قلت له وكيف عرفت ذلك قال لي : " لأنني بعثيّ " ثمّ أضاف: "وهل تعرف كيف أصبحت بعثيّاً؟". قلت له: "كيف ؟" قال : "استدعاني مسؤول بعثيّ وطلب مني أن أكون بعثيّاً، فقلت له: "أنا رجل مهرب ولا أعرف معنى كلمة بعثيّ". قال: "أ تريد أن تعرف معنى كلمة بعثيّ ؟ اذهب إذن خارج المكتب ثمّ ادخل واضرب الباب بقوّة. "امتثلت لأمره وخرجت ثمّ رجعت ضارباً الباب ولكن بتردّد. حينئذٍ صرخ بي قائلاً: " اخرج واضرب الباب بقوة كما قلت لك! " وهذا ما فعلته في المرة الثانية. حينئذٍ سألني: " أتعرف الآن معنى بعثيّ ؟ هو أن تضرب الباب بقوّة و تدخل."
طلبت من المهرب أن يرافقنا صديق لي هو الشاعر مهدي محمد علي فلم يمتنع. اصطحبناه إلى مدينته البعيدة حيث أمضينا يومين ثمّ إلى قرية حدودية ، استقبلنا أهلها، وهم أخوته وأقاربه، استقبالاً حافلاً، إذ احتفوا بنا وأعدّوا لنا وليمة عامرة حضرها العشرات من أهل القرية مما أثار خشية الصديق مهدي الذي همس في أذني مبدياً استغرابه فما كان من أهل الدار إلاّ ان انتبهوا لإشارته هامسين بدورهم في أذني: " ليطمئن صاحبك!".
بعد الوليمة خرجت القرية بأكملها لتوديعنا. كنا ثمانية وستة جمال: أنا و مهدي، وهاربان من الخدمة العسكرية، وأربعة مهربين. سبقتنا الجمال فمشينا على أقدامنا خلفها مسافة طويلة بعد أن صافحنا أهل القرية واحداً واحداً وكأننا في مشهدٍ سينمائيّ.
قبل أن يرتدي الليل شملته
سبقتنا الجمال
وعبرنا القرى
كان نجم القرى نائياً
فعزمنا الرحيل
وانحدرنا مع النجم
قلتُ: إذن هكذا
صرةٌ ومتاع قليل
من قصيدة (الرحيل عبر بادية السماوة)
* لو عدنا إلى ديوان "النقر" لوجدنا نصوصا مشبعة بعبق أمكنة مدينة البصرة و صورها الأثيرة لديك. بي شغف أن تصور لي ملامح، و لو خاطفة، لجغرافيا هذا المكان و خصوصا فضاءاته العاشقة: "السوق" و "الجسر" و " المسرح"؟
** السوق: عن أيّ سوق أتحدّث؟ ثمة أسواقٌ عديدة هي كرنفالات حقّاً .. كرنفالات دائمة.. سوق الجمعة الذي يمتدّ شارعاً طويلاً ينتهي بساحة واسعة تقام فيها المراجيح في الأعياد. فيه تجد كلّ شيء.. الكتب والسلع النادرة. أحزن حين أتذكره وأتذكر كتبي العزيزة وهي تعرض فيه لتباع بأرخص الأسعار.. مجنون إلزا لأراغون بالفرنسية، ديوان المتنبي وغيرها من الكتب العزيزة التي تركتها ورائي حين غادرت العراق وخلفت بيتي لرجل أسكنته أمي هو وعائلته دون أن تطالبه بأي إيجار. تسلل هذا الرجل إلى مكتبتي المخزونة في غرفة يسهل فتحها. ولولا أن يلمحه أخي سلمان في السوق، صدفةً، لما تبقى من مكتبتي الكبيرة أي كتاب. كم كنت سعيداً وأنا أتحسسها عند عودتي إلى البصرة متذكراً فرحي باقتنائها وسعادتي بتقليب صفحاتها وما ارتبطت به من أخيلة وذكريات وأمكنة، وناس.
في تلك السوق أتذكر أيضا فرحي حين كنت طفلاً وأنا أرى التماع الكتب على الأرصفة وطبعاتها الجميلة: كتب نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله وآرسين لوبين والدواوين المطبوعة طبعة شعبية، ما أجملها... وكم كانت دهشتي حين التقيت مرةً بكتب جونسون وملتون توب الساحرة والأكثر عمقاً في أحداثها من كتب أرسين لوبين. كنت أظنها لا توجد إلا عند صديقي اليهوديّ فكتور منشي. أمّا السوق الرئيسية، أو الكرنفال الحقيقيّ اليوميّ فهو سوق البصرة التي تبدأ من مركزها مروراً بسوق العبايجية وهي سوق لبيع الأقمشة وانتهاءً بسوق البزازين حيث محل والدي الذي كان في بداية سوق البصرة ثمّ انتقل إلى سوق البزّازين المظلّل المرشوش في الظهيرة بالماء حيث تحلو القيلولة ويندر الزبائن. كانت السوق أشبه بالحوش والناس أشبه بالعائلة، وكم كان سروري كبيراً حين أراهم مجتمعين كلهم في عرس أشهده أنا ووالدي: هاني النداف الأحدب ذو الوجه الجميل والمحبوب من النساء خاصةً، أبو عبدالله بلهجته النجدية المحببة وشخصه المسالم الهادئ . أتساءل أحياناً: من أين يأتي بكل هذه الأقمشة الجميلة التي تعوزنا ؟ جايد الكنطار الوجه الذي تضيئه ابتسامة دوماً لم تكدرها مرابطة أخيه الأحول حاج محمد في محله. كان يتندر أحياناً ويقول أن الحاج محمد ما إن يدخل بيته حتى يصرخ بزوجته أم أحمد: "أمّ أحمد هل أحضرت الغداء؟"، حتى قبل أن يخلع حذاءه، شمخي البصر صديق والدي الطريف الذكي الساخر من كلّ شئ ذو الزيجات السرية والعلنية
رأيت مرة احدى زوجاته السريات فهالني ما تضعه فوق رأسها من لفائف قماش شبيهة بالعمامة وحين سألت لماذا قالوا إنها : علوية ، الخياط محمد علي الصموت وذلك البزاز الهادئ المنطوي الذي لا أتذكر اسمه الآن. نماذج طيبة حقا لم أرها يوماً تتشاجر أو ترفع أصواتها على بعضها بعضاً ، فمن أين جاء هذا العنف لدى العراقيّ فيما بعد؟
الجسر: من بين ما تشتهر به البصرة جسورها : جسر سوق الهنود ويسمى أيضا بجسر المغايز، جسر الغربان، الجسر الصغير الذي أجتازه كل يوم. جسور عند كلّ بضعة أمتار ، وبعضها لا ينتهي بطريق أو زقاق بل ببيت.. بعتبة بيت أو ممر على النهر. منظر ساحر حقا حين تعلو الجسور الشناشيلُ المزينة شبابيكها بالورد. هناك كان يقيم أحبّ مدرس لدينا الأستاذ ناظم مدرس التاريخ الأعزب الأبديّ والوسيم دوماً ، الساخرالذي لا يسلم أحد من سخريته المحببة ،المنحوت في نافذته كل مساء وهو يطل محدّقاً في الناس دون أن يراهم بجلسته الملكية المسورة بالأغصان. إنها الجنة الصغيرة التي لم ندركها إلا بعد أن هبطنا على الأرض. على بعد خطوات من هذا المشهد سكنت فيما بعد، وسكن صديقي الشاعر مهدي محمد علي.
أكبر هذه الجسور جسر الغربان الذي اجتزته، بدراجتي، مرّة في طفولتي. فكدت أن أصطدم بسيّارة قادمة لولا انحرافي ووقوعي في حافة قاع النهر أنا ودراجتي وكتبي التي التقطتها من بين أكوام نفايات الطرشي (المخلل) الحادة الرائحة ، والتي ظل عبقها ملازماً كتبي ودفاتري زمناً طويلاً. عند نهاية هذا الجسر تسكن (ديزي) أجمل فتاة في البصرة بملابسها القصيرة وخفتها الطائرة في الهواء وشرفتها التي نمرّ تحتها حذرين مرتبكين ..من أين جاء هذا الأمان إلى هذه المدينة وفتياتها المرحات ؟
أما الجسر الساحر فهو جسر المغايز أو سوق الهنود الذي استحضرته حين كتبت قصيدتي "الجسر" من ديوان "النقر على أبواب الطفولة". يمرّ على هذا الجسر يوميّاً آلاف الناس بطيئين هادئين تعلو وجوههم الراحة والرغبة في التنزه وسط ضجيج الباعة وإعلانات السينما الكبيرة التي يحملها عادة تومان الساحر بنايه الذي يعزف فيه من أنفه وحركاته المثيرة التي تضحك حتى الحزانى. وهو يأخذ سوق الهنود طولاً وعرضاً وسط الحشد وكأنه ملك يتقدم لا يعترضه أحد أجمل ما في الجسر مقهاه المطلّ على النهر وكأنه في المنخفض باخرة ترسو بركابها..بيضاء (لماذا أتصورها بيضاء ؟). لقد اختفى هذا المقهى منذ زمن بعيد واختفى معه الجسر الذي كتبت عنه في رحلتي الأخيرة. "ولعلً أغرب ما يطالعك وأنت تدخل السوق التي تكدّست فيها الظلال كما تتكدّس البضائع هو الجسر الذي يؤدي إليها وقد تغطّى بأسماله التي تصلّبت في الشمس، فعاد هو والخرق التي تعلوه كتلة واحدة وكأنه لا يقف على نهر، بل على أرضٍ مهجورةٍ اقتطعت من المدينة . لا شاراتٌ لماضٍ، ولا أثرٌ لمن مرّوا عليه. جسر لم يعد شاهداً حتى لو حدثت جريمة أمام عينيه. سيظل راتعاً في أسماله وكأنه لم ير شيئاً. تمرّ جواره وتمضي دون أن تلتفت إليه باتجاه الشط وتمثال السياب، وقد تسير باتجاهه متطلعاً إليه لكي تتعرف عليه، ولكن عبثاً سيظل مطرقاً وكأنه شحاذ يعرفك ويشيح بوجهه عنك.. شحاذ مهموم".
المسرح : ثمة مسرحان في ذاكرتي هما من أبرز مسارح البصرة : مسرح مديرية تربية البصرة الذي مازال قائماً، تعرض فيه، في فترات متباعدة، بعض الفعاليات الفنية الشحيحة. في هذا المسرح شهدتُ عروضاً مسرحية عديدة من بينها مسرحية ثورة الزنج من إخراج سامي عبد الحميد، ووقفتُ على خشبته لألقي أشعاري. ومسرح آخر، في الطريق بين العشار والمعقل، وقد شهدت فيه عروضا مسرحية أيضاً وأخرى للرقص . هذا المبنى الحديث اللامع هو الآن كامد يثقب حيطانه الرصاص، ويسكنه أحد الأحزاب الحاكمة في البصرة.
لقد أصبح المسرح الآن ذاكرة مثقوبة وكأن المدينة لم تشهد نشاطاً من قبل، غير أنني فوجئت عندما كنت في المربد هذا العام بطلبة الفنون الجميلة الذين يبلغ عددهم أكثر من عشرين وهم يؤدون قصائدي (الزهيريات) بأعذب الألحان مؤكدين أن لا شئ يوقف الحياة، وأن التقاليد الفنية الرائعة لن يمحوها ظرف عابر مهما استطال هذا الظرف.
* ماذا عن فضاء المكتبة أو الخزانة؟ هل كان لها موقع مخصوص في هذه الجغرافيا؟
** نعم، المكتبة لها مكانها المخصوص في هذه الجغرافيا . لقد بدأت قراءاتي الأولى هناك. فيها قرأت كل مسرحيات شكسبير المترجمة المتوفرة آنذاك ، وأحب الكتب إليّ. وفيما بعد نشأت علاقة حميمة بيني وبين مدير المكتبة وموظفها الوحيد صالح الذي فاجأني موته شابّاً.
هناك التقيت بمحمود عبدالوهاب القاص المبدع الدقيق في حرفته والمقلّ في نتاجه والذي أعدّه من بين أفضل كتابنا في القصة القصيرة، رغم أنه غير معروف على نطاق واسع. كان فرحي كبيراً حين التقيته ثانية في زيارتيّ إلى العراق. كنا لا نعتبر محيي مديراً للمكتبة بل مالكها الكاره للملكية إذ تبرع بمكتبته الخاصة ليضيفها إلى مكتبته العامة، مفتخراً بغنى هذه المكتبة وترتيبها ونظامها واحتوائها على بعض الكتب النادرة. ولعلّ من حسن حظّه أنه توفي قبل أن يرى مكتبته العزيزة وهي تنتهب وتستحيل طللاً موحشاً لا يستوقف أحداً.
كانت المكتبة تطل على نهر العشار..النهر ذاته الذي يمتدّ مارّاً بالجسر الخشبيّ الذي اجتازه كلّ صباح متوجّهاً إلى مدرستي، وهو النهر ذاته الذي يمرّ بجسر الغربان وجسر سوق الهنود. وفي الضفة الأخرى مقابل المكتبة يلوح الحيّ المظلل بالأشجار، الذي يسكنه الأرمن، والذي لم يعد له وجود مثلما لم يعد وجود لحيّ الأرمن الآخر، القريب من المستشفى، الذي ينتهي عنده نهر العشار.
* عندما قرأت فصل "البصرة مدينة لا مرئية" من كتابك الذي قيد الطبع، و الموسوم "باتجاه الجنوب...شمالا"، شعرت بنوع من هشاشة الكائن، إذا جاز التعبير، ينتاب نبرة الشاعر عن مدينته. و بدا لي كقارئ و كأنني أدخل رفقة الشاعر فصلا من فصول الجحيم، التي تذكرنا بمشاهد كوميديا دانتي القيامية. هل كان الخراب شاملا إلى هذا الحد؟ و هل لك أن تصف لنا انفعالاتك بصور المكان، بعد فراق طويل؟
** قد يكون ما ذكرته فصلاً من فصول الجحيم ، مشهداً قياميّاً في كوميديا دانتي..نعم ..ثمة خراب شامل، وترهّل للمدينة، كأنّ يداً خفيّة بعثرتها في صحراء، فلا فسحة هناك لشجرة أو محطة يستعيد فيها المسافر هدوءه، محدّقاً في الأشياء..لا ليس ثمة شئ من هذا..خلاء يمتلئ بالبيوت، وبشرٌ كأنهم تسمّروا إلى حاضرهم فلا ماضٍ مرّ، ولا مستقبلٌ سيأتي.. مع ذلك ثمة بهجة ما..بهجة تطلّ برأسها هنا أو هناك في مشاهد صغيرة: في سوق شعبيّ، في قوارب تنتظر، في مقهىً يطلّ على النهر، في سمر أصدقاء، في نساء عابرات، في رائحة أفاويه، في هدوء مارّةٍ. كنت كالمصاب بالدوار في قدومي الأول، أتطلع ولا أرى المدينة وحين اقترب الباص الذي يقلني من الفندق الذي سأنزل فيه، والذي سألتقي فيه بأصدقائي، ومن بينهم قادمون من بغداد والمحافظات الأخرى لحضور مهرجان المربد، استعدتُ طمأنينتي بتعرفي على المكان، غير أن الأمكنة بدت وكأنها أمكنة أخرى..حائلةً، شاحبة كالبشر..وجوه أم أقنعة؟ لا أدري لِم كان يراودني إحساس إنها أمكنة عارضة.. أمكنة ستزول وترحل ..أين؟..أمكنة خارج الزمن.. غير قادرةٍ حتى على التثاؤب، تطبق فمها وتصمت محدّقة في الأرض لا في السماء..أمكنة مطأطئة الرؤوس، باكية..يمرّ بها البشر ولا يلتفتون. يالمدينتي الحزينة! بشراً و أمكنةً، سماءً و أرضاً نهراً ويابسةً. منذ لحظة مغادرتي خلت أنني سأقطع المسافة إلى حدود مدينتي لأغادرها إلى الأبد، غير أنني ألفيت نفسي أنني ما زلت أقطع الطريق دون أن أصل الحدود أبداً، وما زلت أقطعها. هل استحالتْ المدينة مدينتين؟ أيهما الواقعية منهما؟ أيّ المدينتين؟ وحتّى متى سأسافر بينهما؟
أيهما مدينتي؟
* لكن مع ذلك وجدت هناك، حسب ما علمت من بعض كتاباتك، عناصر بقاء قد تعد بانبعاث أمل ما. فأنت تتحدث في نفس الفصل من رحلاتك عن"أثر ضائع لي أراه هناك في زاوية لا يراها أحد". ما هو هذا الأثر الضائع الذي لا يدركه سواك؟
** لكلّ منّا أثره الضائع. وأثري الذي لمحته هناك لم يوصلني بعد إلى أي مكان، وقد لا يوصلني، وإن أوصلني فهل أكون ذلك المقيم الذي ظل عابراً ثلاثين سنة ، في مدينة تراكمت فيها الآثار؟ لم أعد آمل برؤية مدينتي بعد أن حلّ بها الخراب. أعرف أنها لن تعود أبداً ، ولكنني سأظلّ أبحث عن أثرٍ ضائع لي فيها..لا يراه أحد. وإن رأيته أنا فهل تراه سيوصلني إلى المدينة..؟ لا أدري، ولعلني توهمت هذا الأثر أيضاً.
* ثمة كذلك تمثال الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي قلت عنه: " لم ينج من هذا الخراب إلا تمثال السياب الذي ما زال منتصبا في زاوية من شط العرب رغم كل الحروب، التي شهدها، في حين لم ينج صاحبه من أبسط شرور الدنيا في حياته". هل هذا التمثال هو أيقونة ملازمة لروح الشعر و المكان؟ أم هو دلالة إصرار الشاعر على البقاء كعلامة هادية لإعادة بناء المدينة المشتهاة؟
** لعلّه الأيقونة التي ذكرتها والعلامة الهادية معاً. لم يعد حجراً بل روحاً تحفها ارواح الماء من جهة النهر وتمثال أسد بابل من الجهة الأخرى، وبين الجهتين يقف التمثال في هذا الامتداد من الحجر والماء مانحاً المدينة فسحة لتتأمل ذاتها وتلتقي بسمائها، وتستعيد أجمل أيامها حين كانت القوارب تحمل الناس في نزهة أبدية لايمكن أن يمحوها حاضر وسط هذا الامتداد المفضي إلى اللانهاية.. اللانهاية الساخرة بالخراب وهو يقف ذليلاً أمام النهر وتمثال السياب وأسد بابل وكأنه فاتح مقهور سيرتد عن المدينة يوماً ما.. يوماً قد يكون بعيداً ولكنه قادم بلا شك.
* ثمة كلمة لافتة ترددت في ثنايا حوارنا هذا، هي الكرنفال. ماذا تعني أو توحي لك هذه الكلمة؟ وبالتالي هل يمكن اعتبار الشعر، كتابة و إحساسا، كطقس احتفالي، تتجاور فيه المأساة بالملهاة؟
** أعني بالكرنفال المعنى الذي عناه باختين تقريباً: المشهد المسرحي الذي يشترك فيه الجميع ممثلين لا مشاهدين بلا محظورات ولا ألقاب أو مراتب. إنه "هذا الاتصال الحرّ البعيد عن الكلفة الذي يقوم بين الناس"، و "هذا الكشف عن الجوانب الخفيّة للطبيعة البشرية من خلال ما هو ملموس ومحسوس"، مكانه الساحة وما فيها من أشخاص بصفتها رمزاً لكلّ ما هو شعبيّ، وقد يمتدّ الكرنفال إلى البيوت لأن الكرنفال يعني كلّ الناس. والشعر في تعامله مع الواقع ليس بعيداً عن الطابع الكرنفالي في الحياة حيث تتجاور المأساة والملهاة، المقدّس والعادي، السامي والوضيع، العظيم والتافه، وتتسع أمكنة الشعر لتشمل حتى محافل الآلهة.
* عبد الكريم كاصد، بدأنا حوارنا بتساؤل عن عطاء الطفولة كرافد أساسي من روافد الشعر وكخزين ثر لتجارب الشاعر الأولى. ماذا عن عطاء الشاعر للطفل؟ هل كان عبورك من الكتابة عن الطفولة إلى الكتابة لأجل الطفولة، من خلال الشعر و القصة* معا، هو بمثابة رد لمديونية هذا الكائن الجميل و إعطائه فسحة للأمل في حياة أفضل؟
** كتبت عن طفولتي أو سيرتي كما يحلو للصديق الأديب صلاح حزين أن يسميها في دراسته المهمة عن مجموعتي (زهيريات)، وها أنا أعدّ للطبع مجموعة أخرى عن الطفولة (طفولة سارة وزياد) ولا أدري هل كتبت من أجلها حين كتبت عنها في الديوانين؟ سأورد مقاطع من قصيدة كتبتها لولدي زياد آمل أن تكون هي إجابتي:
انشغالات زياد
مرّت غابةٌ
فناداها زياد:
" إلى أين أنتِ ذاهبةٌ أيّتها الغابة ؟ "
قالت الغابة :
" لأنزّهَ وحوشي "
*
قال زياد لظلّه :
" هل نلعبُ ؟ "
فأجابه الظلّ :
" لا أكلمك اليوم "
حمل زياد بيته
ورماه بعيداً
ثمّ ركض صائحاً :
" اتبعني "
*
وقف زياد
على آخر غصن
متطلّعاً إلى السنجاب أسفل الشجرهْ
هاتفاً :
" أيّها السنجاب
سأسقط بندقةً ولن تمسكني "
*
رأى زياد ظلّه في الليل
فدعاه إلى النوم
قال الظلّ هازئاً :
" أيّها المغفّل أنا لا أنام "
*
قال الطائر :
" سأضع البحر مكان السماء
والسماء مكان البحر
وأتطلّع إلى الموج "
قال زياد :
" وأنا أيضاً "
من شجرة الليل
إلى شجرة النهار
ومن شجرة النهار
إلى شجرة الليل
سأطلع كالقمر
وأختفي كالشمس
*
قالت الغابة :
" أنا من يخفي الشجرة "
قالت الشجرة :
" أنا من يخفي الغابة "
ثمّ وقفتا في الطريق
بانتظار شهادة الليل
ذهب الظلّ حديقةً
ورجع شجرةً
قالت الشجرة : " أنا الظلّ "
قالت الحديقة : " أنا الظلّ "
قال زياد " أنا لا أحد "
*
نشر زيادٌ جنحيه وطار
مناديا أخته التي وقفت هناك
مشدوهة
في الحلم
*
وضع زياد قدماً في الغيم
وأخرى في الأرض
وقال :
" ساصعد إلى السماء
*
أراد زياد أن ينام
فرأى خرافاً تهبط من السقف
عدّها حتّى تعب من العدّ
ثمّ تركها وحيدةً تثغو
في النوم
قصيدة كتبها زياد:
الجنود يصطفّون كالأشجار
الأشجار تصطفّ كالجنود
الجنود يذهبون إلى الحرب
الأشجار تعود من الحرب
الحرب لا تذهب
ولا تعود
الحرب تقف إلى الأبد
بانتظار الجنود


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.