رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    زاكورة تحتضن الدورة الثامنة لملتقى درعة للمسرح    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لقاء مع
خورخي لويس بورخيس
نشر في طنجة الأدبية يوم 17 - 02 - 2009

يعد الكاتب الأرجنتيني "خورخي لويس بورخيس" " Jorge Luis Borges " المولود ( 24 أغسطس 1899 م و المتوفي 14 يونيوه 1986 جنيف – سويسرا) من الأدباء العالميين، و من أكبر الكتاب الذين جددوا المسار الثقافي في أواخر القرن المنصرم.
لقد عرفنا بورخيس عبر مؤلفاته، و تتبعنا أثاره الأدبية لأكثر من عقدين و كنا نتمنى لقائه، غير أن الظروف شاءت غير ذلك و عوضتنا بهذا اللقاء و بهذه الصحبة، هذه السيرة المختصرة، التي سجلها لنا " ألبيرتو منكويل " عبر كتابه الشيق " عند بورخيس".
يروي لنا" ألبيرتو منكويل " " Alberto Manguel " عن تلك الفترة (من الثلاثينات فصاعدا) ، التي كان يتردد فيها على بيت بورخيس كقارئ. فالكاتب كان قد أصيب بفقدان البصر حوالي الخمسين من عمره، و كان و الحالة هذه بحاجة لقراء يعوضون لديه هذا الخسران الثمين، و نقصد به نعمة البصر. و عبر هذه اللقاءات المبرمجة، كثيرا ما كان الكاتب أحيانا ما يخرج عن الموضوع، و يتخذ له فسحة كلام عن تجاربه الشخصية. فمما يرويه بورخيس عن نفسه، أنه كان يعلم منذ طفولته، أي سن مبكرة جدا بأن قدره أن يصبح كاتبا. و لقد كان إيمانه بهذا المصير عميقا بحيث أنه حين كان في العاشرة من عمره تلقى قصيدة قيلت فيه، من قبل صديق العائلة الشاعر "إفريستو كرييكو" "Evaristo Carriego " الذي أهداها إلى أمه " دنيا ليونور" "Donà Leonor " :
لَعَلّهُ طِفْلُكِ هذا،
الذي هو عزُّ افتِخارِك،
و الذي بَدَأَ يَشْعُر على رَأْسِه،
بِعَطَشٍ خَفيفٍ لأَكاليل الغار،
لَعَلّه يَسيرُ على جَناحِ الخَيال،
لِمُلاحَقَة مَوسم القِطاف،
كَبُشْرى جَديدة للِسّمُو،
و قَطْفِ عِنَبٍ ذائعِ الشُّهرَة،
مِن نَبيذِ القَصيدَة.
و كذلك كان و أصبح الولد بورخيس كاتبا كبيرا، ذائع الصيت في الأوساط الأدبية العالمية. و هكذا دخل إلى حلبة الكتابة و لم يغادرها إلا من بعدما خلف لنا فيها أجمل الأدوار الكتابية. فهو مثلا حين يتحدث عن الوسط الإنشائي و عن علاقة الكاتب بالقارئ، فأنه يسوق لنا رأيه المتميز عن نوعية أواصر هذه العلاقة الخفية، التي تنشأ بينهما. فهو يحدد موقفه باعتباره كقارئ للآخرين أولا، لأنه حسب تعبيره " إننا نقرأ ما نشاء و لكن لا نكتب ما نشاء، حسب ما نحب، بل حسب ما نستطيع كتابته ". و راح متذكرا بشكل رحيم، تلك الكتب الأولى التي دخلت حياته و التي ما يزال يتذكر حتى غلافاتها، نذكر على سبيل المثال: " دون كشوطي " " Don Quichotte" خرافات "غريم " Grimm " و قصائد "هاين "Heine " poèmes" و" سان جون د. لا كروا"Saint.Jean de La Croix " " و من السجل الأرجنتيني "إدواردو وايلد" " Eduardo Wilde " و" إدواردو كوتييرس" "Eduardo Gutiérrez " "فنسنت فديل لبيز" "Vicente.Fidel.Lopez " و آخرين و القائمة طويلة. لقد كانت كل هذه الكتب متواجدة بمكتبه، إلا مؤلفاته هو، فإنها كانت بكل بساطة منعدمة. و ثمة بالمناسبة نادرة تفسر نوعا ما هذا الغياب المقصود. تلك النادرة حصلت، حين كان المقرأ "ألبيرتو منكويل" ذات يوم مشغولا بقراءته، حين رن الجرس فجأة و أطل عليهما ساعي البريد برأسه حاملا بين يديه طردا بريديا. و حين أُخْبِر بالطرد البريدي، طلب بورخيس من منكويل أن يصفه له. و أجاب منكويل بأنها صندوقة مزينة. و حين فتحها وجد فيها آخر كتاب مزين ترجم للكاتب في إيطاليا. حين أخبره بهذا تناول منه الكتاب و سلمه لساعي البريد قائلا:" لم أكن أتصور بأنها علبة شكولاطة خذه " هدية لك..".
و مع الكتب دائما،فبالنسبة لبورخيس، إن الواقع الأساسي يتواجد في الكتب. قراءة الكتب، كتابتها و الحديث عنها. و في شعوره الدفين، كان واعيا بأنه يتابع حوارا قد ابتدأ منذ آلاف السنين، و الذي حسب تصوره، لن ينتهي قط. فالكتب من وجهة نظره، تعيد تنظيم الماضي:" و مع الزمن، كان يقول، كل قصيدة تتحول إلى مرثية".

Jorge Luis Borges
و في هذا السياق بالذات كان بلا رحمة تجاه الدراسات النقدية النزقة. و كان يأخذ على الأدب الفرنسي، كونه يهتم أكثر ما يهتم بالمدارس و يترك الكتب جانبا. و بسبب موقف كهذا، كان يؤخذ عليه عدم احترامه للتقاليد الأدبية الجارية و الخروج من صفوفها، بل و التمرد عليها. فكثيرا ما كان يسوق نفسه مع الحظ و كثيرا ما كان يتخلى عن بعض الكتب دون إتمامها. بل و أحيانا ما كان يجد متعته و ضالته في بعض القصاصات الموسوعية أو المقالات القصيرة. و مع ذلك كان الحظ كثيرا ما يسعفه و يقف بجنبه، فيصيب في تحليلاته حتى لتلك الكتب التي لم ينه من مطالعتها بعد. و بهذا الصدد كان يقول عن نفسه أنا قارئ "هيدونيست" "Hédoniste "أي بمعنى محب لمعة القراءة.
و لربما بسبب هذه الكرامة الأدبية التي كان يتمتع بها، يمكننا أن ندرجه في قائمة مونتين " Montaigne" توماس براون "Thomas Brown " و لورنس ستيرن " Laurence Sterne". وهو من جهة أخرى متواجد بين طيات كتب متعددة و مختلفة مواضيعها، من فلسفة و أدب و شعر و تاريخ واجتماعيات.
فنجده مثلا في كتابات ميشيل فوكو "Michel Foucault " و اُمبرتو إيكو"Umberto Eco " و روغ "Roeg " و كاميل "Cammell " و كودار"Godard " و غيرهم.
و لقد كان بورخيس يتمتع بذاكرة " مَعَرِّيَّة "، و كان بمقدوره أن يسوق عبارات منسية من مؤلفاته، بل و حتى تصحيح مباشرة، بعض النصوص التي عرضها عليه بعض الصحفيين خطاً. و كان يقول بهذا الخصوص، بأنه يحبذ الذاكرات المبدعة، مثل ذاكرة دي كوينسي " De Quincey" في ترجمته للأشعار الروسية عن حياة التتار، ملخصة في سبعين بيتا. أو ذاكرة أندرو لين "Andrew Lane " صاحب ترجمة ألف ليلة و ليلة.
فإذا كان ثمة نوعا أدبيا محبذا، الشيء الذي كان يستنكره لأنه ليس ثمة من أجناس أدبية بل ثمة جنس واحد، و نوع واحد هو فن الملحمة كأوديسة هوميروس " l'odyssée" مثلا. لأن الملحة كانت في بدايتها ملحمة أبطال و حروب و صراعات عنيفة و ليس شعرا عاطفيا. و كأن الآلهة أرادت هذا النسيج الخصامي حتى تتمكن الأجيال القادمة من الغناء. و كان بالإضافة لهذا يحب الأدب الألماني، طالما أنه كان يمارس هذه اللغة. و كان غاليا عليه كل من هاين و جوته " Goethe" محبذا في اللغة ألمانية شفافيتها. وكثيرا ما كان يؤاخذ على هايدكير " Heidegger" كونه اخترع لغة كان يدعوها:" لهجة ألمانية ملتبسة".
و كان يحب أيضا، الروايات البوليسية التي كان يجد في قراءتها متعة كبيرة. و التي كان يجد في تشكيلاتها، البنيات الحكائية المثلى، التي تخول للكاتب أن يحدد حدوده الخاصة به و التفرغ لجودة الكلمات و للصور المصاغة منها. و يسوق بورخيس مثال أريسطو" Aristo" الذي قال بأن قصيدة مبنية على مغامرات هرقل، لن يكن لها حق التمتع بوحدة الإليادة " L'Iliade" أو الأوديسا "L'Odyssée " .لأن عنصر الوحدة الوحيد – نعود إلى تعليق بورخيس - هو البطل الفرد الذي يقوم بمفرده بعدة أعمال مختلفة، و بأنه في الأعمال البوليسية فإن عنصر الوحدة يظل مربوطا بغرابة النص نفسه و بالعجب الذي يكتنفه.
و يصرح بورخيس في المقدمة التي استهل بها مجموعته القصصية " le rapport de Brodie" في الخمسينات، بأنه قد كان جدّ متأثر ب" كبلن" " Kipling " الشاب الذي كانت له في " منشوراته الحكائية"، الرؤية النافذة في طرح مواضيعه بشكل رائع و مصيب. و في هذا السياق بالذات خاطبت نفسي متفكرا:" إن ما استطاع شاب موهوب بخياله و أسلوبه المؤثر، بإمكان من له الخبرة في هذا الميدان، أن يأتي بمثله، و لو كان على مشارف الشيخوخة، و كنت أقصد نفسي". ثم يعقب في خاتمة مجموعته قائلا:" لقد حاولت على غرار هنري جيمس " Henry James" أن أعيد تأسيس هذه القصص و الحوادث حول شخصية أو حادثة واحدة". و نرى بأنه يشير إلى مواضيع هنري جيمس، التي كثيرا ما كان يقول عنها، بأنها مادة قابلة للصياغة من جديد.
Jorge Luis Borges
و في علاقته باللغة الإسبانية فإن بورخيس يعتبر كمجدد و محيي لها. فبثقاته الواسعة و التي كانت تسع عدة لغات دولية، أستطاع أن يدخل إلى اللغة الإسبانية عبر كتابته المتنوعة، عدة مواصفات و تعابير لم تكن تتوفر عليها. لقد كانت ممارسته الكتابية تملي عليه عدم التقيد بالمعطيات و الخلفيات و التحرر من القيود، للدخول بكل حرية إلى عالم الكتابة و فضاءاتها اللاّ متناهية . و سواء كان ذلك يتعلق بالنصوص الإبداعية أو في فن الترجمة.
فمنذ القرن السابع عشر و الأدباء الإسبان موزعين ما بين القطب اللسني الباروكي و " Baroque" لكنكورا "Gôngora " و قساوة كيفيدو " Quevedo". أما بورخيس، فلقد دشن لوحده، قاموسا لفظيا ذا مستويات عدة من حيث الدلالات الشعرية الجديدة، و أسلوبا هو في غاية السهولة و البساطة الخادعة. و ليس من الغرابة أن نرى بأن أكثرية الكتاب الناطقين بالإسبانية و أكابرهم، انطلاقا من غابرييل غارسيا ماركيز"Gabriel Garcia Marquez " إلى خوليو كرتازار " Julio Cortazàr" مرورا بكل من كارلوس فوينطس " Carlos Fuentes" و سفيرو ساردوي " Severo Sarduy" فالكل يدين لبورخيس بهذه الأسبقية و هذا الكنز الكبير الذي حبي به اللغة الإسبانية، وهذا المقطع الرباعي نظمه فيه الشاعر الأرجنتيني موخيكا لينز " Mujica Làinez":
لا ضَرورَة أَن تَصْهَر لَكَ،
مَشاريعَ للعَظَمَة،
لأَنّه مَهما ما كَتبْت،
فقد كَتَبه بورخيس قَبْلَك.
فلغة بورخيس والأسلوب الكتابي الذي كان يمارسه، قد انحدرا إليه من قراءاته و ترجماته لأدباء، أمثال شسترطون "Chesterton " و شووب " Schwob ". و أيضا من أحاديثه التي كان يأتي بها، وهذا بفضل بساطته، من الأوساط الشعبية التي كان يختلط بها، و يستمع إلى حكاياتها و أدبياتها، و لم لا؟ و هو القائل بأنه قد استفاد من كاتب بسيط، كان يكتب قليلا و يفكر كثيرا. فمنه استفاد في فهم أفلاطون " " كما فلاسفة آخرون من جديد. ومن هذا الوسط الإجتماعي البسيط كان بورخيس يستقي الأبطال كما الأشخاص الذين سيصبحون مادة كتبه الإنسانية. نعم لقد كانت رؤية بورخيس البعيدة، تتعالى على كل ما هو نفعي أو داع للشهرة، لتحمل آمال الإنسانية ككل و تتغنى بها و بآمالها. لهذا أيضا كان موقفه السياسي من حكومة " بيرون" "Perôn " الرجعية التي استولت على الحكم في منتصف الخمسينات، موقفا معارضا. لذا طرد من منصبه الرسمي، فلم يكن يجد حتى بما يكفل به ضمان عيش عائلته. و لنترك له الكلمة الأخيرة، و المتعلقة بميدان السياسة هذا، حيث قال:" أعتبر السياسة أبأس النشاطات البشرية".
و نختتم هذا القراءة، بالشهادة التي قالها في حقه، الكاتب الإيطالي الكبير إيطالو كالفينو " Italo Calvino" :" ليس ثمة من كاتب غيره، له المقدرة على القبض على سحر العوائد اليومية، إنها الوجوه الخفية التي لا تريها لنا مرايانا." ثم شهادته هو الشخصية، معرفا نفسه بكونه أكثر منه قارئا للكتاب الذين يحيطون به، كصديق لهم. و بقي لنا أن نشير لوجهة نظر خاصة تركناها لهذه الخاتمة ألا وهو وجهة نظره الوجودية أو للوجود. فهو كان مؤمنا بأن ثمة إلاها نحن حلمه، و أنه ثمة كتابة إلهية أيضا. و لقد أشار لهذه الكتابة في كتابه " ذهب النمور". فيقول بهذا الصدد بأنه كان يحب النمور من لما كان صبيا. و كان يعتقد بأن الخطوط التي تزين وبرتها، هي عبارة عن كتابة إلهية. و هذا ما أعاد بذاكرتي إلى التفكر من جديد في وسائل الكتابة البدائية، تلك التي كانت تتخذ لها كسند، كل من جلود الحيوانات و الرقاع و العظام و سعف النخيل بل وحتى الحجارة.
و يمثل لنا بورخيس رؤيته هذه في الحلم الذي رواه عن بويص "Boèce ". فهذا الأخير، يروي بأنه كان يحلم نفسه في حلبة سباق للجياد. و كان يرى الجياد و انطلاقة السباق، و كل المشاهد التي تعاقبت، لغاية اختراق للجواد السابق لخط الوصول. و فجأة لمح بويص حالم آخر. آخر يراه هو، و كل ما رأى و تصوره. فبالنسبة لهذا الحالم، فإن نتيجة السباق تظل معلقة بإرادة الفرسان، غير أن هذه النتيجة تظل معروفة سلفا من قبل الإله الحالم.
خورخي لويس بورخيس
و قبل أن نضيف بعض هذه القصائد التي ترجمناها للقارئ، نقول لكل متشوق لمعرفة المزيد عن حياة بورخيس، عليك يا أخي بقراءة كتابه " كتاب الرمل" فلعلك تصادف فيه ما لم تعكسه مراياه الخارجية.

مقتطفات مختارة من قصائده:
كُلّ بِلّور يَتَرَصّدُنا.
فإذا كانَت ثَمة مِن غُرفة،
بَينَ جُدرانِها الأَربعَة،
توجَدُ مِرآة،
فأنا لَستُ وَحيدا.
أَحَدٌ آخَر هُنا،
و الانْعِكاس الذي يَمْتَلكه في الفَجر
مَسرَح سِرّي.
(قصائد موهبة)
بورخيس في مكتبته
نشيد للبحر
لِلْمَرّة الأولى،
أَيُّها البَحْر "البروميثي"، خَرَجْتُ مِنْك.
كِلانا مُكبّل .. كلانا بَدَويّ مُتَرحِّل،
كلانا في ظَمَأ شَديد لِلّنجوم،
كلانا بِأَمل و خَيْبَة،
كلانا هَوَاء، نور، قُوّة، و ظُلُمات،
كلانا بِرَغباتِنا الشّاِسعة،
و كلانا مَعَهُ،
بُؤسُنا الكبير.
البحر

لَمْ تَكُن أَيّةُ تَشكيلَة كَوْنِيّة قد حيكَت بَعد،
حُلُم و عُنفٌ كانا غائِبَيْن، إِذَن فلا إِله،
و الأيّام لَم تَكن تَعرِف عُملَة الزّمن،
بَحْرٌ كان هُنا، بَحر، هنا لَم يَبْتَدِأ قَطّ.
مَن هو البَحر، مَن؟ ماذا يُريدُ هذا المَبْدَأ المُتَمَوِّج،
هذا الجُرذُ العَجوز و الغَضوب لِأَوتادِ الأَرْض،
هذا الماءُ كُلّ المِياه، هذا الماء بَراءَة و غَرابَة،
و مُصادَفَة و رَوْنَق و هُوّة و ريح؟
في كُلّ مَرّة نَراه، و كَأَنّها الأولى.
نَراهُ في هذا الانْدِهاش العَتيق،
الذي يُخَلّفه لَدينا المَبْدَئي: غُصنُ الكَرْمَة
مَن نَحن – البَحر و أَنا ؟ فأنا ما زِلتُ أَنْتَظِر،
مِن أَجلِ أَن أَعْرِف. أَنْتَظِر اليَوم الذي سَيَعْقِبُ مَماتي.

(ذهب النمور)

Musique de la patrie

مِن التّراث الأَرْجنتيني

شِكايَةٌ موريسْكِيّة
التي تَمْتَد سَوداويّة على صوى الخُلود المُزْدَوِج،
مِنَ السّماء الهائِلة إلى الحَلَبات المُتَوَحّشّة،
مَحْمولَة إلى الرُّعْبِ بِبُطولات اليَقَطان،
نَحو مَراعي الأَندلُسِ الصّافِية.
شِكايَة تَتَمَزّق مِثل نيران الفَرَح،
عَبرَ عُلّيق الزّمَن تَنْزَلِق و تَسير،
و تَسيرُ عَبْرَه نازِلَة في القرون،
و تُضْرِمُ النّيرانَ المُتَوَهِّجَة،
في أَغاني قيثاراتِ الشّوارِع،
مُمْتَدّة لِغايَة الأَغاني المُعْجِزَة لِلهِند البَعيدة،
حينَ فَجْأَة قَدِمَ " القَشْتالِيون " بِالنّهْب لِلْعَوالِم
سالِبين أَوْطانَ الفَجْرِ لِغايَة الغُروب.
(مورسكيات)
المُتَعَبّدَة

مِنَ التُّراث الرّوحي
إذا كان في اسْتِطاعَتي أَن أَعيشَ حَياتي مِن جَديد،
ففي حَياتي القادِمَة لَن أَرْتكِبَ أَيّ خَطَأ،
سَأَكون أَكثَر بَلادَة مِمّا كُنْتُه،
بَلْ َلن آخُذَ الأَشياء بِتلك الجِدّية السّابِقة،
سَأَكونُ أَقَل نَظافَة، لَن أَتَجرّأ و لن أُسافِر قَطّ،
و لَن أَسْبَح أَبَدا في أيّ نَهر،
و لَن أَزورَ أي مَكان مَجْهول،
ولَن أَتَناول مُبَرّدات بل ولا حتى القطاني،
سَأكون أَكثر عُرضَة لِلمَشاكل و أَقَل خَيال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.