بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    وزير الخارجية الأمريكي يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    الجيش الباكستاني يعلن مقتل 16 جنديا و8 مسلحين في اشتباكات شمال غرب البلاد    "سبيس إكس" الأمريكية تطلق 30 قمرا صناعيا جديدا إلى الفضاء    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء        تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تداعيات تناصّيّة في الرواية المغربية *
نشر في العلم يوم 05 - 02 - 2010

يُحكى أنّ نفراً من الإنس تسلّلوا ذات صباح باكر خارج بيوتهم ليقوموا برحلة خرافية نحو مكان يدعى "مدينة البحر". يقودهم رجل " ملفوف في جلبابه الأبيض و برنوسه الأسود" (ص.45)، كان "السيد و القاضي المنصف و الفقيه يقصده ] الناس[ للمشورة و التبرك" (ص.48). و بينما الحافلة منطلقة بهم، إذا بحائط ينتصب وسط الطريق بكيفية مفاجئة لا يصدقها العقل، و هو ما اضطرّها إلى التوقف. كان مملوءًا بجداول "داخلها نقوش و حروف و كلمات بخط عربيّ، و بعضها بحروف يظهر أنها غير عربية" (ص.44)، و بجداول أخرى "تضمنت رسوماً مصغرة لرجال و نساء و فؤوس و مناجل و عصيّ و رماح و حيوانات مختلفة" (ص. ? ص. 44- 45). و في الجهة اليمنى للحائط كانت "خانة حروفها ناتئة (...) كتبت عليها عشرات الأسماء" (ص.45) لأشخاص حقيقيين. فما هي قصة هذا الحائط الغريب ؟ كم يغريني أن أنظر إليه من حيث هو نص مرآوي تنعكس عليه مصغّرةً، و بأثر تقعيري (mise en abyme)، البنيةُ الكلية لنص الحكاية ! فكأنه لافتة تمّ توتيدها لا على عتبة المدينة فحسب بغاية تعريف الداخل إليها بسادتها و عرّابيها، بدءًا من سيدي بليوط و انتهاءً بالشعراء مصطفى النيسابوري و حميد الهواضري و أحمد المعداوي المجاطي، بل كذلك على عتبة الرواية تحفيزاً للقارئ على استشراف ما سيقع فيها من نوادر و خوارق.
و جاء في حكاية ثانية أن علبة مزخرفة بداخلها رزمة رسائل غامضة ستعبر الأزمنة و ستقطع البرور و الفيافي و البحار قبل أن تستقرّ بين يدي نسيم وهو يهودي مغربي: "كانت مكتوبة بحروف عبرية، لكنها تعبّر بلسان يهودي- عربيّ، رسائل واردة من بعيد، من بعيد قصيّ، تنبعث منها حرارةُ محبّةٍ و حنوٍّ ممزوجة بقلق و توجّس، رسائل مقذوفة مثل قارورة في البحر، لأن بلوغها الغاية أمر غير متحقّق منه" (ص.11). فأي لغز تنطوي عليه ؟
لعل رزمة الرسائل تلك روزنامة تؤرّخ لاجتثاث عشيرة نسيم و تَشتتها في الأوطان، و تستحثه على عدم نسيان "ملحمتها المؤثرة" (ص.11). و لذلك، كان يحرص عليها بشدة حرصه على هويته المغربية اليهودية : "كان يخشى أن تتفسخ الرابطة الحميمة، و أن تنقطع أصداء حياته المتواصلة، وأن يتوقف الغوصان في أعماق متعذر بلوغها (...). يرفض أن يتم اقتلاعه من جذوره ليطوّح به في الأرض حجارةً و غباراً و قصائف و شظايا" (ص.21). من هذه الرسائل إذن، سيستمد السارد ليس قوته التنديدية ليحتجّ على مذبحتي صبرا و شاتيلا فحسب، بل كذلك بلاغته الغنائية، حنيناً إلى الوطن المفقود.
وفي حكاية أخرى، لا أخيرة، ورد أن رجلا فَقَدَ ابنه الوحيد ذا الأعوام السبعة، و اسمه عتيق، فطفق يبحث عنه في كل مكان، إلى أن وجد نفسه تائهاً في طريق سيّار سرعان ما "صار مفازة وسط الصحراء" (ص.18). فاسترعى انتباهَه كتابٌ مطروحٌ فوق الرمل "تفتح الريح أوراقه ثم تغلقها لتنفتح من جديد (...). حروفه غريبة (...). لم أتمكن من أن أقرأها (...). لو فككتُ رموزها لوصلت إلى فاس و إلى بيتي و إلى ولدي عتيق. حملتُ الكتاب بيميني. سِرْتُ كما يسير مَنْ يحمل سرّاً من أسرار العالم (...). أسير و أسير (...). أسير و لا أصل" (ص.- ص. 18-21). فأيّ سرّ في هذا الكتاب ؟
هل يكون كتاب الرمل هذا هو، بالذات و الصفات، "كتاب الرمل" لِ بورخيس (1) ؟ ألا يكون نص بورخيس قد اندسّ خلسةً في حكاية الرجل التائه فتفاعل معه، خاصة و أنّ "حروفه ]كذلك ! [ مجهولة" لدى السارد الذي أصبح أيضاً "أسير الكتاب" (ص.122) و ما يكتنفه من أسرار، و أنّ صفحاته تتبادل أماكنها فيما بينها، إذ "لا صفحة منه الأولى و لاصفحة منه الأخيرة" (ص.123)، مثلما أنّ صفحات الكتاب المطروح فوق الرمل بل و "حروفه تتململ من أماكنها، تتداخل ثم تتفرق" (ص.19) ؟ هل يكون مؤلف حكاية الرجل التائه استعار من بورخيس صورةَ لا نهائيةِ "كتاب الرمل" كنايةً عن لا نهائية المفازة التي وجد نفسه فيها على حين غرة و عن أنّ بحثه عن ولده المفقود لن تكون نهايته العثور عليه ؟
هذه الحكايات الثلاث جاءت متضمَّنة أولاها في رواية أحمد المديني "مدينة براقش" (2)، و ثانيتُها في رواية إدمون عمران المليح "Mille ans, un jour" (3)، و ثالثتُهما في رواية محمد عز الدين التازي "بطن الحوت" (4). و لقد تفاعلت كل منها بطريقة مختلفة مع حكايات نص الحائط و نص الرسائل و نص الرمال، علماً بأن حروف هذه النصوص كافة غير مألوفة: فهي تارة أولى يظهر أنها غير عربية، و هي تارة ثانية غريبة، و هي تارة أخيرة مجهولة !
بيد أن هذا التفاعل النصي سيبلغ ذروته حين ستتقاطع الروايات الثلاث مع نصوص ثلاثة أخرى. هكذا، فبينما ركّاب الحافلة في "مدينة براقش" في حال اندهاش و انشداه من أمر ذلك الحائط الغريب، إذا بهذا يتفتق- يا للعجب! ? عن كتاب "سميك مجلد" (ص.46) يحمله آدميّ أدهم توجّه توّاً نحو الرجل ذي الجلباب الأبيض و البرنوس الأسود، و هو والد السارد، ليأتمنه عليه: "أنت تعرف جلّ ما في الكتاب، و لكنْ قلتُ تستأنس به في بقية الطريق و إلى أن تصل إلى العنوان (...) و تقوم بالزيارة (...) و تكلّم البحر(...) و يظهر الشيخ من جديد (...) و تتوجع البلاد و تُدمي مثل الحامل (...) و تحدث الفتنة التي لا بد منها" (ص.47). ها نحن إذن إزاء تقعير مضاعف: فبعد أن تَقَعَّرَتِ الروايةُ في نص الحائط، ها هي مرة أخرى تتقعّر في نص الكتاب من خلال ارتداد مرآوي ربما لا نهاية له. فالنصوص يتناسل بعضها من البعض الآخر. ألم يوص حاملُ الكتابِ، قبل انصرافه، الرجلَ المؤتمَنَ عليه بقوله:"أوصيك جزاك الله ألف خير: محو المكتوب و كتابة المحو" ؟ (ص.47).
و كما أنّ السارد في "بطن الحوت" هاله أن يرى الكتاب المطروح فوق الرمل تمّحي حروفه تلقائيّاً "لتسيل على ]الصفحات [، حبرها يندلق لتصير بقعة من سواد تتفرق
(...) لتصير حروفاً لا أدري مَنْ خطها و ما يقول فيها" (ص.19) ، و أنّ الساردَ في "كتاب الرمل" لبورخيس يستغرب كيف تمّ امّحاء رسم مرساة من إحدى الصفحات بعد أن كان قد رآه فيها (5)? فإنّ والد السارد في "مدينة براقش" "شَعُرَ كمن يسقط في بئر عميقة بلا قرار حين شرع يقلب الصفحات فيراها بيضاء، وأخرى شبه ممحوّة أو ذات سطور حائلة اللون، و صفحات أخرى، و هذا أغرب، بها بداية كلمات تقول: إذا قرأتَ فامح المكتوب و املأ بياضه و أعد الكرّة فاكتب ثم اقرأ لتمحو، فأنت مُخَلِّد سُنّة الله في الخلق" (ص.62). فيا لخدر هذه الدوخة التي يسبّبها هذا الطرس اللانهائي !
بخلاف رواية المديني، التي يبدو التناصّ فيها مُثوليّاً بحكم أن نصّ الحائط و نصّ الكتاب يتساتلان من صلبها، فإن التناصّ في روايتي إدمون عمران المليح و محمد
عز الدين التازي يبدو استعلائيّاً بحكم أن النصين، اللذين ستتفاعلان معهما، مجاوزان لهما.
تقول رواية" Mille ans, un jour" في الصفحة 135 ما يأتي: "يوم 16 يونيو 1904 هو يومBloom . إنه يومٌ - ملحمة". لكنّ ما لا تقوله بالتصريح هو أن Bloom هذا ليس سوى Léopold Bloom، بطل "Ulysse "، روايةJames Joyce الشهيرة! ثم تردف الروايةُ هذه الإفادة بنص قصير في نفس الصفحة لأحد شرّاح رواية Joyce يقول : "إذا صح أن ألف سنة يمكن أن تنصرم مثلما ينصرم يوم واحد، فَلِمَ لا ينصرم يوم واحد كما تنصرم ألف سنة ؟ " Frank Budgen)). (6)
فهل هو عفو خاطر أن تكون علاقةٌ بين عنوان رواية عمران المليح( "ألف سنة مثل يوم واحد") و نص Frank Budgenهذا، وأن يشترك اسم بطل روايته،و هو نسيم، مع اسم بطل رواية Joyce ، وهو Bloom، في الإحالة على تفتح الورد وأريجه ؟ وهل هو محض صدفة أن تحكي Ulysse"" يوماً واحداً من حياة يهودي إيرلندي وأن تحكي "Mille ans , un jour" يوماً واحداً من حياة يهودي مغربي، و أن يكون اليومان معاً منتميين إلى شهر واحد هو يونيو؟ و هل هو مجرد اتفاق أن يتجاوز زمن السرد في الروايتين زمن القصة هذا بواسطة المونولوج الداخلي و التداعي الحرّ في الأولى، و من خلال الهذيان و تداعي الصور والأفكار في الثانية، استبطاناً لديمومة الإنسان المتعالي الخارج عن أي تحديد زماني ؟ و هل هو عَرَضٌ أن تشترك الروايتان في انتظامهما معاً ضمن بنية عاملية مثلثية تدور في رواية Joyce حول ثلاث شخصيات مركزية هي Bloom و DedalasوMolly، و تدور في رواية عمران المليح حول ثلاث شخصيات مركزية كذلك هي نسيم و نسيسمات و حمّاد ؟ و هل من قبيل المصادفة ألاّ تتوسل رواية Joyce باللغة الإنجليزية وحدها ورواية عمران المليح باللغة الفرنسية وحدها، لأجل إيصال ملفوظهما السردي، بل بلغات عديدة وغير متجانسة حددها النقاد في سبع عشرة لغة بالنسبة لرواية " Ulysse"، في حين بلغ عددها في رواية "Mille ans, un jour" ست لغات هي الفرنسية و الدارجة المغربية و العبرية و البربرية و الإسبانية و الإنجليزية ؟ فالتناصّ هنا إذن ظاهريّ يتعلق بالبنية النصية الشكلية.
أما رواية التازي "بطن الحوت"، فهي كذلك ترتبط على نحو فريّ عجيب، بنص تحتيّ (hypotexte) هو "الكوميديا الإلاهية" لِ دانتي. فالنصان معاً يدوران حول رحلة يقوم بها مدرّسٌ من جهة و شاعرٌ من جهة أخرى، الأول يصف بعض مظاهر الأزمة السياسية و الاجتماعية و النفسية في المغرب المعاصر، و الثاني يصف عالم القرون الوسطى بحروبه و دسائسه و انتكاس المثل العليا فيه. و إذا كان مرافق المدرّس في رحلته هو كتاب الرمل، فإن مرافق الشاعر في رحلته هو شاعر آخر اسمه Virgile. و إذا كانت الرحلة في "الكوميديا الإلاهية" تتم عبر محطات أخروية ثلاث هي الجحيم ثم المَطهر فالجنة، فإنها في "بطن الحوت" تتم عبر محطتين هما أرض الواقع و مجال الاستيهام. و إذا كان الجحيم يتألف من تسع دوائر متحدة المركز، فإن أرض الواقع تتألف من فضاء واحد هو الحافلة التي افتقد فيها المدرّس ولده وهي تسير. و إذا كان المَطهر يتكون من سبعة سطوح، فإن مجال الاستيهام يتفرع إلى فضاءين، أحدهما مَعبر يتناوب عليه النور و الظلام، ويتكون من ثمانية أدوار متنافدة، والآخر مِعراج يتكون من إحدى عشرة قاعة. وإذا كانت بنية كتاب دانتي تصاعديةً، من السلبيّ (الجحيم) إلى الإيجابي (الجنة)، و مُفضيةً إلى نهاية سعيدة (التقاء الشاعر في الأخير بحبيبته Béatrice في موطن الآلهة)، فإن بنية رواية التازي تنازليةٌ (من الظلام إلى فتحة النجاة) ومُفضيةٌ إلى نهاية شقية (عدم عثور المدرّس في الأخير على ولده عتيق و استئنافُه البحث عنه من غير أن نعرف هل سيعثر عليه أم لا ). فالتناصّ في هذه الحال إذن سيرورة امتصاصية تحويرية.
كنا إذن في حضرة تسعة نصوص يغازل بعضُها البعض الآخر. وإذا أضفنا أن بين رواية " Ulysse" نفسِها و "أوديسا" هوميروس من جهة، و بين "الكوميديا الإلاهية" و "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي من جهة أخرى - تعالقاً نصيّاً قويّاً اهتمت بتوضيحه الدراسات المقارنية، فإنّ عددها سيصبح أحد عشر نصّاً، بحيث يكاد كل واحد يستمد علة وجوده من وجود النصوص الأخرى من خلال عملية تنافذية لا تؤول به إلى استنفاد ذاته.
أفلا يحق لنا، والحالة هذه، أن نعتقد بأن ثمة كتاباً أبديّاً يتناسخ منذ الأزل في نصوص لامتناهية ضمن ما يدعوه Gérard Genette ب "La transtextualité"، أي "عبر-النصية" ؟ )7 ( و على غرار ما تبلبلت الألسن في بابل، هل تكون الكتب أيضاً تتبلبل و تختلط من غير أن يكون مؤلفوها على وعي بأنهم محكومون بقانون "العود الأبدي" للأشياء (نيتشه) إذ يكتبون كتاباُ واحداُ سبق أن كُتِبَ ؟ هل يكون الكاتب لا يكون كاتباً إلاّ إذا كان آلة أدبية تعيد، بالاستيحاء أو المعارضة أو التحوير، كتابة ما سبق أن انكتب ؟
لا مندوحة هنا من استحضار "كتاب الرمل" الذي، حين أراد بورخيس أن يتخلص منه بسبب كونه "رهيباً (...) يثير الكوابيس (...) و يشتم الواقع و يفسده" (ص.125)، لم يجد في رفوف مكتبته أحسن من حكايات "ألف ليلة و ليلة" ليخفيه وراءها ! ترى هل يكون بورخيس أراد بهذه الحركة أن يومئ إلى انتسال هذا الكتاب نفسه من تلك الحكايات، فيصبح عندئذ عدد الكتب، ضمن هذه التداعيات التناصية، اثني عشر ؟ هل يكون إذن كل قول يخفي ما قد انقال ؟
هذا في كل حال هو جوهر أسطورة أدبية مُفادها أنّ ثمة "كتاباً" لاشخصيّاً و لازمنيّاً يعتمل ديماسيّاً في كل الكتب، أسطورةٍ تتنامى منذ Rabelais (La Librairie de Saint-Victor)، إلى Borges (La Bibliothèque de Babel)، مروراً ب Mallarmé ("Le Livre") و Blanchot ("L?Entretien infini") و Jobès ("Le Livre des questions") و Michel Foucault ("La Bibliothèque fantastique") و أخيراً أدونيس ("الكتاب"). هذا "الكتاب" اللامتناهي، الذي تتراءى في أفقه كل الكتب، هو بمثابة أثر مطلق تتحقق فيه اللغة المنغلقة على تأكدها الذاتي، أثرٍ يتوسل بلغةٍ مفرداتها هي جميع النصوص التي كتبت و حتى التي لم تكتب بعد! إنه صورة للكلام الأول المحايث لوجود الكون. إنه يُماهي نوعاً من الاستعارة التي لا تستبعد الاعتراف بالاستكفاء الذاتي للكتابة بقدر ما تقرّ بثنائية الغابر/ الظاهر، الأصل/ الظل الخ... و قد اهتم Michel Butor بالتباس هذا الوضع بما أنّ "الكتاب" هو في آن واحد جامع لجميع الكتبUn Répertoire)) و رَحِمٌ فيه تتخلق جميع الكتب. و ضمن هذا التوتر القدري بين "الكتب" و "الكتاب" ، بين الكلمات و الأشياء، بين اللغات و الكون، فإن تعدد الكتب المتناصصة لا يهم في حد ذاته بما أنه يمثل دوماً التحقق المادي "للكتاب" البؤري، أي كتاب الكون.
إحالات و هوامش
(1) "كتاب الرمل" قصة ضمن مجموعة تحمل في الأصل الإسباني نفس العنوان، وهو .» El Libro de la arena « انظر الترجمة العربية لنص القصة، التي أنجزها إبراهيم الخطيب، ضمن كتاب جماعي بعنوان: "الواحد المتعدد: دراسات في قصص بورخيص"، الدار البيضاء، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، كلية الآداب و العلوم الإنسانية ابن مسيك، الدار البيضاء، 2003، ص.- ص.121-125. و نشير إلى أن الأرقام المذيلة بها النصوص المستشهد بها من قصة "كتاب الرمل"، ضمن دراستنا هذه، تحيل على مواقع هذه النصوص في هذا الكتاب الجماعي.
(2) الدار البيضاء، منشورات شركة الرابطة، 1998.
(3) Grenoble, éd. La Pensée Sauvage, 1986
(4) طنجة، منشورات سليكي إخوان، 2006. ملحوظة : الأرقام المذيلة بها النصوص المستشهد بها من "مدينة براقش" و "بطن الحوت " ضمن دراستنا هذه تحيل على مواقع هذه النصوص ضمن كل من الروايتين.
(5) يقول السارد: "(...) كانت الصفحة مزينة برسم صغير، من قبيل ذلك الذي نعثر عليه في المعاجم: مرساة رسمت بالريشة كما لو من طرف طفل عديم المهارة. إذّاك قال لي الرجل المجهول: "تأملها جيداً، فإنك لن تراها قط". لقد كان في هذا التأكيد ما يشبه التهديد، لكن ليس في الصوت. عيّنتُ موقع الصفحة في الكتاب بدقة، ثم أغلقت المجلد. أعدت فتحه توّاً، و بحثت عن رسم المرساة، صفحة بعد صفحة، دون جدوى " (ص.122).
(6) » Le 16 juin 1904, Blom?s day, l?odyssée d?une seule journée, de Bloom. « » S?il est vrai que mille ans peuvent passer comme un jour, pourquoi pas un jour comme mille ans ? Ce sont les mêmes éléments qui constituent un jour comme mille années «, Frank Budgen : » James Joyce et la création d?Ulysse «.
(7) يقول Genette في تعريف مفهوم "عبر- النصية" : " هو كل ما يجعل نصّاً ما في علاقة، جلية أو خفية، مع نص آخر"، ضمن Palimpsestes، باريس، منشوراتLe Seuil ، 1982، ص.7. وقد ميز بين خمسة أنماط عبر ? نصية transtextuels)) هي، أولاً: المحاكاة (ومن أشكالها: المعارضة، أي تقليد النص (ب) للنص (أ) لغاية لهوانية)، ثانياً: التحويل (ومن أشكاله: الباروديا، أي تحريف (ب) لِ (أ) لغاية قدحية)، ثالثًا: النقل (أي انتساخ (ب) لِ (أ) لغاية جدية، كما في الترجمة و نثر الشعر)، رابعاً: النصية الفوقية (أي تعلق (ب)، و يسميه "النص الفوقي" L?hypertexte، بنص سابق (أ)، و يدعوه "النص التحتي" hypotexte ، بحيث يُشتقّ (ب)، باعتباره نصّاً في الدرجة الثانية، من (أ)، باعتباره نصّاً أصليّاً أو بؤريّاً، خامساً: الإسهاب أو التمديد (أي نشوء نص طويل من نص قصير). ويقول Genette: "إن النصية الفوقية l?hypertextualité)) هي وجه كلّيّ من وجوه(...) الأدبية: فلا وجود لنص أدبي (...) لا يُذكّر بنص آخر، مما يعني أن كل النصوص نصوص فوقية (...). فبإمكاني أن ألتقط في أي نص أصداء (...) نص آخر، سابق عليه أو لاحق " (نفس المرجع، ص.16).
* نص المداخلة التي شاركتُ بها في ندوة نظمتها كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط، تكريماً للأستاذ عبد الحميد عقار، يوم 31 أكتوبر 2008 ، في موضوع: "الرواية المغاربية. خصوصية التجربة و نقدها".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.