أمّا قبل، فالشاعر محمد غرافي من مواليد عام 1966 بمدينة بركان، شرق المغرب. حاصل على دكتوراه في السيميائيات و علوم التواصل من جامعة السوربون عام 1997، و شهادة التبريز في اللغة العربية عام 2000. عمل أستاذا للأدب العربي و اللسانيات بجامعة تولوز ? لوميراي، التي كان يؤطّر في رحابها "يوم الشعر العربي"، و يشغل نفس المنصب بأكاديمية سان سير المرموقة حاليا. نشر أشعاره في مجموعة من الصحف و الدوريات العربية و المواقع الإلكترونية و مقالاته في منابر عربية و فرنسية. و بقدر ما يصنّف الشاعر ضمن زمرة الأصوات الشعرية المغربية المتميّزة التي انفرز عنها عقد التسعينيات، كمحمد الصالحي و بوجمعة العوفي و عائشة البصري و محمد بشكار و ياسين عدنان و وداد بنموسى و نبيل منصر و عزيز أزغاي و فاطمة الزهراء بنيس و عبد الرحيم الخصار و سعيد الباز و فاتحة مرشيد و محمد أحمد بنيس و إدريس علوش و إكرام عبدي و محمد حجي و كريم أخلاقي..؛ فهو ينتمي أيضا إلى فئة من الشعراء المغاربة المحسوبين على المهجر (أروبا الغربية و كندا و المشرق العربي و إفريقيا) ممّن يكتبون شعرهم إمّا باللغة العربية أو باللغة الفرنسية، سواء عبر رعيلها الأول، كزغلول مرسي و محمد خير الدين و عبد اللطيف اللعبي و الطاهر بنجلون..؛ أو رعيلها الثاني، كمصطفى الزباخ و عبد العالي الودغيري و عبد الرحمن بوعلي (سابقا) و حسن الأمراني..؛ أو من خلال موجتها المتأخرة التي اقترنت بأسماء من قبيل حكيم عنكر (سابقا) و مصطفى فهمي و وفاء العمراني و بن يونس ماجن و طه عدنان و عبد الإله الصالحي و محمد حمودان و محمد مسعاد..؛ للعلم فإن هذه الظاهرة ليست عريقة أو متجذرة أو مهيمنة في الشعرية المغربية كما هو الشأن بالنسبة للحالتين اللبنانية و العراقية مثلا، و مع ذلك فقط اتخذت، في غضون السنين الأخيرة، صبغة ملمح بارز في هذه الشعرية لا يمكن القفز عليه أو التهوين من مفعول رافديّته للمتن الشعري المغربي الشامل لأنه يمدّنا بإمكانية تلمّس منحى تعبير مجموعة من الأصوات و الحساسيات الشعرية عن تمثّلها الرؤيوي الثنائي، المركّب، و المخصوص: من جهة لمكان جديد، لمعيش مغاير، و كذا لمتخيّل ثقافي و حضاري آخر، و من جهة ثانية لمسقط الرأس في دلالته الفعلية و الرمزية و معها كيفيّات استعادته و تنضيده بوازع من حافزيّة نوستالجية متأجّجة أو فاترة، ممّا يشكّل قيمة مضافة للشعرية المغربية و إبدالا نصيّا لمحليّتها الجغرافية و التاريخية و المجتمعية في آن معا. لقد تعرّف الوسط الشعري المغربي على اسم (محمد غرافي) توسّطا بديوانه الباكر "حرائق العشق" (الصادر عن دار تريفة للطباعة و النشر، بركان 2002). و كأيّما بداية شعرية كان واردا أن يتلبّس الديوان بكل تحرّجات البداية و تلعثماتها البنائية و التخييلية و الرؤيوية، و إذ اقتضى الأمر تصرّم سبع سنوات حتى يطلع علينا الشاعر بديوانه الثاني "أمضغها علكا أسود" (الصادر عن دار تريفة، بركان، و دار جناح، تولوز 2009) فإن ما أثمرته تجربة الشاعر، و ضمنيا وعيه الكتابي، و لا ما أثمرناه، نحن كقرّاء، من تحقّقات شعرية ناضجة و متقدّمة، إن بناء أو تخييلا أو رؤية، لممّا يسوّغ، حقّا، لهذه المسافة، المديدة نسبيا، التي استغلها الشاعر، و هو يتعاطى مع النشر من خلال نصوص شعرية منفردة، في تجويد أدائه الكتابي و تصويب مخيّلته ناحية الأشقّ و الأوعر. ينقسم الديوان إلى ثلاثة أقسام كبرى يأوي كل واحد منها جزءا من القصائد التي تتراوح بين الجدّ طويلة، كقصيدة "غزالها و النوار"، التي تعتبر أطولها في الديوان، و المتوسطة، كقصيدة "الزرقاء"، و القصيرة، كقصيدة "في سمّ الإبرة"، و الجدّ قصيرة، كقصيدة "صدفة" التي هي على منوال قصائد الهايكو من حيث قصرها و انضغاطها، فلاشيّتها أو إلماعها الخاطف الذي يا ما تنفرج عنه، مع ذلك، آفاق دلالية متراحبة. كذا يضم القسم الأول، و هو أكبر الأقسام، القصائد التالية: "القطة"، "خمّارة كلوني (Cluny)"، "نشاز"، "في مقهى لافونتين"، "صفير"، "برج الأسد"، "في سمّ الإبرة"، "نفزاوية"، "لم تكتبني بعد"، "في قصر الإمبراطورية"، في ساحة ستيفانيلاتز"، "الصرخة"، "الزرقاء"، "في المقهى الملكي"، "في المقهى الشعبي"، في ساحة كاتالونيا"،" الرغبة"، "أنظر كيف يطير". و يضم القسم الثاني القصائد الآتية: "صدفة"، "لمسة"، "تلك القبلة"، "امتحان"، "بياض"، "5 C". في حين يضم القسم الثالث قصائد: "غزالها و النوار"، و "رسم غزال"، و "الحيرة". و للإشارة فقد حرص الشاعر على توثيق تواريخ تحريره لهذه القصائد حرصه، الأمر الذي لا يخلو من ميثاقية لا غبار عليها، على توثيق أمكنة هذا التحرير و هي تولوز و رين و باريس و فيينّا و برشلونة. و في باب المقصدية الميثاقية، دائما، و كعتبة إلى عوالم هذه القصائد، منفردة أو متضامّة، و أدوارها الإيهامية سوف يختار الشاعر، أو الناشر لا فرق، ولوجنا إليها، قرائيا و تأويليا، عبر لوحة الغلاف، التجريدية البديعة، للرسام العالمي بول كلي و لوحات داخلية، للفنان ناجح جغام، تتخذ هيئات و استطالات كاليغرافية، باللغتين العربية و الفرنسية، و حيث تقاطبيّة البياض و السواد و جسدانية ? روحية الحرف و الكلمة و العبارة و انتصابها كدالّ تشكيلي متواطئ مع التجربة الشعرية، لا يتردّد في الاستجابة لانتواءاتها، الواعية منها و اللاّواعية. و رغما من تشبّع الشاعر بتربية شعرية أنزع إلى النموذج التفعيلي باقتضاءاته التّصييغية السّيميترية، و هو ما يتلامح بقوة في ديوانه الأول، أصلا، و يستقيم ثانية في هذا الديوان فإن جاذبية نموذج قصيدة النثر، مفردات و توليفات و توليدات نغميّة، و إغواء جمالياتها و تقنياتها المكرّسة لممّا تستدخله، بهذا القدر أو ذاك، بنية الديوان و تتشرّبه مسامّ قطاع واسع من قصائده. كذا تحايث في هذه البنية وسائط الحكي، المونولوغ، الاستذكار، الحلم، و البّوليفونية، فضلا عن تلوينات شتى لا تعدم نكهة مفارقيّة أو سخرويّة راشحة.. و هي الوسائط الآيلة إلى قصيدة النثر، و قبلها إلى فنون تعبيرية أخرى و بخاصة الرواية و القصة القصيرة و السينما..، و مواكبة لهذا، و من داخله أيضا، ستعتمد الكتابة الشعرية في الديوان على شبكة رمزية قوامها أسماء ثقافية و إبداعية متقصّدة خلفياتها و تداعياتها في منتسجه الكلّي، من قبيل الأميرة النمساوية سيسي، الملك الخائب، المأساوي، أبي عبيد الله الصغير، آخر ملوك غرناطة المضاعة، و الشاعر العربي الفذّ أبي الطيب المتنبي، و الشاعر الفرنسي البوهيمي سيرج بّي، و الصوفي المفلق محيي الدين بن عربي، و الفقيه المتنوّر الشيخ النفزاوي، صاحب المصنّف العشقي الجرّئ "الروض العاطر"، و النحوي النبيه ابن يعيش، و المفكر الطليعي مشيل فوكو، و الرسام الهائل بابلو بيكاسو..؛ أو عناوين فارقة في تاريخ المعرفة أو الإبداع الشعري ، مثل "مروج الذهب" للمسعودي و تاريخ الطبري و "أزهار الشر" لشارل بودلير" و أعمال الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بّيسوا..، و إذ تتوسل الكتابة الشعرية في الديوان بهذه الشبكة الرمزية فهي لا تتورّع عن استدماج قرائنيّتها السافرة أو الخبيئة في استهدافات البرنامج التعبيري القائم في نطاقه و استمالتها، وظيفيا، لصالح عامليّته الاستعارية و المجازية و الكنائية المخصوصة. أمّا من حيث الاسترجاع النصي ففي مكنتنا ضبط أكثر من قناة تناصيّة، تفاعلية، مع مظانّ و محافل شعرية لعل أبرزها أعمال كلّ من سعدي يوسف، و سركون بولص، و وديع سعادة، و أمجد ناصر، و عباس بيضون، و بسّام حجار..؛ ضبطنا لجملة من التّصاديات الشعرية سيّان مع الشعرية الفرنسية الراهنة أو مع شعر الهايكو الياباني. على صعيد استراتيجية التفضيّة التي سلكها الديوان فمثلما نحت الفاعلية الشعرية فيه إلى نوع من التعدّدية الترميزية سنلفيها تتبنى نفس المنحى و هي تضعّف أفضيّتها و تنوّعها. فمن تولوز إلى رين، و من باريس إلى فيينّا، و من برشلونة إلى وهران، و من غرناطة إلى بغداد، و من وجدة إلى تطوان، و من بركان إلى أحفير.. فالغزوات، كانت الوقائع الإيهامية تجترح لها سبلا و مهبّات و هي تكثّف مصير أنا شعرية مقذوف بها في معمعان تطواف مكّوكي رمزي بين أفضية عالمها ? مغتربها القاسي و بين أخرى تؤثّث عالمها ? مهادها الأونطولوجي الصميم و حيث فائض أرصدتها الذّاكرية: ترابها البدئي القحّ و سماؤها الأولى الصّقيلة.. طفولتها اللاّتمحى و صداقاتها الحميمة.. و في تضاعيف هذا التّطواف تتبرعم أمكنة مصغّرة، إمّا مفتوحة كالساحة (ساحة سان ميشيل في باريس و ستيفانيلاتز في فيينّا و ساحة كاتالونيا في برشلونة) و الطريق و الشارع و الزّنقة..؛ و إمّا مغلقة، لكنها تقوم، وفقا للطرح الأركيولوجي الباشلاري النّبيه، مقام أكوان متعاظمة تختلج فيها تواريخ و تغريبات، كالبيت و الكنيسة (كنيسة سانت إتيان) و المقهى (المقهى الشعبي في تولوز و المقهى الملكي في باريس) و الحانة (حانة كليني في باريس و حانة الرّيستينغا في تطوان)، و تتخلّق ذوات و تتبرعم كينونات، إمّا بؤريّة، نسائية عن الآخر، مثل الأمّ، في قصيدة "القطة"، و العجوز مرغاريت في قصيدة "نشاز"، و ماريا البرتغالية في قصيدة "المقهى الملكي"، أو عرضيّة، بيد أنها دالّة، مثل نادل مقهى لافونتين و نادل حانة كليني، و كومبّارس هجين من شخوص فيهم أصدقاء و أطفال.. عشّاق و عشيقات.. شاحذون و سكارى.. شرطيّون و باعة قارّون أو متجوّلون.. ينتمي أغلبهم إلى الهامش أو التّحت المجتمعي السّحيق، متقاطعين، من باب التّعويم الترميزي، مع كتل إثنية - تاريخية تستثير جروحا و فداحات شتى، منها الأتراك و الموريسكيون و الغجر و الأوكسيطانيون و الزنوج..؛ ممّا يهيئ للمخيّلة مادّة للحكي الشعري المشهدي أو رسم بّورتريهات شائقة، و في الحالتين معا يتم تقويل اليومي، في تشذّراته و تمفصلاته المتناهية، و تقريف التاريخ و السياسة، في تجلّيهما الآثم ، و استنهاض أسئلة الآخر، الهوية، الاختلاف، الخصوصية، المشاعيّة، الجدارة، المهانة.. ؛ ممّا يستتبعه أيّما توضّع وجودي قلق و انشطاري يتكافأ فيه الاستلذاذ بفاكهة الجنّة الغربية بالنوستالجيا المدمرة إلى دفء مسقط الرأس و زخمه الإنساني الفائض فوق اللزوم، تماما كما استنهاض الوحدة، الانتظار، الحبّ، المتعة، الغناء، القراءة، الكتابة..؛ التي هي من جنس الأسئلة العابرة للأزمنة و الأمكنة. هكذا تتحول الساحة إلى مجلى لسطوة الرّيبة و الحذر و الخشية من الآخر، المختلف، الذي تصطنعه المسبقات الجاهزة أكثر ممّا يدل عليه جوهره الإنساني الثابت: في ساحة كاتالونيا غجريات و صدى لحن موريسكي و ضفائر من كلّ الدنيا و خطى حزن تتعثّر في ساحة كاتالونيا أخشى أن أذنب في حقّ خطاي و أخشى أن تذنب في حقي امرأة ترمقني و تضمّ إلى الصدر حقيبتها أكثر. - قصيدة "في ساحة كاتالونيا"، ص 35 و ذلك نظير ملاقاة الأنا الشعرية لعزائها الإنساني في قرينها الهوياتي، في غجرية تقرأ الكفّ في الساحة، ضمن قصيدة "في ساحة ستيفانيلاتز"، بينما يدحض قصر الإمبراطورية النمساوية العتيدة تهيّؤات التفوق و العظمة، فلا صور ينهرق من تجسيماتها و ألوانها دم جنود أتراك مفترضين، مقطوعي الرؤوس، و لا الأميرة سيسي أمكنها أن تلتفّ على آدميّتها و تستغني عن المرحاض و لو أنها كانت تأكل طعامها، يا للأبّهة الإمبراطورية، بملعقة من ذهب. و إذا ما كان للأنا الشعرية أن تنفكّ من إسار التاريخ و مؤرّقاته الجسيمة لبرهات فتنضوي إلى مجريات صدفوية يتيحها اليومي و تراكباته السريالية، من مثال ما تصوره قصيدة "صفير"، حينما تسأل شرطيّا سيزيفيّ المصير عن حانة "الرّيستينغا" بتطوان، و إذ يدلّها عليه بمنتهى الأريحيّة يعود إلى صفيره الأبدي، البائس، في عرض الشارع، و الذي كانت ترديداته اللاّمنقطعة تنصبّ في مسمع هذه الأنا و هي تكرع أكؤسا من نبيذ، هو مهربها و سلواها بإزاء واقع لا يني يفاقم المواجع و التكدّرات. إذا ما كان لها أن تفعل هذا فسرعان ما سوف يزجّ بها ثانية بين فكّي كمّاشته الجبّارة واصلا الماضي بالحاضر و لكأنّما القطة هي عين القطة الخرافية التي وضّبتها مخيّلة إرنست همنغواي الروائية و المتروكة لحالها في طاحونة حرب لا تبقي و لا تذر.. و لكأنّما بغداد، هي الأخرى، المصادرة بالأمس البعيد هي ذاتها المصادرة في راهنها الفاجع: هذي القطة لا تنفع. قلت مرارا. فعلا لا تنفع. قالت أميّ و هي تضمّد جرحا آخر في يدها. إلق بها في الخارج حين تموء. تعبت. و قال أبي دعها تكبر. دعها تستأنس بالعزلة. و قد تأكل حشرات في البيت و قد ترزقنا قططا أخرى ؟ علّ بها مغصا حين تموء و نوبة أعصاب حين تعضّ. ألم ترها ترقب عن كثب نشرة أخبار الليل و لا تأكل عند مرور الدبّابة في بغداد و تسعل حين تشاهد قطّا يعلو قطّته في أفلام السبت ؟ إذن دعها تعيش. - قصيدة "القطة"، ص 8 قد تنغمس الأنا الشعرية في لحظات عشقيّة خالصة على شاكلة ما تبوح به هنا: دعي لمسة تلغي المسافة بيننا ليكون درس البلاغة كاملا بفصوله. - قصيدة "لمسة"، ص 43 فيقع أن تأتمر البلاغة، القصوى هنا، بقواعد "الروض العاطر" و إملاءاته العليا، لا بكيفما اتّفق من المصنّفات، أي بشريعة الحبّ في أمدائه الجسدانية ? الإيروسية و الباطنية ? الروحية التّخومية، دليل ذلك أنها، أي العشيقة، كانت: في الغالب لا تقرأ. لكن تلقي بالمعطف جنب الحائط. يسترخي الحائط. تطلق فوق النص ضفيرتها و تزيح الشّال إلى أسفل. بعد قليل ستباعد بين الساقين. سيبرز تحت التنّورة خيط حرير أسود. بعد قليل سأرى فوق المقعد ظلّ أنامل ترتجف. و ترى هي أني أتلعثم..... ............................................................... كانت تعرف أن الوقت ربيع و أنا سرّي الطبع خجول و النص عصيّ و رتيب و هي سليلة شيخي النّفزاوي. - قصيدة "نفزاوية"، ص 21 ? 22 و هو ما توطّده قصيدة "لم تكتبني بعد" كذلك، و قد تستهيم في أسطورة نساء من محتد نادر، شغوفات بمستحيل متعذر أكثر من ولعهنّ برجال دنيويّين، و هو ما تكثّفه ماريا البرتغالية، طبّاخة مطعم المقهى الملكي، امراة في الخمسين من عمرها تدمن استذكار بلدها الجميل.. لشبونة و البحر و الصيادين.. إدمانها التملّي في صورة الثائر الأممي الأسطوري إرنستو شي غيفارا المعلّقة بأحد حيطان المقهى و هو يدخّن سيجاره الكوبي الباذخ، من يدري.. فقد يكون: هذا وحده هذا وحده يعرف سرّ امرأة لا أرض لها. - قصيدة "في المقهى الملكي"، ص 32 قد تنقاد، إذن، نقصد الأنا الشعرية، إلى هذا و توغل في مضايقه اللاّمرئية بيد أنها، في جميع الأحوال، لا تنسى معاودة تقليب حقيقتها الكيانيّة، كذات مجبولة على رهافة المعيش و اعتناق الكتابة و موالاة الفنّ، و حقيقتها الهوياتية التي ينغّص عليها متخيّل عام بموجبه تتدبّر المخيّلة العلاقة، مثلا، مع العجوز مرغاريت من زاوية شعرية الجيرة و أيضا من زاوية الصورة المرتّبة للآخر، الغريب و المغاير، الغامض و المريب، و المتوقّع منه، دوما، ألاّ يباشر وجوده في خفاء و صمت و مسالمة و إنّما أن يكون عنيفا، مزعجا، و مؤذيا للآخرين و للفضاء: في عثرة كل لقاء عند المصعد تبدي الجارة مرغاريت بشاشتها و ركاما من فرح و تقول جميل جدا لم أسمع شيئا هذي الليلة. ثم تغادر مسرعة و أنا أتساءل ماذا لم تسمع جارتي الليلة ؟ صوت التّلفاز ؟ الردّ على الهاتف ؟ أغنية الرّاي ؟ صرير القلم ؟ المضغ ؟ استرخائي فوق الكنبة ؟ أنفاسي ؟ وزن قصيد يتكسّر ؟ أحلامي ؟ دقّات القلب ؟ صداع الرأس ؟ غريب أمر عجوز تتعجّب أني في بيتي آكل آشرب أمشي أسمع موسيقى و أكلّم نفسي ما شئت و لا أزعج إلاّ نفسي. ماذا لو كنت كما شئت الآن: ثقيل الظلّ عنيفا لا أقرأ شعرا أتبوّل في المصعد أصرخ ملء شبابي في وجه الجارة مرغاريت و أكسّر ضلعا للكلب القلطيّ لجارتها إيزابيلاّ ؟ - قصيدة "نشاز"، ص 11 و العجوز مرغاريت تزداد حيرة من جار طارئ على عالمها، مخيّب لأفق انتظارها، يطّرد، بالمقابل، استحضار الأنا الشعرية لعالمها الأصلي و يستفحل نهمها للتزوّد من معينه الرمزي، من موسيقاته و رقصاته، تطلّبا لتماسك وجودي في عالم لا يمنح سوى هشاشة العيش، بله يقنّنه إن لم يصادره بالمرّة. هكذا، و ركوبا على رمزية المغنيّة المغاربية الذائعة الصيت، الشيخة الرّميتي، التي ولدت بالجزائر و توفّيت في باريس عن عمر يفوق التّسعين عاما، نلفيها تمجّد الأغاني و الأهازيج الحارّة، التي حرارتها من حرارة جنوب إنساني، قائظ، و طازج،و حيث ما انفكّ للحياة فيه معنى، و ذلك ضدّا على برودة نموذج حياتي غربي، بارد، و معقلن حدّ التّخمة: دان دني دان دني دايني تلك أنت. و تلك آخر قطرة في الأغاني التي بالحنين تمدّني و تردّني من منفاي ملقى على الأشواق مثلك سالكا بعض الطريق و بعضه ألغيه. هل وهران أم بركان أم أحفير بينهما تنصب الإيقاع في باريس ليل السبت كي تطويه تحت ذراعها سرّا بالنهار و تشتهيه ؟ - قصيدة "غزالها و النوار"، ص 54 ? 55 أو انطلاقا من رمزية حذاء، كان في حاجة إلى الإصلاح، تحتفى برقصة "الرّكادة" الشعبية و المنتشرة في شمال شرق المغرب و تستحثّ وشيجة الأخوة بينها و بين رقصة الفلامنكو بما هما، معا، تخفّف طقسي محموم من اعتناف هوية ملتاعة و مضطرمة : اضرب ما شئت الأرض به في رقص غجريّ أو ثر نقع غبار في رقص ركّادي و امش فوق بلاط أو حجر هو لا يتعب.أنظر ! أطويه كما شئت و لا يكسر. أنظر كيف يطير ! - قصيدة "أنظر كيف يطير"، ص 37 على أن هذا المعين الرمزي لا يمكنه، في موقف نوستالجي كهذا، أن يطمس الوجه الآخر، الأليم، لتعاسات الأهل، المنذورين لمأزقهم الحياتي و انحجازهم الجغرافي، و الذين لا يملكون، هناك في مسقط الرأس، سوى الالتفاف على مزاج السياسة و مكر التاريخ و ابتكار، بالتالي، سبل بديلة للمنع و الانحجاز بفضلها يتواصلون و يقايضون بعضهم البعض، تحت مسمّى التهريب، خيرات و صفقات و مصالح حيوية، بسيطة بساطة مشاغلهم و تطلّعاتهم، و قبلها مشاعر تؤكدها الأرض و اللغة و الوجدان المشترك: يوما و أنا أحتاج إلى الطبري و بّيسوا و مروج الذهب بعت الزرقاء لوهراني في تولوز هي حتما في الغزوات الآن تقلّ البنزين إلى وجدة. - قصيدة "الزرقاء"، ص 31