يسلّم الإسلام بما سبقه من رسالات و«على غرار إبراهيم وعلى أثره يختزل... الماضي بهدف نفيه، تجاوزه مع الحفاظ عليه...» ص (71). يعرف أن اليهودية والنصرانية انحرفتا عن الجادة الإبراهيمية وأنه لا يكون إسلاماً «إلا إذا وضع نفسَه في خاتمة المسيرة الإبراهيمية، إلا إذا غالب وغلب كل نزعة تجسيدية» (ص 72). أدرك المتكلمون «قبل سبينوزا والنقد التاريخي الحديث» (ص 78) الفرق بين كتابهم وبين التوراة والإنجيل، «قالوا ليهود ونصارى زمانهم: ما بأيديكم ليس كلام الله الواحد الأحد، فهو في أحسن الأحوال مجرد صدى. النسخة التي عندكم مهذارة مكرارة، متناقضة، وأحياناً سخيفة خرقاء» (ص 79). حجتهم قوية في نظر العروي ولذلك أطنبوا في مناظرة اليهود دون النصارى لأن أناجيل الأخيرين لا تدعي أنها كلام الله «وإنِ ادَّعتْ -هو أمرٌ أشنع- أن المسيح هو الربّ مجسَّداً» (ص 81). هل كان يسوع (عيسى ابن مريم) ينتمي إلى العالم اليهودي كما يصوّره الإنجيل؟ لا يعتقد متكلمو المسلمين ذلك ويوافقهم العروي على اعتقادهم بالتأكيد على أنه «ينتمي إلى الثقافة الهلستينية» (ص 81). يقول المتكلمون: «المسيحية التاريخية لا تنتمي إلى العالم القديم، عالم إبراهيم المحدود ببلاد الرافدين ومصر، بل تنتمي إلى العالم الجديد [يقصد العروي: العالم الهلستيني] الذي أنشأه اسكندر المقدوني وكرَّسه يوليس قيصر تمهيداً، كما تقول الكنيسة، لظهور المسيح. قد يندرج في العالم القديم عيسى النبي، عيسى المسلمين، لا يسوع النصارى يسوع الإله» (ص 81 – 82). إنها النتيجة عينُها التي وَصَل إليها -قبل عشر سنوات- المؤرخ اللبناني كمال صليبي في حفرياته في الأناجيل في كتابه البحث عن يسوع. هل من دليل؟ لا بد من إعادة قراءة الأناجيل الأربعة ومضاهاة بعضها ببعض لاكتشاف تناقضات السرد كما فعل كمال صليبي. ثم لا بد من إعادة قراءة معنى اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية «بعد ممانعة دامت ثلاثة قرون»، أليس «لأن هذا الدين نشأ في أحضانها وليس، كما يبدو، على أطرافها»؟ (ص 82). تأخرنا في إدراك هذه الحقائق، لكن متكلمينا -يقول العروي- لم يكونوا واقعين مثلنا تحت تأثير رواية الكنيسة ففصلوا بين تجربة إبراهيم وتجربة اليهود و«قالوا: هناك بنو إسرائيل وهناك بنو إسماعيل»؛ كما «فصلوا فصلاً تامّاً وواضحاً مأساة عيسى بن مريم عن ذلك المؤلّف العقائدي الناشئ داخل الثقافة الهلستينية (التثليت، التجسيد، الصليب، الحب، الخلاص) الذي عُنْوِن باسم المسيح واتُّخِذ ديناً للإمبراطورية الرومانية» (ص 83). هذه معطيات مختلفة: ثقافية، دينية، نفسية، متغيرة من شعب إلى شعب، من فترة من الزمن إلى أخرى، لكنها تنهل جميعُها من نفسِ المعين الذي يحكُمها ويوحِّد بين ملامحها على اختلاف: العهد الهلستيني. استنتاج يَعْسُر الوصول إليه إن لم يأخذِ المؤرّخ ومؤرّخ الأفكار بقاعدة الزمن الطويل المعتمدة في الدراسات التاريخية المعاصرة. 2 - العرب والنبي في السياق التوحيدي الإبراهيمي ما كانت العربُ شعباً من البدو المعزولين عن العالم في الصحراء. يصحّ أن يقال ذلك عن عرب الوسط. أما عرب الشرق، المندمجون في العالم الفارسي، وعرب الجنوب، المتواصلون مع العالم الإفريقي، فأقل بداوة. بينما يظل عرب الشمال الغربي أكثر تحضراً، وفيهم ظهرت الرسالة. هؤلاء «ارتبطوا منذ قرون بعلاقات وثيقة ومنتظمة بمؤسسي الحضارة القديمة في الشام ومصر»، و«هؤلاء هم شعب النبي»، «الشعب التاريخي العريق» (ص 96). لا أحد يعرف «من أين جاؤوا؟ ما موطنهم الأصلي؟ ما سرّ إعرابهم، بلاغتهم؟ لغتهم المُبِينَة المتينة كالمنسوخة عن مكتوب حتى قبل أن تكتب؟ شعرهم؟ حِرَفهم؟ أخلاقهم؟...» (ص 91). ولكنَّا نعرف أنهم عاشوا طوال ألف عام يتذكرون إبراهيم وجدّهم إسماعيل، ورافقوا الإمبراطورية الرومانية في عهديْها الوثني والمسيحي (ص 94)، وأن محمداً بن عبد الله شاركهم التجربةَ التاريخية أربعين عاماً «قبل أن يتبرأ منهم ويعتزلهم» (ص 94). ما الذي مَنَعَ عرب الشمال الغربي، المتواصلين مع مصر ومع بلاد الشام – التي «عُرّبت، بشريّاً وثقافيّاً، ثلاثة قرون قبل الإسلام» (ص 90) – من اعتناق اليهودية والنصرانية؟ (إذ «لو كانوا بالفعل أجانبَ دخلاء لَسَايَرُوا الجموع» (ص 97)). ما سرُّ امتناعهم عن الاندماج؟ سؤال يطرحه العروي فيجيب: «عرب الشمال الغربي، الملحَقون بالمجتمع الهلستيني منذ أزمان، لا بدّ وأن يكونوا قد حملوا فكرةً خاصةً بهم، ميزة تفصلهم عن غيرهم وتمنعهم من الانصهار في أولئك الغير. وهذه الميزة التي تجعل منهم أمة رافضة لكل اندماجٍ، لاصقة بهم منذ قرون» (ص 98). لا بدّ، إذن، أنهم لم يشاطروا أهل العقائد التوحيدية الأخرى توحيديةً خدشت المعنى الإبراهيمي في ذاكرتهم. فرضية؟ ربّما. يؤكد العروي بطريقة غير مباشرة وجاهة هذا الافتراض حين يسجّل تفوُّق دعوة النبي «هذا الداعي الجديد، الذي ليس دَعيّاً ولا مدَّعيّاً» (ص 100) بارتفاعها عن نصاب التجسيد والوثنية المنسابتين من اليهودية والنصرانية. فهو لا يدعي أن الله يكلمه، ولا يدعي بنوَّته من الله، وإنما «يقول بتواضع: أنا اليتيم، أن الأمّيّ، في ظلام الليل وعزلة الخلاء، سمعتُ ما سمعت ورأيتُ ما رأيت، وها أنا أوافيكم بما رَسَخ في الوجدان بلغةٍ يفهمهما قومي» (ص 101). كلام متواضع، بشريّ، عاديّ، لكنه صادق. ولذلك السبب يفهمه قومُه. إذ «هل يُتصوَّر أن يكون النبي عرض على قومه، وهم أصحاب ذكر وحفظ، نسباً، مادياً وروحياً، غير الذي توارثوهُ جيلاً عن جيل منذ أقدم العصور؟ لو أقدم على ذلك، أمَا كان ذلك أقوى حجةً عليه؟ لو جاء بغير المعهود، لو قرَّر نبذ المألوف، كيف كان يتعامل مع العادات القائمة والمنسوبة إلى إبراهيم: الختان، الاحتفال بواقعة الذبح، تقديس البيت، التبرك بماء البئر... هذه أشياء سابقة على عهد النبي. لو أقدم على تجاهُلها لكذَّب دعواه» (ص 101). إذن هو المأثور والموروث الإبراهيمي في الذاكرة الجماعية ما مَنَعَ العرب من التهوُّد والتنصُّر وما دفعهم إلى إجابة دعوة النبي التي نطقت بمفردات إبراهيمية. ولكن ما القول في صدِّ دعوته من قريش وأشرافها والأقربين؟ كان ذلك ابتداءً، حين لم يدرك أشرافُ القوم ما تقدمه لهم الرسالة وفكرة التوحيد. حينها، كان النبيّ وحيداً «يلاحظ ما لا يلاحظ غيره. يؤثر في وجدانه تأثيراً يقلقه، يذهله، يؤرقه ما لا يلفت أنظار ذويه ولا يحرّك منهم ساكناً وهم العقلاء الفضلاء أصحاب همّة ومروءة»، وإذن «ماذا يعني الأمر إن لم يَعْن أن الفتى يجتاز تجربة فريدة، غير عادية بين أبناء جلدته» (ص 105)، ويتساءل أحياناً لماذا اصطُفِيَ هو بالذات من دون سائر أشراف قومه وكبرائهم منزلةً اجتماعية. كان «يدرك جيداً أن لا تناسُبَ بين مقاله ومقامه، بين جسامة ما يدعو إليه ودوره المتواضع في المجتمع» (ص 113). لكنه –ورغم الصدّ والخذلان– قاوم وثابر و«أحْيَى نداء جدّه إبراهيم» (ص 117). كان على النبي أن يواجه الصدّ والخذلان بالانفصال عن المجتمع المكّيّ النابذ. هل كان له من خيار آخر: «أن يعتنق اليهودية؟ الأمر مستحيل نظرياً وعملياً... أن يعتنق النصرانية؟ الأمر مستحيل عقلاً وأخلاقاً... أن يُعْرِض عن أهل مكة؟ الأمر مستحيل إذْ ما كان لأهل مكة أن يُعْرِضوا عنه وهم مقتنعون أنه يمثل خطراً قاتلاً على تجارتهم...» (ص 120). لكن الهجرة ستبدِّل بعضاً ممّا كان في دعوته الإبراهيمية في مكة. ستدفعه إلى «الانغماس في دوّامة التاريخ» (ص 121)، إلى إقامة الدولة. في مكة «كان وحيداً مهجوراً، مستضعفاً مضطهداً، فوجد الله وسَعِدَ به. في المدينة كان مكرَّماً مُبَجَّلاً، محاطاً بالأنصار والأتباع، فاكتشف الإنسان وشَقِيَ به. آراؤُهُ تُنَاقش، أحكامُهُ تُعَارض، بل الوحيُ ذاتُه كان أحياناً موضوع تساؤل. لذلك بالضبط جاء التأكيد تلو التأكيد على أن طاعةَ الرسول طاعةُ الله وحكمَ الرسول حكمُ الله... لولا التنطُّع لما جاء التأكيد» (ص 123). تحوُّلٌ ما كان منه بدّ كي تخرج دعوة التوحيد من ضائقتها الطويلة في مكة. ألم يحصل ذلك في اليهودية قبْلاً؟ «من يتقمص رداء موسى يسير بالضرورة على خُطاه» (ص 123). مع الهجرة بدأ الإسلام التاريخي و«بالتدريج تأخَّر إبراهيم الخليل تاركاً الواجهة لموسى الكليم» (ص 118). للهجرة دلالة هي أن «الدعوة لا تجدي بمفردها. الخطاب وحده... لا يشرح صدر أحد ولا يلين قلب أحد». والمدينة مكان مختلف «أحوج إلى قائد حاكم منها إلى مصلح مهذِّب». ولذلك «ما إن حلَّ بها النبي حتى دُفع دفعاً إلى تقمُّص دور موسى» (ص 119 – 120). لكن مسار الإسلام التاريخي سيتعمق أكثر فأكثر بعد غيابه وحلول الخلفاء محله في مركز القيادة.