نبذة عن حياة الدكتور محمد شحرور ولد محمد شحرور سنة 1938 بمدينة دمشق وتابع دراسته بها قبل أن يسافر للاتحاد السوفيتي لتحضير دبلوم في الهندسة المدنية. وبعد تخرجه، عين معيدا بكلية الهندسة المدنية بجامعة دمشق ما بين سنتي 1965 و 1968 ليلتحق بعدها بجامعة دبلن بإيرلندا للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه، في الهندسة المدنية. وبعد تخرجه وإلى جانب اشتغاله كمدرس بجامعة دمشق، افتتح محمد شحرور مكتبا هندسيا خاصا لممارسة المهنة كاستشاري وله عدة كتب في مجال اختصاصه. بدأ محمد شحرور في دراسة التنزيل الحكيم وهو في إيرلندا بعد حرب 1967 وذلك في عام 1970 ، وقد ساعده المنطق الرياضي على هذه الدراسة، واستمر بالعمل حتى عام 1991 ، حيث أصدر كتابه الأول "الكتاب والقرآن ? قراءة معاصرة". ثم تابع الدراسة في موضوع الدولة والمجتمع، واصدر كتابه الثاني "الدولة والمجتمع" عام 1994 . اصدر كتابه الثالث بعنوان "الإسلام والإيمان ? . منظومة القيم" عام 1996 ويعمل حاليا على دراسة موضوع الإرث والأسس الجديدة للفقه الإسلامي، مع مقدمة في نظم المعرفة. محمد شحرور إنه لمن دواعي سروري، تلبية دعوة مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد للعلوم والثقافة، لمشاركتها في المنتدى الفكري الإسلامي الذي تنظمه بمناسبة شهر رمضان الكريم، في رحاب المغرب الشقيق لسماع رأيي في الإسلام والإيمان، الذي لا أدعي أنني أتيت فيه بجديد، بل اقتصر دوري على إعادة ترتيب الأولويات، ووضع النقاط على الحروف، والوصول إلى ما ينبغي من فهم دقيق وعميق لقوله تعالى «إن الدين عند الله الإسلام« آل عمران 19، وقوله تعالى: «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين« آل. عمران 85 وإنني إذ أشكر لكم حضوركم، أرى أن لابد من الإشارة بادئ ذي بدء، إلى مسلمتين أساسيتين غير قابلتين للنقاش، أنطلق منهما دائما: 1 أنني عربي مسلم، أؤمن بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. 2 أنني عربي مسلم مؤمن، بأن محمدا رسول الله الخاتم، وأن التنزيل الحكيم وحي حمله جبريل رسالة خاتمة مكملة لما سبقها من رسالات سماوية، إيذانا بانتقال الإنسان من التشخيص إلى التجريد، وبدء الاعتماد على العقل في اكتشاف أغوار الكون والوجود، بعد أن لم تعد البشرية بفضل هذا التنزيل الخاتم بحاجة إلى وحي يسن لها تشريعاتها، وصار عليها أن تشق طريقها بنفسها وتصنع معجزاتها بيديها، حتى يرث الله الأرض وما عليها. أما كل ماعدا هاتين المسلمتين، فقابل عندي للحوار والنقاش، لأنني أومن إيمانا راسخا برأي الآخر، وأقر بوجوده وبحقه في الوجود، وحقه في التعبير عن رأيه بحوار سلمي هادئ عبر المنابر المتعددة. فالحقيقة المطلقة ملك لله وحده، لا يملكها أحد غيره، أيا كان هذا الأحد، وكل من يدعي أنه يملك الحقيقة المطلقة مستبد بالضرورة، والحوار معه عقيم، لسبب بسيط، هو أن الآخر لا وجود له عنده. أبدأ بالوقوف أمام قوله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام« وأمام قوله تعالى: «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه..« وأتساءل: ما هذا الدين الذي لا يقبل الله من الخلق غيره، وما تعريفه ومواصفاته؟ المشكلة أن الأدبيات الإسلامية التراثية ومعظم المعاصرة، تعتبر أن المسلمين هم أتباع محمد، والمشكلة أن صحيح البخاري وصحيح مسلم يعتبران الإيمان إسلاما والإسلام إيمانا، فيفتتحان باب الإيمان في صحيحهما بقول النبي (ص): بني الإسلام على خمس، والمشكلة أخيرا أن معظمنا يخلط باسم الترادف بين المسلمين والمؤمنين، وبين الكافرين والمشركين والمجرمين، لكننا رأينا التنزيل الحكيم يفرق بكل دقة تليق بعظمة مؤلفه، بين هذه المصطلحات جميعا. 1 الإسلام: نقرأ قوله تعالى: «أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا . وكرها وإليه يرجعون« آل عمران 83 « إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات .. .« الأحزاب 35 «وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل . وأنا من المسلمين« يونس 90 « إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت. أن أكون من المسلمين« النمل 91 «فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين« الذاريات 36 ، 35 «وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين« . يونس 84 - ( .. قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) . النمل 44 - ( .. قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) آل . عمران 52 - ( .. فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني . مسلما وألحقني بالصالحين ) يوسف 101 - ( ..قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل واسحق إلها واحدا . ونحن له مسلمون) البقرة 133 ونلاحظ في الآيات أعلاه أمرين. الأول أن نوحا وإبراهيم ويعقوب وإسماعيل وإسحاق ويوسف وموسى وعيسى وسليمان كانوا مسلمين جميعا. والثاني أن الإسلام يرتبط بالله وحده فقط. ونفهم أن الإسلام هو الانقياد لله والتسليم غيبا بوجوده ووحدانيته وباليوم الآخر. ثم ننطلق من هذا الفهم لنفهم أمرين آخرين: - 1 أن الإسلام دين كوني، لا يقتصر على أهل الأرض فقط، بدليل قوله تعالى « وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها «. وهذا يعني أنه إذا كانت هناك مخلوقات عاقلة في مجرة من مجرات هذا الكون، فالتنزيل الحكيم يقول أنها سمعت بالله الواحد، وأن الدين عندها هو الإسلام بمفهوم وجود الله وواحديته. وهو أمر في غاية المنطقية، لأن الله سبحانه وتعالى ربنا ورب السموات والأرض ورب كل شيء في هذه السموات والأرض وما بينهما. - 2 إن نوحا وإبراهيم ويوسف ويعقوب وسليمان وموسى وعيسى كانوا مسلمين، ومع ذلك فهم لم يعاصروا محمدا (ص) ولم يشهدوا برسالته ولم يصوموا رمضان، مما يجعلنا نجزم بأن الإسلام والمسلمين لا علاقة لهم بالرسالة المحمدية ولا بغيره من الرسل والأنبياء السابقين، بل ذلك مرتبط حصرا بالله ووحدانيته. فكل من آمن بالله واليوم الآخر كان مسلما، بغض النظر عن الرسول الذي يتبعه، وعن التسمية التي نطلقها عليه. وهذا واضح في قوله تعالى: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل . صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون« البقرة 62 فهذه الآية تبين بشكل لالبس فيه أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا سينال أجره عند ربه، سواء أكان من الذين آمنوا (أتباع محمد) أو من الذين هادوا (أتباع موسى) أو من النصارى (أتباع عيسى) أو من الصابتين (وهم جميع الملل والمعتقدات التي صبأت عن هذه الرسالات الثلاث، لكن أصحابها يؤمنون بالله واليوم الآخر مهما كان اسمهم). ولمزيد من الضوء على مصطلح المسلمين كما ورد في التنزيل الحكيم نأخذ المصطلح المضاد له في التنزيل، وهو مصطلح المجرمين، الوارد في قوله . تعالى «أفنجعل المسلمين كالمجرمين *مالكم كيف تحكمون« القلم 35،36 فالمجرم هو المضاد القرآني للمسلم. وجاء من فعل جرم، والجرم هو القطع، ومن هنا سميت الكواكب أجراما سماوية لأنها منقطع بعضها عن بعض. والمجرم من قطع صلته بالله، ومن نطلق عليه بالمصطلح المعاصر اسم «الملحد«. يقول تعالى: . - «ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون« القصص 78 - «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان *فبأي آلاء ربكما تكذبان* يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام* فبأي آلاء ربكما .43- تكذبان* هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون« الرحمن 39 . - «كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يومئذ للمكذبين« المرسلات 18،19 فالمجرم الذي قطع صلته بالله، وكذب باليوم الآخر، ولا وقفة له عند الله ولا سؤال ولا جواب ولا حساب، وليس له سوى جهنم، في أعمق واد من وديانها وهو الويل. وهذا المعنى وهذه العقوبة نجدها ذاتها في قوله تعالى بسورة المدثر: «إلا أصحاب اليمين *في جنات يتساءلون *عن المجرمين* ما سلككم في سقر* قالوا لم نك من المصلين*ولم نك نطعم المسكين *وكنا نخوض مع الخائضين *وكنا نكذب بيوم الدين«. لكن أهل التفاسير التراثية وهموا أن المصلين في قوله تعالى «لم نك من المصلين« هو مقيمو الصلاة، لكن هذا الوهم يجلوه أمران: الأول أن الآية من أوائل السور المكية، حيث لم يكن التكليف بالصلاة قد نزل. والثاني أنه لا يجوز عقلا في العدل الإلهي التسوية بالعقوبة بين المكذب بوجود الله واليوم الآخر، وبين المؤمن بالله واليوم الآخر الساهي عن إقامة الصلاة، كما في قوله تعالى: «فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون« الماعون 4،5 . لأن الويل الوارد في سورة الماعون هو ذاته الوارد في سورة المدثر. ومن هنا نقطع بأن المصلين في السورتين هم قاطعو صلتهم بالله، وليسوا مقيمي الصلاة كما توهم أصحاب التفاسير. هذا كله يقودنا إلى النظر في الفرق بين صلاة الصلة، وصلاة الإقامة بالركوع والسجود والقراءة. فننظر في قوله تعالى: «إنا أعطيناك الكوثر *فصل لربك وانحر« الكوثر 1،2 . وفي قوله تعالى عن زكريا: «فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى..« آل عمران 39 . ونفهم أنه لا يمكن أن يأمر الله رسوله في آية من آيات كتابه بإقامة صلاة لم ينزل التكليف بها بعد، كما نلاحظ أن الله حين يقصد شعيرة الصلاة في تنزيله الحكيم يذكر معها ما يدل عليها كفعل الإقامة مثلا. كما نفهم أخيرا أن الصلاة في سورة الكوثر هي صلاة الصلة وليست صلاة الركوع والسجود. ولكي نفهم صلاة الصلة بشكل أدق وأعمق، ننظر في قوله تعالى: «فلا صدق ولا. صلى * ولكن كذب وتولى« القيامة 31،32 صدق يقابلها كذب. صلى - يقابلها - تولى. وننظر في قوله تعالى: «قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى« الأعلى 14،15 . وفي قوله تعالى: «أرأيت الذي ينهى *عبدا إذا صلى« العلق 9،10 . فنجد أنها كلها من صلاة الصلة، فقد وردت في أوائل آيات التنزيل، ولم تكن صلاة الركوع والسجود قد نزلت بعد. - 2 أركان الإسلام: بعد أن تعرفنا على الإسلام من واقع آيات التنزيل الحكيم، وفهمنا ما هو هذا الدين الذي لا يقبل الله من عباده غيره، وعرفنا أنه يقوم على ثلاثة دعائم هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ووجدنا ذلك كله واضحا في قوله تعالى: «ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين « فصلت 33 . ننتقل لنتساءل: ما هو هذا العمل الصالح الذي يشكل قاسما مشتركا بين جميع الأديان السماوية، والذي يستحق فاعله - أيا كان معتقده - اسم المسلم إن اقترن بالإيمان بالله واليوم الآخر؟ وما هي التعاليم العامة الشاملة التي جاءت في كل الكتب والرسالات، من نوح إلى محمد عليهما السلام، ناظمة ومبينة لهذا العمل الصالح ؟ ونجد الجواب تفصيلا في قوله تعالى «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه . من يشاء ويهدي إليه من ينيب« الشورى 13 ونفهم أن هذه التعاليم التي بدأت بنوح هي وصايا «ما وصى به نوحا« وأن هذه الوصايا تنامت وتراكمت منتقلة من إبراهيم إلى موسى وعيسى، وأنها لابد موجودة في الرسالة المحمدية الخاتم لقوله تعالى «والذي أوحينا إليك«. وننظر في التنزيل الموحى، فنجد هذه الوصايا في سورة الأنعام بقوله تعالى: « قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ... - 1 ألا تشركوا به شيئا.. - 2 وبالوالدين إحسانا.. 3 ? ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم.. -4 ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. - 5 ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.. . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون « الأنعام 151 6 ? ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده.. - 7 وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها.. - 8 وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى.. - 9 وبعهد الله أوفوا.. . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون « الأنعام 152 - 10 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله .. . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون « الأنعام 153 ونفهم أن هذه هي الوصايا العشر التي نزلت فرقانا على موسى، وأنها الصراط المستقيم الذي ندعو الله في كل صلاة أن يهدينا إليه، والذين يقعد الشيطان عنده ليحول الناس عنه، وأنها الأركان الرئيسية للإسلام، والقاسم المشترك للناس جميعا، وأنها الكلمة السواء التي دعا الرسل أقوامهم إليها بدءا من نوح وانتهاء بمحمد. فإذا نظرنا في هذا التعاليم والوصايا، وجدنا أنها تمثل فعلا المثل العليا الإنسانية، والقانون الأخلاقي الذي لا يستقيم مجتمع بدونه. وفهمنا أن الإسلام دين عام يشمل كل أهل الأرض، يقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر أولا، وبأن لنا مراده تعالى في قوله « ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين « إذ كيف يقبل الله دينا هو غير موجود فيه. ويقوم على المثل العليا والقيم الإنسانية ثانيا، هذه القيم التي يمكن الإضافة إليها ولكن لا يمكن إنقاصها أو إلغاؤها أو استبدالها، وتدخل في السلوك الإنساني الاجتماعي والأسري والاقتصادي، ومن خلالها يظهر العمل الصالح، وبدونها لا يوجد عمل صالح أو مجتمع صالح. ونفهم أخيرا أن الإسلام ليس دين الرسالة المحمدية فقط، بل دين جميع الرسالات والرسل والأنبياء، وان المسلمين ليسوا أتباع محمد (ص) حصرا، كما هو سائد اليوم، بل هم كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا والتزم بصراط المثل العليا المستقيم، هذه المثل والقيم التي تدخل ضمن فطرة الإنسان، ولا تحتاج إلى برهان عليها. ومن هنا نقول إن الإسلام دين الفطرة الإنسانية، طبقا لدلالة قوله تعالى: « فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها . لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون « الروم 30 ثمة صفتان لهذه التعاليم والقيم والمثل العليا، لابد من إيجازهما قبل ختم الحديث عن الإسلام وأركانه. الأولى أنها كل واحد متماسك لا يقبل التجزئة والتبعيض، وصراط واحد لا يقبل التقسيم، وهذا واضح في قوله تعالى «وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه«. والثانية، أنها لا تخضع مفردة أو مجموعة للوسع والاستطاعة. فليس هناك إيمان بالله على قدر الوسع، ولا امتناع عن قتل النفس ضمن الاستطاعة. فالقضية في أركان الإسلام والوصايا أشبه ما تكون بما يقال في الرياضيات: إما الصفر أو الواحد ولا توسط بينهما. نقول هذا ونحن نقرأ قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن . إلا وأنتم مسلمون« آل عمران 102 فقد ورد في كتاب "الناسخ والمنسوخ" للإمام أبي القاسم هبة الله بن سلامة ص 17 ، وفي العديد من كتب التفسير التراثية: الآية السابعة المنسوخة في سورة آل عمران هي قوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته «. وذلك أنه لما نزلت لم يعلموا تأويلها حتى سألوا رسول الله (ص) فقالوا يا رسول الله ماحق تقاته ؟ قال أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر، فشق نزولها عليهم فقالوا يا رسول الله لا نطيق، فقال النبي (ص) لا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا ولكن قولوا سمعنا وأطعنا، ونزلت بعدها «وجاهدوا في الله حق جهاده« فكان هذا أعظم من الأول ومعناها اعملوا حق عمله، وكادت عقولهم تذهل، فلما علم الله ما قد نزل بهم من هذا الأمر يسر الله ذلك وسهله ونزلت « فاتقوا الله ما استطعتم « فصارت ناسخة لما قبلها. اه . إن القول بالنسخ، وربط التقوى بالوسع والاستطاعة في مجال أركان الإسلام، من إيمان بالله واليوم الآخر والتزام بوصايا الصراط المستقيم العشر. يقودنا إلى أمر بالغ الخطورة. كأن يقول لنا أحدهم: لقد بذلت ما بوسعي كيلا أقرب الفاحشة، وجهدت استطاعتي أن أصدق بيوم الحساب فلم اقدر، فنجيبه نحن: لا بأس عليك بارك الله فيك لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وتتحول القيم والوصايا والمثل العليا إلى مهزلة، والمجتمعات الإنسانية إلى مسرحية كوميدية. لقد سبق أن أسهبت في الرد على القائلين بالنسخ، وأفردت لهم فصلا كاملا في كتابي الثاني "دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع" أقتطف منه ما يوضح القصد. -1 يقول الإمام هبة الله "فلما علم الله ما قد نزل بهم من هذا الأمر .." وكأن الله لم يكن يعلم قبل نزول الآية ما سينزل بهم، تعالى الله عما يصفون. -2 ساق الإمام هبة لله حوارا دار بين المسلمين ورسول الله بعد نزول الآية، نجده هو نفسه مكررا في خبر نسخ قوله تعالى «وإن تبدوا ما في أنفسكم أو . تخفوه يحاسبكم به الله «البقرة 284 -3 لقد اعتمد القائلون بالنسخ على آيتين بعينهما في التنزيل الحكيم هما قوله تعالى «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير« البقرة 106 وقوله تعالى «وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر، بل . أكثرهم لا يعلمون« النحل 101 فإذا نظرنا في سورة البقرة، نجد الآية 105 تقول «ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم«. ويتضح لنا في ضوء هذا السباق معنى النسخ المقصود في سياق الآية الشاهد. فالنسخ واقع في التشريع والأحكام بين الرسالات السماوية وليس في آيات الرسالة الواحدة. وإذا نظرنا في سورة النحل، نجد الآية 102 تقول «قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين«. ونفهم أن بعض المسلمين (المؤمنين بالله واليوم الآخر) من أهل الكتاب وجدوا في التنزيل الحكيم آيات وأحكاما تختلف عما في كتبهم، فاتهموا الرسول بالافتراء على الله والكذب باسمه، لكن الآية الثانية تأتي لتنبئهم بما لا يعلمه أكثرهم، من أن تبديل الأحكام وآيات التشريع بين الرسالات السماوية إنما يتم من الله لخير وتثبيت المؤمنين به والمسلمين بوجوده. -4 لقد اختلف القائلون بالنسخ بعضهم عن بعض. فمنهم من يحصر النسخ بالاستثناء كقوله تعالى «والعصر *إن الإنسان لفي خسر *إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر «. ومنهم من يوقع النسخ على الأمر والنهي وآيات الأحكام في مجال افعل ولا تفعل. ومنهم من يوقعه على آيات الإخبار المتضمنة معنى الأمر والنهي كقوله تعالى في سورة يوسف: «قال تزرعون سبع سنين دأبا« والمقصود ازرعوا. ومنهم من يطلق سلطان النسخ على كل آيات التنزيل الحكيم، كالإمام هبة الله بن سلامة وغيره. لا بل ذهب بعضهم إلى نسخ جملة من آية، وإلى نسخ آية متأخرة لم تنزل، بآية متقدمة عليها بالنزول وهذا ممنوع عقلا. -5 هناك من رأى أن النسخ يقع في التشريعات والأحكام بين الرسالات السماوية، وليس في آيات الرسالة الواحدة (وهو مانحن عليه)، فلا ناسخ ولا منسوخ في التنزيل الحكيم، لسبب بسيط جدا، هو أن القول بالنسخ يفترض وجود آيات أفضل من آيات وانفع منها، وهذا أيضا ممنوع عقلا، فدرجة الفضل والنفع والمصداقية واحدة في جميع الآيات، لصدورها كلها من منزل واحد أحد. نخلص بعد هذا كله إلى أن عدم التفريق بين الإسلام وأركانه، والإيمان وأركانه، من جهة، والقول بالنسخ من جهة أخرى هو الذي قادنا إلى عدم فهم أن حكم «اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون« يختص بحقل الإسلام، أي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأن حكم «اتقوا الله ما استطعتم« و«لا تكلف نفسا إلا وسعها« يختص بحقل الإيمان والتكاليف والشعائر الإيمانية. - 3 الإيمان: وننتقل إلى مصطلح الإيمان والمؤمنون، ونبدأ بآياته تعالى: . - «إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ..« الأحزاب 35 - «قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في . قلوبكم ..« الحجرات 14 - «يمنون عليك أن أسلموا، قل لا تمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن . هداكم للإيمان إن كنتم صادقين« الحجرات 17 - «والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من . ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم« محمد 2 - « يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله . والكتاب الذي أنزل من قبل ..« النساء 136 نلاحظ من الآيات أعلاه، أن الإسلام متقدم على الإيمان وسابق له، وأنه لا إيمان بلا إسلام. ولكن هل الإيمان نوع واحد ؟ أم أن هناك نوعين من الإيمان ؟ وهل التقوى نوع واحد ؟ أم أن ثمة أكثر من نوع ؟ قلنا في تعريف الإسلام إنه الإيمان والتسليم بالله (وجودا ووحدانية) وباليوم الآخر والانقياد لأوامره في العمل الصالح، وهذا هو الإيمان الأول الذي لا يقبل أي إيمان آخر بدونه. ونجد هذا واضحا في الآية 2 من سورة محمد: «والذين آمنوا وعملوا الصالحات --- الإيمان الأول بالله واليوم الآخر. و آمنوا بما نزل على محمد --- الإيمان الثاني بمحمد ورسالته. كما نجده واضحا في الآية 136 من سورة النساء، فالله يطلب من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر أن يؤمنوا بالرسول وبكتاب رسالته، وبالكتاب الذي أنزل قبله. الإيمان الأول - بالله واليوم الآخر - الإسلام - مسلمين. الإيمان الثاني - بالرسول - الإيمان - مؤمنين. وبما أن كل إيمان يقابله كفر، فقد جاءت الآية بعدها مباشرة لتقول «إن الذين آمنوا ثم كفروا تم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا . ليهديهم سبيلا« النساء 137 فإذا فتحنا سورة الحديد الآية 28 نقرأ فيها «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم ..«. يا أيها الذين آمنوا - الإيمان الأول / الإسلام - الكفل الأول من الرحمة. اتقوا الله - التقوى الأولى / الإسلام - حق تقاته. وآمنوا برسوله - الإيمان الثاني / الإيمان - الكفل الثاني من الرحمة. أما في سورة القصص فنقرأ «وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ، ربنا إنا كنا من قبله مسلمين *أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا..« 53 .54 كانوا مسلمين مؤمنين بالله واليوم الآخر --- الأجر في المرة الأولى. آمنوا بالتنزيل الحكيم --- الأجر في المرة الثانية. وكما رأينا من استعراض مصطلح الإسلام والمسلمين في التنزيل الحكيم أن علاقته دائما بالله تعالى، نرى من استعراض مصطلح الإيمان والمؤمنين أن له علاقة بالرسل، فكل من آمن برسول كان من أتباعه المؤمنين به. ويتضح ذلك في قوله تعالى: . - «ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا..« هود 58 . - «ولما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا..« هود 94 أما من آمن بموسى فقد سماهم التنزيل الحكيم الذين هادوا، ومن آمن بعيسى سماهم النصارى إما لأنهم نصروه وكانوا من أنصاره أو لأنهم من بلدة الناصرة، ومن آمن بمحمد سماهم المؤمنين. وذلك واضح في قوله تعالى: . - «يا أيها النبي حسبك ومن اتبعك من المؤمنين ..« الأنفال 64 . - «ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله..« المائدة 22 . - «إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ..« الحجرات 15 فإذا وقفنا أمام قوله تعالى «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله..« . البقرة 285 نفهم أن هناك إيمانا بالله وملائكته يضاف إلى إيمان ثان بالرسل والكتب، وبخاتم أولئك الرسل وبآخر هذه الكتب. -4 أركان الإيمان: قلنا في تعريف أركان الإسلام، كما استقيناه من آيات التنزيل الحكيم، إنها الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأنها مجموعة في الصراط المستقيم المتجسد في الوصايا والمثل العليا والقيم الأخلاقية، ونتابع هنا تعريف أركان الإيمان بالرسل والكتب والرسالات. يقول تعالى «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين« المائدة 93 . ونفهم أن «الذين آمنوا وعملوا الصالحات« هم المسلمون الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا، وأن التقوى الأولى في الآية هي تقوى الإسلام (حق تقاته) التي تتجلى بالالتزام بالأعمال الصالحة. ونفهم أن الذين آمنوا في «ثم اتقوا وآمنوا« هم المؤمنون الذين آمنوا بالرسول وبالكتاب المنزل عليه، وأن التقوى الثانية في الآية هي تقوى الإيمان (ما استطعتم) التي تتجلى بالالتزام بتكاليف الإيمان وأداء شعائره من صلاة وزكاة وصوم وحج. ثم نفهم أخيرا أن هناك تقوى ثالثة في قوله « ثم اتقوا وأحسنوا « هي تقوى الإحسان، الحاصلة من جمع تقوى الإيمان مع تقوى الإسلام. ثم يختم تعالى هذا كله مشيرا إلى أن الظفر بمحبة الله مرتبط بتقوى الإحسان. أيها السيدات والسادة: لقد قلت في مطلع كلمتي هذه، أنني لم آت بجديد في التمييز بين الإسلام والإيمان، بعد أن ميز الذكر الحكيم بينهما كما راينا، وكما ميز بينهما العديد من الأئمة منذ القرون الهجرية الأولى. وأن دوري اقتصر على إعادة ترتيب الأولويات، التي يمكن في الختام أن نصوغها على الشكل التالي: -الأولوية الأولى: وهي الإسلام والإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح (المثل العليا)، التي ننطلق منها ونرتكز على بنودها ووصاياها في التعامل مع كل أهل الأرض، لأن معظمهم مسلمون، ولأن هذه المثل والقيم مقبولة عندهم ولا يرفضها أحد. وعلينا ترسيخها في الدولة والمجتمع، وتوضيح أن الإيمان بالرسل وإقامة شعائر الإيمان من صلاة وزكاة وصوم وحج، لا يكفي بل ولا يكون بدون هذه المثل والقيم أو بعيدا عنها. وعلينا أيضا تعميق فهم الناس لمصطلح الإسلام والمسلمين، وتوضيح أنهم ليسوا أتباع النبي العربي محمد (ص) حصرا، بل هم جميع من أشار إليهم تعالى بقوله «لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين *بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن . فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون« البقرة 112 ، 111 وأخيرا عليها أن نؤكد في كل أدبياتنا ومجالسنا على أن العمل الصالح الحسن ركن من أركان الإسلام، وأن كل أهل الأرض من المسلمين مطالبون به، وأنه وحده معيار الجرح والتعديل وميزان التقييم بين الناس، وتوضيح أن أبواب العمل الصالح متعددة ومفتوحة على مصراعيها ليوم القيامة، وأن الإبداع والتفنن فيها مطلوب ومأجور، لأن كل ما ينفع الخلق يدخل تحت عنوانها على مدى العصور والدهور. - الأولوية الثانية: وهي أن شعائر الإيمان (الصلاة والزكاة والصوم والحج) خاصة بالمؤمنين من أتباع محمد (ص)، ولا معنى لها بعيدا عن الإسلام لله، وأنها شعائر خاصة لا تحمل الطابع العالمي، ولا الطابع السياسي، وأنها تكاليف شعائرية لا إبداع فيها ولا تفنن، بل لا يجوز أن يكون فيها، لأن الإبداع فيها بدعة، سواء بالزيادة أو بالنقص، فالإبداع في الإسلام حسن محمود، والابتداع في الإيمان قبيح مذموم. لقد اختلطت عندنا الأولويات، فأخذ ثانويها مكان هامها، واحتل ثانيها محل أولها، وتقدم فيها ما هو من الإيمان على ما هو من الإسلام، حتى صار إفطار يوم من رمضان بالفكر السائد الشائع أخطر من الغش في المواصفات، والسهو عن صلاة بوقتها أكبر من إخسار الكيل والميزان. ولعل تتبع أسباب هذا الخلط في الأولويات، وتقسيمها إلى أبوابها، من تاريخية ومذهبية وسلطوية، يفيد كثيرا في عملية إعادة ترتيب الأولويات ووضع النقاط على الحروف، لولا أن لهذا كله مجالا آخر، يقع تحت عنوان آخر، قد لا تتسع له ندوتنا هذه.