«السنة دائما حذرة، دائما متأهبة. تخشى باستمرار إما هجمة الخارج وإما مروق الداخل، فتتصرف كالسلحفاة، كلما استشعرت الخطر تقوقعت لتستمسك وتصمد». عبد الله العروي يخرج عبد الله العروي كتابه «السنة والإصلاح» (ط 2008، المركز الثقافي العربي) من رحم الأسئلة المزعجة التي تؤرق المفكر العربي، دافعة إياه إلى لبس عباءة الفيلسوف/المتكلم/المؤرخ في محاورة ذهنية فريدة تسافر في ثنايا المجال الديني، على شكل جواب مفصل على تساؤلات سيدة أجنبية مسلمة تجمع ثمان مواصفات: إنها امرأة تلقت تعليما علمانيا صرفا، لغتها الإنجليزية، تخصصها البيولوجيا البحرية، مطلقة من رجل شرقي، تعيش في محيط جد مختلط، لها ولد يقارب التاسعة وتشفق على مستقبله، والدتها سيدة أجنبية». هذه المواصفات، مع ما تحمله من مدلولات في الزمن والمكان جرت عبد الله العروي إلى إخراج عصارة تصوره الشخصي فيما يشبه حوار أديان هادئ، وعميق، ونافذ برحابة فكر أمين لمنهجه التاريخاني. يقول المؤلف، في مستهل عمله: «لا أرى نفسي فيلسوفا. من يستطيع اليوم أن يقول إنه فيلسوف؟، ولا أرى نفسي متكلما، ولا حتى مؤرخا همه الوحيد استحضار الواقعة كما وقعت في زمن معين ومكان محدد. لم أرفع أبدا راية الفلسفة، ولا الدين، ولا التاريخ، بل رفعت راية التاريخانية في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية لكثرة ما فندت وسفهت» (ص 8، السنة والإصلاح). وعبر رد الكاتب تتداخل أسئلة راهنة/شائكة: ما علاقتنا بالأديان الأخرى؟ كيف ننظر إليها؟، كيف نفهم تاريخنا في ضوء القرآن والسنة؟ أو على الأصح، كيف نقدمه للآخر/المختلف؟ كيف نقارب الإسلام اليوم في حوار مفتوح مع الجغرافيات الأخرى؟ وما العيوب المتخفية والظاهرة في فكرنا الديني؟ في نقد الفيلسوف والمتكلم: في مستهل الحوار، يدعو عبد الله العروي مراسلته إلى قراءة الكتاب العزيز (القرآن)، لكنه لا ينتظر معرفة وقعه في نفسها، ليطلعها - كما يقول - على وقعه في نفسه. أوَ ليس كل «اعتراف» اختزالا للزمن، هذا ما فعله الغزالي، وابن طفيل، وابن رشد، ومحمد عبده، وطه حسين... وآخرين. لكن في البدء، يدشن عبد الله العروي محاورته بمساءلة الفيلسوف، هذا الغامض الواضح، العميق السطحي. بنقد «عقله» التافه «عندما يضطر إلى الإتيان بمثل ملموس، من التاريخ أو من الحياة اليومية، يخلص إلى تفاهة». لقد ظل الفيلسوف مشغولا بالنقل والترجمة، فلم يسأل نفسه إلا في فترة جد متأخرة: وماذا كان قبل الإغريق، ذلك الذي لم يذكروه قط، وضمنوه فقط؟. في إشارة إلى قرابة اليونانية بالأرامية القديمة والسانسكريتية. يقول عبد الله العروي «إذا ما وجدت فلسفة إنسية حقا، عقلية متفائلة جذلة، فهي سابقة على السجل (الإشارة هنا إلى الفلسفة المدرسية السقراطية) الذي عرض علينا والذي نقل من اليونانية إلى اللاتينية والسريانية ثم إلى العربية، ومنها إلى العبرية واللاتينية مجددا، ثم من اليونانية واللاتينية إلى الفرنسية والألمانية إلخ، حتى أصبح كل من يتعاطى الفلسفة أو يتجمل بها لا ينطق إلا بالألمانية متوهما دائما أنه يتفلسف باليونانية. وعليه، فإن الأمر حسب العروي يتطلب «بكل وعي وبدون تردد، إعادة ذلك السجل إلى مجاله الزمني الأصلي، أي العهد الهلستيني المقدر بألف سنة (تقريبا من فتوحات اسكندر المقدوني ، بداية ق الرابع قبل الميلاد، إلى ظهور الإسلام ?أواسط ق 6 بعد الميلاد). ويؤكد عبد الله العروي، بشكل تقريري، بأن «الفلسفة كما نفهمها - المدرسية أو الكلاسيكية - هي دائما في مضمونها أو أسلوبها هلستينية، مرتبطة إلى الأبد بذلك العهد. فمن تفلسف اليوم، يقول المؤلف، فهو يتهلسن بالضرورة. ويعرج الكاتب على صاحب الكلام. أي المتكلم. ويحدد وظيفته (كما مارسها ويمارسها) في توضيح صورة المؤمن الحق من خلال: «تشخيص الأباعد والحكم عليهم، أي على الزنادقة والكفار والادينين» ثم يأتي «دور الأقارب، أي الزائغين من أصحابنا، الفاسقين والسفهاء الذين حادوا عن الطريق بسبب تعصب أو تأويل خاطئ أو سوء صحبة». مقابل هؤلاء وأولئك تتضح صورة المؤمن الحق، (عمدة الجماعة وصاحب الوعد الصادق) الذي تتألف من أمثاله الفرقة الناجية الموعودة بالثواب والمغفرة». وفي هذا يلجأ المتكلم إلى «عقل من نوع خاص»، وهو عرَض عند المتكلم، لا جوهر كما عند الفيلسوف. فمجال العقل واسع، كما يلاحظ عبد الله العروي، إلى أنه أضيق من طموح المتكلم. ومع ذلك يخلص العروي إلى الإقرار بأنه (ولو بصيغة افتراضية) إذا صح أن كلا من الفلسفة وعلم الكلام ينتهي إلى نهاية بئيسة أي الانحلال في مسائل، وإذا كان الاثنان يقومان بتركيب الأجزاء، ويتوصلان إلى الأشكال المركبة نفسها تحت أسماء مختلفة، ألا يحق لنا أن نستنتج أن الأمر ما كان ليحصل لولا وجود تشابه ومماثلة على مستوى ما؟ تعادل ومماثلة بين المفاهيم، بين التصورات، بين المواقف. يخلص المؤلف إلى النتيجة الآتية: الفيلسوف فيلسوف لا بفكره أو موقفه أو أسلوبه فقط بل بالمجتمع الذي يحيط به والزمن الذي يعيش فيه: والأمر صحيح بالنسبة للمتكلم. بينهما أكثر من تماثل إذ دورهما واحد. سؤال العلم:؟ أمام التماثل المفترض للفلسفة والكلام أي موقع يحتل العلم التجريبي؟. هو هل مؤهل للكشف عن البدايات والنهايات، عن الحق المطلق؟، علما بأن التجريب صناعة وأنه مرتبط بمجال غير مجال الأفكار؟. يذكر الكاتب بأن العلم التجريبي جاء بعد الفلسفة والثيولوجيا على مستوى النسق التاريخي. وإلى حد اليوم لم يجب العلمي بصفة قطعية على الأسئلة التي شغلت بال الفيلسوف والمتكلم، رغم تراكم انتصاراته في الميدان التطبيقي. ويجمل عبد الله العروي دور العالم التجريبي قائلا: «دوره المتميز، الذي لا يشاركه فيه غيره، هو على مستوى المبدأ. إذ يذكرنا باستمرار النسق، بالسابق واللاحق. لا يفتأ ينبهنا، ويوقظنا من سباتنا المريح. يفعل ذلك دون أن يتعسف في فهمه وعرضه لسجل الفلسفة والمتكلمين. يقول للجميع: لا تنسوا توالي الأشياء، ترتيبها، تطورها». وبهذا يسحب العلم بساط المشروعية عن الفيلسوف والمتكلم فيما يقولان عن النواميس، والشرائع، عن الكونيات والإنسانيات. ويطرح المؤلف سؤاله المثير: هل أفرغ العلم كل ما في جعبته؟. هل قال كلمته الأخيرة؟. لا يتردد في الجواب: لا بالتأكيد. ويوم ينجح في فك لغز الذاكرة بمعناها العام عندئذ يضيق الخناق على الفلاسفة والمتكلمين. فيضطرون إلى الكلام بلسانه. سؤال الذاكرة: لكل ذاكرة نقطة بدء. وعندما يتذكر الإنسان المتوسطي سوابق العهد الهلستيني الذي لا يعلم عنه إلا شذرات متفرقة، فإنه ليس في مقدوره أن يروي تفاصيل ما مر من بطولات ومن مآس. فينوب المؤلف عنه لإرجاع الذاكرة إلى البداية. يسترد الماضي، يسجل، يصف، يختزل... ويقول: «كل شيء يبدأ مع إبراهيم، وكل شرح ينتهي إليه. قصته مؤثرة، سيما فينا أبناء إسماعيل». «قصة إبراهيم ذات ظهور وبطون، حمالة لتأويلات عدة» فيضعها في سياقها التاريخي حيث تأخذ دلالتها العميقة والمتسقة. ويطرح أسئلته للمؤرخ: «هل قصة الخليل خاصة بالجنس السامي، أو بأحرى بالفرع العبراني؟ ما هي العوامل التي جعلتها تميز شعبا بعينه وتحافظ مع ذلك على حالة إنسانية عامة؟. يقدم عبد الله العروي بعض الإجابات عما وقع. فيقول: «التجربة حصلت، في زمن ما، وموضع ما. لا شك في ذلك، إذ نخبر عنها الآن ونتحاور في شأنها. ولا شك أن أهل الكتاب عرفوها وتولوها. لكن من الواضح أيضا أن أقواما كثيرة جهلوها». وبما أن إبراهيم هو أب الأمم، فإنه يوضع حكما خارج النسق. تجربته فريدة. لا هو يهودي ولا هو نصراني. إبراهيم هو الخليل وكفى. يجدد محمد تجربة إبراهيم، في براءتها الأولى، ولا يحيد عنها. وإذا كان من عبرة تقدم في هذا السياق، وهي أن خطر التجسيم قائم باستمرار، ومعه العودة إلى عبادة الأصنام، منبع الشرك. وعلى غرار إبراهيم، وعلى أثره يختزل الإسلام الماضي بهدف نفيه، وتجاوزه مع الحفاظ عليه. والإسلام، بمفهوم العروي، يعني أن الواحد لا يحضر، لا ينكشف، لا يتجسد لا في الطبيعة ولا في شعب مميز. بل في كلمة تسمع، تقرأ، تتلى. والإسلام بما أنه آخر القائمة، يتحمل التطور كله ويفخر به. يعتز أنه وارث، متمم، خاتم الرسالات. يعترف أن هناك يهودية تاريخية (قديمة)، سابقة على الإسلام مستقلة عنه، وهناك يهودية مجردة يتحملها ولا ينفيها، كما أن هناك نصرانية (بمختلف فرقها) تاريخية حاربها باللسان وبالقلم وبالسيف. ومن منظور تاريخي، وبالعودة إلى الحقبة الهلستينية، وبالرغم من اختلاف المناهج والدراسات يمكن الوصول إلى نتائج متساوية في وضوحها. تتلخص - حسب العروي- في تلك القفزة الهائلة التي قادت الإنسانية من العبارة الشفوية إلى التدوين، وهو ما يسمى «فجر التاريخ». والمقصود هنا، هو النص القرآني الذي جسد الكلمة. ولا نعني بالنص كتابة جامدة، نعني به كتابة مقروءة بقول العروي. وفي حوار مفتوح مع الكتابين الآخرين، التوراة والإنجيل، يُذكر العروي بما انتهى إليه المتكلمون بقولهم لخصومهم: «ما بأيديكم ليس كلام الله الواحد الأحد، فهو في أحسن الأحوال مجرد صدى. النسخة التي عندكم مهذارة، مكرارة، متناقضة، وأحيانا سخيفة خرقاء...». ويضيف العروي - على لسان المتكلمين- «الكتاب الذي في حوزتكم، عدا أنه ليس كلام الواحد الأحد، لا يمكن أن يكون حتى «شهادة» إبراهيم، ولا ألواح موسى. ويحيل المؤلف مخاطبته - مرة أخرى- على السياق التاريخي الذي جاءت فيه رسالة الإسلام: كانت الديمقراطية اليونانية قد انهارت، والجمهورية الرومانية قد انتحرت. وعند ظهور الإسلام كان الشرق قد حسم لصالحه المنافسة الروحية بينه وبين الغرب. وفوق هذا وذاك، فهذا الشرق هو موطن الثروة، والذوق، والحذق، والبراعة. في نقد السنة: يجمل عبد الله العروي منطلقات الموقف السني التقليدي في اعتبارات أربع. أولاها أن القرآن هو كلام الله الذي يدلنا وحده على ما يريد الله منا ولنا، وثانيها اعتبار النبي وحده هو الترجمان بيننا وبين الله. وثالثها اعتبار الصحابة وحدهم المؤهلون لإبلاغنا التوضيحات. وأخيرا أن العرب وحدهم، هم الذين يدركون تلقائيا معنى الكلمات والعبارات والتشبيهات الواردة في القرآن، وفي الحديث، وفي شهادة الصحابة (ص133). وهذه الاعتبارات كانت لها انعكاسات بالفعل في كل مجالات الفكر، والمجتمع والدولة. لقد تراجع الرأي لصالح الحديث، وتراجع العقل لصالح النقل، وتراجع الباطن لصالح الظاهر. وهكذا - يقول عبد الله العروي- «نرى حقولا معرفية واسعة تهمل تدريجيا الواحد بعد الآخر أثناء مسيرة تراجعية دامت سبعة قرون. ولا يفوت عبد الله العروي أن ينتقد تصور الفكر السني للعلم. إذ على الرغم من أن كتب السنة تخصص فصولا طويلة للعلم، إلا أن الغرض منها هو حصره فيما هو شرعي (النافع في الدنيا والآخرة). من هذا المنظور، فإن العلم كالإيمان «لا يزيد ولا ينقص. كامل، ثابت، جاهز، موهوب». المحمود منه هو ما اكتسب بطرق شرعية. والمذموم منه (حتى وإن كان صحيحا) فهو ما اكتسب بغير الطرق الشرعية. ويتوقف المؤلف عند المؤسسات التعليمية التي تلقن المعارف حسب تقسيمين: معارف ضرورية مثل القرآن والحديث والفقه، ومساعدة مثل اللغة والنحو والمعاني والأنساب والأخبار. وكلها تخضع لطريقة محددة في التلقين تقوم على الرؤية، والحفظ، والإسناد. وإذا ما أضيفت لهذه المعارف علوم مستحدثة - حسب بعض الفترات - (يشير هنا الكاتب لحكم الفاطميين والموحدين وفي بداية أمر العباسيين والمغول والعثمانيين)، فإنها تخضع هي الأخرى لمنهج الرواية الذي يطلب من التلميذ أن يسمع، ويحفظ ويروي. ونتيجة هذا المنهج الذي يعتمد الاتباع ونبذ الابتداع وهو أنه يؤدي إلى تكريس ثقافة السمع واللسان في تعارض مع ثقافة العين واليد (الملاحظة والتجريب). ويقوم على قاعدة صارمة: كل مخالف معدوم. وهكذا يتعثر التاريخ، حيث يستهلك ما تبقى له من قوة في ممانعة التغير حتى يحافظ على الوضع المتعثر. والنتيجة أنه في نهاية القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) لم يعد يوجد عندنا فكر ليس له تقليد خاص به يخضع له خضوعا تاما. لكل جماعة شيخ، ولكل مفكر مرشد وإمام. فلم يعد مجال لأية مناظرة صريحة متعمقة ومفيدة. فلم يعد من علم إلا علم الظاهر (المعنى البسيط، السهل،الواضح البديهي). ولا مجال لعلم الكلام، ولأي فكر سوى التفنن في عرض ما هو جلي. أما الباطن (الحق في ذاته) فلا فائدة في التطلع إليه. ويحيل هنا عبد الله العروي إلى ابن رشد الذي حاول إدراك الحقيقة باعتماد أسلوبين. يوجزهما الكاتب في كون الحقيقة تتطلب أسلوبين. أحدهما موجه للعامة. يقوم على الترغيب والترهيب، ويعتمد الشعور والخيال. وهو أسلوب خطابي. وآخر برهاني يعتمد العقل، وموجه للخاصة. وفي معرض نقده للفكر السني التقليدي يرجع عبد الله العروي عملية التجسيم التي أصابت الفكر الديني إلى انحصار المد العربي، وتعرض دار الإسلام إلى الانكماش والتمزق، بفقدان العرب القيادة العسكرية والسياسية، والإمامة الفكرية، (يسميها الكاتب فقدان المبادرة التاريخية) لصالح الأعاجم، والفرس، والترك، والبربر، والأكراد. مع تسجيله لمفارقة قوية. وهي أن العرب» بعد نهاية القرن الثالث الهجري (10 م)، شعب النبي، المفروض فيهم أنهم يدركون بداهة ودون تكلف ما تعنيه ألفاظ الرسالة، قد فقدوا المبادرة التاريخية». ولفهم وقائع ومجريات هذا الانحصار، يدعونا المؤلف إلى التخلص من الأخبار الهزيلة التي وصلتنا، وطرق مجددا باب التاريخانية. ولا يفوته أن يسجل أن المذهب الظاهري، وهو إيديولوجية السنة (بالمعنى المعاصر) عندما فقدت نخبته سيطرتها على السلطة، حافظت على المذهب وأبدته. ولكي تظهر السنة أنها تمثل الجماعة (الغالبية الموحدة) فإنها تبالغ - حسب تعبير الكاتب - في تشرذم الخصوم. فجعلت من كل مقالة، من كل رأي فرقة مستقلة تنعتها بالكفر، والمروق، والفسق، والزيغ...، وبالمقابل، يدعو الكاتب إلى خلخلة الثنائيات، التي قالت السنة إنها قاحلة، والعودة إلى حقولها المعرفية بمساءلة مفاهيم بعينها من قبيل الحق مقابل الباطل/والإيمان مقابل الكفر/والسنة مقابل البدعة/والروح مقابل المادة... إلخ. لقد كان للوضع المشار إليه، انعكاسات عدة. فعلى المستوى السياسي يميل مذهب السنة إلى تفضيل حكم المستبد العادل. وعلى المستوى الاجتماعي لا يتصور السني مجتمعا بلا طبقات. ويقرر أن الديمقراطية هي عين الفوضى، والمساواة فتنة مقنعة. وبالتالي فالتمييز أمر مشروع على مستوى المجتمع: الحاكم-المحكوم/السيد-المولى/الحر-المملوك/ذكر-أنثى/العاقل-السفيه/المؤمن-الكافر... ولا يفوت العروي أن ينتقد المدرسة/المؤسسة التعليمية التي تخضع هي أيضا- للتصور السني بإنتاجها لنخب عسكرية وسياسية خاصة، تشخص الترتيب المفترض في المجتمع. فلا تؤهل إلى الأخيار حسب تصورها للمواصفات التي تتبناها من أجل توزيع الجاه والثروة والسلطة. وفي تشبيه بليغ يقول العروي: «السنة دائما حذرة، دائما متأهبة. تخشى باستمرار إما هجمة الخارج وإما مروق الداخل، فتتصرف كالسلحفاة، كلما استشعرت الخطر تقوقعت لتستمسك وتصمد». لكل سُنة سُنة مضادة: إذا كان الزمن هو منبع كل المفارقات، فإن المذهب السني يستمر في الزمن حاملا معه، في كل لحظة، أثار هذه التناقضات. لكن السنة ، على ما يبدو لا تعترف بالحدث، لا تقول به، أو لا تعيه على وجه الأصح. فإذا كانت الفلسفة تفكير في الزمن، فإن السنة تسفه علم الكلام، كما سفهت الفلسفة من قبل، بتهمة الفضول والوقاحة. وهي بذلك (أي السنة) معرضة للتلاشي، لأنها «اختزال مستمر». اختزال الوحي في الشرع، ثم اختزال الشرع في عمل مجموعة محدودة من الأفراد. فتأتي القاعدة الصارمة: الطريق السوي هو تقليد هذه الجماعة، في الكبيرة والصغيرة، والمداومة على التقليد... تصل السنة إلى هذه الخلاصة مرغمة، تجنبا للمفارقات... إلى أن هذا الموقف، إن كان مبررا داخل المجتمع الإسلامي، لا قدرة له على الصمود في وجه التحديات الخارجية..»