هل يناسب عصرنا الحاضر ؟ ترتفع منذ عدة سنوات أصوات عالية في أنحاء العالم الإسلامي، مطالبة بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية بجانبها العقابي. السؤال: هل توافرت في مجتمعاتنا القائمة شروط تطبيق الحدود؟ وما هذه الشروط ؟ أصدرت منظمة العفو الدولية نداء إلى الدول الإسلامية التي طبقت نظام العقوبات الإسلامية في بلادها تشجب فيه هذا النظام وتطالب بإيقافه، كما طالبت أطباء تلك البلاد بالامتناع عن المشاركة في عمليات بتر الأيدي أو الأرجل، لأن ذلك مخالف للقسم الطبي الذي يقسمونه. وإلى جانب ذلك فهناك كثير من المفكرين في أوربا، وأيضا هناك مفكرون في العالم الإسلامي، يرون أن نظام العقوبات في الإسلام بالغ القسوة والشدة، وأنه غير عملي لعصرنا الحاضر. ويقول هؤلاء: إن العالم المتحضر يتجه اليوم إلى إلغاء أي نوع من العقوبات البدنية، بل هناك دول تمنع حتى الضرب في السجون، وأن العلم الحديث ينظر إلى اللص على أنه أحد شخصين: الأول محتاج واضطرته الحاجة إلى السرقة، وهذا النوع في الواقع ضحية إهمال المجتمع، وعلاجه أن يتعلم حرفة أو صنعة في مدة سجنه تعينه بعد قضاء عقوبته. والثاني منحرف لأسباب نفسية ومرضية أهمها تعاطي السكر والمخدرات، وهذا يحتاج إلى التوعية والعلاج النفسي والطبي. وبهذا يمكن أن يتحول اللص إلى مواطن صالح وتغفر له أخطاؤه. أما إذا قطعنا يده فإن في ذلك القضاء التام على كل أمل له في الصلاح والحياة الشريفة. ويهمنا هنا أن نناقش هذه الآراء بمنطق هادئ ! وبالحجة العلمية والعملية. الواقع أن أصحاب هذا الاعتراض معهم كل العذر، لأنهم ينظرون إلى هذا التطبيق السيء المشين الذي تنفذ به بعض الدول الإسلامية حدود الله. فبعض الحكام كان يستغل الدين لأغراضه السياسية ولكسب أصوات بعض الأحزاب. وليس إرضاء لوجه الله تعالى. فأصدر بين يوم وليلة قوانين غير مدروسة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأخذ يصدر أحكاما بالرجم والجلد وقطع الأيدي والأرجل على فقراء الأمة والمستضعفين الذين تضطرهم الحاجة إلى الانحراف. وما أن انتهت فترة حكمه حتى كان عدد المعوقين في الأمة عدة مئات. وهذا قطعا ضد الإسلام ولا يرضى به الله ورسوله. لكي نفهم روح الإسلام وحكمته في الحدود، فلابد أن نعلم شروط الحد. فالحدود هي آخر ما يطبق من نظام الحكم في الإسلام، ولا يجوز البداية بها. فلابد من إقامة مجتمع إسلامي مثالي أولا، بحيث يكون متكاملا من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما أن تطبق الحدود ويهمل كل ما سوى ذلك من أركان الإسلام ونظامه، فمعناه هدم للإسلام وإساءة بالغة إليه، وفشل وخزي في الدنيا والآخرة، وذلك مصداقا لقوله تعالى: "أَفتؤْمِنونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكفرُونَ ببَعْضٍ فمَا جَزَاءُ مَنْ يَفعلُ ذَلِكَ مِنْكمْ إِلا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ". [البقرة : 85] والحكمة في ذلك أن نظام الحكم في الإسلام أشبه بالميزان الدقيق الحساس، ففي إحدى كفتيه توضع الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها كل فرد في الرعية، وفي الكفة الأخرى توضع الواجبات والحدود التي تنطبق على أي فرد منهم. وبقدر ما نجد الإسلام شديد السخاء فيما يعطيه من حقوق وامتيازات لأبنائه، فهو بالتالي يطلب منهم أعظم التضحيات وأقصى الجهد، ويوقع على المذنب منهم أشد العقاب. ومن قوانين الطبيعة والعلم أنه لا يمكن أبدا لأي ميزان أن يعمل بكفة واحدة. وإلا اختل وتحطم. فلا يمكن أن تسقط جانب الحقوق والامتيازات، ثم تطالب الناس بالجهاد، أو تطبق على المنحرف حدود الشريعة، فهذا بلاشك فيه ظلم وإجحاف. ومن هنا نجد أن الإسلام يرفض بكل شدة أن يطبق منه جزء ويترك جزء آخر، ويعد من يفعل ذلك بالويل والعذاب. وقد وضع الإسلام شروطا لإقامة المجتمع الإسلامي تسبق تطبيق العقوبات وهذه الشروط هي: أولا: أن يطبق ركن الشورى فلا يجوز للحاكم أن ينفذ النظام الذي يحاسب الناس ويسقط أو يهمل النظام الذي يحاسبه شخصيا إذا أهمل في إيصال الحقوق إلى الرعية. فالحكم السليم هو الصمام الأول لمنع كل أنواع الجرائم والانحرافات. ويحضرنا هنا قول عمر بن الخطاب حين جمع الولاة وسأل أحدهم: "ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟". فقال الوالي: "أقطع يده". فرده عمر قائلا: "إذا فلتعلم أنه إذا جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك يا هذا !.. إن الله تعالى قد كرمنا بهذه الأيدي لتعمل. فإذا لم تجد لها في الطاعة عملا التمست في المعصية أعمالا. فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية". ثم وجه الخطاب إلى سائر الولاة قائلا: "إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن أعطيناهم هذه النعمة تقاضيناهم شاكرين". وهذا هو المفهوم الصحيح الحق لشريعة الله وحدوده. الشرط الثاني: هو إصلاح الاقتصاد ويدخل في ذلك رفع مستوى الدخل وإيجاد عمل لكل فرد في الرعية، بحيث نصل بالمجتمع إلى حد الكفاية، أو ما يفضله الفقهاء (بحد الغنى)، ومعناه أن يكون لكل فرد مسكن يحميه من البرد والمطر ومن الشمس والحر، وأن تكون له الكفاية في مأكله وملبسه وعلاجه، فلا يضطر أحد إلى السرقة بسبب الفقر والجوع، ولا يضطر شاب إلى الزنا بسبب عدم مقدرته على الزواج، ولا تضطر امرأة إلى الانحراف لكي تعول نفسها وأسرتها. وفي عام الرمادة أوقف عمر الحدود، لأن أحد الشروط الرئيسية لم يكن متوافرا – وهو حد الكفاية – بسبب ظهور المجاعة. والعالم الإسلامي اليوم يمر بما يشبه عام الرمادة، ولكنها مجاعة لم تنجم عن القحط وقلة الموارد، بل بسبب سوء الإدارة والتسيب والانحراف في أجهزة الحكم. وبسبب سوء توزيع الثروة والدخل وإهمال المشروعات النافعة للأمة. الشرط الثالث: هو إقامة المجتمع الإسلامي النظيف المثالي الخالي من كل مسببات الانحراف كالخمور والمخدرات وبؤر الفساد والفتنة والإثارة الجنسية، بحيث لا يضطر أحد إلى السكر أو المخدرات لأنه لن يجدها في المجتمع كله. ولن يجد من يتاجر في هذه السموم أو يغريه بها. رابعا: التربية الدينية منذ الصغر فهي التي تعصم الشباب من الزلل: شغل أوقات الفراغ بالجهاد في سبيل الله عن طريق عمل الخير وخدمة المجتمع إلى جانب التربية الرياضية والفنية. خلاصة القول ان نظام العقوبات في الإسلام لا يجوز تطبيقه إلا في مجتمع إسلامي مثالي متكامل. وهذا هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمضى ثلاثة وعشرين عاما يبني المجتمع الإسلامي السليم. ثم لم يبدأ في تطبيق العقوبات إلا في أواخر دعوته وحكمه وبعد أن أقام هذا المجتمع. والآن قد يقول قائل: إن معنى ذلك أنه إذا قام حكم إسلامي في أي دولة فلن يستطيع تطبيق العقوبات إلا بعد عمر طويل حتى يحقق كل هذه الإصلاحات ونقول لهؤلاء: علام الاستعجال ؟ لقد عاش العالم الإسلامي مئات السنين والعقوبات موقوفة، فماذا يضيرنا أن نوقفها سنوات أخرى إلى أن يتم إصلاح المجتمع، ونعمل بهمة في هذه الأثناء على إنجاز هذه الإصلاحات، فهذا الانتظار خير ألف مرة من ظلم مسلم واحد، أو قطع طرف من جسمه في جرم اضطرته ظروف المجتمع إلى ارتكابه. ومع ذلك، فلنا هنا استثناء من هذه القاعدة يجب أن يوضع في الحسبان، وهي الجرائم العامة التي تتعلق بالأمن العام للرعية وسلامة المجتمع. فمثل هذه الجرائم يجب أن تطبق عليها الحدود الإسلامية فورا ودون تردد أو انتظار، وذلك لأن مرتكبيها ليس لهم أي عذر أو حاجة أو اضطرار لارتكابها، إنما هم قوم استهانوا بالقوانين الوضعية، ووجدوا فيها من اللين والضعف ما يشجعهم على تحدي أمن المجتمع: ومن أهم هذه الجرائم هتك العرض بالسلاح، وتجارة المخدرات والرشوة واختلاس الأموال العامة. ومن كثرة ما روع هؤلاء المجرمون العتاة أمن المجتمع وخربوا اقتصاده، أصبح المجتمع الإسلامي كله يطالب بتطبيق الحدود الإسلامية عليهم، فهي وحدها الكفيلة بردعهم، مع العلم أن عقوبة قطع اليد لم تنفذ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غير مرة واحدة. وعهد الخلفاء الراشدين جميعهم لم يشهد سوى بضع مرات تعد على الأصابع مما يدل على أن العقوبة إذا طبقت في مناخ إسلامي، فلن تكون هناك حادثة واحدة نحتاج إلى استعمالها. ويحضرنا هنا كمثل بسيط عندما أصدر الاتحاد السوفياتي قرارا بعقوبة الإعدام للمرتشي، وعندما تقابل الزعيم الأمريكي بالزعيم السوفيتي قال له : "إن هذه العقوبة القاسية تدل على أن الحياة الإنسانية عندكم لا قيمة لها"، فقال له الزعيم السوفيتي: "حقيقة إنها عقوبة قاسية، ولكن منذ أصدرناها لم تحدث لدينا حادثة رشوة واحدة ولم نحتج إلى تطبيقها". *.*--*.*--*.*-- والله الموفق 2014-12-28 محمد الشودري