يرى الدكتور أحمد الريسوني أن الجدل الذي لا ينقطع حول تطبيق الشريعة في جزء منه يعود إلى ما تعيشه النخب الثقافية والسياسية من انقسام بين تيارين كبيرين يتجاذبان الساحة الثقافية والسياسية، يمكن وصفهما حسب تعبيره بالتيار الديني والتيار المدني، لكنه يؤكد أن جزءاً من هذا الصراع يرجع إلى الالتباس الحاصل في مفهوم الشريعة وتطبيقها. وبالتالي فإن الفقيه الأصولي يلفت إلى أن هناك مفاهيم وتصورات قاصرة أو مشوهة لمفهوم الشريعة أو لمفهوم تطبيق الشريعة، وهو ما تترتب عنه مشاكل وصراعات عدة، يمكن تلافيها أو تقليصها بالمعرفة الصحيحة للشريعة ومضامينها. ما رأيكم في الجدل الذي لا ينقطع حول تطبيق الشريعة، خاصة بعد إعلان السودان (الشمالي) عقب انفصال الجنوب عزمه تطبيق الشريعة؟ بداية أؤكد أن القضية في جزء منها تعود إلى ما تعيشه النخب الثقافية والسياسية من انقسام إلى تيارين كبيرين، يتجاذبان الساحة الثقافية والسياسية، يمكن وصفهما بالتيار الديني، والتيار العلماني الحداثي، ولكن جزءاً من هذا الصراع يرجع في الأصل إلى الالتباس الحاصل في مفهوم الشريعة وتطبيقها. وسواء عند المتبنين لتطبيق الشريعة المدافعين عنه، أو عند المناوئين لهذا الهدف الخائفين منه، فإن هناك مفاهيم وتصورات قاصرة أو مشوهة لمفهوم الشريعة ولتطبيقها.. وهو ما تترتب عليه مشاكل وصراعات عدة، يمكن تلافيها أو تقليصها بالمعرفة الصحيحة للشريعة ومضامينها. فك الالتباس لكن .. يمكن فهم هذا الالتباس عند الخائفين من تطبيق الشريعة، لكن ماذا تقصد بالالتباس عند المطالبين بتطبيقها؟ أنا أتصور أن الالتباس عند المطالبين بتطبيق الشريعة أشد خطورة من حيث تصور البعض حصر الشريعة أو انحصارها في الجانب السياسي الرسمي، وفي الحكم القضائي بالحدود، (من رجم وقطع وجلد إلى آخره..) وهذا هو ما ولد بالمقابل تصورات لدى آخرين تصوروا الشريعة وتطبيقها على طريقتهم، فقالوا بناء على ذلك: إن الشريعة لم تطبق إلا في العهد النبوي، ونسبيا في عهد الخلفاء الراشدين، وهذا معناه في نظرهم أن هذه الشريعة غير قابلة للتطبيق في هذا الزمان، لمثاليتها، أو لقصورها، أو لغير ذلك من الأسباب. المهم أن تطبيقها كما يرون توقف في وقت مبكر، ولم يصمد أمام التطورات والتغيرات إلا زمنا يسيرا، فكيف يراد تطبيقها اليوم، بعد أربعة عشر قرنا من توقف تطبيقها؟! وبسبب هذا أيضا، رأى آخرون أن الشريعة تتسم بالبدائية والتخلف والهمجية، فكرهوها وكرهوا من يريد إحياءها؛ فهي فيما سمعوا وفهموا عبارة عن قصاص وحدود، وسيوف ودماء، فالعودة إلى الشريعة عودة إلى الوحشية والهمجية، ونحن في زمن الحضارة والحداثة وحقوق الإنسان! وبسبب ذلك أيضا، ظهر لبعض المتدينين والدعاة، أن جميع الحكومات والمجتمعات الإسلامية ''سابقا'' قد نبذت اليوم شريعة الله وعطلتها وتنكرت لها، وقد غالى بعضهم فتحدثوا عن ردة واسعة قد عمت معظم البلدان الإسلامية، شعوبا وحكومات.. ومن هنا ارتفعت درجة الكراهية والرفض والتكفير... وهو ما نجمت عنه تداعيات وردود فعل خطيرة، ما زلنا نعيش آثارها. حديثكم يعني أن ثمة مفهوما آخر للشريعة ينبغي أن يكون حاضرا وقت الحديث عن التطبيق.. أليس كذلك؟ بلى.. فالشريعة حتى بالعودة إلى أصلها اللغوي في القرآن الكريم يشمل معناها كل ما أنزله الله لعباده، من معتقدات وعبادات، وأخلاق وآداب، وأحكام عادات ومعاملات.. وبهذا المعنى الواسع الجامع للشريعة ذخر التراث الإسلامي بمؤلفات عديدة تعضد هذا المعنى وترسخه في الذهنية الإسلامية.. فمثلا ألف الإمام أبو بكر الآجري كتابه الذي أسماه (الشريعة)، مع أن أكثر ما فيه مسائل عقدية وتربوية، وبعده ألف المفكر الفيلسوف الراغب الأصفهاني كتابه الشهير (الذريعة إلى مكارم الشريعة)، وهو كتاب في فلسفة الأخلاق والتربية.. وهذا يعني شمول اللفظة لمعان أخرى غير معناها المضيق لدى البعض! بين الفقه والشريعة لكن الاستعمال الشائع حتى على مستوى التخصص العلمي هو استعمالها للدلالة على الأحكام العملية في الدين، وهذا ما يجعلها أكثر التصاقا بمفهوم الجماهير عنها.. أليس كذلك؟ هذا صحيح.. لكن الاستعمال الاصطلاحي عادة ما يضيق من مدلولات الألفاظ، ويقصُرُها على بعض مدلولاتها اللغوية، ومع ذلك فإن اللفظ ظل محتفظا، في هذه الدلالة بجميع المجالات التشريعية العملية الواردة في الدين، ومنها العبادات الظاهرة والباطنة، والأخلاق والآداب.. فالشريعة حتى بهذا المعنى الاصطلاحي تشمل الدين كله عدا العقيدة، ومن هنا جاء استعمال عبارة ''الإسلام عقيدة وشريعة'' على أساس أن العقيدة غير الشريعة. بل ومنذ قرون طويلة، أصبح هذا المعنى هو الأكثر شيوعا واستعمالا لدى العلماء، ولكنه لم يُلغ المعنى الأول والأعم للشريعة والشرع، كما أنه ظل واسعا وشاملا لكل المجالات التشريعية العامة والخاصة.. فمجال الشريعة هنا أصبح تقريبا هو نفسه مجال ''الفقه''، بمعناه الاصطلاحي المعروف، ويبقى الفرق بينهما هو أن الشريعة تطلق على ما هو منزل ومنصوص وصريح، من الأحكام ومن القواعد الشرعية، بينما الفقه أو علم الفقه يراد به خاصة ما هو مستنبط ومجتهَد فيه. بل إنني أزيدك من الشعر بيتا حين أقول لك: إن استعمال اسم الشريعة قد اتجه مؤخرا نحو مزيد من التخصيص والتقليص، وخاصة حينما بدأ التعبير بلفظ ''التشريع الإسلامي'' على غرار معنى ''التشريع'' بمفهومه القانوني. وهكذا بدأ لفظ الشريعة والتشريع الإسلامي، يطلقان على التشريعات المنظمة للحياة العامة، وهو بالمناسبة اصطلاح العلامة ابن عاشور.. إذا كان الحال كذلك.. فما برأيك أسباب هذا الالتباس في فهم المصطلح ومقصوده، وبالتالي الإحساس دوما بالحاجة إلى التعامل معه بهذا الاختزال؟ هذا سؤال مهم جدا؛ لأنه وبعد أن أصبح معنى الشريعة مماثلا أو مقابلا لمعنى القانون، بدأت المقابلة والمقارنة بين (الشريعة الإسلامية) و(القوانين الوضعية).. وهذا ما نتجت عنه الحساسية التي تتحدث عنها.. وقد تعززت هذه المقابلة وتحولت إلى خصومة ومنافسة، بسبب ما تعرضت له أحكام الشريعة المدنية والجنائية من إزاحة قسرية، لفائدة القوانين المستوردة من الغرب، وهذا بالمناسبة ما جعل واحدا بحجم العلامة الأستاذ علال الفاسي يتحدث عن صراع بين (الشريعة الإسلامية) و(الشريعة الاستعمارية)، وذلك في كتابه القيم (دفاع عن الشريعة). وفي خضم ما أسميته عملية ''التطهير التشريعي''، التي سهرت عليها وما زالت الدول الاستعمارية، ارتفعت درجة الحساسية ضد هذا المسار، بل أصبحت هذه الحساسية جزءا من الصحوة الإسلامية ومحركا من محركاتها، وهنا رُفع شعار ''تطبيق الشريعة''، الذي اتجه أساسا إلى الشريعة بأضيق معانيها، أي الشريعة الممثلة في قوانين الدولة ومحاكمها، باعتبار أن هذا المعنى هو ''محل النزاع وميدان الصراع''، وبما أن أول وأبرز ضحايا ''التطهير التشريعي''، كان هو المجال الجنائي، فإن رد الفعل قد تركز على هذا المجال وعلى تضخيمه ومحاولة إعادة الاعتبار له.. وهكذا بدأت عملية اختزال لمفهوم الشريعة وتطبيقها، في تطبيق العقوبات الجنائية الإسلامية، وأصبحت ''الحدود الشرعية'' رمزاً لتطبيق الشريعة أو رمزا لتعطيلها.. وهذا يؤكد على ضرورة أن توضع المعاني المضيقة لمفهوم الشريعة في سياقها ومجالها، وينبغي ألا تحجبنا أو تحجب عنا المعنى الأصلي الرحب والكامل للشريعة... شمول المصطلح وما المعنى الكامل للشريعة على حد تعبيركم، ثم ما تداعيات اتساعه بالصورة التي تتحدث عنها؟ ربما يحسن التفصيل حتى يتم فهم المراد.. فيمكننا أن نقول جازمين: إن القرآن الكريم، وكل ما تضمنه من فاتحته إلى نهايته هو الشريعة الإسلامية، والسنة النبوية الصحيحة كلها، وكل ما فيها هو الشريعة الإسلامية. لكنا على سبيل التفصيل نؤكد أن الإيمان بالله والخوف والحياء منه سبحانه كلها شريعة الله، وكذلك عبادته والتوكل عليه، والإخلاص له، وذكره وشكره، كلها شريعة الله. والتخلق بمكارم الأخلاق والآداب من عدل وإحسان وصدق ووفاء، ورفق وتواضع ... كل هذا من شريعة الله. وكذلك التنزه والتخلص من سفاسف الأخلاق ورذائلها، والتعفف عن الخبائث والمحرمات، والوقوف عند المباحات الطيبات، جزء من الشريعة ومن تطبيق الشريعة، وطلب العلم أي علم نافع وبذله ونشره والمساعدة عليه، عبادة وشريعة، وكل ما يحقق ويخدم مقاصد الشريعة، في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فهو من صميم الشريعة، ومن مصالح الشريعة. والزواج وحسن العشرة الزوجية شريعة، وإنجاب الأولاد وتربيتهم وتعليمهم شريعة. وكل ما يجلب أو يحقق أو يعزز كرامة الإنسان ورفعته، المادية أو المعنوية، فهو من الشريعة ومن إقامة الشريعة، وكل عمل أو مجهود يرفع عن الناس الظلم والقهر والتسلط والاستبداد، فهو من صميم الشريعة، والحكم بين الناس بما أنزل الله، وبكل ما هو عدل وإحقاق للحق، هو جزء كبير من شريعة الله. ولو ذهبنا نستعرض تشعبات الشريعة وامتداداتها، لما بقي شيء أو فعل، إلا وجدنا له مكانه فيها، فهي شريعة الإنسان ظاهرا وباطنا، فردا وجماعة، وهي شريعة الدنيا والآخرة، وشريعة الدولة والمجتمع. لكن.. بهذا المعنى الواسع فإن الشريعة مطبقة بنسبة ومغيبة بأخرى، وأيضا فإن الأفراد مسهمون بشكل أو بآخر فيما يسميه البعض ''تعطيل الشريعة'' هل تقصد هذا؟ نعم بالضبط.. فكل من عمل بشيء من هذا كله، فهو عامل بالشريعة، وقائم بتطبيق الشريعة، سواء كان فردا، أو جماعة أو دولة أو حكومة أو حزبا أو رئيسا أو مرؤوسا، أو أمة أو مجتمعا، وبالمقابل كل من خالف وخرق شيئا مما ذكر من الشريعة، فهو يعطل من الشريعة بقدر مخالفته وخرقه. فالكذب تعطيل للشريعة، مثلما أن الصدق تطبيق لها، والغش في الدراسة أو التدريس، أو الصناعة أو التجارة، أو في الخدمات أو في الانتخابات، تعطيل للشريعة، مثلما أن إتقان العمل، وإكماله بنزاهة وإخلاص، هو تطبيق للشريعة، وإخلاف الوعود تعطيل للشريعة، والوفاء بها عمل بالشريعة، وهكذا حتى نمر على كل شُعَب الشريعة وكل مضامينها. إن من يدرك هذا المعنى الحقيقي للشريعة، لا يمكنه أن يقول اليوم: إن الشريعة معطلة، أو إن تعطيل الشريعة أو تطبيق الشريعة هو بيد الدولة ومن اختصاص الدولة، أو يحتاج إلى قيام ''الدولة الإسلامية'' أو قيام الخلافة... كما لا يمكنه السقوط في حصر الشريعة في عدد محدود من أحكامها، أو من نظامها العقابي بوجه أخص. إن مقولات: ''تعطيل الشريعة، وإلغاء الشريعة، والمطالبة بتطبيق الشريعة''، كلها تصبح نسبية الصحة، بل قليلة الصحة.. فتعطيل أحكام من الشريعة صحيح، لكن ما نسبتها من مساحة الشريعة؟ ما عدد الشعَب المعطلة من مجمل شُعَب الشريعة؟ وما نسبة التعطيل في كل شعبة؟ وهل التعطيل خاص بالحكام والمحاكم؟ وأيضا لا يمكن بعد تصحيح مفهوم الشريعة القول: بأن الشريعة لم تطبق عبر التاريخ إلا لفترة محدودة هي الفترة النبوية وفترة الخلفاء الراشدين.. لقد ظل المجتمع يعمل ويعيش بالشريعة، وظل القضاة والمحتسبون يطبقون الشريعة، وظل العلماء يفتون الناس بالشريعة. وظلت ثقافة الناس وأفكارهم وقيمهم، تتغذى بالشريعة وتتنفس الشريعة.. ومؤخرا في شوارع القاهرة، كان المصريون الثائرون وشبابهم خاصة يمارسون تطبيق الشريعة: بتغيير المنكر والصدع بكلمة الحق والمآخاة والتكافل فيما بينهم وإقامة الصلوات والأذكار والأدعية، وتنظيم المرور وتنظيف الساحات. بل حتى قيام الأقباط بصلواتهم في ميدان التحرير كان جزءا من تطبيق الشريعة، لأن الشريعة تسمح لأهل الكتاب بذلك وتقرهم على دينهم وعباداتهم داخل الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. ولم يتوقف شيء من هذا كله على دولة ولا على حاكم ولا محكمة... موقع ولي الأمر لكن كلامكم بهذا المنطق ربما ظنه البعض محاولة لإعفاء ''ولي الأمر'' بالتعبير الفقهي من مسؤولياته، خاصة مع انتشار ثقافة ''إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن''؟! أبدا ليس الأمر كما ذكرت.. وإنما هو تأكيد على أن الشريعة ليست بيد القضاة والولاة أو بيد المحاكم والحكومات، فإن هم طبقوها فقد طُبقت وعاشت، وإن هم نبذوها، فقد عطلت وماتت! فالشريعة أكبر شأنا من أن يكون تطبيقها وتعطيلها بيد حفنة من الحكام والولاة، وتحت رحمتهم وتقلباتهم. نعم للشريعة أحكام جنائية ومدنية يحتاج تطبيقها إلى قضاة وولاة، ولكن هذه الأحكام جزء من الشريعة، وليست كل الشريعة، وليست رمزا للشريعة. نعم أيضا، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولكن هذا من قبيل قولهم: يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، ويوجد في البئر ما لا يوجد في النهر. فمعنى أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن: أن هناك حالات وأصنافا من الناس يجدي معهم السلطان، أكثر مما يجدي معهم القرآن، ويخضعون للسلطان أكثر مما يخضعون للقرآن، كما هو حال بعض العتاة والمنافقين والمتهورين.. وللعلامة الشنقيطي في تفسيره عبارة جيدة جامعة قال فيها: ''فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن''. ومع ذلك فإن وازع الضمير والتقوى والإيمان يبقى دائما قبل وازع السلطان، ويبقى هو الأصل وهو المعول عليه في الدين؛ إذْ وازع السلطان إنما يحكم بعض الظواهر، أما وازع الإيمان فيحكم الظواهر والسرائر. وفي الحديث الصحيح: ''إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صُوَرِكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم''. فالدين الحق، والتطبيق الحق للدين وشريعته، إنما هو أساسا ما جاء عن إقناع وترغيب وطواعية ورضا.. وما سوى ذلك، فهي ضرورات تقدر بقدرها، وآخر الدواء الكي. لكن ألا تتفق معي في أن الدولة بمؤسساتها، أو بالتعبير الفقهي كما قلنا ''ولي الأمر'' يجب أن تبقى دائما حجر الزاوية في مسألة التطبيق أو التعطيل؟ من باب التنظيم العام ووضع الاستراتيجيات التي تخدم الهدف الأساسي أتفق معك، أما من باب أنها هي أصل الموضوع فلا.. لأن أياً ما كانت أهمية السلطة والدولة في إقامة الدين وتطبيق الشريعة فإنها تبقى ويجب أن تبقى دون أهمية الأمة والمجتمع.. وذلك لعدة أسباب: أولا: لأن الدين الذي يطبق بدون ضغط ولا إكراه هو الدين الحق المقبول عند الله تعالى، وأما ما سواه فإنما هو تنظيم دنيوي وتدبير سلطوي. وثانيا: لأن ما يطبق برغبة وطواعية، يكون أجود وأدوم، بخلاف التطبيق بالقوة والسلطة، فإنه يكون رديئا سطحيا، ينحسر وينقلب عند كل فرصة لذلك. وثالثا: لأن التطبيق الذي يكون بمبادرة ذاتية من الأفراد أو بحركية المجتمع نفسه يعطي من السمو والارتقاء في وعي المجتمع وفاعليته ما لا سبيل إليه بدونه. مسؤولية الأفراد لكن أظن فضيلتكم لا تنكر أن هناك مجالات وأحكاما شرعية لا بد فيها من الحكام ومؤسساتهم ووسائلهم، كالقضاء والقوة التنفيذية؟ قطعا لا يمكن إنكار هذا.. لكن حتى مع وجوده أيضا، فإن للأفراد وللمجتمع إمكانات واسعة للتدخل والإسهام، حتى في هذه المجالات أيضا. فإذا كانت إقامة الحدود وغيرها من العقوبات الشرعية جزءاً مهما من تطبيق الشريعة تختص به الدولة، فلا شك أن كل عمل دعوي أو تربوي أو اقتصادي أو اجتماعي، يحول دون وقوع الجريمة ومعاقبة المجرمين، هو أيضا من الشريعة ومن تطبيق الشريعة، بل هو أفضل أشكال تطبيق الشريعة.. وهو ما يستطيعه كل الأفراد والهيئات المجتمعية. ومن أراد أن يتأكد من مساحة الدولة ومساحة الأمة في تطبيق الشريعة، فليقرأ القرآن من أوله إلى آخره، ولْيُسجل ما يتوقف على الدولة ولا يتم إلا بها، وما لا يتوقف على الدولة ويمكن أن يتم بدونها.. ثم ليحسب ولينظر النتيجة... لقد عرف العالم الإسلامي، عبر تاريخه الطويل، دولا وحكومات مختلفة في قوتها وضعفها، واستقامتها وانحرافاتها، وقربها وبعدها من هدي الشريعة ومقتضياتها، ولم يكن ذلك هو العنصر الحاسم في تطبيق الشريعة ودوامها، أو في رقي الأمة وازدهارها. ولذلك، نجد فترات زاهية بالرقي العلمي والحضاري والاجتماعي، هي في الوقت نفسه فترات ضعف وتفكك وتخلف في النظام السياسي القائم. فبجانب الحكام وأجهزتهم وأدوارهم، كان للقضاء والقضاة دورهم وفاعليتهم، وكذلك كان للعلماء عطاؤهم واجتهادهم وزعامتهم، وكان للخطباء والوعاظ أدوارهم التعليمية والاجتماعية... وكان للطرق الصوفية أدوارها التربوية والاجتماعية، وأحيانا الجهادية، وكان المجتمع بكل فئاته ملتفا متفاعلا مع هؤلاء جميعا، يأخذ منهم ويعطيهم، ينخرط معهم في توجيهاتهم ومشاريعهم ونداءاتهم، وينخرطون معه في مشاكله ومتطلباته وشكاويه، وكل هؤلاء كان مصدرهم وملهمهم، هو الشريعة والعمل بالشريعة.