خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    المصادقة على تعيينات جديدة في مناصب عليا    الحكومة توقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    وفاة ضابطين في حادث تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    رصد للمرة الأخيرة بالمغرب.. دراسة تؤكد انقراض طائر الكروان رفيع المنقار    الحكومة تصادق على مشروع قانون يتعلق بحماية التراث    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإشكال المعرفي لمفهومي الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة
نشر في هسبريس يوم 20 - 01 - 2010

من خلال الورقة السياسية لحركة التوحيد والإصلاح المغربية
لا يستقيم نظام سياسي او يستقر بدون وجود مبرر ما لقيامه وبقائه، وهذا ما نطلق عليه: الشرعية أو المشروعية. ويبدو أن الحركات الإسلامية قد وعت إشكال المشروعية فاندفعت في اتجاهات مختلفة إلى تبرير وجود حركات إسلامية داخل مجتمعات مسلمة أصلا وأيضا إلى إضفاء المشروعية على خطابها السياسي والمؤسس اصلا على أسلمة الدولة تمهيدا لأسلمة المجتمع. ويمكن التمييز بين أربع اتجاهات في البحث عن المشروعية وهي:
-الاتجاه التاريخي الوطني:
لقد اتضح من بعد سقوط الخلافة الإسلامية وتنامي النفوذ الغربي في العالم الإسلامي أن وسائل النهوض تبدأ من إعادة الحياة للكيان الإسلامي المجزأ، من جهة، والأخذ بأسباب القوة المادية ولو بتقليد ومحاكاة الغرب من جهة ثانية ولقد تمكن هذا الخطاب الجهادي - إن صح التعبير - والممزوج بنزعة نخبوية نحو العلم (محمد عبده، الأفغاني، الإبراهيمي والفاسي) من منح الخطاب الإسلامي النهضوي إمكانيات هائلة من التحشيد؛ فهو خطاب منسجم مع أفق انتظار العوام والذين يريدون الجهاد ومقاتلة العدو وإعادة الخلافة، كما أنه ينسجم مع تطلعات النخبة المثقفة في العالم العربي والتي تريد أن ترى عالما إسلاميا ناهضا ومتعلما تقوم هي فيه بدور القيادة. ولقد كان لهذا التكامل في الخطاب دورا أساسيا في تعميق البعد الوطني من جهة وتقوية الجانب البرغماتي في الخطاب النهضوي على حساب الإيديولوجيا العقائدية المنغلقة وهذا بالضبط ما يجعلك تلاحظ البون الشاسع - نفسيا وفكريا- بين حركة النهضة الإسلامية في القرن التاسع عشر والحركة الإسلامية في القرن العشرين والواحد والعشرين ويتجلى هذا الفرق في مجالات مفصلية هامة لعل أبرزها مفهوم العالم وشكل الواعظ وثقافته ومفهوم الالتزام ذاته والذي لم يكن منمطا بالشكل الذي نرى عليه التدين داخل الجماعات الإسلامية الحديثة . ولذلك أضحت الحركة الإسلامية النهضوية حركة وطنية ستفرز فيما بعد تيارات تجزيئية متصارعة أو على الأقل متخاصمة وهي: التيار الليبرالي والتيار القومي والتيار الديني (ولا أقول الإسلامي). غير أن ثمة محاولات إسلامية حديثة للبحث عن الجذور والرجوع بالحركة الإسلامية إلى أصلها النهضوي ويتجلى هذا في محاولات ربط الحركة الإسلامية المغربية بتيار الحركة الوطنية المناهضة لاستعمار وكذا محاولات أكثر واقعية للربط بين الحركة الإسلامية الحديثة بالجزائر وجمعية علماء المسلين النهضوية داخل توجه حركي يطلق عليع حركة الجزأرة.
- الاتجاه الديني السلفي
تتميز الشرعية داخل الخطاب السلفي المدرسي بطابع بنيوي خالص، إذ أن هذا التيار لا يفهم الشرعية بوصفها حركة واقعية داخل الزمن بل هي مجموعة من التعاليم أو قل من الاعتقادات متى توفرت في المتدين كان سلفيا واجب الاتباع. فالمظاهر الشكلية والمعبرة عن اتباع ما للقدوة الرسولية هي بذاتها - بغض النظر عن مضمونها- جوهر الشرعية.
إلا أن هذا المنحى لا ينبغي أن ينسينا ارتباط شرعية البقاء في هذا التيار بالنظام السياسي والذي استمد منه هو بدوره شرعية وجوده. ثمة إذن شرعيتان متعاكستا التوجه: 1- شرعية وجود منحتها الحركة السلفية الوهابية للنظام السياسي بوصفه اليد الضاربة للعقيدة في مواجهة مظاهر الشرك والتمذهب داخليا وفي مواجهة البدعة والتي تمثلها السلطة الروحية العثمانية خارجيا و 2- شرعية بقاء وتتمثل في دعم النظام السياسي للعقيدة الوهابية داخليا وخارجيا بواسطة المؤسسات الدعوية وكذا التمويل الهائل لحملة العقيدة بالإضافة إلى الدعم الكبير في مجال النشر والإعلام.
- الاتجاه الاجتماعي الثوري:
مثلت الأفكار الاشتراكية وأحيانا الماركسية في مرحلة ما من تاريخ الشعوب الإسلامية الحديث حلا لمشكلة مزمنة وهي العدالة الاجتماعية، وليس بغريب أن يكون كتاب العدالة الاجتماعية لسيد قطب عنوان تحوله المنتظر نحو الطرح الإسلامي الثوري.
ولقد ساهمت كتابات كثيرة استثمرت المخيال الديني المتأثر برجالات الإسلام الأوائل في تجذير الخطاب الاحتجاجي وتعميق مطلب العدالة والمساواة الاجتماعية بوصفها الوسيلة نحو النهوض. وبسبب النجاح الهائل للثورة الاشتركية في الاتحاد السوفياتي ونجاح الحركة الناصرية في المجال العربي، أصبحت العدالة الاجتماعية نواة صلبة لشرعية جديدة لم يكتمل نشوؤها في التاريخ الإسلامي القديم وأضحت المطالبة بالحقوق توازي في قيمتها الجهاد في سبيل الله. ولهذا نهجت حركات إسلامية منهج الاحتجاج الاجتماعي وطالبت بضرورة إعادة توزيع الثروة وإعادة النظر في طبيعة وملكية وسائل الإنتاج.
في إيران تميز علي شريعتي بخلق توازي مدهش بين أفكار فلسفة لا دينية وهي الماركسية ودين سماوي وهو الإسلام وكأن شريعتي يريد أن يقول فلسفيا إن الماركسية إسلام لا يؤمن بالله وإن الإسلام ماركسية موحدة [1] . كما اتجهت جماعة العدل والإحسان في المغرب اتجاها شبيها باليسار الماركسي من حيث التركيز على المظلومية الاجتماعية والارتباط التلقائي بالطبقات الفقيرة عوض النخب كما هو الحاصل مع حركة التوحيد والإصلاح المنافسة، ولا نستغرب إذا وجدنا تعاطفا ما من الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد الجماعة في كتابه الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية مع أطروحات العدل الماركسية حيث يقول: " في جانب النداء الاشتراكي تتعمق الاشتراكية بعد فشل التجربة الناصرية وتتجدر في الأصول الماركسية، وفي الشعارات الماركسية، لتحظى بصفة العلمية، وتأخذ الماركسية مصالحتها التكتيكية مع القومية... في جانب النداء الإسلامي هبة إيمانية، صحوة في القلوب، تحتاج إلى صحوة فكرية عملية تواكبها وتعززها وتفتح لها الآفاق السياسية. تحتاج إلى عرض لبرنامج إسلامي في التحرير والعدل.الأرض السياسية التي يقف عليها الاشتراكيون أرض صلبة، قاعدتهم العاطفية التي يتضمنها نداء العدل تتجاوب مع الفطرة البشرية"[2[
وإن كنا نرى ان هذا الاستدعاء للفكر الماركسي له طابع تحشيدي اكثر من كونه اتجاها فلسفيا لتعميق نظرية العدل الاقتصادي في الفكر الإسلامي.
-الاتجاه الجهادي الأممي :
إذا كان الاتجاه الأول يجد شرعيته في التاريخ والثاني في المجتمع والثالث في النص فالرابع يجدها في الفعل ذاته بغض النظر عن ارتباطه بمشروع ما للدولة أو تصور معين لتدبير المجتمع. إن الجهاد بما هو فعل عقدي يتغيى التغيير لا يمكن فصله حتما عن النص الذي يعطيه مشروعيته ولكن استراتيجية الاتجاه الجهادي تختلف في التنصيص او التأويل عن الاتجاه السلفي التقليدي بحيث انه يعمد إلى نصوص الرحمة والتسامح والسلم ليضعها في سلم أدنى من سلم أولوياته الحركية أما آيات الجهاد وربما القتل فهي أم الكتاب والناسخة لغيرها من آيات السلم. ولعلنا أمام استراتيجية قديمة تعيد إنتاج آلياتها التاريخية القديمة ومفادها أن كل نص شرعي يؤسس لمنظور الجماعة فهو نص محكم وما خالفه فهو متشابه يرد إليه حين التأويل.
وأعتقد ان الجدال الدائر حول ما يسمى بالاستشهاديين او الانقتاليين في العلن بين مجوز ومنكر يخفي جدالا أعمق وأكثر خصوبة بين المنتمين لهذه الجماعات القتالية والدليل على ذلك ومن الناحية السيكولوجية فإن التفجيرات التي حدثت في المغرب-والمستقر نسبيا والمعروف بعلاقة سلمية نسبيا بين السلطة والمجتمع- تظهر إلى أي مدى يعد المجند مستعدا للموت وهو ما يعني وجود إيديولوجيا جاهزة للتحفيز والتجنيد وربما استدلالات من السيرة وتاريخ الغزو الإسلامي ما زلنا لا نعرف عنها شيئا من حيث تماسكها الاستدلالي وطريق بنائها للتدليل الشرعي.
الحركة الإسلامية والممارسة السياسية : نموذج التوحيد والإصلاح:
تمثل حركة التوحيد والإصلاح امتدادا من نوع ما لتصور حركة الإصلاح والتجديد حول الموقف من السلطة، ولأن كتابات سياسية متابعة[3] قد ركزت على تاريخ وكسب الممارسة السياسية للحركة وحزبها منذ ميلادها تحت مسمى جمعية الجماعة الإسلامية المتنشقة عن الشبيبة الإسلامية فإننا سنتوجه تلقاء الإمساك بالخيط النظري والفلسفي وراء مفهوم المشاركة السياسية بمنطلقاته الفكرية وتبعاته الاجتماعية والسياسية
بالرجوع إلى الرؤية السياسية لحركة التوحيد والإصلاح يتضح أن الهدف من العمل السياسي له ثلاتة اتجاهات :
-1إقامة الدين على مستوى الدولة وعلى مستوى الأمة
-2الإسهام في إصلاح المجتمع وفق مباديء الإسلام وشريعته
-3تحسين أوضاع المسلمين ومناصرة القضايا العادلة[4[
ومعنى ذلك ان للعمل السياسي أهدافا داخلية وأخرى خارجية ويمكن تلخيص الهدف الداخلي في كونه متعلقا ضرورة بتطبيق الشريعة والتي سينصلح بها حال الأمة والهدف الخارجي وهو استثمار إمكانات الدولة المادية وربما العسكرية للوقوف إلى جانب المسلمين ومناصرتهم في دول أخرى. ومعنى ذلك ان الدولة التي تريدها حركة التوحيد هي دولة تهتم كثيرا بالقضايا الخارجية وتبرز الطموح الإسلامي الأممي الكامن في مخيال حركة إسلامية قطرية.
ويتضح من خلال استهلال الورقة أن أصحابها لا يريدون إصدار فتاوى في السياسة[5] وهو موقف نراه ناضجا مقارنة بتصورات أخرى تحدد المنطلقات الشرعية للمواقف السياسية وتجعل الموقف العملي المتغير مؤسسا على أحكام فقهية وعلى أحسن تقدير أحكام أصولية (نسبة إلى أصول الفقه) ومع ذلك فإن الورقة ستتضمن حسب منظور أصحابها تأسيسا لمواقف"شرعية" مبنية على قراءة صحيحة للواقع[6]؟؟. والسؤال الملح هنا هو: ما هو الموقف الشرعي في السياسة؟ كيف يكون التحالف السياسي مع الحزب الفلاني أو المطالبة بانتخابات ما او تسيير بلدية في منطقة ما موقفا شرعيا؟ ثم ما هذا الشرع الذي سيؤسس عليه الموقف أهو القرآن والسنة؟ ام هو التأويل المقاصدي الذي ما فتيء منظروا حركة التوحيد يؤسسون له ويبرعون في التأليف فيه؟
إذا كان الامر متعلقا بالتنصيص من القرآن والسنة على الموقف فلا يمكن بحال وصفه بالشرعي إذ يمكن الاستدلال على موقفين متعارضين لحركتين إسلامييتين في قضية واحدة بالقرآن والسنة فيكون الموقف وخلافه موقفين شرعيين وهو ما يشير إلى الطبيعة الاختلافية للقرآن الكريم والسنة النبوية تحدث عنها العلماء منذ القديم.
وإذا كان الأمر متعلقا بتأسيس مقاصدي فإن الأمر ساعتها سيكون موقفا نظريا للمجتهد او الأصولي في قضية ما، فكيف يمكن وصف الموقف النظري الاجتهادي بالموقف الشرعي؟ مع أنه وليد استراتيجية أصولية بشرية في النظر للواقع وملابساته. فكليات الشريعة المنصوص عليها في كتب المقاصد كليات اجتهادية. وتراتبية الضروري والتحسيني والحاجي تراتبية تأويلية متلبسة بأفق مبدعيها وسياق مجتمعاتهم. فمالذي يمنع أن نضع كليات مقاصدية أخرى كالحرية والمساواة والعدل والسلم بوصفها كليات شرعية؟؟
وهذا بالضبط ما عبر عنه الفقه السلطاني من جهة والذي عبر عن تصورات الفقهاء من داخل السلطة، وفقه السياسة الشرعية والتي نظر لها علماء مناوئون نوعا ما للسلطة والذين وبسبب ظروفهم أسسوا لموازنات فقهية تراعي موازين القوى في العمل السياسي لتتحول هذه الموازنات إلى فقه بذاته مع أنه انطلق اجتهادا سياسيا من أساسه[7[
شيء عن الخلافة:
من الواضح أن الورقة السياسية لا تختلف في جوهرها عن أي كتاب إسلامي تقليدي ومدرسي متداول في السياسة، فالهدف ليس هو فقط إقامة الدولة بمعناها الحديث وإنما إقامة الخلافة؟؟ أي أن حركة التوحيد والإصلاح لا ترى من جديد في قطريتها سوى تكتيكا مرحليا فهدفها أممي وهي لا تختلف عن أي حركة إسلامية تقليدية في كون الهدف الأسمى هو إعادة نظام الخلافة بوصفه – تقول الورقة- المثال الأسمى للحكم في الإسلام[8] وطبيعي أن لآ تخبرنا الورقة عن الإجراءات العملية لتحقيق هذا المشروع الضخم والسبب هو أن مثل تلك الإجراءات غير موجودة لا على مستوى بناء الدولة القطرية بل و لا على مستوى خلق كتلة ما من التيارات الإسلامية تقابل الكتل الأخرى مثل الكتلة الوطنية والكتلة الحركية وغيرهما وربما لا نجازف إذا قلنا بأن إمكانات التحالف السياسي بين الإسلاميين وغيرهم هي دائما أوفر حظا من تحالفات الإسلاميين فيما بينهم. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يتصور عقلا إقامة تحالف أممي بين حركات متعددة المشارب والثقافات والأمزجة تساندها شعوبها للوصول إلى نظام خلافي شامل؟ ومن الذي يقول هذا؟ إنها حركة إسلامية تنتمي إلى بلد إسلامي لم يكن قط جزأ من نظام الخلافة التاريخي. وهو ما يشير إلى ذهول حاد عن طبيعة المجال السياسي المغربي وخصوصيات تكوينه السياسي مع أن حركة التوحيد والإصلاح ظلت تشدد على الخصوصية المغربية فيما يتعلق بوحدة المذهب المالكي وطبيعة النظام الملكي ولست أدري كيف تتغافل الحركة عن هذه الخصوصية حينما يتعلق الأمر بتأسيس دولة الخلافة المفترضة؟
إن ما لم تستطع الورقة أن تفهمه والذي يحتاج إلى متخصصين في علم التاريخ والفلسفة والسياسة هو أن وجود مثال ما للنظام الإسلامي وهو نموذج الخلافة على منهاج النبوة وجود مفترض تمتليء به أذهان الإسلاميين ولكنه لم يحدث قط. إننا لا نشك في أن تجربة الخلافة الراشدة كانت تجربة تاريخية لها ميزاتها واهمها تقوية المركز ودحر حركات العصيان والتي أطلق عليها حركات الردة وانهالت الأموال على الدولة الإسلامية الفتية سواء من الغزو أو من التجارة ومع ذلك فإن توزيع الثروة ومنذ تلك المرحلة المبكرة من عمر الرسالة لم يكن بشكل عادل تماما وهو ما أخرج إلى الوجود طبقة مترفة من الأمويين والهاشميين بالإضافة إلى أولاد المهاجرين والأنصار ساهمت في خلق تبرم عارم في مناطق الخلافة خارج مكة والمدينة وعجلت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان كما قضت نتائجها الجانبية على الخليفة الرابع علي وأسرته لينتهي بذلك عصر الهاشميين ويبدأ زمن الأمويين[9[.
ومن الجدير بالذكر أن الورقة يسودها نفس معياري صارم أفقدها الموضوعية والعلمية، فالتدليل على نموذجية الحكم الراشد يتأسس لا على نظرة فاحصة في أحداث التاريخ بل على أقوال تتحول بفعل ما إلى معيار للحكم على اللحظة التاريخية ولنتابع الورقة : لقد سار الخلفاء في المسلمين على منهاج النبوة في إقامة العدل وضمان الحقوق... فكان المسلمون عندهم جميعا سواسية أمام القانون لا فرق في ذلك بين كبير وصغير و شريف ووضعيف ممثتلين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ..." [10] . فهذا كلام جميل بلا شك ولكنه عند التمحيص التاريخي لا تصمد دعواه فكبار بني أمية وبني هاشم سيطروا على مقدرات الدولة الفتية، والمهاجرون كونوا طبقة مترفة إلى درجة تمردهم على عمر بن الخطاب في تقسيم أرض العراق. وحينما رأى عمر تكدس الأموال في يد طبقة بعينها أمم أرض العراق الخصبة وربطها بالدولة ولم يطبق فيها أحكام توزيع أراضي الفيء وهو إجراء احترازي عادل لم تنقل لنا كتب التاريخ مثيلا له بعد فتح العراق ولعل سياسة عثمان اللينة مع الأمويين لن تمكنه من فرض قرار التأميم كما فعل عمر فاستمر تقسيم الأراضي بين المجاهدين وبأسهم مختلفة مما يعني التكدس الهائل للثروة في يد طبقة بعينها.
في تطبيق الشريعة :
ثمة سؤال منهجي وفلسفي في آن واحد من مسألة تطبيق "أحكام الله" على البشر أولهما: هل نبدأ التطبيق من جديد كما بدأه الرسول (ص) ؟ أم أن نظام الشريعة نظام مكتمل ويمكن تطبيقه مع بعض التعديلات (الاجتهاد) ؟
ويبدو أن الحركة الإسلامية ومنها حركة التوحيد والإصلاح تميل إن لم تكن مقتنعة بأن الشريعة اكتملت ومن الواجب إقامتها وتطبيقها على الناس ولعل حركة التوحيد من تلك الحركات البرغماتية التي تقول بتطبيق تدريجي للشريعة بما يتناسب مع أفق انتظار الشعوب الإسلامية وواقعها. ويبدو هذا الموقف من الناحية السياسية قابلا للتفهم ولكنه يعاني حتما من معضلات فلسفية تجعله غير قابل للتطبيق سواء في الماضي او الحاضر او المستقبل.
إن السياق الثقافي الذي توجد فيه الحركة الإسلامية مباين تماما لسياق المجتمع النبوي والذي كان يتميز بتشكيل قبلي صارم لم يستطع الإسلام تجاوزه تجاوزا كاملا إن لم يكن قد اعتمد عليه في نشر الدعوة وتوحيد الجزيرة العربية[11] . إن مجتمعا كهذا لا يمكن بحال أن يكون مقياسا لتطبيق نظام سياسي حديث على نظام لم يدم أكثر من ثلاثين عاما. إن النسق الديني للدعوة قد اعتمد استراتيجية مدهشة في إقناع العرب بالإسلام وتتأسس الاستراتيجة هذه على :
- الإبقاء على النظام القبلي واعتبار القبيلة جزءا من الأمة[12[
- التلويح بالغنائم والكسب من وراء الانضمام للدعوة[13[
- التلويح باستعمال القوة ضد من يرفض الدعوة
- تقديس كثير من المعتقدات العربية كالحج والعمرة والصوم مع إضفاء بعد توحيدي عليها
- الإبقاء على طبيعة النظام الأبوي حيث السيادة للرجل والذي تصل حقوقه الشرعية إلى درجة من الاستمتاع الجسدي يجعل من الإسلام دينا منسجما مع فطرة الرجل ورغباته.
ومعنى ذلك فإن الإسلام لم يقلب النظام القائم بل حافظ عليه مع إدخال تعديلات جوهرية أحيانا في سلم التراتب الاجتماعي وشكل النتظيم السياسي والذي تحول من القبيلة إلى الدولة بمعناها التقليدي مع بقاء الثقافة العربية من دون تغير كبير: الرؤية الدونية للمرأة وللأعاجم وكذا التفاضل القبلي والذي طفا من جديد على السطح في العصر الأموي[14.[
إن المصالحة التي سلكها الإسلام مع النظام العربي القائم مكنته من الانتشار السريع من دون أن يخلق الدين الجديد مشكلة للعربي مع محيطه.
ولعل الأمر قد اختلف الآن فالثقافة العربية لم تعد هي ثقافة العصر الجاهلي، والحداثة الغربية قد أثرت بشكل بليغ في الأمزجة وطرق التفكير ولم يعد الإنسان العربي من الناحية النفسية مقتنعا بكثير من التطبيقات التاريخية للإسلام مع تشجيع الحركات الإسلامية عليها وخصوصا فيما يتعلق بشؤون المرأة.
ولذلك فعوض أن ترى حركة التوحيد والإصلاح في الشريعة نظاما قابلا للتطبيق عليها أن تقوم بعملية إقناع للجماهير بجدوى هذا التطبيق وإمكانيته وخلق ما يسمى في الغرب بالعقل العام Public Reason [15] أي القدرة على جعل مطلب ما مطلبا عاما مقبولا لدى الفئات الواسعة من الشعب وخصوصا لدى النخب المالكة لزمام القرار. إن ما نريد قوله وبصراحة أن كثيرا مما يطلق عيه أحكام شرعية ليست سوى آراء وترجيحات فقهية لعلماء معينين ويصعب علينا أن نجد قضية ما لها صلة بالتنظيم الاجتماعي عليها إجماع لدى علماء الشريعة باستثناء تلك القضايا المرتبطة بالتعبد.
في حاكمية الشريعة:
يرى واضعوا الورقة أن من خصائص دولة الخلافة التي ينوون إقامتها: حاكمية الشريعة والتي تعلو حتى على الخلفاء[16]. من الناحية التاريخية مثلت آراء الخلفاء في المجال الدنيوي وأحيانا المجال الديني سلطة لا تنازع حتى من قبل الفقهاء. وكان القضاء متمتعا بجزء كبير من استقلاله وهو ما يمثل استثناء مضيئا في الحضارة الإسلامية في مجال التدبير السياسي. وما عدا ذلك فإن الخليفة يتمتع بسلطات مطلقة في مجال توزيع الريع والإقطاعات وكذا قرار الحرب والسلم وغيرها من المجالات الحيوية في الدولة.
ومن الناحية النظرية فإن الورقة تجعل للشريعة حاكمية ما وكأن للشريعة وجودا مفارقا عن المشرع والمشرع له.
إن الشريعة عبارة عن أحكام ينطق بها بشر ولا وجود لشريعة حاكمة بدون بشر يحكم بها ومعنى ذلك أن ثمة فرقا بين حاكمية الشريعة والحكم بها فالأولى غير موجودة إلا على سبيل الافتراض بل وغير متصورة عقلا والثانية تقود حتما إلى النظام الديني الثيوقراطي والذي لا ينسجم مع خصائص الدولة الحديثة. إن ما تريد الورقة إقناعنا به هو أن حكم الشريعة يسمح بوجود معارضة[17] ولا شك أن مثل هذه المعارضة قد تكون معارضة دينية من نوع مختلف وعليه فإنها ستسوق اعتراضاتها في شكل استدلالات فقهية ما دام الأمر متعلقا بالشريعة ومعناه أن الفقهاء هم الذين سيحكمون في نظام الخلافة المفترض. وقد تكون معارضة مدنية لا تجد أمامها سوى طريقين للتعبير عن معارضتها:
- إما استئجار فقهاء يعطون لمعارضتها شكلا شرعيا عن طريق الدخول في عمليات تأويلية للنصوص تقود إلى تقويل النص ما تريده المعارضة المدنية وهذا ممكن الورود بل معلوم الوقوع كما هو الأمر في النقاش الدائر حول مدونة الأحوال الشخصية بالمغرب
- وإما الاعتراض على حاكمية الشريعة بمنظور مدني مخالف لها وهو ما سيؤدي إلى تكفيرها وفي أحسن الأحوال رميها بالعلمنة والمروق عن الدين .
وفي مجال التنصيص الديني ياتي الاستدلال بالقرآن وبشكل تجزيئي لدعم التصور السياسي فحاكمية الشريعة تتم شرعنتها بقوله تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"[18[
وبالرجوع إلى كتب التفسير المعتمدة نجد أن فعل يحكموك هنا لا علاقة له بالحاكمية السياسية أو بالدولة بالتعبير المعاصر. وللفعل هنا صلة وطيدة بفض النزاعات فهو إذن حكم قضائي وليس حكما سياسيا[19] ومعلوم أن الرضا بحكم القاضي غير وارد بين المتخاصمين وإذن فإن القضاء هنا هو قضاء النبي والذي يفترض فيه العدل المطلق بين الناس فكان التحرج من حكمه في نازلة عبد الله بن الزبير والأنصاري او غيرهما تحرجا من الحق والعدل والذي يمثله تدخل مقام النبوة في مقام القضاء. وهذا التدخل الذي سيلغيه النبي (ص) نفسه حينما صرح في الحديث المعروف بأن أحدا من المتخاصمين قد يكون ألحن في حجته من غريمه فيقضي له الرسول خطأ على نحو ما سمع منه فمن حكم له بحق اخيه فإنما تلك نار الأحسن له أن لا ياخذها أي ان يدع حق الاخرين إذا كان معتديا فيكون حكم النبي هنا حكما بشريا معرضا للخطإ.
إن نقل الدلالات القرآنية من سياقاتها النزولية وملابساتها الظرفية تفسح المجال لفقهاء الحركات الإسلامية لإضفاء لبوس الدين على تصوراتهم البشرية والورقة السياسية لحركة التوحيد نموذج واضح على ما نقول. ولو اتبعنا استراتيجية التنصيص الديني او توظيف القرآن لصالح الموقف السياسي فمالذي ستقوله الحركات الإسلامية في أعداد هائلة من النصوص الدينية التي تأمر أهل الكتاب بتطبيق أحكام دينهم او تلك اتي تصف الصابئين واليهود والنصارى بانهم مؤمنون ولهم الجنة ما داموا مؤمنين بالخالق واليوم الاخر؟؟؟
وتحكي كتب التاريخ والسير أن ابا سفيان حاول استدراج آل بيت النبي (ص) ومنهم العباس وعلي إلى الثورة على الخليفة الأول أبي بكر، كانت مفاهيم أبي سفيان مفاهيم رثة بالية تعود إلى عصره الجاهلي حيث لا بد للعائلة من وراثة السلطة. وسنرى فيما بعد كيف طور الشيعة هذا المفهوم القبلي ليصبح التأسيس الشرعي لمفهوم الخلافة لديهم وهو وإن غلف بدثار ديني مهما كان صادقا ولكنه يبقى موغلا في العصبية الجاهلية والتي تربط بناء السلطة على القرابة الدموية وليس على الاستحقاق القانوني والسياسي
لا شك ان أبا سفيان كان على علم أكيد برغبة العباس وعلي في وراثة ابن الأسرة ولهذا حظي كما يرى الطبري وغيره بموافقتهما على طلب الاستخلاف من النبي. ولو تأملنا في موقف أبي سفيان وتصور علي لمفهوم السلطة لوجدنا أنهما يتفقان على مبدأ دنيوي قبلي أو قل عائلي للوصول إلى السلطة على الرغم من اختلافهما الشديد في شكل الحكم والترتيب له وطريقة تصريفه.
لقد طور الفكر الشيعي بأطيافه المتعددة مركزية آل البيت في الاعتقاد الديني حيث ان القرابة لا تؤسس فقط للشرعية السياسية بل تتجاوز ذلك إلى خلق تصور مفارق للطبيعة البشرية عن آل البيت ومفاده أن الأئمة معصومون وكأن جزءا من النبوة قد امتد إلى عروقهم من خلال القرابة الدموية.
هذا الخلط بين القرابة والنبوة من جهة والقرابة والإمامة من جهة ثانية هو بالضبط ما جعل الفكر السياسي الشيعي عاجزا عن خلق مجال سياسي قابل لتقبل الحكم على أساس الإيديولوجيا الشيعية داخل مجال شياسي غير شيعي (الدولة الإدريسية في المغرب والفاطمية في مصر نموذجين). فبمجرد وجود مفهوم القرابة والعصمة في القاموس السياسي فإن المجال السياسي لن يكون قابلا لوجود أي نوع من المعارضة الأساسية للحكم وإن سمح بها فستكون معارضة مؤقتة سرعان ما ستكفر أو تخون إذا مثلت خطرا حقيقيا على السلطة العليا للإمام.
ولم يكن الفكر السني بمنأى عن بعض الترسبات القبلية في تصوره للسلطة، حيث ساهم علماء السنة في إصباغ شرعية تاريخية على الإمام الغالب (أي ان القوة والغلبة هما مقياسا الشرعية)، فكان الرد السني على التصور الشيعي في مجال شرعية القرابة (للشخص) هو شرعية العصبية (القبيلة: الأمير من قريش)، وفي مجال عصمة الإمام (الشخص) هو عصمة الإجماع (الجماعة السنية طبعا).
يمكن بعد التأمل في هذه الحقائق فهم أسباب العجز النظري الإسلامي بشقيه الشيعي والسني في التأسيس لمفهوم الدولة الحديثة والذي ظل غائبا إلى حين ظهور الفكرة القومية الحديثة.
إن هذا هو بالضبط ما يظهر لنا بجلاء خطورة الوضع في بلدان عربية وإسلامية تتميز بتعدد طوائفها الدينية كلبنان والعراق وباكستان إذا لم ننحشر سوية في مشروع كبير ونهضوي وهو إعادة طرح السؤال الكبير: هل من مصلحة الأمة إنشاء دولة دينية؟ وهل يمكن نظريا الجمع بين الدولة القائمة على مفهوم المواطنة والدين القائم على مفهوم الاعتقاد بشقيه الطائفي والجوهري؟
هل يمكن للعراق مثلا أن يقيم دولة واحدة مثل إيران؟ وهل يمكن للأحزاب الإسلامية السنية والشيعية تجاوز الانتماء الطائفي إلى الانتماء للوطن؟
لا يمكن حتما لإيران أن تكون نموذجا للعراق، فإيران تتمتع بأغلبية شيعية ضاربة من جهة وبامتداد تاريخي فارسي صفوي ربما مثل لحمة الدولة الإيرانية الحديثة أكثر من المذهب الشيعي ذاته. وإذن فإن التوزيع المذهبي للشعب الإيراني يجعل مفهوم الوطن متداخلا مع الدين والمذهب العقدي.
غير أن نموذج لبنان يمكن ان يقدم لنا صورة عن عجز الفكر الشيعي مهما كان انفتاحه على المذاهب المتحالفة معه والمعارضة له عن تكوين دولة بالمفهوم الشيعي لها وإن كنا لا نستبعد قيام مثل هذه الدولة على ركائز المواطنة والتداول وهو ما يعني تحول الطائفة الشيعية في لبنان من تكتل مذهبي إلى تكتل سياسي تقليدي وهذا هو بالضبط ما يسري على الفكر السني والذي لن يستطيع إقامة دولة إسلامية سنية بالمعنى الديني والمذهبي كما تدعو إلى ذلك الأحزاب الإسلامية الحديثة وإن كنا لا نستبعد إمكان إقامة مثل هذه الدولة ولكن على أسس مخالفة تماما لمفردات الفكر السني وهو ما يعني تحول الطائفة السنية من جماعة دينية إلى تكتل سياسي تقليدي قابل لتجاوز المذهب للوصول إلى الدولة (ومن هنا نفهم كيف أن صدام هو زعيم السنة في العراق مع وجود حزب إسلامي سني وجمعية علماء سنة، ونفهم أن الحريري هو الزعيم الفعلي للسنة في لبنان مع وجود الجماعة الإسلامية والتي اختار رمزها السابق فتحي يكن وياللمفارقة الوقوف إلى جانب المعارضة).
خاتمة:
إن الحل الإجرائي الذي نقترحه لمعالجة قضية الدولة الدينية وما تدعو إليه من تطبيق للشريعة يحتاج إلى تأسيس نظري سيتخذ طريقين:
1-الطريق التصوري
2-الطريق التاريخي
على المستوى التصوري وجب في تصورنا التمييز بين مفهومين: الشريعة والفقه فالدعوة إلى تأسيس دول دينية تطبق الشريعة دعوة لم تستطع الفصل نظريا بين مفهومي الشريعة والفقه.
فالشريعة إلهية (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا وما أوحينا إليك ) (ولكل جعلنا شرعة ومنهاجا) . الشريعة هي الطريق التي أراد الله من عباده ان يسلكوه، وإذن فإن الشريعة أمر إلهي مفارق للبشر او قل إنها النموذج الذي يسعى البشر إلى تمثله. ويقابلها الفقه وهو حصيلة البشر في سعيهم لفهم الشريعة وتطبيقها أي أن الفقه بشري والشريعة إلهية والرابط بينهما هو الفهم ومحاولة التطبيق.
فالقول بتطبيق الشريعة جهل بهذه الصفة المطلقة والإلهية للشريعة في الوقت الذي كان يجب فيه القول بالدعوة لتطبيق الفقه تماما كما ينادي الناس في مشارق الأرض ومغاربها إلى تطبيق القانون.
وإذا كانت الشريعة معصومة تصوريا فإن الفقه غير معصوم واقعيا فهو قابل للتجدد والنقض والإبرام. لقد كان الإمام مالك على وعي بنسبية الفقه حينما رفض تعميم تطبيق فقهه في الموطأ على كل أرجاء الدولة العباسية علما منه بان ما سيتم تطبيقه ليس هو الشريعة ولكنه فقه بشري حاول فهم الشريعة واستقطار الأحكام منها.
ولو فهم الخطاب الديني المعاصر هذه المباديء التصورية لكان من الراجح إنجاح تجربة بناء الوطن والدولة مع وجود طوائف دينية مختلفة فيها.
لنقلل من التنظير ولنعط مثالا حيا لإبراز تهافت شعار تطبيق الشريعة.
هل يمكن أن نطلق على قانون تصدره حكومة إسلامية حول الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي مثلا شريعة إسلامية تم تطبيقها في مجال الصيد البحري؟ ولنفرض جدلا ان القانون كان مجحفا او ناقصا هل يعني هذا نقصانا في الشريعة التي تعد مرجعا للحكومة في التشريع؟؟
الأمر إذن لا يتعلق بتطبيق الشريعة بل بتطبيق القوانين التي يستنبطها العقل البشري من النصوص المؤسسة للشريعة. وتبقى تلك القوانين مجالا للمعارضة والتأييد والنقض والإبرام دون أن نصف المعارضة بالخروج على الشريعة لأنها لا تعارض شريعة السماء ولكنها تعارض قوانين بشرية يجري عليها ما يجري على كل القوانين من عوارض النقص ومغامز الزلل.
إن ما نطمح إليه هو فتح المجال للنقاش النظري حول الإمكانية النظرية لإقامة أحزاب دينية أو إسلامية أو حتى تلك التي تقول إن مرجعيتها إسلامية، في الوقت الذي لن تختلف هذه الأحزاب عن غيرها إلا في المجالات الآتية :
- تخليق الحياة السياسية وهو ما ينبغي تشجيعه ومساندته
- مواجهة قيم العولمة الثقافية المتعارضة مع التوجيهات الدينية
ولا ارى أن ثمة مجالا آخر يمكن للأحزاب الدينية ان تتميز فيه على غيرها اللهم في مجال طبيعة الخطاب ومفرداته وليس في المضمون السياسي والاجتماعي لهذا الخطاب.
وعلى المستوى التاريخي فإن التاريخ يحدثنا وبوضوح عن أن الشريعة الإسلامية لم تطبق في أي لحظة من لحظات التاريخ الإسلامي. وما كان مطبقا في الحقيقية هو الفقه والذي وجب تمييزه عن الشريعة، فالفقه من الناحية التاريخية وليس النظرية كان مرتبطا بالجوانب الفردية عموما وبعض الجوانب الاجتماعية في المعاملات ولم يرتق الفقه الإسلامي ليضع تصورا ما لبناء الدولة ومؤسساتها. والغريب أن المسلمين القدماء كانوا منفتحين أشد درجات الانفتاح على الحضارات المجاورة ولم يجدوا حرجا في اقتباس كل نافع لهم منها، إلى درجة الاستفادة من المنطق الآرسطي في الصياغة النظرية لأصول الفقه الإسلامي (راجع مقدمات الغزالي والشاطبي في المستصفى والموافقات) ومع هذا فقد خلت كتب الفقه الإسلامي من الحديث عن وسائل تنظيم الدولة بالاستفادة من الجهود النظرية في السياسة لدى اليونانيين والرومان و لم يكن الأمر في تصورنا نتيجة لجهل الفقهاء ببناء الدولة ومؤسساتها بل تعلق الأمر بمعطى تاريخي راسخ وهو أن مجال التسيير الإداري والمؤسسي كان ملكا للأمير مقابل التوجيه الروحي والاجتماعي للفقيه. لقد تطور هذا الفصل بين الدولة والفقه ليصبح أساسا نظريا للفصل بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في المجتمعات المسلمة ولقد أشار إلى هذا بوضوح ابن خلدون في المقدمة، وابن بلقين في رسالة التبيان التي كتبها في المنفى بعد سجنه ضمن ملوك الطوائف من قبل يوسف بن تاشفين. ومعنى ذلك أن مجال التسيير المؤسسي للدولة لم يكن ضمن اللامفكر فيه من الناحية الفقهية بل كان ضمن ما لا يمكن التفكير فيه بناء على مواضعات توافقية بين الفقيه والأمير.
وإذن فإن الواقع التاريخي ناطق بحقيقة صافعة وهي ان الدول الإسلامية لم تشهد تاريخيا قط رفعا لشعار تطبيق الشريعة وإن كانت الأحكام الفقهية سارية المفعول في أرجائها بوصفها قوانين بشرية مؤسسة على الاجتهاد الفقهي. والغريب أن الذين رفعوا شعار تطبيق جكم الله هم الأقلية من الخوارج (الحوارج هنا بالتعبير السني) والذين رأوا في حكم كل من علي ومعاوية خروجا على"حكم الله" وهو المقابل الدلالي "للشريعة في اصطلاح المعاصر.
----------------------------------------------
1]FOROUGH JAHANBAKHSH Religious and Political Discourse in Iran: Moving Toward Post-Fundamentalism. The Brown Journal of World Affairs. Winter/Spring 2003 – Volume IX, Issue 2. pp: 243-253
[2] نقلا عن الموقع الرسمي لجماعة العدل والإحسان
http://www.aljamaa.net/ar/detail_khabar.asp?id=2188&IdRub=49
[3] راجع: قراءة في المسارالسياسي ل"حزب العدالة والتنمية المغربي" للباحث عبد السلام طويل وهو عبارة عن ورقة بحثية قدمها الباحث في إطار ندوة بمراكش يومي 16و17 جوان 2006 حول" الحركات الإسلامية المشاركة في المؤسسات السياسية في البلاد العربية وتركيا " بدعوة من مركز الدراسات الدستورية والسياسية وكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ، جامعة القاضي عياض مراكش، المغرب. والبحث منشور في موقع مركز دراسة الظاهرة الإسلامية : http://www.islamismscope.com/index.php?art/id:332
[4] الرؤية السياسية لحركة التوحيد والإصلاح، شتنبر 1998 ، ص: 3
[5] نفسه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.