تشكل الديمقراطية من منظور بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة، خاصة تلك التي تنشط من داخل المؤسسات القائمة، صيغة إنسانية قابلة للتطبيق في كل المجتمعات البشرية، نظرا لمرونتها ونسبية قواعدها، التي تأسست على ضرورة أجرأة اختيارات الشعب، من طرف من يمثله. فالتجربة التي انبثقت فيها الديمقراطية لا يمكن أن تشكل مبررا لرفضها، مادامت معطى إنسانيا، ساهمت البشرية جمعاء في إنتاجه وتطويره ، وتبلور عنه توجه غني بخصوص تدبير مجال الحكم وشؤونه. وهذا لا يتعارض مع الشورى التي تعد حسب دعاتها، نظاما أخلاقيا وروحيا، يتجاوز الشؤون السياسية إلى الشؤون التربوية والثقافية، بل قادرا على التعايش معها. "" فإذا كانت القواعد الديمقراطية قابلة للتكيف مع البيئة التي " تنزل" فيها، نظرا لسمتها المرنة، فإن الشورى باعتبارها صفة أخلاقية عامة تشمل أمور الدين والسياسة، تماثل الديمقراطية في غاياتها الكبرى، بل يمكن أن تشكل موردا أخلاقيا قد يساهم في تطوير الديمقراطية نفسها،حسب تصور رموز حزب العدالة والتنمية المغربي. من هذا المنطلق يعد مفهوم الشورى، حسب أحمد الريسوني الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، الامتداد الموضوعي والنوعي لحزب العدالة والتنمية: " جزء من نظام شامل للحياة بكل جوانبها وأبعادها، بحيث لا يمكن تصور الشورى الإسلامية إلا داخل هذا النظام، وجنبا إلى جنب مع سائر مكوناته". "وهو نظام عقائدي أخلاقي تشريعي، له أصوله وثوابته ومسلماته. فداخل هذا النظام تأخذ الشورى مكانها ومكانتها، باعتبارها أحد ركني الحياة الإسلامية، الركن الأول: هو الوحي، والركن الثاني: هو الشورى". فالشورى بالنسبة للريسوني "تماثل الوحي أو تقترب من ذلك، ومن هنا تلزم المسلم في حياته اليومية والعائلية، التزاما أخلاقيا ودينيا، لأنها تقتضي حوارا كاملا، وبالتالي فهي أوسع وأعمق من الديمقراطية، التي تصوت أحيانا بلا حوار أو نقاش". -حسب تعبيره - أما محمد يتيم فيرى هو الآخر أن الشورى مبدأ خلقي وثقافي وتربوي، طبقا للآية التي تقول: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون". أي أن الشورى منظومة خلقية، تهدف إلى تبادل الآراء والأخذ والعطاء. لكن تعريف هذا المبدأ في الثقافة الإسلامية لم يتبلور تاريخيا بما يكفي من الآليات، حيث ظل هناك جدال كبير حول آليات تنفيذ الشورى: هل الشورى محكمة؟ أم ملزمة؟. أما الديمقراطية فهي تجربة تاريخية "قامت في الغرب على أسس فلسفية وعلى مفهوم الحرية بمفهومها الغربي وهي التي تعطي للإنسان الحق في أن يفعل في نفسه ما يشاء، كل ما يحلو له، وهذا الأمر- يقول يتيم- لا يلزمنا ومن تم يمكن أن نعمل على تطوير الديمقراطية وتثبيتها مثلما أن الغرب لم يأخذ الأطر العقدية التي كانت مؤطرة للعلم الإسلامي والتجربة الإدارية في العالم الإسلامي التي تم نقلها إلى أوربا، أي أنه أخذ ما يهمه وترك ما لا يعنيه وهذا نفس الشيء الذي يجب أن ينطبق علينا ". إذن فالديمقراطية غير مرفوضة ضمن احترام مقومات الأمة وهويتها الدينية والحضارية. يقول محمد يتيم :"يجب إغناء هذه الديمقراطية بالروح الإسلامية خصوصا إذا كانت تحقق مقاصد الإنسان في تكريمه والثقة به وفي منع الاستبداد والإعجاب بالرأي الفردي الخاص والميل إلى الإجماع وأن تكون الأمة مصدر السلطات". هذه الروح الإسلامية هي التي تتجسد في الشورى- حسب دعاة هذا الطرح-باعتبارها نظاما شامل للحياة بكل جوانبها وأبعادها وأما اصطباغها بقيم الإسلام "(... ) ومضامينه، لا يصح أن تقع وتمارس إلا بخلق وأدب (... ) كما لا يمكن فصلها عن الأخلاق وتقوى الله عز وجل وطهارة النية". الشورى إذن تتجاوز الشؤون السياسية إلى الشؤون الأخلاقية والتربوية، حيث "تشمل كافة جوانب الحياة وكافة مستوياتها... فهي أولا وقبل كل شيء خُلُق فردي يلتزم به الفرد في حياته الشخصية وسلوكه اليومي"؛ وهذا ما يجعلها لحظة أجرأتها في المجتمع الإسلامي، محصنةً بضمانات أخلاقية وتربوية توفر لها شروط التطبيق السليم. فالشورى حسب هذا التصور، ليست مجرد آلية لتحديد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين على المستوى السياسي، وإنما هي قيمة اجتماعية تشكل جزءا من النظام التربوي والثقافي للإنسان الفرد داخل المجتمع المسلم". أما الديمقراطية- حسب الريسوني- فهي نظام ليس له انتماء وليس له مضمون محدد، "ولا أتحدث عن انتماء المصطلح، ولكن أقصد فكرة الديمقراطية في جوهرها ومقصودها، فهي لكل جنس ولكل بيئة". مع استحضار قابليتها للتكيف من حيث التفصيل والتنزيل والممارسة. من خلال هذه التعاريف يتضح مدى التركيز على المضمون الفلسفي/ الأخلاقي لمفهوم الشورى، مقابل التركيز على الجانب العملي الإجرائي والتنظيمي لمفهوم الديمقراطية، باعتبارها حصيلة لتراث إنساني ساهمت في إنتاجه البشرية جمعاء، وتبلور عنه توجه غني في تدبير شؤون الحكم ومرتكزاته، يعتمد على نظام المؤسسات وفصل السلط". غير أن الديمقراطية تعني أيضا الاحتكام إلى صناديق الاقتراع واحترام الحريات العامة والشخصية؛ وبذلك فهي منظومة متكاملة لا تقبل التجزئة أو التقسيم . وهذا ما يغيب في الخلفية النظرية لمنظري الإسلام السياسي؛ فالحرية الشخصية مثلا لا تعني الإخلال بالقيم المشتركة داخل المجتمع كما لا تعني في الآن نفسه قمع الاختيارات الفردية. من هذه الزاوية يتمثل الريسوني مفهوم العلمانية بمعناه الايجابي، الذي يفيد في تدبير الشؤون العامة ولا يضر بالدين، حيث يبقى مقبولا من طرفه . فالعلمانية- حسب رأيه- مفهوم متعدد التعريفات والتطبيقات." ففي فرنسا تعني العلمانية القطيعة مع الدين، نتيجة للصراع الذي كان قائما بين الكنيسة والدولة، هذا الصراع لم يعد موجودا اليوم، لأن العلمانية لم تعد تقتضي بالضرورة الصراع مع الكنيسة، والأمر يختلف بالنسبة لبريطانيا حيث يلاحظ أن الملكة هي رئيسة الكنيسة ويخضع تسييرها لميزانية الدولة". وفي نفس السياق يسير محمد يتيم، الذي يقر بتعدد مفاهيم العلمانية، والتي منها القول بفصل الدين عن الدولة كما هو الشأن في فرنسا، حيث يصبح تدبير الدين من شأن الأفراد والمجموعات، بينما يبقى المجال العمومي ومجال الدولة محرما على الدين. وهذا لا يعني أن العلمانية تتنكر لحرية الناس في مجال الاعتقاد والممارسات الدينية، ففي بريطانيا مثلا لازال هناك دور للدين. وفي مقابل ذلك هناك من يرى أن للعلمانية تمثلا وظيفيا يرتبط بمفهوم العقلنة، أي عقلنة تدبير الشأن السياسي، الذي هو في أصله تدبير اجتماعي وليس مجالا مقدسا؛ وبالتالي فالعلمانية زمنية والشأن السياسي شأن بشري والدولة دولة إنسانية. هذا التمثل في نظر محمد يتيم لا يتعارض كثيرا مع النظرية السياسية الإسلامية، على اعتبار أن الدولة في الإسلام هي تدبير زمني. يقول محمد يتيم إن "هذا الموضوع لا يبتعد كثيرا عن الجدل الذي كان دائرا في الإسلام والذي وجدنا فيه نقاشا حول الإمامة، هل تندرج في إطار أصول الدين أي العقيدة أم تندرج في إطار ما يسمى مبحث السياسة الشرعية، فوجدنا أن الشيعة قد ربطوا الإمامة بالعقيدة. فمثلا الشيعة في إيران ومن خلال نظرية العقيدة للإمام الخميني، وجدوا حلا لهذه الإشكالية يجعل الإمامة وقيام الدولة الشيعية مرهونَيْن بعودة الإمام من خلال ولاية الفقيه، أي أنه صار بالإمكان الحديث عن دولة إسلامية شيعية زمنية مرجعها الأعلى هو الولي الفقيه، الذي ينوب عن الإمام الغائب انطلاقا من نظرية الإمامة. في حين أن السنة نظروا إلى الإمامة باعتبارها من السياسة الشرعية أي أنها ترتبط بتدبير المصالح الشرعية. أما إذا أخذنا المعنى الثاني الذي هو الدولة العقلانية التي تدير مصالح الناس وهذا التدبير هو اجتهادي يبقى تحت مراقبة الناس. ومن هنا لا يصبح هناك تعارض بين الحاكمية التي تعني في هذه الحالة المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وبين السيادة للأمة، التي تعني اختيار الشعب لنظام حكمه وحاكميه والتداول على السلطة في إطار المقومات العليا للإسلام (... ). فهذا المعنى للعلمانية هو الذي يؤكد على دولة الإنسان ويرفض الدولة الثيوقراطية في التصور الإسلامي، مع ملاحظة جوهرية في مرجعية الدولة أساسا، لأن الدولة في الإسلام هي دولة مدنية مرجعيتها إسلامية والحاكم يستمد مشروعيته من تنصيب الأمة له". نخلص مما سبق أن الشورى، حسب تصور رموز حزب العدالة والتنمية ، نظام أخلاقي، إيماني وروحي وتربوي، يشمل كل مناحي الحياة الفردية والاجتماعية؛ وليست مجرد آلية لتحديد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين. ومادامت الديمقراطية تهدف إلى ضمان حرية اختيار الحاكم في جو حر ونزيه فهي معطى إنساني– بغض النظر عن منشئها- لا يتنافى مع الشورى، بل يكملها تماشيا مع زمنية الدولة الإسلامية، التي من مرتكزاتها أن الأمة هي من ينصب الحاكم ومادام الأمر كذلك فإن الديمقراطية كفيلة بتوفير الآليات الناجعة لذلك "فما علينا كمسلمين- يقول أحمد الريسوني- إلا أن نبدع ونسهم في التطوير والتحسين والتهذيب، وعلينا وعلى جميع سياسيينا المتمسكين بالهوية الإسلامية والقيم الإسلامية، أن نبلور ممارسات ديمقراطية متدينة ومتخلقة، لكي نصبح في غنى ومنأى عن الديمقراطية اللادينية". وبهذا تكون الديمقراطية متماثلة مع الشورى، مادامت كل واحدة منهما تشمل جانبا معينا من جوانب الحياة الإنسانية، مما يفضي إلى تكاملهما. فالشورى حسب أحمد الريسوني، من صفات جماعة المسلمين، التي قال فيها الله "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون". فمقتضى قوله: "وأمرهم شورى بينهم" أن كل أمر من الأمور المشتركة بين المسلمين، مما يهم جماعتهم أو فئة من فئاتهم، وليس فيه حكم منصوص، فهو" شورى بينهم"، أي أن يتم تدبيره والبت فيه بالتشاور والتقرير الجماعي فيما بينهم، إما بشكل مباشر من عموم أصحاب الأمر، وإما بالوكالة منهم والنيابة عنهم. وأول الشورى في موضوع الحكم والسياسة هو أن يكون اختيار الناس لحاكمهم "شورى بينهم"، ويكون عزله إذا تعين عزله أو تغييره إذا تعين تغييره "شورى بينهم". وإذا احتاجوا إلى تحديد طريقتهم– أو تغييرها- لتوجيه حاكمهم أو احتاجوا إلى تحديد واجباته وصلاحياته، أو صلاحيات غيره من المسؤولين معه، أو لتحديد كيفية إدارته للحكم، بما في ذلك طريقة ممارسة الشورى أثناء الحكم، فذلك أيضا "شورى بينهم". وهذا خلاف ما ذهب إليه عبد السلام ياسين الذي أعطى بناءا على منطوق النص الشرعي صلاحية اتخاذ القرار في آخر المطاف للأمير، حيث قال:" بعد "وشاورهم في الأمر" جاء: "فإذا عزمت فتوكل". الشورى مرحلة تهييئية للقرار، ينبغي أن يُتفاوض فيه حتى يحصل الإجماع أو شبهه بعدها يعزم الأمير ويأمر ويطاع". أما الريسوني فيقر بضرورة سريان الشورى على كل ما هو مشترك بين الناس، بما في ذلك مدة حكم الحاكم الأعلى أو حتى غيره من الولاة والأمراء، فذلك "شورى بينهم". وبالتالي فهو يحاول تقديم رؤية "متفتحة" تحاول " تمدين" مفهوم الشورى- أي جعله دنيويا وليس دينيا فقط إن صح هذا التعبير– حتى يتم الخوض في كل ما هو مشترك بين الناس. فالشرع الإسلامي- يقول الريسوني- ينقسم إلى الأحكام الشرعية التي هي تقرير واستنباط وبيان لما بلغه ونفذه عليه السلام من أحكام الشريعة المنزلة. وهذه الأحكام تتميز بطابع الحسم التشريعي المستقر والمنضبط. أما قسم أحكام السياسة الشرعية فهو اقتداء وامتداد ومواصلة للتصرفات النبوية الصادرة بمقتضى الإمامة السياسية. هذه الأحكام التي من ضمنها الشورى، تمتاز بسعتها ومرونتها وقابليتها للتكيف، مع تعدد الاختيارات فيها. يقول الرسوني: "قال ابن القيم رحمه الله: "وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل وبين بعض الفقهاء، فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم ولا يخلو منه إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك:"لا سياسة إلا ما وافق الشرع"، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة(... )". مسألة الحكم وحيثياته يجوز فيها التداول والتشاور، نظرا لعموميتها ومرونتها؛ أما المعتقدات والعبادات والأخلاق، والتي تتميز بتمامها وكمالها فتبقى غير قابلة للزيادة أو النقصان.، يقول الريسوني. وهناك أيضا مجالات فيها قدر من الأحكام المفصلة الثابتة، وفيها أيضا متغيرات تراعى فيها الأعراف والأحوال وفق قيم وضوابط عامة،. يقول الريسوني بهذا الخصوص :"وتدخل هنا أحكام الأسرة والجنايات والمعاملات المالية. وهناك مجالات ليس فيها سوى مبادئ وقواعد ومقاصد، وتبقى مساحة الاجتهاد والاختيار، والتعديل والتطوير شاسعة فسيحة. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على مجال الحكم والسياسة". من خلال هذه الرؤية، يتضح أن الشورى تندرج في مجال أحكام السياسة الشرعية ومن ثم تتسم بطابع المرونة والقابلية للتطوير. لا ينقصها لتحقيق ذلك سوى الانفتاح على الديمقراطية الغربية، باعتبارها رصيدا غنيا بالتجارب التطبيقية والأنماط التنفيذية، وبشحنة تنظيمية هائلة قابلة للتوظيف في مسيرة التحديث المنشود، والذي هو مجال متروك في الإسلام للاجتهاد والاقتباس. فجوهر الديمقراطية على الأقل من الناحية النظرية، هو حق الشعوب والجماعات في أن تحكم بنفسها وباختياراتها وبرضاها، وأن الأفراد في الأصل سواسية في هذا الحق. ثم تتفرع مبادئ أخرى أفرزتها وأنضجتها التجارب، مثل مبدأ الأغلبية، وحق الأقلية في الرأي والمعارضة، ومبدأ فصل السلط وتوزيعها على هيئات متعددة. وهذا يخالف ما ذهب إليه عبد السلام ياسين الذي يعارض إمكانية مناقشة قرار الأغلبية من طرف الأقلية حيث اعتبر ذلك، عيبا من عيوب الديمقراطية: "هناك عيبان من عيوب الديمقراطية: تحزبات الديمقراطية وعصبياتها". أما أحمد الريسوني، وفي إطار دفاعه عن الديمقراطية التي من مميزاتها مسألة الأغلبية والأقلية، يعود إلى زمن النبوة لتأصيل طرحه، حيث يؤكد أن الدولة الإسلامية لم تقم إلا بعدما توفرت لها القاعدة الشعبية، "فالإسلام لم يُقِمْ دولته لا بمكة ولا بالحبشة (لأن المسلمين كانوا يشكلون أقلية آنذاك)، وإنما أقام دولته وشريعته حين تجمعت لديه قاعدة شعبية واسعة تؤمن به وتشكل السواد الأعظم من المجتمع (الأغلبية)". أي أن الأغلبية هي التي حسمت التوجه العام للدولة، وهذا من صميم الديمقراطية التي تعتمد نظام الأغلبية في اتخاذ القرارات وفي الحسم في الإشكالات التي تعترض الساهرين على تدبير الشأن العام، مقابل ضمان حق الأقلية في التعبير والاقتراح. تبني أحمد الريسوني للديمقراطية ليس تبنيا نفعيا، يتأسس على كون الجماعات الإسلامية قادرة على كسب الأغلبية الاجتماعية، إذا ما توفرت ديمقراطية حقيقية شفافة ونزيهة وبالتالي القبول بالديمقراطية فقط من أجل الوصول إلى الحكم- كما يستشف من قول عبد السلام ياسين:" كلمة ديمقراطية تعني حكم الشعب واختيار الشعب والاحتكام إلى الشعب، وهذا أمر ندعو إليه ولا نرضى بغيره، على يقين نحن أن الشعب المسلم العميق الإسلام لن يختار إلا الحكم بما أنزل الله وهو الحكم الإسلامي"- ولكن الريسوني يقبل بها بلا حدود ومهما تكن نتائجها، وهذا ما يعنيه بقوله:" نعم لتطبيق الديمقراطية بلا حدود، لأنني أرى أن الديمقراطية تنعكس فيها وفي نتائجها، وتوجهاتها وآثارها القيم السائدة، والعقائد السائدة، والثقافات السائدة (...) نعم للديمقراطية بلا حدود...". وبهذا ينتقل أحمد الريسوني من القبول بالآليات الإجرائية التنظيمية للديمقراطية إلى تبنيها كثقافة وقيم وعقائد، عكس عبد السلام ياسين الذي يركز على المضمون العلماني /أللائكي للديمقراطية ليبرر رفضه لها. يرى أحمد الريسوني أن الديمقراطية معطى إنساني يمكن لأي كائن سياسي واجتماعي أن ينهل منه. فهي" شيئ جيد، ورصيد بشري ممتاز وناضج وراقي (...) وقابلة للتكيف مع البيئة التي تنزل فيها". مسألة التكيف مع الديمقراطية– حسب محمد يتيم- تكون نتيجة لعمليتين اثنتين هما: الاستيعاب والتلاؤم، فالأولى تحيل إلى فعل التفكيك والتحليل والهضم، الذي تباشره الذات تجاه الموضوع، والذي ينتهي إلى تحويل أهم العناصر المفيدة في الموضوع إلى جزء لا يتجزأ من الذات. أما العملية الثانية فتحيل إلى جملة التغيرات اللازمة التي تطرأ على الذات نفسها بفعل عملية الاستيعاب، الأمر الذي يعني أن كل عملية استيعاب، تفرض تلاؤما يناسبها لتنتج تبعا لذلك عملية التكيف التي تسعف في تفسير النمو والتطور في جميع الظواهر، مما يقتضي أولا فهما لمقاصدها وآلياتها، وثانيا جهدا يتم بموجبه استنباتها على أرضيتنا الثقافية والحضارية، وثالثا إسهاما نوعيا يضيف إلى ما راكمته الإنسانية في مجال الفكر والممارسة الديمقراطيين إبداعا جديدا وبذاك يتحقق فعليا مبدأ الكونية". بعد مرحلة التبني والاستيعاب، تأتي مرحلة المساهمة في تطوير الديمقراطية ذاتها، فمن "واجب الإسلاميين– يقول الريسوني- أن يطوروا الممارسة الديمقراطية دون أن يغيروا في جوهرها الذي هو إعطاء الكلمة للأمة ولممثليها، وإعطاء الحرية، حرية الرأي وحرية المبادرة، وحرية النقد، بما في ذلك نقد الرؤساء والوزراء والزعماء ومراقبة أعمال الحكومات وتجنب الاستبداد وتركيز السلطة"؛ ليصل إلى أن الديمقراطية ليس لها دين وليست ضد أي دين، وبما أنها كذلك، فإنها حين تطبق في وسط إسلامي تصبح أكثر تعبيرا عن إسلاميته، "ومن أقوى السبل لتعزيز إسلاميته". يخلص أحمد الريسوني إلى أن الديمقراطية وجدت بشكل أو بآخر، لدى القبائل والتجمعات الصغيرة التي كانت تجتمع حول الشؤون التي تهمها وتعنيها. "فيتداولون فيما بينهم إلى أن يسفرون عن أمر يتراضى عليه أغلبهم أو كلهم ثم يمضون فيه". ومن هنا يتضح مدى السعي الحثيث لبلورة رؤية اجتهادية تنطلق من السمات العامة للشورى، بعد أن أضفت عليها ميزة الدنيوية؛ لتصل إلى تبني مبادئ الديمقراطية الغربية، بل أيضا الطموح إلى المساهمة في تطويرها. تعتبر هذه النظرة إلى الممارسة الديمقراطية "متنورة" إذا ما قورنت ببعض الطروحات الإسلامية "المتطرفة"، مثل تلك التي تأسست على طروحات أبو الأعلى المودودي ،الذي يعتبر الديمقراطية كفرا و"تأليها للإنسان وحاكمية الجماهير"، وهذا ما قاله أيمن الظواهري، أحد أبرز رموز تنظيم القاعدة، حيث كتب يقول: "اعلم أن الديمقراطية، والتي تعني حكم الشعب، هي دين جديد يقوم على تأليه البشر بإعطائهم حق التشريع، غير مقيدين في تشريعهم بأية سلطة أخرى". وبهذا المعنى فهو يعتبر الديمقراطية مجرد "دين وضعي كافر، حق التشريع فيه للبشر، المشرعون في الديمقراطية هم شركاء معبودون من دون الله، يعبدهم كل من يطيعهم فيما يشرعون (...) فأي كفر بعد هذا". ويضيف قائلا:" إذا نصت دساتيرهم على أن الدولة ديمقراطية، ودينها الرسمي الإسلام، فهو كمن قال :"أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله". هذه الآراء تجاه الديمقراطية هي نتيجة للتفسير النصي الذي قال عنه علي بن أبي طالب:" القرآن لا ينطق وهو مكتوب، وإنما ينطق به البشر فهو حمال أوجه"، بهذا القول تجادل الجماعات الإسلامية المعتدلة نظيرتها المتطرفة. من هنا يبدو التباعد الحاصل بخصوص تمثل الديمقراطية، من طرف رموز الجماعات الإسلامية، التي تنقسم إلى ثلاثة تيارات رئيسية: تيار متطرف يرفض الديمقراطية ويعتبرها زندقة وإلحادا، وتيار ممانع يتحفظ على بعض جوانبها، وتيار معتدل يسعى إلى إيجاد حلول وتفسيرات تمكنه من التعايش معها، بما هي اعتراف بحق الاختلاف في الوجود وفي تمثل القيم والمعتقدات التي تريد الإنسانية أن تعيش على أساسها، شريطة احترام بعضها البعض. من خلال ما سبق ذكره يمكن إثارة ملاحظتين أساسيتين: الملاحظة الأولى: رغم المجهود التحليلي الثاوي في تصور محمد يتيم و أحمد الريسوني لموضوع الشورى والديمقراطية، والذي حاولا من خلاله تقديم "تخريجات" لهذه الإشكالية التي ثار حولها ولا زال جدال كبير، نلمس تغاضٍ- مقصود ربما- عن تناول معنى الشورى كما تشكل في المتن القرآني وفي تاريخ الحكم السياسي الإسلامي. وهذه الملاحظة تسري على أغلب منظري الجماعات السياسية الإسلامية. فما هو معروف أن مبدأ الشورى المستفاد من القرآن، مبدأ عام ومطلق وغير محدد، وليس من شأنه أن يُعتبَر ذا وضع تشريعي، يقرر الطابع الخاص لنظام الحكم في الإسلام، فالمبدأ يحيل إلى وصف أخلاق المسلمين وليس تحديد شكل الحكم الذي ينبغي إتباعه. فخطاب: "شاورهم في الأمر"، موجه إلى الرسول، الذي لا يمكن أن يحتل أي كان مكانته الدينية، حسب ما جاء في القرآن، لأنه ببساطة هو أخر الرسل. وخطاب: "وأمرهم شورى بينهم"، يصف العلاقات الأخلاقية التي كانت سائدة بين أفراد جماعة المسلمين الأوائل ولا تشير الآية الخطاب إلى طبيعة شكل الحكم، هل ينبغي أن ينبثق عن ما اصطلح عليه بأهل الحل والعقد؟ أم عن كل مكونات الأمة؛ وبالتالي لا بد من اللجوء إلى الانتخاب عبر صناديق الاقتراع ؟. هذا على مستوى النص القرآني أما نص الحديث، تحديدا غدير خم ، فقد يقودنا إلى التصور الشيعي الذي يقول بأن الخلافة حق لعلي ابن أبي طالب ولأولاده من بعده بالتتابع أو التأويل السني، الذي يرى أن كلمة الموالاة تعني فقط التكريم والتقدير. والخلافة يجب أن لا تخرج عن قريش. وكلا التأويلين لا يحددان بوضوح شكل الحكم السياسي المفترض أنه إسلامي. وذلك ما يستشف أيضا من تاريخ الممارسة السياسية الإسلامية، حيث لم تفرز لنا تجربة "الخلافة الراشدة" أي نموذج سياسي واضح المعالم . ذلك أن كل خليفة تولى هذا المنصب بطريقة تختلف عن الآخر. فأبو بكر كان قد تولى هذا المنصب في ظل صراع حاد بين المهاجرين والأنصار، شكلت سقيفة بني ساعدة ساحته الرئيسية. وهو صراع أفضى إلى تنصيبه أميرا على المسلمين بعدما تمت إزاحة زعيم الأنصار سعد بن عبادة. مقابل تحفظ بني هاشم الذين كانوا يقولون بأن الخلافة حق لعلي بن أبي طالب باعتباره من أل البيت. أما عمر بن الخطاب فقد تم تعيينه من طرف أبي بكر. حيث يروى أنه قال وهو في مرض الموت: "أترضون أن استخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة. وإنني استخلف عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا". بهذه الطريقة تولى ابن الخطاب منصب الخلافة الإمامة . أما عثمان بن عفان فقد تولى المنصب بعد وفاة عمر بن الخطاب، الذي عين ستة صحابة، حيث قال وهو في فراش الموت إثر الطعنة التي تعرض لها: "عليكم بهؤلاء الرهط الذي مات رسول الله وهو عنهم راض، وقال فيهم، إنهم من أهل الجنة: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن عمر،على أن لا يكون له من الأمر شيء". ورأى بأن تكون الخلافة لمن يحرز رضى الأغلبية، فإن انقسمت الجماعة إلى فرقتين متساويتين كان رأي عبد الله بن عمر مرجحا لمن ينحاز إليها منهما. فإن لم ترض القوم حكمه، فليكن مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف. وقد مضت ثلاثة أيام على وفاة عمر بن الخطاب، والمناقشات لم تنته بعد إلى اختيار الخليفة، فاقترح عبد الرحمان بن عوف . أن يتولى دراسة الموقف واختيار الأفضل على أن يستبعد نفسه من الترشيح للخلافة، ووافق الآخرون على الاقتراح بعد تحفظ، وفي الأخير انتهى الأمر إلى اختيار عثمان بن عفان. ما يلاحظ على هذه العملية هو استبعادها للأنصار من ضمن هؤلاء الستة، الذين كانوا ينتمون إلى قريش. فعلي بن أبي طالب من بني عبد المطلب ابن عم النبي الشقيق، وعثمان بن عفان من بني أمية، وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، وصهر عثمان، رجل غني ومسموع الكلمة، وسعد بن أبي وقاص من بني زهرة أيضا، والزبير بن العوام من بني عبد العزي بن قصي، والملقب بحواري رسول الله، وطلحة بن عبيد الله من تيم، عشيرة أبي بكر. بعد مقتل عثمان بنو عفان من طرف الوافدين من الأمصار، تولى علي بن أبي طالب الخلافة باعتباره من أبرز القيادات التاريخية المتبقية. لتأتي بعد ذلك معركة الجمل وصفين وما حايثهما من نتائج سياسية أبرزها تحول الخلافة إلى ملك مع بني أمية. من خلال تتبع الكيفية التي تولى بها كل خليفة على حدة منصب الخلافة، يتضح أن هذه التجربة لم تفرز طريقة محددة لتعيين الحاكم. وعليه يبقى مفهوم الشورى ذا حمولة أخلاقية أكثر منها تشريعية وبالتالي يكون التاريخ قد تماهى مع النص، في مسألة عدم وجود شكل معين لاختيار الحاكم في الإسلام وفي تاريخ المسلمين. الملاحظة الثانية: ما يلفت الانتباه هو ذاك الخلط بين مفهوم العلمانية واللائكية، الحاصل في رؤية أحمد الريسوني ومحمد يتيم ، فما هو معروف في تراث الحداثة السياسية الأوربية، في شقها الليبرالي تحديدا، هو أن اللائكية كما تبلورت في فرنسا، تعني فصل الشأن الديني/ العقدي عن الشأن الدنيوي /السياسي، أي أن تمارَس طقوس العبادة في استقلالية عن الشأن العام، بمعنى أن لا تكون المؤسسة الدينية (أية مؤسسة دينية) تابعة للدولة، التي يفترض أنها تمثل المصلحة العامة. وبالتالي فهي دولة مدنية وليست دينية، وهذا شيء معروف بخصوص منع ارتداء الرموز الدينية داخل المؤسسات العمومية الفرنسية . أما العلمانية فتعني بشكل عام النظر إلى ظواهر الطبيعة والاجتماع من زاوية علمية تتوخى العقلنة و تنطلق من التجربة وليس الاعتقاد، بمعنى توظيف الخبرة العلمية لتفسير هذه الظواهر، بعيدا عن التفسير الغيبي الميتافيزيقي للعالم . وبالتالي فإن مفهومي اللائكية والعلمانية لا يعاديان الدين، حيث أن اللائكية تبعده عن التوظيف السياسي الضيق والعلمانية تسعى إلى تفسير الظواهر بمنطق العلم أي التجربة، بعيدا عن المنطق الغرائبي الذي يسيء إلى الدين نفسه، من خلال إقحامه في مجالات يحكمها التبدل والتحول. *باحث في الجماعات الإسلامية، كلية الحقوق، مراكش. [email protected]