مسؤول فرنسي: الرئيس ماكرون يزور المغرب لتقوية دعامات العلاقات الثنائية    أساتذة الطب ينددون بحملة التشهير    قرار "العدل الأوروبية" يدفع المغرب إلى إعادة رسم الشراكات الناجعة مع بروكسل    وزير الخارجية الاسباني يرد بسرعة وقوة على قرارات محكمة العدل الأوربية ويجدد دعم إسبانيا لسيادة المغرب على صحرائه    وزير خارجية إسبانيا يبرز أهمية اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري بين الاتحاد الأوروبي والمغرب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    المحامون يقاطعون جلسات الجنايات وصناديق المحاكم لأسبوعين    رغم إلغاء اتفاقية الصيد.. فون دير لاين وبوريل يؤكدان التزام الاتحاد الأوروبي الحفاظ على علاقاته الوثيقة مع المغرب    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    ابتدائية تطوان تصدر حكمها في حق مواطنة جزائرية حرضت على الهجرة    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    فون دير لاين وبوريل يجددان التأكيد على التزام الاتحاد الأوروبي لفائدة الحفاظ أكثر على علاقاته الوثيقة مع المغرب وتعزيزها في كافة المجالات    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو    عشرات الوقفات الاحتجاجية بالمدن المغربية رفضا للتطبيع وتنديدا بالجرائم الصهيونية في فلسطين ولبنان        إيران: خامنئي يؤكد في خطبة الجمعة أن إسرائيل لن تنتصر قط على حزب الله وحماس    فيلا رئيس الكاف السابق واستدعاء آيت منا .. مرافعات ساخنة في محاكمة الناصري    باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    وزارة الخارجية: المغرب يعتبر نفسه غير معني بتاتا بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    الجمع العادي للمنطقة الصناعية بطنجة برئاسة الشماع يصادق بالإجماع على تقريريه الأدبي والمالي.. وإشادة كبيرة بالعمل المنجز    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    الجماهير العسكرية تطالب إدارة النادي بإنهاء الخلاف مع الحاس بنعبيد وارجاعه للفريق الأول    محكمة أوروبية تصدم المغرب بقرار إلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    ارتفاع طفيف في أسعار النفط في ظل ترقب تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط    محكمة العدل الأوروبية تصدر قرارا نهائيا بإلغاء اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري مع المغرب    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    آسفي: حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    آسفي.. حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    وزير خارجية إيران يصل إلى مطار بيروت    تقدير موقف: انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وفكرة طرد البوليساريو "مسارات جيوسياسية وتعقيدات قانونية"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيح الفزازي ومسالة العلمانية والعلمانيين.. الجزء الثاني
نشر في أريفينو يوم 24 - 12 - 2011


[email protected]
بعد أن استعرضنا في الحلقة السابقة (الجزء الأول) موقف وتصور الشيخ الفزازي من العلمانية، سنحاول في هذه الحلقة مناقشة بعض القضايا التي تناولها الشيخ في معرض حديثه عن العلمانية والعلمانيين.
أولا: حول مسألة الشريعة:
يقول فضيلة الشيخ بأن مصائب الغرب تنحصر في خضوعه للكنيسة الظالمة، بينما تنحصر مصائب المسلمين في الابتعاد عن شريعة الله، حيث قال بالحرف ” لقد كانت مصائب الغرب في خضوع الناس لكنيسة ظالمة وكانت مصائبنا في الانفصال عن شريعة ربنا العادلة..”. فهل هذا صحيح من وجهة نظر التاريخ؟.
وتجدر الإشارة هنا أن فضيلة الشيخ يتحدث في مقاله، المذكور في الجزء الأول ؛ عن الشريعة في معناها التشريعي والقانوني؛ أي تطبيق الحدود (= القوانين) المنصوص عليها في الإسلام؛ سواء في النص / القرآن أو السنة، وبالتالي فإنه لا يقصد الشريعة في معناها التنظيمي؛ أي تنظيم المجتمع وفق مجموعة من قيم ومبادئ الشريعة الإسلامية، ومنها العدالة الاجتماعية والمساواة و… الخ، حيث أن الشريعة لا تعنى فقط الأحكام والقوانين (= الحدود) المنصوص عليها في الإسلام، كما هو شائع لدى أغلبية الناس، وإنما تعنى أيضا المنهج والطريق أو السبيل، حيث يقول الله سبحانه وتعالى ((لكل جعلنا منكم شريعة ومنهاجا (سورة المائدة47) و ((جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها)) وهناك آيات أخرى تفيد نفس المعنى.
انطلاقا من هذه الخلفية تكون رسالة الإسلام هي رسالة الرحمة أولا، ورسالة الأخلاق ثانيا، وليست رسالة تشريع كما يروج السلفيون. فنبي الإسلام نفسه قال {أنا نبي الرحمة} ثم قال أيضا {بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}، وهذا ما تؤكده سورة النحل أيضا ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)) . فأين الإسلاميون من شريعة الرحمة والعدل والمساواة… ، وليس فقط شريعة المنع والتحريم وتقطيع الأيادي والرجم.. الخ؟.
فإذا استطعنا تحقيق الشريعة بمفهومها التنظيمي؛ أي سيادة العدل الاجتماعي (توزيع الثروات الوطنية بشكل عادل ومتساوي بين المواطنين) والمساواة الكاملة بين المواطنين على أساس الحرية والمواطنة التي تعتبر من أبرز القيم والمبادئ التي يحث عليها الإسلام، وليس على أساس الدين والانتماء المذهبي، كما هو سائد الآن في معظم الدول الإسلامية، فآنذاك لا داعي، في اعتقادنا، لتنفيذ الشطر الثاني من الشريعة الخاص بالعقوبات، لكون أن هذه الظواهر ستندثر من تلقاء نفسها أو على الأقل سيختفي الجزء الأكبر منها. فلا يعقل مثلا أن يقطع يد السارق وهو لا يتوفر على ما يأكل!!. فالجريمة لا تحارب بالجريمة، حيث أن قطع يد السارق مثلا، وهو لا يتوفر على شغل أو مدخل مالي قار يضمن له الشروط الضرورية للعيش الكريم والمحترم يعتبر في نظرنا جريمة في حق الإنسان.
يضاف إلى هذا أن الشريعة بمعناها الشائع بين الناس؛ وهي تطبيق الحدود، لم يتم تطبيقها يوما ما بالشكل الكامل على امتداد التاريخ الإسلامي. وذلك لكونها ليست وصفة ثابت وجاهزة لتطبيق في كل مكان وزمان، بل إنها في تطور وتحول مستمر مع تطور وتحول المجتمع ” الإسلامي”، خاصة إذا كنا نعتبر أن الإسلام صالح لكل مكان وزمان. علاوة على هذا فإن تطبيق أحكام الشريعة مرهون بتوفر مجموعة من الشروط الضرورية لتطبيقها؛ وهي شروط ضرورية وإلزامية بإجماع علماء الأمة على مدى التاريخ الإسلامي، هذا بالإضافة إلى ضرورة سيادة المناخ والظروف المناسبة لتطبيق أحكام الشريعة، ومنها المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
إذن، على هذا الأساس لا يمكن لنا الحديث عن انفصال المسلمين عن الشريعة، كما جاء على لسان الشيخ. ومن جانب آخر، لا ندري عن أية شريعة يتحدث عنها فضيلة الشيخ؟ لا ندري هل يتحدث عن الشريعة التي كانت موجودة زمن وجود الرسول (ص) أم أنه يتحدث عن شريعة الخلفاء الراشدين أو ربما عن شريعة الأمويين والعباسيين، أم هناك ربما شريعة أخرى لا نعرفها نحن عموم الجماهير؟.
فعلى سبيل المثال، لكي يتم تطبيق حد (= عقوبة) ” الزنا ” المنصوص عليها في القرآن الكريم؛ وهي الجلد (سورة النور / الآية 24) ، يستلزم مجموعة من الشروط، ومنها أربعة شهود يرون الفعل (= الزنا) رأي العين من أوله إلى منتهاه بحيث لا يمر الخيط بين الرجل والمرأة وهو أمر لم يحدث أبدا على مدى التاريخ الإسلامي حسب معرفتنا، فكيف سنحقق هذا الشرط في الوقت الراهن مع وجود الفنادق وشقق للكراء والهواتف والانترنت و.. الخ ؟. وكيف سنطبق عقوبة السرقة؛ وهي تقطيع اليد، بينما أن الأغلبية الساحقة من المسلمين يموتون جوعا أو إنهم على حافة الموت جوعا (الصومال، بنغلاديش، السودان المغرب، مصر، الجزائر.. الخ) ؟ فهل يحق في نظر الشيخ تطبيق أحكام الشريعة المنصوص عليها في القرآن في ظل غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية؟ وما هي عقوبة اختلاس ونهب أموال العام والتهرب من الضرائب والرشوة وغيرها من الأمور التي لم تشملها أحكام الشريعة المنصوص عليها في القرآن الكريم؟ ولماذا لا يتم الحديث عن أموال رؤساء مؤسسة إمارة المؤمنين في البلدان ” العربية ” التي يدافع عنها الشيخ ولو بالكذب والافتراء على الناس والتاريخ؟ من أين لهم بتلك الأموال الهائلة والقصور الفاخرة، بينما أن معظم المسلمين يموتون بالجوع والمرضى، بل ومنهم من يموت في أعماق البحار طمعا في الهجرة إلى بلدان الملحدين والعلمانيين ؟ أم أن الشريعة تطبق فقط على الفقراء والضعفاء من المسلمين في نظر الشيخ ؟.
بناءا على ما سبق توضيحه نقول للشيخ الفزازي، وأمثاله من الشيوخ، بأن مصائب المسلمين لا تكمن في انفصالهم عن الشريعة، وإنما تكمن أساسا في طبيعة الأنظمة الحاكمة في البلدان الإسلامية عموما، وفي البلدان التي تسمى تعسفا بالبلدان العربية، التي هي أنظمة رجعية استبدادية. الأنظمة التي تستغل الدين لأغراض سياسية من أجل حماية مصالحها وضمان استمرارها، فلقد سمعنا وشهدنا كيف تم استغلال الدين خلال الربيع ” العربي” الذي يجتاح شمال إفريقيا والشرق الأوسط، من طرف الأنظمة الحاكمة لوقف زحف المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، حتى المظاهرات تم تحريمها !!، فماذا تركتم للشعب ؟.
تكمن مصائب المسلمين عموما، ومصائب العرب المسلمين الذين يعيشون في ظل الأنظمة العربية خصوصا، في أمرين أساسيين وجوهريين، أولهما يتعلق بعقلية العرب. وثانيها تتعلق بتحويل الإسلام من مجرد دين؛ أي أنه عقيدة ودعوة، إلى دين ودولة. فالسؤال الذي يجب أن يطرح الآن ليس هو ذلك السؤال التقليدي الذي كان يطرحه رواد النهضة العربية حول لماذا تقدم الآخر (= الغرب) وتأخرنا نحن (= المسلمين) وإنما هو السؤال التالي: لماذا تقدمت الدول الإسلامية الغير العربية (تركيا وإيران وماليزيا واندونيسيا..) وتأخرت الدول العربية الإسلامية؟.
فعلاوة على أن الشريعة لم تطبق يوما ما بالكامل على امتداد التاريخ الإسلامي، كما أسلفنا القول، فإنها تطبق في جميع الدول ” العربية ” ولم يتم إلغائها بشكل نهائي كما يدعى خطاب السلفيين، خاصة في مجال الأحوال الشخصية والمواريث وغيرها من الأمور، بل إنها تطبق حتى في الدول التي تعتبر نفسها ” علمانية ” كتونس وسوريا مثلا. هناك فقط اختلاف في اجتهادات تطبيقها؛ أي حول كيفية تطبيقها.
فالشريعة التي يطبقها النظام الإسلامي الدكتاتوري في السودان والسعودية وإيران تختلف كليا عن الشريعة التي يطبقها النظام المغربي والأردني والمصري مثلا، والمسألة هنا تتعلق أساسا بالكيفية وليس بالمبدأ. فالأول يطبق أحكام الشريعة كما هي موجودة حرفيا في النصوص القرآنية مند أزيد من أربعة عشر قرنا، كان التاريخ لم يتحرك بعد. والثاني يجتهد في تطويرها وتكيفها مع ظروف العصر وتحولاته. ففي السودان والسعودية على سبيل التمثيل فقط يتم تطبيق عقوبة السرقة؛ وهي قطع اليد، المنصوص عليه في سورة المائدة /الآية 48، بينما في المغرب مثلا (وفي دول إسلامية أخرى) يتم تطبيق عقوبة السجن، ونفس الشيء ينطبق على الظواهر الاجتماعية الأخرى، فما الضرر في هذا يا شيخ؟ الم يوقف عمر بن الخطاب وما أدراك ما عمر العمل بعقوبة السرقة عام الرماد المنصوص عليه في القرآن ؟ أليس هذا اجتهادا من عمر في تعريفه وتطبيقه للشريعة أم أن شيوخ الفضائيات يعرفون الإسلام أفضل من عمر؟. فإذا كان من حق عمر أن يجتهد في تطبيق الشريعة فمن حق الآخرين أن يجتهدون أيضا.
ثانيا: حول التاريخ الإسلامي:
حاول الشيخ في مقاله تنظيف التاريخ الإسلامي، الذي هو تاريخ دموي بامتياز، من الجرائم والتجاوزات التي ارتكبها المسلمون تحت ذريعة نشر وتطبيق الإسلام، وبالتالي فإنه حاول تبرئة المسلمين من ارتكابهم لجرائم بشعة في حق الناس باسم الدين وتطبيق شريعة الله في الأرض، وهذه واحدة من أكثر المغالطات التاريخية التي يحاول الإسلاميون تمريرها، حيث قال فضيلة الشيخ ما يلي ” هل عرفت امتنا الإسلامية صراعا علميا بين المسجد وإمارة المؤمنين ؟ ” ثم أضاف يقول أيضا ” هل قاوم علماء الإسلام عبر التاريخ كله اجتهادات العلماء في مجالات البحث في الفلك والطب والصيدلية والطاقة و.. الخ؟ أم العكس هو الذي كان ولازال وسيظل.. ؟”.
طيب، لنعود إلى التاريخ، ولو قليلا، لمعرفة هل ما يقوله الشيح صحيح أم خطأ؟. وعودتنا هذه ستكون في أمهات الكتب الإسلامية وليس في كتب المستشرقين، ومنها ” مقدمة ” ابن خلدون، وكتاب البداية والنهاية لابن الكثير، وكتابات محمود شاكر، وعبد الله العروي، ومحمود اسماعيل، ومحمد شفيق، والصافي علي مومن وغيرهم من الباحثين والمؤرخين المسلمين. فالكتب الإسلامية التاريخية، سواء التقليدية منها أو الحديثة، تؤكد لنا أن عملية نشر الإسلام، وخاصة بعد الهجرة، أو ما يمسى في التراث الإسلامي بالإسلام المدني (نسبة إلى المدينة وليس المدنية) ، كان في أغلبيته المطلقة عن طريق الغزو، كما تؤكد لنا هذه الكتب أيضا وقوع صراعات دموية بين المسلمين أنفسهم حول الخلافة.
ولهذا، نقول لفضيلة الشيخ اتق الله، فالتاريخ الإسلامي كله جرائم ومصائب، وربما أكثر بكثير من تاريخ الكنيسة نفسها. عموما، يبدو أن الشيخ، كباقي السلفيين، لا يستسيغ حقيقة التاريخ الإسلامي.
لقد اشرنا في معرض الحديث عن الشريعة أعلاه، إلى نقطة أساسية في تناولنا وتصورنا لمفهوم الشريعة؛ وهي أن الشريعة في تطور وتحول مستمر، بمعنى أنها تساير التحولات والمتغيرات التي يشدها ” المجتمع الإسلامي ” في كل مرحلة من مراحله. وبمعنى أدق، أن مبدأ التطور هو السائد في مسألة التشريع الإسلامي وليس الجمود، تماما على خلاف ما هو شائع لدى عموم الناس، وكذلك لدى بعض تيارات الإسلام السياسي، حيث يعتقدون أن كل ما جاء في الشريعة إبان ظهورها للوهلة الأولى، وخاصة بعد هجرة الرسول (ص) من مكة إلى المدينة، حيث سيدخل الإسلام مرحلة جديدة في تاريخه؛ وهي مرحلة التشريع؛ بمعنى تنظيم المجتمع كما قلنا سابقا، قلنا يعتقدون بأن الشريعة شيء ثابت ومقدس وبالتالي لا يجوز تغييرها أو تبديلها حتى ولو اقتضت ظروف العصر ذلك. ومن هذا المنطلق نفهم جيدا كيف بدا الإسلام يشرع القتال (= الحرب) (هناك العديد من الآيات والأحاديث في هذا الصدد) نتيجة ظروف موضوعية؛ ظروف اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى، سادة آنذاك في المجتمع الإسلامي الحديث النشأة، ومنها ضرورة انتشار وتوسع الإسلام خارج الجزيرة العربية، لا ننسى أن الإسلام دين عالمي. هذا أولا، وثانيا كسب المال والغنائم، وبالتالي توفير مصادر العيش لفئات واسعة من المسلمين. لهذا فإننا لا ندري كيف تغاضى الشيخ عن مبدأ تشريع القتال والحرب في الإسلام وهو المبدأ الذي سينتج عنه حروب وصراعات دموية بين المسلمين أنفسهم (= الفتنة الكبرى مثلا) ، وضد الآخرين كذلك (غزو شمال افريقيا، والشام وفارس والأندلس..) ؟، حيث بهذا التغاضي ينفي الشيخ ما تؤكده جميع الكتب الإسلامية دون استثناء (هناك اختلاف في التفاصيل والتأويلات والمبررات فقط) من حدوث جرائم حربية من طرف الجيوش العربية الإسلامية.
ففي كتاب البداية والنهاية لابن كثير على سبيل المثال نقرأ ما يلي { أمر عثمان عبد الله بن أبي سرح أن يغزو افريقية فإن فتها الله عليه فله خمس الخمس من الغنيمة فسار إليها وافتتح سهلها وجبالها وقتل خلقا عظيما… }.
ومن خلال هذه الفقرة نستنتج ثلاث ملاحظات أساسية ومهمة جدا لمعرفة التاريخ الذي يصفه الشيخ ” بالمشرق ” :
الملاحظة الأول: وهي أن الحرب كانت تقوم باسم الله؛ أي بذريعة نشر الإسلام (5) .
الملاحظة الثانية: وهي سرقة ونهب خيرات المناطق التي غزتها الجيوش العربية الإسلامية (6) .
الملاحظة الثانية: وهي حصول عملية القتل.
فهل يستطيع فضيلة الشيخ، أو غيره من السلفيين، أن ينفي حصول وحدوث مثل هذه الجرائم في التاريخ العربي الإسلامي؟.
على أية حال سنحاول تذكير الشيخ، ولو بإيجاز شديد، ببعض الوقائع والأحداث التاريخية الأخرى، التي لا يمكن لنا القفز عنها وتجاوزها. وذلك حتى يعرف القارئ الكريم حقيقة التاريخ الإسلامي من جهة، ومعرفة خطاب السلفيين حول التاريخ الإسلامي من جهة ثانية. ولكن قبل ذلك نشير هنا أننا نتحدث عن التاريخ الإسلامي وليس عن الدين / الإسلام نفسه.
نعود الآن إلى صلب الموضوع، ونقول، إذا كان الوضع في ” العالم الإسلامي” يختلف عن الوضع في الغرب، سواء قديما أو حديثا، لكون أن مؤسسة المسجد وإمارة المؤمنين لا تناهض العلم والعلماء في نظر فضيلة الشيخ، فكيف نفسر الجرائم التي ارتكبتها الجيوش العربية الإسلامية باسم نشر الإسلام وتطبيق الشريعة في كل من الشام وفارس ومصر وشمال افريقيا والأندلس؟ أليس ما اقترفه خالد بن الوليد ضد بني يربوع، وكيف أعدم حرقا كل من أياس بن الفجاءة وشجاع بن ورقاء بأمر من الخلفية الأول أبو بكر جريمة؟. (7)
وهل نسى الشيخ حروب ” الردة ” التي شنها أبو بكر ضد المرتدين عن سلطته؛ أي الرافضين لسلطته السياسية، وليسوا مرتدين عن الدين كما يشاع (8) .
وبالإضافة إلى هذا، كيف يمكن لنا اعتبار ما حدث للإمام أبا حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس من الضرب والتعذيب في ظل إمارة المؤمنين وليس في ظل الكنيسة التي تعادي العلم والعلماء في نظر الشيخ؟ وإذا كان الإسلام / لا يناهض العلم والعلماء فلماذا تم ضرب وتعذيب هؤلاء العلماء ؟ بل وكيف نعتبر ما حدث مع ابن رشد وكتبه؟ وهل من يدافع عن العلم والعلماء يحرق المكتبات (مكتبة الإسكندرية مثلا) ؟ وهل نسي الشيخ كيف أهدر الملك بن مروان حرمة مكة حينما ضربها بالمنجنيق مرتين؟ (9) . وكيف قتل الخلفاء الراشدين والفتنة الكبرى ؟ أما عن جرائم المسلمين إبان غزوهم لشمال أفريقيا فهي لا توصف.
زيادة على ما سبق، إذا كان الإسلام يدعو إلى العلم ويحترم العلماء فلماذا قتل عمر بنجلون وفرج فوده وحسن مروة وغيرهم كثيرون من العلماء والمفكرين في عصرنا الحديث؟ وإذا كانت المسجد وإمارة المؤمنين لا تناهض العلم والعلماء فكيف يفسر الشيخ طرد علي عبد رزاق من الأزهر وطه حسين من الجامعة، وتطليق كذلك الدكتورة نوال السعداوي من زوجها بتهمة الكفر، ونصر ابوزيد عن زوجته بنفس التهمة كذلك؟ وكيف يفسر الشيخ كذلك الجرائم التي ارتكبها النظام الإسلامي في السوداني في حق أزيد من 300 ألف مواطن سوداني؟.
هكذا تتوالي الأمثلة ولا تنتهي، وكلها ضد ما يريد الشيخ إثباته من الاختلاف بين التاريخ الإسلامي الذي يصفه ” بالمشرق” وتاريخ الكنيسة في الغرب. يحاول الشيخ أن ينفي، ولو بالكذب والافتراء على التاريخ، وقوع جرائم وصراعات بين العلماء وإمارة المؤمنين، وذلك لكي يبرهن لنا بأن شروط وظروف بروز العلمانية في الغرب غير موجودة في العالم الإسلامي نظرا لطبيعة الإسلام الذي يخترن العلم والعلماء في نظره (= الشيخ) ، وبالتالي لا داعي للمطالبة بالعلمانية في البلدان الإسلامية.
إلى هنا نأتي على نهاية هذا الجزء على أمل أن نلتقي بك عزيزي القارئ في الجزء الثالث والأخير من هذا الرد المتواضع على فضيلة الشيخ الفزازي، وفي الجزء الثالث سنحاول مناقشة موقف الشيخ من طبيعة الإسلام: هل هو دين ودولة أم عقيدة ودعوة؟ كما سنناقش أيضا موقفه من العلمانيين.
هوامش الجزء الثاني:
5: انظر كتاب ” الخطاب التاريخي ” للدكتور علي أومليل – ص 116، المركز الثقافي العربي
6: انظر كتاب ” النص المؤسس ومجتمعه ” للدكتور خليل عبد الكريم – الجزء الثاني – دار مصر المحروسة
7: انظر كتاب ” في السياسية الإسلامية” للمرحوم هادي العلوي – ص 48 – عن دار صحارى للصحافة والنشر
8: انظر كتاب ” تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية” – ص 94 – تأليف عمر فروخ.
8 : انظر كتاب ” الخلافة الإسلامية ” للمستشار محمد سعيد العشماوي، عن مؤسسة الانتشار العربي.
لقراءة الجزء الأول:
الشيخ الفزازي ومسألة العلمانية والعلمانيين.. الجزء الأول


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.