كثرت في عصرنا مآخذ العلمانيين على الشريعة الإسلامية،و راحوا في تحاملهم عليها يعتمدون العبارات الخطابية الفارغة،و يبرعون في توظيف المغالطات التي تلبس رداء الحق،بينما هي خالية من أي حمولة أو معنى، مثلها إنكار دور التاريخ في صناعة الفكر و الأهمية البالغة للقراءة التاريخية في الإحاطة بالملابسات التي كانت وراء تطور الفكر،بحيث تؤخذ بالحسبان التربة التي نبتت فيها و المياه التيارتوت بها أي فكرة كيفما كانت ماهيتها،إنه إنكار لأبسط بديهيات العقل،إذ من المعروف أن الشئ يموت لا محالة إذا قطع عن وسطه الثقافي المعتاد.و حتى تتضح الصورة نضرب المثال بالمرأة،إن وضعية المرأة في الغرب يمكن أن نجعل منها قضية،لأنها بالفعل عانت و مازالت تعاني من النتائج المزرية للرأسمالية الجشعة-و هل عرفت بلاد الإسلام رأسمالية؟- ،هنا يطفو العامل الاقتصادي،الذي يبقى من أهم المحددات التي تبلور الأحداث و تصبغها صبغة معينة كما يعلم جيدا أصحاب التفسير الاقتصادي للتاريخ،بينما الدعوة في بلاد الإسلام إلى الدفاع عن المرأة غير مبررة نهائيا،لانتفاء العلة التي تضطرنا لذلك.إنها ذاتية الحضارات،فقد تكون حضارات تمر بوضع اقتصادي- سياسي- ثقافي متشابه تماما،و مع ذلك تختلف الحلول المقدمة لأزماتها،فأوربا التي مرت بالإقطاعية لم تنهج سبيلا واحدا لتجاوز هذا النظام،فالاتحاد السوفييتي صار فيما بعد شيوعيا (أو ما كانوا يسمونه عبثا شيوعية ثانية)،بينما ركبت دول أخرى قطار الرأسمالية.إن الاختلاف هو السمة المميزة للوجود،فليس في الأفق نموذج واحد أوحد يلوح بجناحيه كما يظن العلمانيون،بل على العكس من ذلك فإن تحقيق التقدم و الرقي لا يكون إلا من خلال ما هو ذاتي فينا،بالفعل قد نستفيد من تجارب الأمم الأخرى، لكن ذلك لا يتم إلا بعد التبيئة الكاملة لهذه النماذج الأخرى و جعلها تتوافق مع خصوصيتنا الثقافية،فالغرب مثلا لم تكن رؤيته إلى ابن رشد المؤسس الفعلي ل"لعلمانية المعرفية" كما ينظر إليه الإنسان العربي،بل إنهم أضفوا عليه مسحة غربية.إن طرح سؤال النهضة ينبغي أن يكون مسؤولا،و المسؤولية لا يحكمها منطق المحاكاة،فلا مسؤولية من غير حرية فكرية،و هذه الأخيرة لا تؤمن ب"الأمر الواقع" و "ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن" أو غيرها من شعارات الرضوخ و الاتكالية،إن الحرية الفكرية تعني التحرر من أي سلطة خارجية،و نبذ الجمود و دفع لذة التقليد التي تمتلك العلماني و تسيطر على لاشعوره الفكري،بحيث لا يستطيع التخلص منها و الابتعاد عنها قيد أنملة،لغياب ملكة الإبداع و تكريسا منه لأحادية الفكر. يقول العلماني مبررا رفضه للشريعة الإسلامية بتهكم و سخرية أنّا لنا أن نطبق تشريعا علاه الغبار و تصدأ من عراقته في ظل هذا التطور الإجتماعي الهائل،و يحاول البعض أن يفلسف هذه المغالطة فيدعي أن الثابت لا يضبط المتغير،و بأنك "لا تستطيع أن تنزل في ماء نهر مرتين" كما قال هيراقليطس،و يصرخ آخر ممعنا في التغليط و متي طبقت الشريعة الإسلامية حتى نطبقها في القرن الواحد و العشرين؟ و إن تعجب و قد حق لك ذلك فعجب أمر من يتكئ على حجة داحضة أشبه ما تكون بعكاز منخور أكلته دابة الأرض فيستدل على عدم جدوى تطبيق الشريعة الإسلامية بكثرة الاختلافات،ثم يرجع ذلك إلى كون شريعة الإسلام غامضة شديدة العمومية و هي غير قابلة للتطبيق،و ما ينغّص على العلمانيين نشوة الحلم بتطبيق الشرائع الوضعية العلمانية صيحات "الإسلامويين" المدوية بصلاحية الشريعة لكل زمان و مكان،يقولون أين صلاحية شريعة "بدو الصحراء" في ظل التعددية العرقية و الدينية،هل نترك دولة المواطنة و نقسم الناس إلى مسلمين و ذميين ثم نفرض على غير المسلمين الجزية "وهم صاغرون"، و كيف نحتفظ بنظام الرق الذي أقره الإسلام في عصر حقوق الإنسان و الأممالمتحدة... قبل الشريعة..العقيدة إن سوء الظن من أقوى الفطن،خاصة مع العلمانيين،و قد قال تعالى "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا"،و قصدي من هذا أن كل ما يدين به العلماني و يصرح به ينبغي أن نضعه موضع مساءلة،ففي مقالي السابق "قراءة نقدية لمواقف العلمانيين من تطبيق الشريعة في المغرب" أوضحت بمقتطفات من كتبهم أن أكثرهم يوظفون "التقية" مع المسلمين،و أود هنا أن أسلط بعض الأنوار على مزاعم العلمانيين حول حفظ حرية الاعتقاد. للعقيدة دور كبير في الإسلام،فبها تستقيم روح الإنسان،و تصفو سريرته،و هي أول دعوة النبي (ص)،و إذا تغلغلت عقيدة الإسلام في قلب المؤمن سهل انقياده لتعاليم الإسلام،و كأن العقيدة "عقد" مبروم بين الإنسان و ربه على قبول تبعيات الإيمان بهذه العقيدة، و العكس صحيح فالمرء إن لم يؤمن بفكرة لم يعمل بمستوجباتها، إذ كيف يستقيم الظل و العود أعوج،فالعقيدة ليست ترفا فكريا كما يرى العلمانيون الذين استقوا أفكارهم عن الإسلام من دراسات المستشرقين أو من في معناهم.إن العقيدة هي الملهم الأول و الموجه الرئيسي لسلوكات المؤمن،فتطبيق الشريعة من العقيدة،ذلك أن مفاد عقيدة التوحيد الإسلامية إفراد الله بما يختص به،و التوحيد ثلاثة أقسام كما هو معروف ،منها توحيد الألوهية و معناه إفراد الله عز و جل بالعبادة،و بما أن مفهوم العبادة في الإسلام واسع شامل لكل جوانب الحياة،صار تطبيق الشريعة جزء من هذه العقيدة،بل هناك من جعل "توحيد الحاكمية" -أي الحكم بما أنزل الله- قسما من أقسام التوحيد و بالتالي من العقيدة،و الحق أن "توحيد الحاكمية" من الألوهية،و أن الذي حمل هؤلاء الحاكمية على إفراد "الحكم بما أنزل الله" بقسم من أقسام التوحيد ما رأوه من تكالب العلمانيين و الحداثيين و غيرهم من الملاحدة و اللادينيين على شريعة الإسلام. و من تبعيات الإيمان بعقيدة الإسلام كذلك أن يجعلها المؤمن معيارا لولائه و برائه و أساسا لجميع أفعاله الباطنة،إذ أن الإسلام لا يقيم وزنا لرابطة الدم أو القرابة أو القبيلة أو الوطن،يقول تعالى "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" و يقول جل شأنه " لا تجِد قَوما يؤمنون باللَّه والْيوم الآخر يوادّون من حاد اللَّه ورسولَه ولَو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أُولَئك كتب في قلوبهِم الإيمان وأَيدهم بروح منه".إن الإسلام لا يعرف معيارا للتفاضل إلا العقيدة،فلا فرق بين عربي و أمازيغي و فارسي و حبشي إلا بدينه و تقواه "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"،فالدعوات القومية الضيقة و رفع شعارات قبلية عشائرية تعد من الدعوات الجاهلية النتنة التي جاء الإسلام ليمحوها و يقيم محلها روابط قائمة على الإيمان و الحق،فالذي يدين بالحق له المودة و الولاء و الحب،قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم المودة و قد كفروا بما جاءكم من الحق" ، فلم يعلل الباري سبحانه و تعالى "عدم إلقاء المودة" بهوى النفس،أو اختلاف اللون و الوطن،و إنما لكونهم كفروا بالحق،فالحق أولى بالحب و الاتباع. من هنا يتضح أن أول اصطدام بين الإسلام و العلمانية يقع على مستوى العقيدة،ذلك أن العقيدة الإسلامية ليست ترفا فكريا كما يرى العلماني،ظنا منه أنه يمتن على المسلم عندما يحفظ له حرية الاعتقاد،بل إن المجتمع الإسلامي قائم على فكرة و عقيدة،فلا يوجد مسلم حقيقي على ظهر الأرض يرضى بالاحتكام إلا الطواغيت و القوانين الوضعية و قد رضا بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد (ص) نبيا.نعم من باب إقرار الحرية الدينية التي أقرتها المواثيق الدولية و مضت عليها كل الدساتير الحديثة،يسمح للمسلم أن يؤمن بالله و الرسل و الملائكة و الكتب و غيرها من أركان الإيمان،لكن غضب العلماني سيشتط إذا كال المؤمن الأشياء بمقياس العقيدة.إن تطبيق الشريعة من العقيدة،و الولاء و البراء قائم على العقيدة،فهل سيجرؤ العلماني على القول بحفظ حرية العقد للمسلم إذا علم أنها تصطدم مع علمانيته؟ لا أظن ذلك. الشريعة و التطور الاجتماعي يستشهد العلماني فلسفيا على تغير الأشياء الدائم المستمر بقولة هيراقليطس "إنك لا تنزل في ماء نهر مرتين"،و قد وقعت على هذه الكلمة الشهيرة في كتب العلمانيين،و الحق أن الاستدلال بهذه الكلمة متعسف جدا و ذلك من وجوه،أن الكلمة لا تصح في ميزان العقل،و الواقع يكذبها و يحكم ببطلانها كما سنرى،كما أن المستدل بهذه الكلمة باعتبارها حقيقة مطلقة لا اختلاف فيها بإجماع العقلاء،إما مدلس انتقائي و إما أن قصر همته لم تسمح له بالاطلاع على المذاهب الفلسفية الأخرى التي قالت بمبدأ الثبات.إن مدرسة فلسفية كبيرة عريقة قالت بمبدأ الثبات و رفضت التغير،تلك هي المدرسة "الايلية"(نسبة إلى مدينة إيليا التي بناها الأيونيون الهاربون من وجه الفرس على الشاطئ الغربي في إيطاليا الجنوبية حوالي 540ق.م)،و يعد "بارمنيدس" المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة،بارمنيدس الذي يقول عنه أفلاطون "بارمنيدس الكبير" إجلالا و تقديرا له.و الحقيقة الأولى عند المدرسة الإيلية كما يقول د.يوسف كرم في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية) "أن الوجود موجود،و لا يمكن ألا يكون موجودا،أما اللاوجود فلا يدرك إذ أنه مستحيل لا يتحقق أبدا،و لا يعبر عنه القول،فلم يبق غير طريق واحد هو أن نضع الوجود و أن نقول أنه موجود.و الفكر قائم على الوجود،و لولا الوجود لما وجد الفكر،لأن شيئا لا يوجد و لن يوجد ما خلا الوجود.و لما كان الوجود موجودا فهو قديم بالضرورة إذ يمتنع أن يحدث من اللاوجود،و يمتنع أن يرجع حدوثه مرجح في وقت دون آخر،فليس الوجود ماض و لا مستقبل،و لكنه في حاضر لا يزول،و على ذلك يمتنع الكون و لا يتصور الفساد و ينتفي التغير).و الحق أن الرأيين معا خاطئان،ففي الكون ما هو ثابت و ما هو متغير،و ما هو متغير بثبات،فأما الثابت في الكون فالأرض هي الأرض و السماء هي هي لم تتغير،و القمر كذلك لم يتغير فيه شئ،و اليوم ليل و نهار،و الشمس لم تزل ترتفع من مشرقها ،أما المتغيرات فهي جزئية أو أعراض فقط،و أما الجواهر فلا يطالها التغيير،فثمة جزر تنشأ و البحر في مد و جزر،و أمصار تبنى و أخرى تفنى... و الإنسان هو الآخر خاضع لهذه السنة الكونية،ففيه ما هو ثابت و ما هو متغير،فجوهر الإنسان لا يتغير،كحاجته إلى عقيدة يؤمن بها و تعرفه بسر وجوده، لتنير دربه و طريقه و تنتشله من براثين الحيرة،و تشريعات ربانية تأخذ بيده إلى بر الأمان و ترشده إلى سواء السبيل،بينما المتغيرات هي مظاهر العمران،من ملبس و مشرب و مركب و وسائل و أدوات،و في هذا الصدد يرى الكثير من الباحثين أنه رغم هذا التطور الحاصل فالإنسان يعيش جاهلية في زماننا،رغم ما يزعمه الإنسان من بلوغ أوج العظمة بتذليل الطبيعة و تطوير الأدوات المستعملة فإنه مثخن بجراح الفكر الجاهلي،إن المتطور في الحياة وسائلنا المستعملة،أما جوهر الإنسان فقد بلغ الحضيض،و هوى في مدراك الانحطاط و التخلف،فزعم بعد انتكاسته الفطرية أن الأخلاق مسألة نسبية،تختلف باختلاف الزمان و المكان،و بأنها متغيرة تبعا لما هو اقتصادي،فجعل من هذا العامل "حتمية" على الإنسان أن يذعن لمخلفاته و يرضخ. في الكون ما هو ثابت و ما هو متغير،و الإنسان لا يشذ عن هذه السنة،فهل الشريعة الإسلامية ثابتة لا تتماشى مع هذه السنة الكونية و غير قادرة على ضبط التطور و مسايرته؟ لقد أحسن مفكرنا المغربي د.طه عبد الرحمن القول في العلمانيين و الحداثيين الخائضين في التراث،فوصفهم في كتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث" بأنهم "أنزلوا أنفسهم من التراث المنزلة التي لا يستحقون" و "تكلموا فيه بما لا يعرفون و تطاولوا على البت فيما لا يفقهون"،و الأدهى ممارستهم لإرهاب فكري على العامة فأوجبوا على الناس –كما يقول فيلسوفنا المتصوف- "قبول كلامهم فيه و ترك ما يؤثر من خلافه".و ليس أدل على خوض العلمانيين فيما لا يحيطون به علما،ادعاؤهم ثبات الشريعة،إن القولة التالية "الثابت لا يضبط المتغير" قد تكون صحيحة منطقيا،لكن الخلل في إسقاطها على موضوع "الشريعة و الحياة"،فالحياة كما بينا آنفا ليست كلها متغيرة،و الشريعة هي الأخرى ليست ثابتة،بل إن علماء الدين من الفقهاء و الأصوليين من خلال استنطاقهم للنصوص أكدوا أن في الشريعة منطقتين،منطقة القطعيات،و هي الثابتة التي لا يعتريها التغير و لا ينبغي له،و هذه "الأحكام" سواء العقدية منها أو الفقهية باقية ما بقيت السماوات و الأرض،مثلها الإيمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر،فالإيمان بهذه الأمور لا تتغير عكس ما ادعاه بعض "علماء" الاجتماع من كون البشرية قطعت مراحل،و هي الآن في المرحلة الوضعية فلا مكان لللاهوتية و الميتافيزيقية،و هذه الفكرة الشاذة ل"أوغست كونت" هي التي أغرت –بحق- العلمانيين و الحداثيين العرب على القول بالتطور الاجتماعي الذي ترافقه تغيرات على مستوى بنية المعتقدات و الأفكار الأيديولوجية كما يقول المفكر محمد عمارة،و كذلك الأمور المعلومة من الدين بالضرورة،كالأمور العملية من الشهادتين و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و صوم رمضان و حج البيت،و المحرمات اليقينية كتناول الخمور و التعامل بالربا و أكل أموال اليتامى و السرقة و الغضب و قذف المحصنات و الزنا،و أمهات الفضائل التي تحث عليها فطرة الإنسان السليمة كالصدق و الوفاء و الحياء و العفة و الصبر و الكرم و الحلم،و كذلك النصوص التي تعنى بتنظيم الأسرة (الأحوال الشخصية) فالميراث لا يطاله التغيير،و أما ما يتوهم من عدم موافقة أحكام الميراث لمتطلبات عصرنا فراجع بالأساس إلى الفصل بين أحكام الإسلام و عدم أخذها في كليتها و الربط بينها،فالذكر له مثل حظ الأنثيين في الإسلام،لأنه أوجب على هذا الذكر أداء المهر و فرض عليه القوامة و غيرها من تكاليف الحياة. و هناك أمور متجددة متغيرة،و هي التي يُرجع في استنباط حكمها إلى المصادر الاجتهادية،و تمثل جانب المرونة و السعة في الشريعة،و هذه الأمور لا يحكم فيها بهوى النفس أو دون العودة إلى النصوص،فالاجتهاد ليس زورقا آمنا يتخذه العلماني لمواجهة أمواج الاعتراض و النكير،و لا هو سقف يمنع اختراق أشعة الوحي الرباني،بل إنه –أي الاجتهاد- يبدأ من النص و إليه يعود،و ثمة الكثير من الأصول التي تعتمد في استخراج الأحكام التي لا نص فيها. يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه (إغاثة اللهفان) عن هاتين المنطقتين (الثابتة و المتغيرة) : "الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة مر عليها،لا بحسب الأزمنة و الأمكنة،و لا اجتهاد الأئمة،كوجوب الواجبات،و تحريم المحرمات،و الحدود المقدرة بالشرع على الجرائم،و نحو ذلك.فهذا لا يتطرق إليه التغيير،و لا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.و النوع الثاني : ما يتميز بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا و مكانا،كمقادير التعزيزات و أجناسها و أصنافها،فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة" اه. و ما يجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان و مكان كونها قائمة على فلسفة متينة،تلك هي فلسفة المقاصدية في الإسلام،فالحكم في الإسلام يدور مع علته وجودا و عدما كما تقول القاعدة الفقهية،إذ لو انتفت العلة التي قام عليها الحكم لم يكن ثمة مانع من إسقاطه و إلا كان تركه من عوامل المشقة بل و العبث،مثلها إسقاط عمر بن الخطاب رضي الله عنه حق المؤلفة قلوبهم في الصدقة،و إسقاط حد قطع اليد على السارق لظروف معينة،فالشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا و دفع المفاسد و درئها،فكل ما من شأنه أن يحقق مصلحة راجحة فهو محبذ،و من هنا اعتناء الفقهاء و الموقعين عن الله تعالى بفقه الأولويات و الموازنات،فلا يصدر الحكم حتى يدرس الشئ من كل جوانبه و يقلب على كل وجوهه،فالمفسدة الصغرى "يضحى بها" من أجل مصلحة عظمى،و مصلحة العامة أو "الصالح العام" مقدّم على المصلحة الشخصية الفردية،و الأصوليون لم يعتنوا بالمقاصد من باب "الكشف" فقط أي استطلاع الحكمة من بعض التشريعات،بل نظروا في المعاني السامية و المقاصد الكبرى من التشريع الإسلامي ككل،و ما رعاه الشارع في التشريع(الفطرة و الحرية و السماحة و الحق،كما يقول الفقيه العلامة ابن عاشور - انظر كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور-). إن الشريعة الإسلامية لا تقف مكتوفة الأيدي أمام التطور،بل إنها مهيأة من داخلها لمسايرة التطور و ضبطه،و المستقرئ للشريعة الإسلامية يجد فيها من عوامل السعة و المرونة ما تسمح لها بمواكبة العصر،و قد أفرد شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله كتابا لتناول هذه المسألة بعنوان "عوامل السعة و المرونة في الشريعة الإسلامية"،و من العوامل المذكورة سعة منطقة العفو قصدا،قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" " إنَّ الله حدَ حدوداً فلا تعتدوها ، وفرض أشياء فلا تضيعوها ، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم ، غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها"و الغاية من هذا "المسكوت عنه" أو "اللامفكر فيه" ملؤه بما هو أليق للمسلمين في أزمانهم المختلفة،و هذا ما أدركه سلفنا لفرط حكتهم و نبوغهم،فقد كانوا يتحفّظون من الإفتاء في الأمور التي لم تحدث و ينهون عن الخوض في المسائل الغير الحاصلة،لعدم معرفتهم بالملابسات و الحيثيات المحيطة بهذه المسائل. و هذا المسكوت عنه إنما يستخرج حكمه باعتماد أصول مختلفة معلومة عند الأصوليين كالقياس و الاستحسان و المصلحة المرسلة و مراعاة العرف.. و من عوامل السعة اهتمام الشريعة الإسلامية بالكليات العامة و الأحكام المجملة دون الجزئيات،إلا ما هو ثابت من الأحكام الجزئية التي لا يعتريها التغير كشؤون العبادات من أحكام الزواج و الطلاق و الميراث،فهذه الأمور نظرا لحساسيتها و إرساء لدعائم الاستقرار تناولها الشرع الحكيم بالتفصيل،أما غيرها من الأمور الجزئية المتغيرة بتغير الزمان و المكان فقد ترك الإسلام الفصل فيها رفعا للتضييق على المسلمين بإلزامهم بجزئية قد تصلح لمكان و زمان معينين،و الأمور الجزئية التي تركها الإسلام للاجتهاد المواكب إنما يتم التشريع لها باعتماد الأصول السالفة الذكر من قياس و استحسان و استصلاح،لا باعتماد الكشوفات الصوفية أو الغنوص العلماني ... و من مرونة السعة قابلية النصوص لتعدد الأفهام،فليس في الإسلام كهنوتية و لا عصمة لأحد في تأويله للنص،و إنما الكل يؤخذ من قوله و يرد،و من هنا فلا غرابة أن تجد كثرة الاختلافات في الفقه الإسلامي،يقول الشيخ يوسف القرضاوي :" إن معظم النصوص التي تعرضت للأحكام الجزئية والتفصيلية ، صاغها الشارع الحكيم صياغة تتسع لأكثر من فهم ، وأكثر من تفسير ، وهذا ساعد على وجود المدارس المتنوعة والمشارب المتعددة في الفقه الإسلامي." أضف إلى كل هذا يسر الدين الإسلامي و سماحته،فقد قدّر هذا الأخير الضرورات و الأعذار و حاجيات الناس،فالضرورات تبيح المحظورات،و المشقة تجلب اليسر،و الوقوع في المحظور لإكراه أو لظروف استثنائية كالنسيان و الخطأ الغير المتعمد متجاوز مغفور. إن التطور الاجتماعي ليس عائقا أمام تطبيق الشريعة،و لكن رفض العلمانيين للشريعة الإسلامية إنما هو ل"حاجة في نفس يعقوب" كما يقول العامة،و لعل هذه "الحاجة" هي التي ينبغي على العلمانيين إشهارها و تنوير الرأي العام بها من غير تقية و لا تورية...فلنكن صرحاء إذن ! و للحديث بقية. [email protected] mailto:[email protected] www.Adiltahiri.maktoobblog.com http://www.adiltahiri.maktoobblog.com/