كلما أثير الجدل حول الموقع الذي تحتله الشريعة من التشريع،و اشتد الحوار حول مدى إمكانية تطبيقها في أرض الواقع،تناسل في رحم هذا السؤال مجموعة من الأسئلة،يحتم التناول الجدي الإجابة عنها بكل مسؤولية،و أول ما يفيض علينا من الأسئلة تحديد العلاقة القائمة بين الخلفيتين المؤطرتين للطرفين الخائضين في هذه المسألة الشائكة،أقصد تحديد طبيعة العلاقة بين الإسلام و العلمانية،و لأن الحكم على الشئ فرع عن تصوره،يصير البوح الشجاع بالهوية الثقافية و الإفصاح عن الركائز الفكرية التي يستند إليها كل طرف شرطا أساسيا للتحديد الدقيق و العميق لهذه العلاقة،و ضرورة لتأسيس قاعدة متينة للحوار البناء المثمر،وإلا تحول هذا الحوار إلى سجال بيزنطي عقيم،لا طائل منه،و لا فائدة ترجى من ورائه،من هنا نطرح السؤال التالي : هل الإسلام و العلمانية على وئام و وفاق،أم ثمة علاقة صراع و شقاق؟ و لعل سيرورة الأسئلة لا تنتهي هنا،و إنما الجواب عن هذا السؤاليواصل استشكالاته و يطرح علينا أسئلة أخرى،فإذا كان الخيار الأول الذي يقول بالتوافق هو الأقرب إلى الصواب فمن يحتوي الآخرو يوجهه؟ هل الإسلام يحتوي العلمانية(=الإسلام دين علماني) أم أن العلمانية هي التي تؤطر الدين و توجهه؟ و إن كان الخيار الثاني -القائل بالصراع و النزاع- هو "الحق الذي لا مجمجة فيه" فما هي المعايير التي يمكننا الاتكاء عليها لإقناع الرأي العام بجدوى هذا التوجه دون الآخر؟ إننا إذن أمام سؤل جوهري و محوري يقدم لنفسه كجواب خيارين،و كل خيار تتفرع عنه مجموعة من الأسئلة المصير المحتوم لإحداهما الإقصاء و الإبعاد عن دائرة التفكير لقيامها على أساس باطل، و "ما أسس على باطل فهو باطل" كما تقول القاعدة. العلمانية بين الغرب و العالم الإسلامي قبل أن أخوض في تحليل الخيار الأول الذي يقول بأن تطبيق العلمانية لا يتنافى مع الخطوط العريضة للدين الإسلامي،أريد أن أنبه على أن الغزو العلماني للمغرب بهذه الحدة لم يكن متوقعا من طرف الباحثين عقب سقوط الخلافة العثمانية،ذلك أن المغرب كان يحكم نفسه بنفسه و لم يكن خاضعا للخلافة الإسلامية،ما يعني غياب أي مبرر لتطبيق العلمانية،أضف إلى ذلك الغياب الشبه التام للأقليات الدينية و الفصائل الأخرى،و العاملان كانا السببين المباشرين في خوض بعض الدول الإسلامية لتجربة العلمانية كلبنان و مصر.. أعود و أقول إن المقاربة التاريخية لمفهوم العلمانية بالعالم الغربي تؤكد أصالة هذا المفهوم في العقل السياسي الغربي من جهة،ثم حاجة الغرب المتخلف عندئذللعلمانية بمفهومها "اللائكي" للخروج من عنق الزجاجة من جهة أخرى،فالعلمانية أصيلة في الغرب لوجود نص ينسب إلى المسيح عليه السلام يقول فيه "اعط ما لله لله و ما لقيصر لقيصر"،إذن فلم يكن ثمة تصادم بين الدين و السياسة من الجانب التنظيري على الأقل،أما حاجة الغرب إلى اللائكية (laïcité) ففرضتها ظروف خاصة متعلقة باحتكار رجل الدين للمعرفة،إن أصل "اللائكية" هي "لايكوس" أي ابن الشعب الغير المتعلم في مقابل (clerc) و هم رجال الدين،إذن فالرغبة في خلق مجتمع متعلم قارئ و الطموح إلى "تعميم التعليم" استوجبت ليس فقط لي أيدي رجال الدين حتى لا يتطاولوا على العلوم العقلية و الطبيعية و الفصل بين المعرفة الدينية القائمة على "الدوغما" و المعرفة العلمية التي تحتكم إلى العقل و التجربة،بل إن ذلك تطلب تنحية رجال الدين عن ممارسة رقابتهم على ماهو "فيزيقي" و حصر مهمتهم في تسيير الحياة المؤدية إلى "السعادة" الميتافيزيقة الماورائية،إنه إذن الوعي الغربي الذي ترجم إلى انتفاضات و تمردات على السلطة الكهنوتية الغاشمة التي سطرت صفحة سوداء من تاريخ الغرب،صفحة ملأتها أحداث القمع الكنيسي من الحجر على الفكر المتنور و محاصرته و التصفية الجسدية للعلماء و غرس جذور الفكر المتخلف المنغلق و نشر الإيديولوجية الظلامية المتحجرة. أما القراءة التاريخية الواعية المجردة من الأهواء لحال البلاد الإسلامية،فتحيلك على غير ما حدث في التجربة الغربية مع الدين،إن فكرنا الإسلامي لم يناقش قط الثنائية "دين-دولة" و "دين-علم"،الثنائية بمفهوم التقابلي التصادمي،و حتى عصور الانحطاط الإسلامي،تلك التي أفلت و ذبلت فيها الدول الإسلامية لم تكن بسبب توظيف الدين،بل إن توظيف الدين و القيم الدينية تصير مخرجا للأزمات و حلا ناجعا للنهوض و الترقي،لطبيعة الإنسان العربي المحتاج إلى حوافز و منبهات تحمله على استخراج طاقاتهالمذخورة و قدراته المكنونة،و إثارة مشاعر الحماس و تهييجها، باستنهاض الهمم و تقوية العزائم،و هذا لا يحصل إلا بدعوة دينية،و لو قارنا بين عرب الجاهلية و عرب الإسلام أدركنا صحة هذه المقولة،يقول أحمد أمين معززا هذا الرأي "إن العرب في الجاهلية لم يكن لهم شعور قوي بأنهم أمة،إنما كان الشعور القوي عندهم شعور الفرد بقبيلته،و إذا رجعنا إلى ما نرجح صحته من الشعر الجاهلي و جدناه مملواءا بالشعر القبلي،فالعربي يمدح قبيلته و يتغنى بانتصارها و يعدد محاسنها و يهجو القبيلة الأخرى من أجل قبيلته،و قل أن نجد شعرا يتغنى فيه العربي بأنه عربي،و يفخر فيه على غيره من الأمم، و السبب واضح و هو أن العرب في الجاهلية لم يكونوا أمة بالمعنى الصحيح فلم يتحدوا لغة و لا دينا" (1) ،فالقول بأن الدين سبب التخلف قول خاطئ يعوز صاحبه الإنصاف. أما العلاقة بين الدين و العلم في الإسلام فجدلية وطيدة،إذ أن العلم منبر الدين الذي ينادي في المساء و الصباح يا أهل الفلاح حي على الفلاح،و الدين بدوره يدعو إلى التأملو التدبر و التفكر،و هذه العمليات الفكرية قنوات لابد منها لبناء معرفة عقلية و علمية،و هذا ما يؤكده ابن رشد و يخصص له كتابا كاملا ليقرر فيه أن النظر في شتى العلوم واجب شرعا،ليس النظر في العلوم فقط،بل و السبيل المؤدي إلى الإبداع و الابتكار و إنتاج المعرفة،و هو ما يسميه فيلسوف قرطبة "فعل الفلسفة" (2)يقول رحمه الله "إن كان فعل الفلسفة ليس شئ أكثر من النظر في الموجودات و اعتبارها من جهة دلالتها على الصانه –أعني من جهة ما هي مصنوعات-،فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها،و إنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم،و كان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات و حث على ذلك،فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع أو مندوب إليه،فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل و تطلب معرفتها به فذلك بين في غير ما آية من كتاب الله تبارك و تعالى "فاعتبروا يا أولي الأبصار" و هذا نص على وجوب(*) استعمال القياس العقلي و الشرعي معا،و مثله قوله تعالى "أو لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله من شئ" و هذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات... و قال تعالى "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف رفعت و قال "و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض" إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة".. و إذا كان الإسلام قد دعى إلى هذا،يقول أبو الوليد "فقد تقرر أن الشرع أوجب النظر في الموجودات بالعقل"(3). إن ما يلفت الانتباه في الدين الإسلامي دعوته الصريحة الشفافة إلى إعمال العقل و ترك التقليد و محاكاة الآخرين،و عدم التسليم بصحةالمسائل ما لم تقم البراهين على صحتها فعلا،فالخطاب القرآني الذي يشبهه المفكر الاشتراكي مكسيم رودنسون ب"الصلب كالصخر"لا ينفك يطالب "الآخر" بالدليل العلمي "قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا" و يرسخ النزعة البرهانية و يكرسها لدى الفرد المسلم،و إلحاحه على إقامة البراهين لا يحتاجاستنباطه إلى كثير عناء " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"،و من له أدنى اطلاع على القرآن الكريم يستشف هذه الميزة و يذعن بعقلانية الخطاب القرآني،و هذا ما اعترف به مكسيم رودنسون،يقول "القرآن كتاب مقدس،تحتل فيه العقلانية مكانا جد كبير،فالله لا ينفك فيه يناقش و يقدم البراهين،بل إن أكثر ما يلفت النظر هو أن الوحي نفسه –هذه الظاهرة الأقل اتساما بالعقلانية في أي دين،الوحي الذي أنزله الله على مختلف الرسل عبر العصور،و على خاتمهم محمد- يعتبره القرآن هو نفسه أداة للبرهان،فهو في مناسبات عديدة يكرر لنا أن الرسل جاءوا ب"البينات" و هو لا يألوا يتحدى معارضيه أن يأتوا بمثله،و القرآن ما ينفك يقدم البراهين العقلانية على القدرة الإلهية ،ففي خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار.., آيات لأولي الألباب" (4). و إذا تبين أن الإسلامي لا يعادي العقل و لا يتخذ موقفا سلبيا منه،و لا يقف عائقا أمام استخدامه،بل إن سلفنا كانوا يشبهونه بالشمعة التي لا يعقل أن يطفئها صاحبها و يسير في الظلام،و لا الإسلام يرفض جديد الاكتشافات العلمية،و إذا كان الإسلام دينا و دولة،دنيا وآخرة،و منظومة متكاملة أحكامه الخمسة عامة شاملة لكل الطبقات و الشرائح الإجتماعية و تخترق كل الأزمنة و الأمكنة،فإن ما على المسلم و كذا أي منصف إلا أن يرفض حصر الإسلام بين أقفاص الصدور و جدران المساجد.إن الدين الإسلامي لا ينظم علاقات الإنسان العمودية فقط،أي علاقته بربه،بل يتعدى ذلك إلى تنظيم علاقة الإنسان بالإنسان،أي علاقاته الأفقية،هذا مع أن التقسيم العلماني لعلاقات الإنسان إلى ما هو أفقي و عمودي لا يصح داخل المجتمع المسلم،و لا يراعي الخصوصية الإسلامية التي تعتبر الإنسان مسؤولا عن كل سلوكاته و تصرفاته أمام الله تعالى،و ترى الحياة بكل أشكالها و تمظهراتها عبادة،فالعبادة روح الحياة و حياة الروح في المجتمع الإسلامي،و ما يدل على شمولية مفهوم العبادة في الإسلام التعريف الذي يقدمه شيخ الإسلام ابن تيمية،يقول " العبادة اسم جامع لما يحبه الله و يرضاه من الأقوال و الأفعال الظاهرة و الباطنة"،إن ما ينبغي على العلمانيين فهمه هو أن الإسلام ليس دينا روحانيا،و لا يمت بصلة لحياة المتصوفة الدراويش المجاذيب،بل إنه جاء ليصبغ الحياة البشرية بصبغة ربانية "صبغة الله و من أحسن من الله صبغة"،و ينظم الحياة الإنسانية بكل أبعادها السياسية و الإجتماعية و النفسية و الاقتصادية..فهو دين الأحوال الشخصية و المعاملات التجارية و السياسة الشرعية و الأخلاق..و هو فوق هذا غير متوقع على نفسه بل إنه ترك منافذ و نوافذ تسمح بإلقاء إطلالة على العالم الخارجي،إنه دين منفتح مواكب يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه و يدعو إلى التجديد،و هذا ما يجعلنا نقول ب ملء أفواهنا إن العلمانية مبدأ مرفوض في بلاد الإسلام،و إذا كانت العلمانية في الغرب جاءت لتملأ فراغا في الغرب،فإن الإسلام دين كامل شامل لا فجوات فيه،لذا فليمسك عنا أصحاب البضاعة بضاعتهم فقد كفينا المؤونة! "التقية" العلمانية و تطبيق الشريعةفي المغرب..بيع الخمور للمسلمين مثلا! و الحق أن العلمانية كماتروج في العالم العربي محاطة بالكثير من الغموض،ذلك أن الازدواجية التي يتعامل بها العلمانيون العرب و "التقية" المكشوفة الساذجة التي يمارسونها أشبه ببرقع صفيق يسدلونه على وجوههم للحيلولة دون معرفة موقفهم من الإسلام و عقيدته،لكنه برقع مثقوب يكشف عن بعض ملامح الوجه العلماني الملحد.إن هذه التقية العلمانية تزرع في طريق الحوار "الإسلامو-علماني" الأشواك و الكلاليب،فتتعثر المسيرة الحوارية،و حتى إن قام حوار بينهما فسرعان ما يتهاوى صرحه و يصير كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف،و هو قبل أن يتهاوى حوار عبثي لأنه لا يتوفر على أدنى شروط الحوار،ذلك أن الغاية من ممارسة هذا الأخير هو "الإقناع بالحجة و الإذعان للصواب،و لا إقناع و لا إذعان إلا إذا توسل المختلفان في الرأي القدر المشترك بينهما من المعارف و الأدلة إذ لا بد أن تكون هناك - بحكم الاشتراك في المجال التداولي متى كانا فردين ينتميان إلى مجتمع واحد أو مجرد الاشتراك في التاريخ الإنساني متى كانا مجتمعين مختلفين- جملة دنيا من الحقائق و جملة دنيا من الاستدلالات لا يختلفا فيهما و بناء على هاتين الجملتين من الحقائق و الاستدلالات،ينبغي أن يدخل كل واحد منهما في إقناع الآخربحيث إذا تبين أحدهما بوضوح الطريق الذي يوصل من هذه الحقائق و الاستدلالات المشتركة إلى الرأي المتنازع فيه،إن إثباتا أو إبطالا لزمه الإذعان له" (5).نعم،إننا في حاجة إلى الاتفاق حول "القدر المشترك من المعراف"،تلك التي تسمى مقدمات أو أصول،و لأننا هنا بصدد مناقشة إشكاليةتطبيق الشريعة،فإن الأصل هو الإسلام،فما موقف العلمانيين المغاربة من هذا الأصل(الله،محمد)وأصوله(القرآن،السنة،الإجماع،القياس،المصلحة المرسلة،الاستحسان..)؟ العلمانيون الراديكاليون : إنه كما أن في الإسلام فرق راديكالية متطرفة فإن في العلمانية كذلك طائفة رادكالية،و هم السواد الأعظم، وحتى من يدعون بأنهم معتدلون فأغلبيتهم من الرادكاليين الممارسين للتقية،المسدلين على وجوههم ذلك البرقع الصفيق المثقوب،و هؤلاء لا يؤمنون بإله و لا بدين،يقول علماني مغربي متطرف:"العلمانية خطر حاذق على الإسلامي لأنه تضرب أهم أداة يمتلكها،ألا و هي نسبية الحقيقة،و خاصة حقيقة الله و المعتقد.هناك حقائق متعددة عن الله و عن الديانات"(6)،أما أحد المتعالمين فيقول في مقدمة كتابه هادما ما قال صاحبنا الذي قال بنسبية الحقيقة :"سيكون من المضحك أن نأخذ بنظرية خلق الكون التوراتية التي تبنتها آيات القرآن الكريم،بينما العلم يقدم لنا نظرية الانفجار الكبير الذي لم يدم سبعة أيام –كذا قال-،كما تقول الأسطورة التوراتية،نقلا عن الأسطورة البابلية..."،و لم يقف عند هذا الحد بل إنه يردف و يقول مدعيا امتلاكه للحقيقة المطلقة : "و من العبث أن تخضع نظرية تكون الحياة للرقابة الدينية التي مازالت مصرة على أن الزوجينالأولين آدم و حواء،هما أصل البشرية بينما يؤكد علم البيولوجيا (!) أن الحياة تكونت انطلاقا من بكتيريا وحيدة الخلية في المحيط البدائي منذ أربعة مليار سنة (!) و انطلاقا منها تكونت الحياة النباتية و الحيوانية.و انطلاقا من الحياة الحيوانية تطور الإنسان عن أصل القرد (!!)(7). هل مازلنا نشك في كون العلمانية لا تتوافق مع الإسلام؟ و هل نرتاب في كون مد جسور الحوار معهم ممتنع أيما امتناع لاختلافهم معنا في الأصول؟ و الغريب أنهم لا يخجلون من ترديد المقولة "العلمانية تحترم الدين"،أي احترام هذا؟ ربما الغرب نجح في تطبيق العلمانية حينما نأى بنفسه عن نقد الأديان بالتطاول و التشكيك،غير أن أقزام العلمابيين العرب لم يبلغوا بعد هذه الدرجة من الوعي التي تمكنهم من الوفاء للمبادئ العلمانية، و لا شك أن هؤلاء لا يمكن أن نناقش معهم مسألة تطبيق الشريعة،ذلك أنه لا يسوغ في منطق و لا يقبل في عقل أن تناقش في الفروع من يختلف معك في الأصول،و من هنا ندرك سبب فشل الحوار "الإسلامو-علماني"،فلو أخذنا على سبيل المثال الضجة التي قامت مؤخرا في المغرب حول منع بيع الخمور للمسلمين-و هو قانون أصدره المستعمر ثم تم تعديله سنة 1967 من طرف الملك(أي أصدر كظهير)،و هذا البند ينص على "منع بيع المشروبات الكحولية للمغاربة المسلمين أو منحها لهم مجانا"- لاحظنا الانكماش الفكري للطرفين و تقوقع كل طرف على مرجعيته دون الانفتاح على الآخر و كأنه ليس يعدو في السباق إلا حصان واحد،فلا أدري لمن كان يوجه الدكتور أحمد الريسوني خطابه المحشو بآيات قرآنية و أحاديث نبوية حول تحريم الخمر،فملاحدة العلمانيين لا يقرون بربانية القرآن بل إن محمدا صلى الله عليه و سلم تبنى أفكارا توراتية!!!أما المغاربة المسلمون فلا يختلفون معه في حرمة الخمر،فهو كفقيه متمكن يعلم أن حرمة الخمر من "المعلوم من الدين بالضرورة"،فكما يقول الشاعر : وليس يصح في الأذهان شئ***إذا احتاج النهار إلى دليل و العلمانيون أشد انكماشا و تقوقعا،فنظامهم الإدراكي مغلق إلى أقصى حد،و منظومتهم المعرفية الدوغمائية الهشة غير قادرة على الإقناعبما يتماشى مع الخصوصية الثقافية للمغاربة،و من هنا نلمس أزمة الخطاب العلماني،فبضاعتهم الفكرية تنحصر في بعض المفاهيم العلمانية المستوردة من الغرب،من قبيل "الحرية" و "المساواة"،و الجهة المشبوهة التي سمت نفسها ب"بيت الحكمة"-و الأولى أن نسميها بيت النقمة-الشاجبة و المستكرة لوجود هذا القانون،لم تخرج هي الأخرى عن إطارها الفكري الضيق،فزعمت أنالأمر لن يعدو مسألة شخصية تندرج تحت الحريات الفردية! فإنا لله و إنا إليه راجعون من هذا العبثالعلماني بالقيم،فمتى كانت الحرية المطلقة المنفلتة من أي ضابط قيمة في حد ذاتها،أليس أكثر الجرائم البشعة إنما يقترفها أصحابها في حالة سكر؟ إن هؤلاء الذين يدافعون عن حرية شرب الخمر ينبغي أن يعاقبوا لأنهم دعاة الفتنة،و يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا،و تسود الفوضى في البلاد. هذا عن العلمانيين الرادكاليين،أما العمانيون "المعتدلون" الذين يظهرون وفاقا و يضمرون نفاقا(8)،فالواجب مناقشتهم بأسلحتهم ،فإن خاطبونا بلغة فكرية فلسفية رددنا عليهم بلغتهم ،و إن عمدوا إلى العبث بالآيات و لي أعناقها عملنا على كشف هذا العبث بالنصوص،و إن تعسفوا في توظيف قاعدة من القواعد الأصولية كنا لهم بالمرصاد في تقويم تلك القواعد،و سأقوم في المقال المقبل بإيراد بعض الشبهات العلمانية حول تطبيق الشريعة الإسلامية إن شاء الله،ثم التأكيد على أن تطبيق الشريعة مطلب شعبي و بأن قاعدة جماهيرية واسعة تنادي بضرورة تطبيق الشريعة.. (1) أحمد أمين : ضحى الأسلام ج1- ص 36 (2) ننبه هنا على أن ابن رشد يدافع عن فعل الفلسفة و ليس عن الآراء الفلسفية لأنه يعلم بأن ثمة الكثير من المعتقدات الفلسفية خاصة في"الإلهيات" تتعارض على طول الخط مع العقيدة الإسلامية. (*)استنبط ابن رشد وجوب القياس اعتمادا على القاعدة الأصولية التي تقول أن "الأمر يفيد الوجوب"،فالله هنا قال "اعتبروا" و هو فعل أمر. (3) ابن رشد : فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال - ص : 86،87- (4) مكسيم رودنسون : الإسلام و الرأسمالية - ص134- (5) طه عبد الرحمن : الحق العربي في الاختلاف الفلسفي – ص 38- (6) حميد لشهب : العلمانية في العالم العربي (حوارات) ص 109،-منشورات الأحداث المغربية- (7) من تقديم أشرف عبد القادر للكتاب "العلمانية في العالم العربي" ص7. (8) يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "العلمانية و الإسلام وجها لوجه"عنفؤاد زكريا و هو كاتب يظهر الإسلام : "أثنى د.فؤاد زكريا في مقالاة بمجلة "المصور" على المرأة التي تكلمت فشتمت الإسلام –لا المسلمين- و اتهمته بأنه ظلم المرأة! و ظلم الأقليات! ووصفها الدكتور بالشجاعة،و إن كان ينقصها في رأيه النضج السياسي،يريد أنها لم تستعمل اللباقة و الدهاء في خداع الجماهير عما في نفسها كالآخرين الناضجين!!"- ص : 23-، قلت : و لاشك أن هذاحال الأكثرية من العلمانيين "المعتدلين". [email protected] mailto:[email protected] www.adiltairi.maktoobblog.com http://www.adiltairi.maktoobblog.com/