يصدر للمفكر طارق رمضان كتاب جديد، سيكون متوفرا في المكتبات الفرنسية ابتداءً من يوم الإثنين 15 شتنبر.2008 ولقد قدم لكتابه هذا بمقال نشره يوم الخميس رابع سبتمبر ,2008 في موقعه الخاص على الأنترنيت هذا نصه مترجما: لم تكن الطريق دائما هينة، والدراسات والأبحاث ظلت طويلة، واتسمت أحيانا بصعوبة بالغة. إن الأفكار والمقترحات التي سيجدها القراء في هذا المؤلَّف هي نـتاج إبحار طويل وعميق في عوالم العلوم الإسلامية. فخلال ما يزيد على العشرين عاما ظللنا (معتمدين على التعليم الأصيل الذي تلقيناه، وعلى القراءات التي راكمناها، وعلى الأبحاث الشخصية والكتب التي ألفناها؛ نردد أن يقظة الفكر الإسلامي تمر بالضرورة عبر مصالحة مع عمقه الروحي من جهة وعبر التزام متجدد، وقراءة عقلانية وناقدة (الاجتهاد) لمراجعه النصية في مجال الفقه و أصول الفقه من جهة أخرى. و لم نغير رأينا قط: إن القلب المضيء للإسلام هو البحث والمبادرة والتلقي الروحي، وبُعدُه الكوني يمر بالضرورة عبر جهد في القراءة وإعادة القراءة باستمرار، وفي تفسير وفِيٍّ ومجدد، وأخيرا جهدٍ في الخروج بآراء فقهية (فتاوى). إن المسلمين اليوم في حاجة ملحة واستعجاليه لفقه (معاصر) يميز في النصوص ما هو ثابت عما هو قابل للتغيير. ولقد انخرطنا في ذلك بشكل منهجي من خلال ثلاثة كتب بمقاربات مختلفة: ففي أن تكون مسلما أوروبيا كان الأمر يتعلق بتقديم تفكير جديد انطلاقا من الأدوات الرئيسية التقليدية التي توفرها أسس أصول الفقه: الاستدلال التفسيري الناقد والمستقل(الاجتهاد)، المصلحة العامة، والرأي الشرعي المتوافق مع زمنه (الفتوى). هذه المقاربة كان من شأنها أن تمكن المسلمين الأوروبيين و(الغربيين) من الأجوبة على أسئلة وتحديات وجودهم في مجتمعات لائيكية لا تقوم فيها المرجعية الدينية إلا بدور ثانوي في الحياة العامة. وكتاب مسلمو الغرب ومستقبل الإسلام أضاف في اتجاه هذا التفكير بإثارته بشكل أكثر مباشرة مسألة العلوم والمنهجيات: الجزء الثاني من الكتاب جاء في شكل اقتراحات عملية وواضحة في مختلف المجالات الروحية والتربوية، والالتزام الاجتماعي والسياسي، للحوار بين الأديان، إلخ. هذان الكتابان نشرا فكرا ومنهاجا انتشرا أبعد بكثير من تطلعاتنا: فقد انطلقت حركية فكرية واسعة أبعد بكثير من تلك المساهمات. دراستنا حول المواجهة بين الحضارات تطرقت للمسألة من زاوية المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة بوضع السؤال: أي مشروع لأية حداثة؟ وبدراسة الأبعاد الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية لمشروع مجتمعي ممكن. كان الأمر يتعلق ثانية ودائما برِهان الوفاء من داخل الحركية. ولقد وقفنا مع ذلك أمام حدود. صحيح أن الرؤية العامة قد تغيرت، هناك كتابات مجددة مكنت في الغالب من إيجاد حلول مبتكرة وأصيلة، و من تجاوز حالات الانطواء، ومن وضع حد نهائي للانعزالية الناتجة عن الشعور بالذنب أو حتى للنصية الطائفية: علاقة أخرى مع الذات ومع الغرب اتضح أنها ممكنة. ومع ذلك! استمرت هناك حواجز ومثبطات تمنع مواصلةً أبعد للتفكير، وبالخصوص تعطي لحركة الإصلاح شكل مسلسل من الاقتباس المستمر مما هو راسخ...مع أنها حركة لم تكن كافية. ولقد بدا لنا أنه يجب الذهاب أبعد وعدم الاكتفاء بمساءلة النتاج الفقهي كما فعل إصلاحيو القرنين الأخيرين؛ بل أسس هذا النتاج، ومصادره وعلمه الأب(أصول الفقه). لقد جعلت قرون وعقود وسنوات من الرجوع إلى الاجتهاد الأمورَ تتقدم بالفعل؛ ولكن بشكل غير كافٍ بكثير؛ بما أن الأزمات ما زالت مستمرة، بل إنها تزداد استفحالا، وبما أن المسلمين يبدو عليهم أنهم يعانون من غياب لأي رؤية ومشروع سواء لحاضرهم أو لمستقبلهم. يبدو أننا قد بلغنا نهاية حقبة، هي تلك التي تتمثل في وضع تصور للإحياء انطلاقا فقط من تجديد قراءة المصادر النصية التشريعية وتفاسيرها. لقد تم في هذا الصدد التمييز بين الشريعة والفقه، بين العام والخاص، بين الثوابت والمتغيرات، وهذا ما مكن من حركة التجديد كما كان يشير إليها ويأملها المفكر الهندي-الباكستاني محمد إقبال. المتوفى سنة 1932؛ غير أنه، وكما سنبينه في الجزء الأول؛ لم يكن هذا كافيا عندما يكون تقدم العالم بهذه السرعة، وتكون التحديات بهذا التعقيد والعولمة بهذا القدر من الإرباك. يجب إذن في رأينا المضي أبعد، ووضع سؤال مصادر أصول الفقه، وسؤال التصنيفات التي تنظمه، والمناهج التي تُستنج عنه، وفي الأخير طبيعة السلطة التي تمنحها هذه المجموعات لعلماء النصوص؛ وبالخصوص للفقهاء. وهذا ما ننوي عمله في هذا المؤلَّف: إنها بكل وضوح مرحلة جديدة. إن الأمر يتعلق بالنسبة لنا بإعادة النظر ليس فقط في الأدوات والتطبيقات الملموسة والتاريخية للفقه والتشريع ولكن في مصادرهما، وفي تراتبيتهما ومن تم في المناهج، وفي مجالات السلطة وطبيعة المقاربات التي اقتُرِحت علينا عبر تاريخ هذا العلم (أصول الفقه). هذا المسعى هو نتيجة سنوات من التفكير ومن التساؤلات حول طبيعة الأزمات، والصعوبات، وحالات الانحصار والتثبيط التي تشل الفكر المسلم المعاصر: لماذا إذن اللجوء إلى الاجتهاد؟ الذي يُنادَى به منذ مدة طويلة؟ أليس الاجتهاد في الأخير يُنتج هذا الجديد المأمول؟ لماذا الفكر المجدد؟ الجريء والمبدع في الأصل ترك المكان لمساعِ مترددة لا تتصور الإصلاح إلا في صيغة اقتباس من العالم وليس بإرادة وطاقة تغييره؟ كيف يمكن تفسير وإجلاء هذه القطيعة وهذه الهوة الشاسعة بين العلوم الإسلامية أو العلوم المقدسة وبين العلوم الأخرى؟ والتي ترسم الحدود بين مجالات سلطة متمايزة ومحروسة جيدا؛ ولكنها لا تمكن من الإجابة كما يجب على تحديات العصر؟ إنها هذه الأسئلة وغيرها كثير هي التي أقنعتنا بضرورة الصعود إلى جذور المشكلات، وتحديد مداها واقتراح مقاربة جديدة ومنهجية جديدة فيما يخص أسس ومصادر التشريع (أصول الفقه). هذه الدراسة تتضمن في المحصلة ثلاث طروحات أساسية: يجب على العالم الإسلامي المعاصر(في الشرق كما في الغرب) أن يعيد التفكير في تصوره لمصطلحات ومناهج مسلسل الإصلاح (إصلاح، تجديد)؛ فمن المهم جدا التمييز بين إصلاح الاقتباس؛ الذي يفرض على الفكر الديني والفلسفي والقانوني أن يكتفي فقط بالتكيف مع تطورات المجتمعات، و العلوم والعالم، وبين إصلاح التغيير الذي يمنح نفسه الوسائل الروحية والفكرية والعلمية للفعل والاشتغال على الواقع، والتمكن من المعارف والتحكم عن طريق الحدس المبادِر في ضبط تعقيدات التحديات الاجتماعية، والسياسية، والفلسفية، والأخلاقية. ومن أجل ذلك؛ وهنا الأطروحة الثانية؛ يجب حتما إعادة النظر في مضمون وجغرافية أصول الفقه الإسلامي. فلا يمكن إطلاقا الاعتماد فقط على المصادر النصية للتطرق إلى العلاقة بين المعارف الإنسانية (الدين، والفلسفة، والعلوم التجريبية والإنسانية،إلخ) وبين الأدبيات التطبيقية: الكون، والطبيعة، والمعارف المرتبطة بها، يجب حتما أن تدمج في المسلسل الذي يسمح بتحديد الأهداف الكبرى ومقاصد الإرشاد والتوجيه العام للإسلام. ومحصلة هذه الجغرافية الجديدة مهمة جدا وهي تحدد أطروحتنا الثالثة: يجب القيام بتحويل لمركز ثقل السلطة في عالم المرجعية الإسلامية؛ وذلك بالتصنيف التسلسلي الواضح للاختصاصات والأهليات وللأدوار التخصصية للعلماء من مختلف المجالات. فيجب على علماء النصوص وعلماء الواقع أن يعملوا مستقبلا مجتمعين، وعلى قدم المساواة من أجل إطلاق هذا الإصلاح الجذري الذي ننادي به بإلحاح. إننا على وعي ونحن نكتب هذه الأسطر أن هناك من سوف لن يتوانوا في التعبير عن انتقداتهم. فالعديدون من تساءلوا حول قدراتنا وحول أهليتنا للتطرق إلى بعض المساءل في العلوم الإسلامية (الفقه، وأصول الفقه،إلخ.) وبالأحرى لاقتراح حلول. ونود هنا أن نكرر أن الذي يهمنا هو أن تتوقف هذه الانتقادات عن توجيه اهتمامها إلى الشخص ولتأخذ في الانكباب على النقاش الوحيد المهم، أي مدارسة الأطروحات والأفكار المطروحة، والخروج بنقد جادٍّ ومبني على أدلة وبراهين. ولقد سنحت لنا الفرصة إبان إطلاقنا للنداء من أجل تعطيل حدود القتل والجلد والرجم، بأن نرى أن ردود الأفعال (بما فيها التي صدرت عن بعض العلماء) كانت انفعالية ومتشنجة، بينما لم يكن هناك إلا القليل جدا من النقد المبني على أدلة وبراهين، والناتج عن دراسة معمقة لنص ذلك النداء. غياب النقاش الناقد والهادئ هو في رأينا واحد من الأدواء التي تنخر الفكر الإسلامي المعاصر. خلال عروضٍ أكاديمية ( محاضرات، ندوات ودورات) سابقة عن تأليف هذا الكتاب، أثار بعض المتدخلين كون هذه الأفكار بالنسبة لهم ليست جديدة، وبأن إدماج علميين (متخرجين من العلوم التجريبية أو الإنسانية) هو بالفعل أمر حاصل في بعض المجالس القضائية والتشريعية الإسلامية. وهذا ما نتساءل حوله ونعترض على أساليبه. صحيح أنه توجد، ولقد أشرنا إلى ذلك في العديد من المرات، مجالات (مثل الطب) حيث هناك أرضيات يتداول فيها علماء النصوص وأصحاب العلوم البحتة ويوحدون قدراتهم؛ ولكن هذه الحقيقة استثناء أكثر مما هي قاعدة. إن أطروحتنا هي أكثر وضوحا وأكثر جذرية من مجرد نداء لاستشارة الخبراء في مختلف مجالات المعرفة بانتظام: إن الذي يهمنا هنا هو مساءلة جوهر التصنيف بين أصول الفقه، والحث على الإدماج الضروري لعلماء الطبيعة والعلوم التجريبية والعلوم الإنسانية، بشكل دائم وعلى قدم المساواة عندما يتعلق الأمر بالأهداف الكبرى والغايات الأخلاقية في مجالات تخصص كل منهم. وهذا سوف يمكننا هنا من اقتراح مجموع من الغايات الأخلاقية أكثر توسعا من (الكليات الخمس المعروفة) ومن تصنيف (عمودي وأفقي) أصيل للأهداف الكبرى. إن مقاربتنا توفر إطارا لا يدعي أنه نهائي؛ ولكنه يفرض مراجعة نقدية للمناهج والنماذج الكلاسيكية. ويمكن كذلك ملاحظة أننا لا نأتي دائما بحلول واضحة لمختلف المسائل المثارة؛ فمن الواجب التمييز بين المجالات: إن العمل النظري الذي انكببنا عليه في الأجزاء الثلاثة الأولى من كتابنا يتمثل في دراسة المصطلح، وتصنيف العلوم، وتاريخ مختلف مدارس أصول الفقه. وفي إطار هذه الفكرة الأساسية، نقترح جغرافية جديدة لمصادر التشريع و لأصول الفقه: وهذه الجغرافيا من شأنها أن تمكن من إدماج عالم العلوم الإنسانية وبيئاتها الاجتماعية (وبالتالي جميع العلوم المرتبطة بها) في تهيئة الغايات الأخلاقية للخطاب الإسلامي الذي نقترح له هنا عرضا جديدا وكذلك تصنيفا جديدا. وانطلاقا من هذا الإطار النظري؛ فإننا ندرس بعض الحالات التطبيقية ونثير عددا معينا من الإشكاليات والأسئلة: ولقد اخترنا هنا بعض المجالات المحورية (الطب، الفنون، الثقافة، العلاقة بين الرجل والمرأة، البيئة، الاقتصاد، العَلمنة، السياسة،الفلسفة) وهي مجالات أبعد من أن تكون الوحيدة ولكن يبدو لنا تُجاهها (في الإطار المحدود لهذه الدراسة) أن مقاربتنا من شأنها أن تفتح فضاءات جديدة للبحث والإبداع. ليس من حقنا هنا أن نقدم إجابات كل واحدة من الأسئلة المطروحة بما أن الأطروحة الأساس لهذا المؤلَّف هي بالضبط التأكيد على أنه من واجب المتخصصين الانكباب على هذا المسائل، وأن يكونوا منخرطين فيها أكثر ويمكنونا من كفاءاتهم العلمية حول مسائل غالبا ما تكون معقدة وحادة. إن إسهامنا ينحصر هنا في مساءلة المناهج مع صياغة انتقادات في العمق فيما يخص الطبيعة الشكلية أو بكل وضوح الغير ملائمة للأجوبة المقترحة. ويبقى بعد ذلك من اختصاص العلماء، والمتخصصين في العلوم البحتة والخبراء في مختلف مجالات المعرفة أن يقدموا لنا حلولا جديدة وناجعة. انتقادنا يتوجه إلى الضمير المسلم المعاصر هذه الدراسة ليست نقدا منهجيا وغير دقيق للعلماء والفقهاء. كما لو كنا نحملهم مسؤولية جميع الأدواء التي تخترق المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة والجاليات المسلمة التي تعيش في الغرب، أو آسيا، أو إفريقيا. إن خطابنا يتوجه إلى الضمير المسلم المعاصر على جميع المستويات، وانتقاداتنا تسعى لأن تكون بناءة ومتعددة الأبعاد. ومن المهم أن يتحمل المسلمون العاديون نصيبهم من المسؤولية في العمل النقدي، من خلال طبيعة الأسئلة التي يطرحونها ومن خلال تعميق التفكير انطلاقا من الحقائق اليومية. إن مشكل الزعامة في العالم الإسلامي يعود كذلك إلى غياب الإسهامات النقدية داخل الجاليات الدينية، وإلى سلبية العدد الأكبر من المسلمين وتبعيتهم التي غالبا ما تكون حصرية لجهة، وقائمة على الانفعال والإعجاب بهذا العالم أو الزعيم الكفء و/أو الكاريزمي، أو ذاك. ومن الضروري أيضا توجيه النقد للمثقفين وللعلماء سواء في العلوم الشرعية أو البحتة؛ الذين يتفوقون في مجال تخصصهم ومع ذلك لا يشاركون في النقاش الفكري والأخلاقي داخل مجتمعهم الروحي: إنهم يقتصرون في الغالب على انتقاد غياب الكفاءة لدى العلماء الذين لا يعرفون شيئا في المسائل التي يفتون فيها غير أنهم يتخذون موقف الملاحظ السلبي الذي لا يتحمل أي مسؤولية في أزمة الوعي الإسلامي المعاصر. إننا ندعو إذن إلى صحوة عامة وإلى تقييم على أساس النقد الذاتي لجميع ضمائر وجميع كفاءات المسلمين العاديين كما المثقفين، والعلماء الشرعيين والبحتيين. بل إنه من حق حتى الخبراء غير المسلمين؛ كما سنرى؛ أن يقوموا بدورهم في هذا المسلسل عن طريق مساءلة الفكر الإسلامي المعاصر حول عدد معين من المسائل، أو عن طريق المساهمة بكفاءاتهم في حل ممكن لبعض المسائل العلمية و/أو الأخلاقية (سواء في العلوم التجريبية أو الإنسانية).