* المستوى الاقتصادي تشبه أندية كرة القدم اليوم مقاولة لصناعة الفرجة، عائداتها المالية تأتي من المتفرجين، لكن أيضا وبشكل متزايد من المستشهرين و التلفزيون.. وقد كشفت الدراسات أن صناعة كرة القدم "بالهيكلة" والتنظيم "الاحترافي" تشبه أكثر فأكثر صناعة الرياضات الأمريكية الأساسية (البيسبول، كرة السلة، الهوكي) التي تعرف نموا قويا منذ بداية الثمانينات. لقد أصبح التنافس محتدما أكثر مع تدويل المنافسات، وهذا ما يخضع شراء لاعبين من مستوى رفيع بأثمان صاروخية، و أصبح لاعبو كرة القدم، مثلهم مثل عارضي الأزياء.. لهم أدوار رئيسية في ترويج السلع والماركات العالمية.. حيث العلاقة بين كرة القدم وصناعة الكماليات هي وجود نجوم عالميين.. وقد دخلت كرة القدم بعد تدويلها للعصر الصناعي، فإلى غاية الثمانينات ظلت كرة القدم جد محلية، وكان اللاعبون أقل تحركا وتنقلا، وكما كانت مبيعات تذاكر الدخول إلى الملاعب تشكل أكثر من ثلاثة أرباع رقم معاملات الأندية. بعد ذلك عرفت كرة القدم ثورة مع مرسوم أو قرار "يوسمان" في1995م (القرار الذي يحمل اسم اللاعب البلجيكي يوسمان، الذي يسمح للاعبين بالتنقل بحرية بين الأندية في بلدان الإتحاد الأوربي، وأحيانا فيما وراء الحدود، بفضل الجنسية المزدوجة والتجنيس. لكن هذا كشف عن تجاوزات مثل قضايا الجوازات المزورة للاعبين من أمريكا الجنوبية الممارسين في فرنسا وإيطاليا... ثم إن تسليط الضوء الإعلامي بشكل متزايد على كرة القدم أصبح يجتذب المقاولات الراغبة في الإشهار، من هنا انخفضت حصة المداخيل من مبيعات التذاكر، بحيث لا تمثل إلا 50 بالمائة من رقم المعاملات. وأصبحت العائدات تأتي من المتفرجين، الاستثمار، والتلفزيون. حيث أصبح الرهان في تمويل النوادي للحصول على عائدات جد قارة يعتمد على (اشتراكات المنخرطين، كراء المقصورات داخل الملاعب، منتجات خاصة بالنادي...)، بفضل تدبير جيد للعلامة التجارية. إن تدويل كرة القدم عزز المنافسة بين الأندية ومستلزمات التنافسية فاللاعبون الجيدون تتم معاينتهم، والتنقيب عنهم من طرف الأندية الغنية جدا، حيث أن البطولات الفقيرة تكون بمثابة "مرتع" للأغنياء، فما هي النتيجة؟ إن الأندية التي يكون بإمكانها شراء أفضل اللاعبين تحصل على أفضل النتائج، وبالتالي تحصد مداخيل أعلى من الأندية الأخرى. و هذا ما تعرفه البطولات الأوربية الأكثر أهمية: الإسبانية، الإنجليزية، الإيطالية، الألمانية، الفرنسية. بل تحولت بعض الأندية إلى شركات مجهولة الاسم، ولها مديرون ماليون حقيقيون مثلما يوجد في بريطانيا وإيطاليا. أما في المغرب؛ فأندية المؤسسات.. ما هي إلا دهاليز مظلمة لتبذير المال العام. ورغم ما عرفته بعض الأندية من ارتباط بمؤسسات صناعية أو مالية: القرض الفلاحي، إسمنت البيضاء، لافارج، التبغ، جمعية الماء الصالح للشرب، جمعية وزارة المالية، جمعية الحليب المراكشية... حيث أصبحت هذه الأسماء تأخذ مكانها في أذن المتتبع والمهتم بشؤون الرياضة الوطنية، فرغم ذلك فهذه الأندية تحتل مراتب متخلفة ولا تتميز (كما هو المفروض) عن باقي الأندية رغم ما لديها من الإمكانيات المالية والبشرية والتأطيرية ما يجعلها ذات الامتياز عن باقي الفرق الأخرى. إذ أن أندية المؤسسات هذه تنطلق بميزانية ضخمة، مع بداية كل موسم المفروض أن يتمتع بها عمال وأبناء عمال هذه المؤسسات..لكن واقع الأمر يثبت أن أبناء النادي دائما لا يتوصلون بمرتباتهم ومستحقاتهم.. و النتيجة تنعكس على المشهد الكروي بالمغرب إذ تمارس هذه الأندية داخل مختلف منافسات الدوري الوطني أمام مدرجات فارغة!! إن هذه الأموال المنفقة بسخاء على أندية مصطنعة لا جذور شعبية لها، كان من الأفيد أن تستفيد منها أندية أكثر شعبية وأكثر استعدادا وحماسا للتفوق والتحدي(من خلال إرادة المدينة و المسئولين واللاعبين جميعا). ثم نتساءل عن دور هذه المؤسسات في تموين معاهد التكوين والتأطير وصنع المواهب وتزويد الفرق باللاعبين المحترفين، ومن أجل تطوير المشهد الرياضي.. الحصيلة التقنية الأكاديمية تبقى مخجلة. الأمر الذي يستوجب في النهاية البحث عن صيغ حديثة للتعامل بين الأندية والمؤسسات بشكل يسمح باستفادة الطرفين معا والمتفرج والمجتمع والرياضة أيضا بدل الصيغة المؤسساتية العتيقة في التسيير... ثم نتساءل أيضا عن كيف يتم التزاوج والتجاوب بين أصحاب المال وأصحاب الرياضة؟ هذا هو السؤال الملح في المغرب، في ظل ما نعرفه من تسيب و رشوة و انعدام المسئولية و الإرادة الحقيقية من أجل البناء و العمل الجاد.. إن صناعة الفرجة والمتعة وجني الأرباح التي تغذي اللعبة وتطورها وتضمن المال الكافي للمسيرين والمنتمين للرياضة لا يمكن أن يتحقق إلى بالعمل المسئول و الشراكة الوطنية الحقيقية بين المال و الرياضة.. فقد أثبتت التجارب أن النادي الأقوى ماليا أقوى رياضيا في الأغلب الأعم. لقد تم التحول قويا من "الرياضة الهاوية" إلى "الرياضة المالية" في مختلف دول العالم، خصوصا حين اكتشف الاقتصاديون والخبراء الرياضيون أن الرياضة حقل آخر للتنافس الاقتصادي والربح المادي بكرا لم يقتحم بعد. فكان أن اقتحم الاقتصاديون الميدان حين أفتى منظرون ماليون على المجتمع الأولمبي بيع المنتوج الأولمبي في ثلاثية التنظيم الأولمبي(قبل وخلال وبعد)، إذ أصبحنا نرى تهافت اللوبيات الاقتصادية، وإن كانت محتشمة في بداياتها ومتسترة وراء ماركات رياضية (أديداس نموذجا). الأمر الذي انتقل إلى ميدان كرة القدم أيضا.. إنه لا مجال إلا للاختصاص والاحترافية ليس فقط بالنسبة للممارس الرياضي بل ولمؤطريه من مدربين، وأطباء وممرضين .. كما أن العتاد الرياضي الذي يتطور صناعيا وتكنولوجيا يتطلب بدوره رصد الأموال التي لا حصر لها.. والرياضة أصبحت منذ زمن ليس بالقصير متبعة لنفس المعيار الرأسمالي في المجتمعات المتقدمة وهو ما عبر عنه "جان ماري بروم" بهذه الخطاطة: منافسة- مردود- مقياس- رقم قياسي. * المستوى السياسي يخطئ الرياضيون حين يتصورون أن الرياضة محايدة.. فنحن لا نشاهد على الشاشة مباراة تتعلق فقط بلاعبين محترفين وحكم ونتيجة، إن ذلك إلا قمة الجبل الجليدي الذي يخفي الماء باطنه الكبير جدا من ظاهره. إذ تتدخل السياسة في صلب الرياضة؛ فنقول "سياسة رياضية" و "برنامج وطني للرياضة" إلى غير ذلك.. إن الوجه السيء هو عندما يتم صنع نتائج التباري لأغراض سياسية، وهو حين يتمك تلهية الشعب وشغله عن قضايا الوطن الكبرى والهامة، وهو حين يتم شغل الشباب عن قضايا الشغل والسياسة.. مع الأسف، و نقولها صراحة؛ إن الهاجس الأمني في ملاعب كرة القدم و السياسة الكروية يبقى في الدول المتخلفة و منها المغرب في حدوده السياسوية الضيقة و مفرغا من روحه التربوية و الثقافية والصحية و الحضارية... إذ نلمس بوضوح أن الرياضة أداة إيديولوجية للدولة وآلة للسيطرة البورجوازية على عموم الشعب الفقير. إذ تصبح الرياضة ذلك القناع الخادع عن المساواة الاجتماعية و التي تخفي عيوب المجتمع الطبقي.. إن غياب الإستراتيجيات الدقيقة والواضحة في مجال السياسة الرياضية بالمغرب عموما و الكروية خصوصا هو ما يسم الوزارة الوصية؛ إذ لا نعرف معنى أن تكون لنا وزارة للشبيبة والرياضة تهتم بالرياضة وحدها ولا تهتم بالشباب؟! وما معنى أن لا تتجاوز ميزانية هذه الوزارة الهامة و التي تعنى بأهم شريحة في المجتمع (الشباب) (0.04) من الميزانية العامة؟! لقد كانت الرياضة بالأمس مجالا ومدرسة حقيقية للوطنية، وقناة من قنوات الفعل الوطني ضد المستعمر.. وأصبحت اليوم ومع الأسف؛ مرتعا لأصحاب المال و السياسة، فقد تحولت الأندية إلى خزانات للأصوات الانتخابية زمن الانتخابات، حيث تجد كثيرا من الأندية الفقيرة تنتعش حين تشتعل حمى الانتخابات، و يظهر مسئولون وممولون متنافسون يخطبون ود النوادي كوسيلة لجمع الأصوات الانتخابية، فتصبح الرياضة ورقة سياسية مرتبطة بها وبمواسمها حيث أثبتت التجربة أن التهافت على رئاسة الفرق تشتعل مع موعد الاستحقاقات الانتخابية، وتخبو بعد ذلك. وبذلك تكون الرياضة في المغرب معاكسة لما جاءت به مبادئ أولمب السامية "القوة التي تجمع ما تفرق سياسيا"، فتصبح على الطريقة المغربية "السياسة التي تفرق ما تجمع و بالقوة".. إن الرياضة في المغرب ولدى العرب عموما، مرتبطة بالسياسة أكثر من الاقتصاد، لكنها مرتبطة بالاقتصاد لدى الغرب أكثر من السياسة و ذلك سر تألقها و نجاحها، و سر تقدمها و تخلفها لدينا.. * المستوى الاجتماعي إلى جانب كون الرياضة فرصة للتنافس بين الشعوب وإبراز القدرات الجسمانية والصحية، فهي تعكس أيضا مدى القدرة على تحسين المردود والأداء الرياضي الفردي والجماعي من خلال التنظيم والعقلانية وتوظيف المال في مختلف عمليات تطوير المجتمع على كل المستويات. ولا يخفى دور كرة القدم كأكثر الرياضات شعبية في دول العالم اليوم في تجاوز المشاكل وتحقيق الانسجام بمواجهة الصراعات الدينية والقبلية والإيديولوجية والعنصرية ومحاصرتها والحد من تداعياتها داخل البلد الواحد و داخل هذا العالم المشترك بيننا.. و تظهر أهمية مباريات كرة القدم في أنها مسرح للتواصل و عنصر من عناصر التربية على الروح الجماعية "روح الفريق"، و هي صيغة جيدة لتعلم الاحتكاك و التنافس بشكل جماعي و داخل رقعة واحدة.. دون الوصول إلى العنف أو القطيعة، إنها –كرة القدم- وسيلة تربوية ناجعة، و رياضة اجتماعية يمكنها أن تقرب الأفكار و الاختلافات العرقية و السياسية داخل البلد الواحد و بين بلدان العالم... إن ما يقع اليوم في المغرب لا يظهر أي مجهود للدولة في المراهنة على الدور الاجتماعي و التربوي والأخلاقي للعبة من أكثر الرياضات اجتماعية و شعبية.. بل الواضح هو المراهنة على دور كرة القدم المغربية كصمام أمان، و كآلة ضخمة تستخدم لامتصاص الحماس و التيارات الشبابية الهائجة، و إخفاء التفاوتات الاجتماعية و الطبقية... ما نتمناه ؛ هو أن نرى كرة مغربية وطنية غير مسيسة، وبعيدة عن تجار الانتخابات و البورجوازية المغربية المتعفنة، و تلعب أدوارا اجتماعية و تربوية و ترفيهية للشعب المغربي الذي سحقته كل قطاعات هذا البلد الرديئة و المزيفة... فاتركوا لنا حق اشتمام الهواء النقي من نافذة الرياضة على الأقل.