بقلم : لن نذيع سرا إذا قلنا إن إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية بوجه عام وتنفيذها في مواجهة الإدارة بوجه خاص تمثل واحدة من أعوص المشكلات واعقدها، وأكثرها إثارة للجدل في المغرب شأنه شأن باقي البلدان... لكن من واجبنا الأخلاقي أن نعترف أن الاجتهاد القضائي الإداري المغربي قد كان هنا والآن، تنظيريا وتطبيقيا، في الموعد مع التاريخ ويسجل له بلا منازع انه اقتحم العقبة تلو العقبة بالرغم من التحفظات والعثرات، لينتج لنا على مدار تحولاته وتطوراته رصيدا ايجابيا وتقدميا اجمع الفقه على القول انه يدعو إلى الفخر والنخوة الوطنيين. مبدأ القضية ومنشأها يعودان إلى صمت المشرع بشأن موضوع إجبار الإدارة على تنفيذ الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، الأمر الذي أدى إلى انسداد الأفق وكدا يجعل المدارين والمواطنين أمام متاهة الأرانب تارة أو الحلقة المفرغة تارة أخرى أو العقدة طورا أو اليأس طورا أخر، لكن الاجتهاد القضائي سجل أول هدف في المرمى من خلال الأمر الاستعجالي الشهير الصادر بتاريخ 2-12-1991، والذي تم من خلال معادلة هندسية برهانية مفحمة نزع صفتي القداسة والإطلاق عن مبدأ عدم جواز الحجز على الأموال العمومية المملوكة للإدارة مستندا إلى فكرة المناط أو المقصد، ثم انتهى إلى تبني آلية الغرامة التهديدية كطريقة من طرق التنفيذ غير المباشر في مواجهة الإدارة كشخص معنوي عام بالرغم من تحفظ المجلس الأعلى، إلى أن سجل خطوة تقدمية لافتة إلى الأمام من خلال إثارة المسؤولية الشخصية للمتنع عن التنفيذ وتوجيه الغرامة التهديدية إلى معرقلي تنفيذ الأحكام القضائية بصفتهم الشخصية، وسط تباين حول طبيعتها بين مفهوم التعويض ومفهوم التهديد، وذلك انطلاقا من قراءة مترابطة جريئة بين المادتين 7 من قانون90/41 المحدثة بموجبه محاكم إدارية و 448 من قانون المسطرة المدنية. فماذا وقع؟ الذي وقع ان الفقه الذي كان متحفظا في المبدأ عن تدخل القاضي الإداري في مسألة التنفيذ ضد الإدارة، قد اجمع على تأييد هذا التطور تأييدا عارما، استنادا على المعايير الحقوقية والاخلاقية والعدلية، وتناغما مع السياق المجتمعي المغربي الذي بات ينحو نحو ترسيخ آليات ودعائم الحكامة الرشيدة بمستوياتها وأبعادها وتفاعلاتها المختلفة إداريا وقضائيا واقتصاديا وماليا وسياسيا، أولم يفتتح الملك محمد السادس عهده بالقول إن الإدارة يجب أن تكون في خدمة المواطن وليس العكس؟ أي نعم، إن مجرد حصر القضاء الإداري لضرباته ضد الذمة المالية للإدارة ما هو إلا محاولة لتغطية عجزه عن إجبار الإدارة على التنفيذ، وما عساه يفعل إن كانت وسائل الاجبار في يد الإدارة، فهل ستجبر الإدارة نفسها بنفسها؟ من هنا كان القضاء الإداري المغربي حكيما وجريئا في آن معا، عندما أبدع فكرة المساءلة الشخصية للموظف الممتنع عن التنفيذ، وهي فكرة مقتبسة من المشرع الفرنسي لكن القاضي الإداري المجتهد عمل على تبيئتها والباسها لباسا مغربيا أصيلا،إذا علمنا أن جهة الاختصاص في مسائلة الأشخاص في فرنسا هي محكمة التأديب المالي التي يشارك مجلس الدولة في تأليفها، وهي محكمة اجمع الفقه في فرنسا على محدودية حصيلتها كي لا نقول فشلها الأمر الذي أدى إلى المطالبة بإدماجها عضويا بالمجلس الأعلى للحسابات الفرنسي في أفق تعديل مدونة المحاكم المالية الفرنسية. السياق الخاص: التعليق المتحفظ للدكتور العربي مياد الصادر بجريدة العلم عدد 26 مايو 2010، ص: 7 تحت عنوان تساؤلي يستشف منه الطابع الانكاري، أثار الدكتور العربي مياد موضوع مدى قانونية توجيه الغرامة التهديدية من القاضي الإداري إلى الموظف الممتنع عن التنفيذ، تعليقا على الأمر القضائي رقم 787 ملف إداري عدد 807-08 بتاريخ 11 دجنبر 2008، فنقلا عن المقال المقسم إلى ثلاثة محاور، أسس القاضي الإداري (رئيس المحكمة الإدارية بالرباط بصفته قاضي تنفيذ) أمره بتحديد الغرامة التهديدية في مواجهة المحاسب العمومي الممتنع عن أداء دين مستحق محجوز بين يديه، على أساس سمو الحكم القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي به على قانون المحاسبة العمومية المدفوع به للامتناع عن الأداء، وقد توسل كاتب المقال في تدبيج تعليقه المتحفظ ثلاث ركائز حسبما يستشف من تحليله ومعماره البرهاني وهي: 1- مبدأ الفصل بين اختصاص القضاء واختصاص الإدارة. 2- مبدأ الفصل بين مهام الآمر بالصرف ومهام المحاسب العمومي. 3- مبدأ مسؤولية الإدارة كشخص معنوي عام عن أفعال موظفيها. ليختم ملاحظاته بخلاصة جوهرية مفادها أن "الحكم القضائي جانب الصواب جزئيا بخصوص تحمل الخازن الرئيسي لأداء الغرامة التهديدية من ماله الخاص" عوضا عن الخازن العام بصفته التمثيلية للخزينة العامة أي الإدارة. إن هذا الموضوع الشيق والشائك في الوقت نفسه يستدعي منا {ويستدعينا اليه} بقوة، كي ندلو بدلونا في النقاش، بل ويجرنا إليه جرا، لكن حتى لا نسقط في محذور التكرار أو الاجترار لما سبق أن أدلى به من سبقونا بإحسان في محاولة الاقتراب من هذه الإشكالية من مثل الفقهاء والقضاة الأجلاء أمال المشرفي، أمينة جبران، أحمد بخاري، أمين بنعبد الله، امحمد عنتري، مصطفى التراب، محمد القصري، إبراهيم زعيم وآخرون نعتذر عن عدم ذكر أسمائهم، فاننا الينا على نفسنا تناول الموضوع من الزاوية المحددة التي يعالجها الأمر الأمر القضائي موضوع التعليق المتحفظ المشار إليه والى صاحبه انفا، الا وهي زاوية العلاقة بين قانون المحاسبة العمومية والقانون الإداري العام أي بين الشرعية الإدارية والشرعية المالية المحاسبية، لنخلص إلى الجواب، مجرد محاولة الجواب، على السؤال الجوهري في العنوان أعلاه، انطلاقا من تخصصنا البحثي والمهني، وهو مدى مشروعية الدفع بقانون المحاسبة العمومية {المبحث الأول} كحجة قانونية وواقعية للامتناع عن أداء دين مستحق بموجب حكم قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به {المبحث الثاني} مع الإقرار مند البداية على أن الأمر ليس بالهين والمفروغ منه بل ينطوي على الكثير من التشعبات والتعقيدات التي تضفي على الموضوع صبغة مزيجا من الصعوبة والتشويق، فضلا عن الأهمية القانونية المؤكدة. المبحث الأول: قانون المحاسبة العمومية وخصوصية المنازعة المالية كي يتأتى لنا الجواب على الإشكالية الجوهرية يجدر بنا أن نعرف بأضلاعها أو بتعبير أدق بطرفيها الرئيسين قانون المحاسبة العمومية من جهة ومن ورائه الشرعية المالية والمحاسبية، والقانون الإداري العام ومن ورائه الشرعية الإدارية، فلنبدأ باستعراض مبادئ وقواعد المحاسبة العمومية قدما نحو توضيح خصوصية قواعدها ومنازعاتها مقارنة بالقواعد والمنازعات الإدارية. المطلب الأول: مبادئ وقواعد المحاسبة العمومية. تتأسس مبادئ وقواعد المحاسبة العمومية على مبادئ دستورية ومكملة للدستور كما تستند إلى مبادئ وقواعد مبتوتة في التشريعات العادية والفرعية، بعضها يعتبر من النظام العام وبعضها لا يعتبر كذلك. أولا: مبدأ الترخيص المسبق للمداخيل والنفقات. إن ميزانية الدولة التي تحدد قواعد المحاسبة العمومية طرق وإجراءات تنفيذ عملياتها تندرج في إطار القانون المالي السنوي المصوت عليه من البرلمان، وبالتالي فان الميزانية ليست فقط أداة توقع تدبيري ولكنها أيضا وبالأساس وثيقة ترخيص؛ أي بمعنى أن المداخيل والنفقات لا تصرف ولا تحصل إلا في حدود الترخيصات في الميزانية وفي نطاق توزيعاتها على الأبواب، على مستوى الموضوع والمبلغ المالي والمدة الزمنية. وأما قواعد المحاسبة العمومية التي تضمن احترام هذا المبدأ الجوهري المقدس فنذكر منها قاعدة وجود الاعتماد وكفايته وقاعدة مطابقة النفقات والمداخيل لأبواب الميزانية، كشرط لصحة الالتزام بالنفقات أو تحمل المداخيل، كما أن الحفاظ على الترخيصات يعد علة وجود مراقب الالتزام بالنفقات الذي أصبح الآن هو المحاسب العمومي نفسه بعد التعديلات الأخيرة. ثانيا: مبدأ الفصل بين الآمر بالصرف والمحاسب العمومي. هذا المبدأ الكلاسيكي مكرس في أنظمة المحاسبة العمومية التي تعتنق المذهب اللاتيني، وقد أخد به المشرع المغربي بشكل صريح، لكنه لا يرقى إلى مفهوم النظام العام إذ ترد عليه استثناءات تلطيفية بنص القانون، وهو ينطوي على القواعد والمعالم التالية: - قاعدة الفصل بين المهام: يقوم الآمر بالصرف على مستوى المداخيل بإثباتها وحصر مبالغها والأمر بأدائها بحيث يفضي هذا المسلسل إلى إصدار أوامر بالاستخلاص او بأدائها مدعمة بالمستندات المثبتة للنفقة أو للدخل، على أن يتم تسليمها للمحاسب العمومي... فيما يقوم المحاسب العمومي بالتحمل المحاسبي لأوامر الاستخلاص ومباشرة الاستخلاص الفعلي، وتسديد النفقات لمستحقيها بناء على أوامر صادرة بهذا الشأن من الأمر بالصرف، أو بناء على سندات مقدمة من الدائنين أو بصفة تلقائية، فضلا عن مهام وعمليات أخرى داخلية تتعلق بالخزينة كحسابات الإيداع والقرض وغيرها، ومسك الحسابات والتقييدات والمحافظة على الأموال والقيم والمستندات المتبتة.. قاعدة المراقبة المتبادلة بين الآمر بالصرف المحاسب العمومي، وهي قاعدة أساسية من قواعد المراقبة الداخلية في التنظيم الإداري المهيكل، وهي من الأغراض المستهدفة لعملية الفصل بين مهام الآمر بالصرف والمحاسب العمومي فعلى مستوى المداخيل يراقب المحاسب العمومي المشروعية الميزانوية والقانونية لعملية الاستخلاص وكذا قانونية التخفيضات والإلغاءات، وعلى مستوى النفقات يراقب صفة الآمر بالصرف وصحة حسابات التصفية والطابع الإبرائي للتسديد ووجود المستندات المثبتة وما إن كانت تحمل الإشهاد على صحة العمل المنجز، وفقا لآخر التعديلات الصادرة بين سنة 2004 و 2010. وتفضي هذه المراقبات إلى إمكانية رفض الاستجابة للأوامر الإدارية الصادرة عن الامر بالصرف ما عدا – وفق شروط متشددة- حالة صدور أمر بالتسخير منه يتحمل بموجبه المسؤولية المالية محل المحاسب العمومي قاعدة التنافي بين صفة الآمر بالصرف وصفة المحاسب العمومي، وهذا الأمر من البداهة بمكان، إذ كيف يعقل أن يتمكن الثاني من مراقبة أعمال الأول في غياب الفصل بين الوظيفتين؟ وتتكرس هذه القاعدة من خلال الفصل بين المرافق، فالمحاسبون العموميون يتبعون إداريا وماليا لوزير المالية أما الآمرون بالصرف فهم رؤساء المرافق العمومية، ولئن كان لهذه القاعدة استثناءات تلطيفية من قبيل النفقات المؤداة قبل التصفية، أو التسديدات قبل الأمر بالأداء، أو حتى بدون أوامر بالأداء مطلقا كحالة الأجور والمعاشات... فإنه يمنع منعا كليا أن يتولى الوظيفتين شخص واحد. ثالثا: مبدأ تقديم الحساب يقدم الآمرون بالصرف، بوثيرة سنوية، الحسابات الإدارية لتصرفاتهم المالية إلى المحاكم المالية في نطاق اختصاصاتها الإدارية ، لمراقبة مشروعية وفعالية تلك التصرفات في نطاق مراقبة التدبير، وتثبت ملخصاتها في التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات. أما المحاسبون العموميون فإن تقديم حسابهم السنوي للمحاكم المالية يدخل في صميم واجباتهم الوظيفية، وهم مسؤولون ماليا أمام قاضيهم الطبيعي وهو قاضي المحاكم المالية، ولا حساب يؤدونه إلى البرلمان أو للأجهزة التداولية، ما عدا المشورة الفنية عند الاقتضاء، غير أن التصفية القضائية لحسابات المحاسبين العموميين هي بطريقة غير مباشرة مراقبة لعمليات الآمرين بالصرف كما تعتبر المقارنة بين الحسابات الإدارية للآمرين بالصرف وحسابات تسيير المحاسبين العموميين من الإجراءات الرقابية التقليدية التي يقوم بها قاضي المحاكم المالية سواء في نطاق اختصاصاته القضائية أو غير القضائية. بقي أن نشير أن هذا المبدأ هو من النظام العام بحيث لا يجوز الاتفاق على مخالفته ولا ترد عليه استثناءات ولا يسقط بالتقادم، وإن أورد مشرع مدونة المحاكم المالية بدعة عدم قابلية تنفيذ الأحكام الباتة في الحسابات التي تأخر إصدارها خمس سنوات على تاريخ تقديمها من أجل التدقيق والبت كما أن المشرع وهو أمر ملفت للانتباه بالنسبة لموضوعنا، سن إمكانية معاقبة المحاسب المتأخر أو المتملص في تقديم الحساب بالغرامة والغرامة التهديدية، التي اعتبرها المجلس الأعلى غير قابلة للطعن، مع أن لنا رأيا مخالفا عبرنا عنه في كتابنا " الأحكام الكبرى في الاجتهاد القضائي المالي بالمغرب" رابعا: مبدأ مسؤولية الآمرين بالصرف والمحاسبين العموميين - الآمرون بالصرف بحكم القانون أي الوزراء مسؤولون سياسيا أمام الملك والبرلمان، وجنائيا أمام المحكمة العليا، والآمرون بالصرف الآخرون أو من يقوم مقامهم مسؤولون سياسيا أما الأجهزة التداولية وإداريا في نطاق النظام الأساسي للوظيفة العمومية وجنائيا أمام المحاكم الزجرية ومدنيا أمام المحاكم المدنية وحاليا إداريا بصفة شخصية أمام المحاكم الإدارية في نطاق تطبيق الغرامة التهديدية أما المسؤولية المالية فتكون أمام المحاكم المالية في نطاق التأديب المالي وفي نطاق التسيير بحكم الواقع إن هم تدخلوا في مهام المحاسب العمومي بمن فيهم الولاة والعمال والوزراء المحاسبون بحكم الواقع؛ أم الموظفون العموميون العاملون تحت سلطتهم أو لحسابهم فهم مسؤولون ماليا في المادتين معا، ما عدا في حالة تقديمهم لأمر كتابي وفق شروط محددة قبل ارتكاب مخالفة التأديب المالي... - أما مسؤولية المحاسبين العموميين فهي إضافة إلى مسؤوليات الشريعة العامة الجنائية والمدنية والتأديبية الإدارية، تشمل ماليا البت في الحسابات بما فيها حسابات التسيير بحكم والتأديب المالي في الوقائع غير المشمولة بالمسؤولية الأولى، ويلاحظ أن الوقائع المنشئة للمسؤولية المالية باتت بعد التعديلات الأخيرة منحصرة بشكل شبه مطلق في الديون غير المستحقة في مادة البت في الحسابات (عجز مطابق للدين غير المستحق) ومنحصرة من حيث المخالفات الشكلية والإجرائية في مادة التأديب المالي. - ومن الضروري أن نشير إلى مبدأ التحريك المزدوج للمسؤولية المالية للمحاسب العمومي أمام وزير المالية (عجز إداري نادرا ما يتم تحريكه وأمام القاضي المالي (العجز في مادة البت الحسابات والغرامة التأديبية في مادة التأديب المالي) ولضمان المسؤولية المالية الفعلية أوجب المشرع الضمان سابقا والتأمين حاليا فضلا عن التقييدات المترتبة على أملاكهم والتي لا ترفع إلا بإذن من القاضي المالي من خلال قرار إبراء الذمة بصفة نهائية بعد انقطاعهم التام عن العمل، ويمكن لوزير المالية التخفيف من عواقب مسؤولية المالية. من كل ما سبق يمكن أن نستنتج أمورا هامة هذه بعضها : 1) إن مبادئ وقواعد المحاسبة العمومية تكتسب أهمية استثنائية في الحفاظ على المال العام وضمان استقرار النظام العام المالي لكنها ليست كلها من النظام العام 2) إن المحاسب العمومي مخول التصرف تلقائيا دون الرجوع المسبق إلى الآمر بالصرف في حالات محددة 3) إن الآمر بالصرف محكوم في حركته بمراقبة المحاسب العمومي لكن من أجل منع أي شلل للعمل الإداري أيدع المشرع آلية الأمر بالتسخير التي تنتقل بموجبها المسؤولية المالية من المحاسب العمومي إلى الآمر بالصرف. 4) إن نظام المحاسبة العمومية ونظام المسؤولية المالية للمحاسبين العموميين قد طرأت عليه تغييرات جوهرية ما بين 2004 و 2010 تنحو نحو تخفيف المراقبة وتوطينها داخليا لدى مصالح الآمر بالصرف (مفهوم المراقبة التراتبية للنفقات)، حيث انقرضت عدة وقائع منشئة للمسؤولية كوجود الاعتماد وتقييد النفقات في الأبواب المطابقة لها، وتحريم إجراء مراقبة الالتزام أثناء مرحلة الأداء على المحاسب العمومي الذي أضحى الآن يتولى الوظيفتين معا. 5) إن المحاسب العمومي مسؤول ماليا أمام قاضي المحاكم المالية وزير المالية، الذي يحتفظ باختصاص مثير للجدل هو إمكانية التخفيف من عواقب المسؤولية لاحقا على تدخل القاضي المالي، هذا فضلا عن التبعية الإدارية لشبكة المحاسبين للخازن العام الذي ينظم عملهم ويهيئ قرارات تعيينهم وإعفائهم و معاقبتهم... المطلب الثاني: المنازعة المالية والمنازعة الإدارية المنازعة المالية منازعة داخل الإدارة أما المنازعة الإدارية فهي منازعة تتجاوز أسوار الإدارة وتعتبر هذه الأخيرة طرفا فيها، تتصدى للمنازعة المالية المحاكم المالية فيما تتصدى للمنازعة الإدارية المحاكم الإدارية. أولا: المنازعة المالية تعد مادة المحاسبة العمومية المادة المرجع في تعريف ومتابعة أطوار الوقائع المنشئة للمنازعة المالية فضلا عن قانون المحاكم المالية وإذا تأملنا في قانون المحاسبة العمومية نلاحظ أنه قانون شكلي بالأساس يتضمن قواعد وإجراءات تنظم عمليات التصرف في المال العام حيازة وتحصيلا وإنفاقا، كما تتضمن القواعد الناظمة لمهام وتدخلات الفاعلين في تنفيذ تلك العمليات وهم أطرافها المباشرون، أما المتعاملون والمستعملون للمرفق العمومي فلا تعنيهم إلا بطريقة غير مباشرة. تنطلق المنازعة المالية الخاصة بالمحاسب العمومي بتسجيل ملاحظات على حساب تسييره قد تتعلق بالنفقات أو المداخيل على ضوء ضوابط المحاسبة العمومية يثبتها قاضي المحاكم المالية في مذكرة يدعى المحاسب العمومي للجواب عليها، وإن لم يجب أو أجاب إجابة غير صحيحة تتحرك المساءلة الشخصية المالية من خلال قرار تمهيدي ثم قرار نهائي يؤكد المؤاخذات الواردة في القرار التمهيدي ويدعو المحاسب العمومي إلى تغطية المبالغ المالية للعجز من ماله الخاص، أو إلى تحريك المتابعة التأديبية في الوقائع غير المشمولة بمسطرة البت في الحسابات... لنضرب مثلا على ذلك بما يعرف في الأدبيات المحاسبية ب "حادثة الأداء" بين المحاسب العمومي والآمر بالصرف أي عندما يعترض المحاسب العمومي على أداء نفقة عمومية ضدا على إرادة الآمر بالصرف في هذه الحالة يطلب الآمر بالصرف صرف النظر بواسطة الأمر بالتسخير وفق شروط محددة، وتنتهي الحادثة هنا، لكن عندما يتولى المحاسب العمومي الأداء في غياب الأمر المشار إليه أو في ظل عدم اكتمال شروط " شرعيته الخارجية" فإن المنازعة المالية تنشأ أمام قاضي المحاكم المالية وقد تتطور إلى طرق المحاسب العمومي أبواب طرق الطعن أمام المجلس الأعلى للحسابات استئنافيا أو أمام المجلس الأعلى على مستوى النقض، راميا بكرة المسؤولية في ملعب الآمر بالصرف ومن أمثلة ذلك: - المحاسب العمومي الذي يسمح بتجزيء الصفقة في غياب شهادة إدارية صحيحة - المحاسب العمومي الذي يؤدي نفقة تخرج عن نطاق تحملات الجهاز العمومي - المحاسب العمومي الذي يخطيء في حسابات التصفية بإغفال غرامات التأخير في تنفيذ الصفقة العمومية. - المحاسب العمومي الذي لا ينتبه إلى تناقض المستندات المثبتة للنفقة هذه بعض أمثلة الوقائع المنشئة للمنازعة المالية التي يبت فيها قاضي المحاكم المالية وتبقى ملابساتها داخل حدود الإدارة وعلى أرضية الشرعية المالية المحاسبية، فماذا عن المنازعة الإدارية؟ ثانيا: المنازعة الإدارية في الواقع قد تكون المنازعة الإدارية ذات منشأ مالي، أي قد تتعلق بمادة المحاسبة العمومية كوصف عام، لكن عند التدقيق فإننا نجد أن أطرافها وعواقبها تختلف عن حالة المنازعة المالية، ذلك أن المعنيين بها هما الإدارة كشخص معنوي عام من جهة والمدار من جهة أخرى الذي قد يكون هو الموظف العمومي نفسه أو المقاول أو المواطن بوصفه دافع ضرائب أو مستعمل للمرفق العمومي و كذلك على مستوى العواقب ، فعاقبة مخالفة القرار الإداري للشرعية الإدارية هي إلغاؤه مع أو دون تعويض لكن عاقبة القرار المالي غير المشروع لا تؤدي إلى محوه بل إلى تسويته ماليا مع إثارة المسؤولية المالية الشخصية لصاحب المخالفة من قبل قاضيه الطبيعي وهو قاضي المحاكم المالية... لنضرب مثلا على ذلك بحادثة الأداء، فإذا تحولت هذه الحادثة إلى رفض مطلق ونهائي للأداء من قبل المحاسب العمومي حتى مع إعمال مسطرة التحكيم الإدارية الداخلية، فقد يؤدي هذا الرفض إلى إلحاق الضرر بالطرف المعني بالنفقة، الذي لن يجد أمامه من ملاذ إلا القاضي الإداري هنا تتحول حادثة الأداء إلى منازعة إدارية ليست من اختصاص قاضي المنازعات المالية وقد تكون الأمور أهون عندما تتوجه مؤاخذة المدعي إلى المرحلة الإدارية للأداء (اختصاص الآمر بالصرف) باعتباره صاحب القرار الإداري فالأمر بالصرف هو قرار إداري ومالي في نفس الوقت (قرار مختلط) لكن الأمور تنعقد أكثر عندما يتوجه المدعي إلى المرحلة المحاسبية (الأداء) وهو اختصاص محض تنفيذي للمحاسب العمومي، يتولى من خلاله وتحت مسؤولياته المتعددة الاستخراج الفعلي للمال العام من الصندوق العمومي وهو إجراء يندرج ضمن الإجراءات ذات الطابع الداخلي بلغة الفقه الإداري وعادة ما كان الآمر بالصرف يتحجج بعدم وجود الاعتماد كحائل أمام الالتزام بالنفقة، وهذه حجة مقبولة محاسبيا لكنها مرفوضة قانونيا أي أنها مبررة على أرضية الشرعية المالية المحاسبية لكنها غير مبررة على أرضية الشرعية الإدارية، على الأقل لدى الفقه، ومن هنا أبدعت التشريعات فكرة الأمر التلقائي بتسديد النفقة، والتسجيل التلقائي ضمن أبواب الميزانية... إن الإشكال إذن يصبح معقدا عندما تثار حادثة الأداء وتتحول إلى منازعة إدارية قوامها المرحلة المحاسبية للأداء وليس مرحلته الإدارية، فالمحاسب العمومي هنا هو المعني وليس الآمر بالصرف، فهل يخضع للشرعية المالية المحاسبية على حساب الشرعية الإدارية وربما تحت طائلة مساءلته شخصيا وتهديده بالغرامة التهديدية؟ أم يخضع للشرعية الإدارية تحت طائلة إثارة مسؤولياته المالية والشخصية أمام قاضي المحاكم المالية وربما أمام وزير المالية؟ هل نحن يا ترى أمام نزاع شرعيتين؟ أو قضائين؟ داخل دولة واحدة !? المبحث الثاني: هل يجوز الدفع بقانون المحاسبة العمومية في مواجهة قوة الشيء المقضي به ضد الإدارة ؟ منذ البدء يجدر بنا أن نقر أن مهمة القاضي الإداري مهمة دقيقة للغاية وفي منتهى الحساسية (كان الله في عونه) فهو أمام معادلة معقدة ومتعارضة ورباعية الأضلاع. 1- المدعي من خارج الإدارة الذي من مصلحته ومن حقه اقتضاء دينه المستحق 2- الموظف العمومي الذي من حقه ومن مصلحته الإفلات من المساءلة سواء إزاء المدعي أو إزاء الإدارة. 3- الإدارة التي من واجبها ومن حقها حماية المصلحة العامة والحفاظ على المال العام 4- القضاء بوجه عام والقضاء الإداري بوجه خاص الذي من واجبه التوفيق بين مصلحة الإدارة وحقوقها ومصلحة المدار وحقوقه مع عدم التساهل فيما يتعلق بهيبة القضاء أي بهيبة الدولة، في مغرب اللحظة التاريخية الحالية المتسمة بشعار وتطبيقات الحكامة الرشيدة والتي من مقتضياتها إقامة نظام قانوني وإداري وقضائي نزيه ومسؤول وفعال، يرقى لمستوى قاطرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال حسن التواصل مع المواطنين وتسليس العلاقة مع المقاولين والمستثمرين. لكن الموضوع الذي بين أيدينا يطرح خصوصية أخرى وهي أن الموظف المعني هو موظف من نوع خاص إنه المحاسب العمومي (راجع المبحث الأول) الذي يتفرد بعلامات وظيفية فارقة تطرح خصوصية العلاقة بين الشرعية المالية المحاسبية والشرعية الإدارية اللتين لكل واحدة منهما مجالها الخاص (المطلب الأول) لكن عند لحظة معينة قد نجد أنفسنا أمام ساعة الحقيقة عندما لا يكون من حل أمام المأزق إلا اللجوء إلى آلية الترجيح كما في مسألة المحاسب العمومي الذي وجد نفسه أمام سيف الغرامة التهديدية (الشرعية الإدارية) وسندان الشرعية المالية (قانون المحاسبة العمومية) فما العمل؟ (المطلب الثاني) المطلب الأول: خصوصيات الشرعية المالية والشرعية الإدارية بدون ترجيح الأصل أن لكل من الشرعية المالية والشرعية الإدارية خصوصياتها ولا تنازع بينهما كقاعدة عامة أولا: المحاسب العمومي ومفهوم القرارات المختلطة إذا عدنا إلى المعادلة المعقدة التي مرت بها فإن الحاجة تدعو هنا إلى الالتفات إلى أن الموظف المعني ليس أي موظف إنه المحاسب العمومي. الخصوصية الأولى: إن المحاسب العمومي يقع تحت طائلة مسؤوليات متعددة ترهق كاهله، لكن قاضيه الطبيعي هو قاضي المحاكم المالية غير أنه في الحالة الحرجة التي بين أيدينا يجد نفسه أمام الخازن العام رئيسه الإداري، وأمام وزير الداخلية الآمر بالصرف الذي يتولى تنفيذ ميزانيته محاسبيا، ولا يستطيع مبدئيا التصرف إلا بالتوافق الوظيفي معه. الخصوصية الثانية: إن الإدارة التي يترأسها الآمر بالصرف، طرف في النزاع أمام القاضي الإداري، لكن الآمر بالصرف لا يملك سلطة تسلسلية على المحاسب العمومي، وليس مسؤولا عن أعماله الأخير، والفيصل بينهما هو قانون المحاسبة العمومية تحت رقابة وزير المالية وقاضي المحاكم المالية. الخصوصية الثالثة: إن القاضي الإداري يتدخل هنا كقاضي تنفيذ، مستخدما آلية الغرامة التهديدية لإجبار المحاسب العمومي الذي يقع تحت تهديد المساءلة الشخصية أمام القاضي الإداري والمساءلة الإدارية أمام الخازن العام، الخصوصية الرابعة: حراجة موقف المحاسب العمومي الذي يقع تحت تهديد المساءلة الشخصية أمام القاضي الإداري، والمساءلة الإدارية أمام الخازن العام، والمساءلة المالية الشخصية أمام قاضي المحاكم المالية ووزير المالية وهذا الأخير يحتفظ بسلطة التخفيف من عواقبها لاحقا على تدخل قاضي المحاكم المالية كما سبق أن رأينا في المبحث الأول. إننا نؤكد في الأساس أن للشرعية المالية خصوصياتها ومجال تطبيقها كما للشرعية الإدارية خصوصياتها ومجال تطبيقها وتنبع هذه الملاحظة الأولية من فلسفة ونظام عمل والعواقب الخاصة بكل منهما، ولذلك وبعيدا مؤقتا عن النقطة المحددة موضوع الجدل الذي يتعلق بموقف المحاسب العمومي من أداء دين تحت طائلة الغرامة التهديدية التي سنجيب عليها في نهاية الأمر، فإن الموضوع الأعمق يتعلق ببيان وتفسير كيف تتمايز الشرعية المالية أي قانون المحاسبة العمومية عن الشرعية الإدارية أي القانون الإداري العام، ذلك ما سنحاول الإجابة عليه بشيء التوضيح العملي من خلال مفهوم " القرارات المختلطة". " القرارات المختلطة" : هي تلك القرارات ذات الطبيعة المزدوجة بحيث يكون لمآلها التطبيقي وجهان: فهي في الوقت نفسه مالية وغير مالية، بحيث تكون في وجهها الأول خاضعة للقانون والقضاء الماليين، وتكون في وجهها الثاني خاضعة للقانون والقضاء الإداريين، في هذه الحالة يأخذ القانون الإداري والشرعية الإدارية مداهما في الوجه الإداري للقرار ويأخذ قانون المحاسبة العمومية والشرعية المالية مداهما في الوجه المالي للقرار، لنضرب مثلا على ذلك من خلال الصفقة العمومية، فهي عقد إداري في القانون الإداري، وهي التزام بنفقة في القانون المالي المحاسبي، وحتى المثال موضوع الجدل والمتعلق بالأداء، فالأداء أو الامتناع عن الأداء هو أيضا مثال للقرار ذي الوجهين، فهو يكتسب صفته الإدارية من حيث إنه يتعلق بالوفاء أو عدم الوفاء بدين مستحق على الإدارة لفائدة الغير، ويكتسب صفته المالية من خلال قيام الأعوان المكلفين بتنفيذ النفقات العمومية بتسديد أو عدم تسديد النفقة للدائن الحقيقي بعد استيفاء المراقبات النظامية الضرورية. إن القانون الإداري ينطبق في مجاله فتصان الشرعية الإدارية، كما ينطبق القانون المالي المحاسبي في مجاله فتصان الشرعية المالية، إذ لا تعارض بل تعايش بين الشرعيتين كل في مجاله وعلى أرضيته، لكن عندما يحصل نزاع حقيقي يضع المحاسب العمومي أمام الاختيار فإن المشرع قد لمح أصلا إلى أن الشرعية المالية لا يمكن أن تنفصل وتستقل استقلالا مطلقا عن الشرعية الإدارية من خلال ربط المجلس الأعلى للحسابات على مستوى الرقابة القانونية العليا لقراراته بالغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى، أما في الواقع فنادرا ما يطرأ نزاع تنافري خطير كما في حالة المثال الذي بين أيدينا، وفي هذه الحالة لا مناص من اللجوء إلى الحل الأخير أي أن الأمر لن يستدعي الهرولة إلى ترجيح الشرعية الإدارية كلما طرأ نزاع أو جدل بل فقط وفقط عندما نكون أمام المأزق، لكن قبل ذلك هناك دائما حلول توفيقية. ثانيا: الحلول التوفيقية تروي النكتة القانونية الإنجليزية حكاية الجندي الذي وجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مر: الخيار الأول أن يلتزم بتنفيذ أمر عسكري رئاسي بإطلاق النار على جمهور يتظاهر سلميا، فإن عصى الأمر أطلق عليه النار، وإن نفذ الأمر سيشنق بتهمة إطلاق النار على جمهور سلمي. إن المحاسب العمومي لا يوجد في الواقع أمام هذا المشهد المأساوي فالقانون ينص على العديد من المقتضيات التي تضمن له السلامة من خلال الحلول التوفيقية، وبالتالي لا داعي إلى الدماء والدموع. من حق المحاسب ومن واجبه الانتباه إلى وجود اختلالات نظامية محاسبية قبل أداء النفقة، وأن يعلن ذلك رسميا في مذكرة رفض، فإن توسل الآمر بالصرف وسيلة الأمر بالتسخير، فعليه الرضوخ وفقا للشروط التي تنتظم آلية الأمر بالتسخير، وإلا سيكون عليه مواجهة المساءلة المالية الشخصية أو التأديبية أمام قاضي المحاكم المالية، ففي نطاق وحدود المسطرة المالية لا عبرة ولا اعتداد بالأغيار خارج الإدارة. لنضرب مثالا على ذلك بفوائد التأخير وذعائر التأخير، ففي حالة فوائد التأخير المستحقة للمقاول بعد انصرام أجل 90 يوما لا شيء في القانون يلزم المحاسب العمومي بأداء الفوائد تلقائيا رغم أنها مستحقة بحكم القانون، بل المسؤولية تقع على الآمر بالصرف في إصدار أمر بالأداء وإذا كان من غرامة تهديدية فيجب أن تصدر في مواجهة الآمر بالصرف، لا المحاسب العمومي. وسيرتكب القاضي الإداري خطأ في العنوان إن وجهها إليه. وفي حالة غرامات التأخير المستحقة لفائدة الإدارة على المقاول المتأخر في تنفيذ الأشغال في الآجال المتعاقد بشأنها، فإن القانون يلزم المحاسب العمومي باقتطاعها تلقائيا تحت طائلة المسؤولية المالية أمام القضاء المالي، الذي لديه اجتهادات قضائية مستقرة ومتواترة في تحميل المحاسب العمومي ماليا وشخصيا مسؤولية عدم الاقتطاع التلقائي لغرامات أو ذعائر التأخير. ومادام الشيء بالشيء يذكر، وبعلاقة مع مسألة المسؤولية الشخصية للموظف العمومي، فإن قانون فوائد التأخير قد خول الحق للإدارة في الرجوع على الآمر بالصرف أو المحاسب العمومي إذا ما ثبت أن التأخير في الأداء راجع لأحدهما شخصيا، وهذا مثال مهم لنظرية المسؤولية عن " الخطأ الشخصي داخل المرفق"(Faute personnelle dans le service) خارج نطاق الحالتين المذكورتين في قانون الالتزامات والعقود. مثال آخر: حالة عدم وجود أو عدم كفاية الاعتماد، في المسطرة المالية لا أمر بالأداء ولا التزام ولا تصفية ولا أداء في غياب الاعتماد وفي الشرعية الإدارية لا محتوى ولا معنى لوجود أو كفاية الاعتماد. المطلب الثاني: أرجحية الشرعية الإدارية كحل أخير من المناسب ابتداء أن نشير إلى أن القانون الإداري قد استدمج مع تطوره العديد من القواعد ذات المنشأ المحاسبي ومنها قاعدة الخدمة المنجزة التي تحول دون إعادة الحال إلى ما كان عليه بعد إلغاء القرار الإداري، وكذا قاعدة التقادم الرباعي وغيرهما إذن فالقاضي الإداري هو قاضي المحاسبة العمومية، يكفي الاطلاع على اجتهاداته في مادة التحصيل أو في مادة الصفقات العمومية، كما يمكن التأكد من ذلك من خلال النقر على خانة المحاسبة العمومية في الموقع الإلكتروني لمجلس الدولة الفرنسي مثلا، أما القاضي المالي فهو قاضي المسؤولية المالية . أولا: حادثة الأداء وتحولها إلى منازعة إدارية إذا تطورت حادثة الأداء إلى مأزق، وتحول هذا المأزق إلى نزاع بين الإدارة والمتضرر، فإن حادثة الأداء تصبح عندئذ منازعة إدارية إذا ما قرر المتضرر رفع دعوى أمام القاضي الإداري، وينشأ المأزق من خلال دفع المحاسب العمومي بقانون المحاسبة العمومية سببا للامتناع عن الأداء في بعده المالي الضيق، ولا سيما إذا كان العيب المالي جوهريا لا ينفع معه دفع الآمر بالصرف بآلية الأمر بالتسخير، إننا في هذه الحالة سنكون امام واقعة مؤسفة، لكن هذه الواقعة المؤسفة ستتحول إلى فوضى خطيرة إذا تعلق الأمر بالاختيار بين الحكم القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي به وقانون المحاسبة العمومية، وتم ترجيح هذا الأخير آنذاك سنكون أمام شرعيتين مستقلتين وربما دولتين، وسيادتين وبالتالي أمام مشهد سوريالي يتناقض تماما مع مفهوم الدولة « الرجل الشريف» إن طلب صرف النظر الموجه من الآمر بالصرف والذي يكون محل رفض من المحاسب العمومي بدعوى قانون المحاسبة العمومية يبقى في حدود المسطرة المالية مفهوما ومبررا، لكن هذا الرفض لن يكون كذلك إذا ما تم توجيهه إلى حكم قضائي ينتصر للشرعية الإدارية والحال أن الشرعية المالية إن كانت متمايزة عن الشرعية الإدارية فإنها ليست مستقلة عنها بحكم وحدانية القاضي الأسمى (المجلس الأعلى : الغرفة الإدارية) الذي يبت في قضاء المجلس الأعلى للحسابات بحسبانه قاضي القانون الإداري العام وليس بصفته قاضي نقض لقرارات المجلس الأعلى للحسابات، وهذا ما لاحظناه وتحفظنا على جزء منه في قرارات المجلس الأعلى بشأن الطعن بالنقض في قرارات المجلس الأعلى للحسابات ( انظر كتابنا : الأحكام الكبرى في الاجتهاد القضائي المالي، دار القلم ، 2009) لكن عند التأمل في بنيان العلاقة الوظيفية والعضوية بينهما فإنه لا مناص من الاعتراف أنه كان يتصرف ومن حقه ذلك كقاضي قانون إداري عام وليس كقاضي للمسؤولية المالية ذي درجة أعلى. لنفترض أن طلب صرف النظر (أي بالأمر بالتسخير) الموجه إلى المحاسب العمومي صحيح، ولنفترض أن المحاسب العمومي سيء النية، وتنطع وتصلب لسبب من الأسباب المعروفة أو غير المعروفة، ولم يتم اللجوء إلى المسطرة التحكيمية الإدارية الداخلية لفض النزاع يصبح من حق المقاول أن يرفع دعوى ضد رفض المحاسب العمومي الأداء لأن هذا الرفض قد تحول من رفض محض مالي داخلي إلى رفض إداري خارجي، في هذه الحالة لا مخرج من المأزق إلا باللجوء إلى الغرامة التهديدية، وآنذاك سيكون القاضي الإداري في وضع المدافع عن الشرعيتين الإدارية والمالية معا اللتين دعس عليهما المحاسب المتنطع بقدميه، مرتكبا شططا واضحا في استعمال السلطة من خلال قراره السلبي. لكن ليس كل المحاسبين الرافضين للأداء سيئي نية، وبالتالي وجب علينا أن نعالج هذه الفرضية من خلال مثال النازلة موضوع الجدال، ألا وهي نازلة التواجه بين الحكم القضائي وقانون المحاسبة العمومية ذلك ما سنتطرق إليه في الفقرة الأخيرة من هذه المساهمة. ثانيا: حالة الحكم القضائي ضد الإدارة و الغرامة التهديدية ضد المحاسب العمومي نحن إذن وفق ما جاء في تعليق الدكتور العربي مياد، أمام حكم حائز على قوة الشيء المقضي به بحجز الأموال المستحقة للمقاول بين يدي المحاسب الذي رفض الأداء بحجة قانون المحاسبة العمومية، لكن القاضي الإداري بناء على دعوى جديدة، أصدر أمرا بتحديد الغرامة التهديدية في مواجهة المحاسب العمومي، على أساس أن قانون المحاسبة العمومية لا يسمو على الحكم القضائي، لا نملك جميع عناصر الملف وتفاصيله، ولاسيما السبب في قانون المحاسبة العمومية الذي استند إليه المحاسب العمومي، لكن مهما يكن وفي كل الأحوال فإن حالة الحكم القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي به تمنع أي استناد إلى قانون المحاسبة العمومية بموجب الشرعية المالية والمحاسبية نفسها. في اعتقادنا الراسخ أن الأمر لا يحتمل الجدل في هذه الحالة ولا مناص من الخضوع لقوة الشيء المقضي به الذي يقوم مقام الأمر بالصرف كما جاء عن حق في حيثيات الحكم، ودليل ذلك هو المدلول الواضح لنص قائمة المستندات المثبتة لنفقات ومداخيل الدولة سواء ذلك الصادر سنة 2001 أو الذي جاء بعده سنة 2009 متضمنا مستندات الالتزام. إن الحكم القضائي يحتوى على جميع عناصر الشرعية المالية للأداء ، وهوية الدائن الحقيقي ، فإذن العناصر الجوهرية لصحة الدين وبالتالي صحة النفقة بمدلولهما المالي المحاسبي متظافرة في الحكم القضائي إن كان حائزا على قوة الشيء المقضي به وعليه لا مشكلة أمام قاضي المسؤولية المالية في هذه الحالة أما " الهروب إلى أمام" الحكم القضائي والاختباء وراء الخازن العام بصفته التمثيلية وليس الشخصية، فلن يقود إلى نتيجة إذا ما رفض الخازن العام الأداء، سوى العودة بعقارب ساعة القضاء الإداري إلى الوراء، والدخول بعينين مغمضتين في دهاليز الحلقة المفرغة، وفي هذه الحالة ما على الإدارة أو بتعبير أدق بعض رجالاتها المتملصين من المسؤولية إلا أن يرفعوا " شارة النصر" وليذهب المدار أو المرتفق مواطنا كان أو مقاولا أو مستثمرا إلى الجحيم ! أما مبدأ المشروعية وهيبة القضاء فلنقرأ عليهما السلام ! وفي الأخير نقول على سبيل الخلاصة الإجمالية : في غياب الحل القانوني وتعميما على جميع الحالات المشابهة والنماذج المثيلة، وأمام خيارين مؤسفين يضعان المحاسب العمومي بين سيف الغرامة التهديدية وسندان المسؤولية المالية أمام قاضي المحاكم المالية أو وزير المالية عند الاقتضاء، أو بين الخضوع للشرعية الإدارية والالتزام بواجباته الوظيفية المستمدة من الشرعية المالية المحاسبية، وأمام انسداد الأفق، وكحل أخير وأخير Ultima ratio فإن كل المعايير والاعتبارات ترجح كفة الخضوع لقوة الشيء المقضي به، على أساس قاعدة أخف الضررين وأهون الشرين، الضرر الأصغر هنا هو خرق قانون المحاسبة العمومية وانتهاك الشرعية المالية وتهديد النظام العام المالي، والضرر الأكبر هو عصيان الأمر القضائي وانتهاك الشرعية الإدارية والمساس بهيبة القضاء التي هي من هيبة الدولة وسلامتها، أو لم يقل الحسن الثاني رحمه الله إن عدم تنفيذ الأحكام القضائية أو التماطل فيه يجر إلى التفكير في انحلال الدولة ؟ ! وأرجو أن لا ننسى أن الشرعية المالية وإن احتفظت يخصوصياتها واستقلاليتها فإنها تبقى في المحصلة النهائية جزءا من الشرعية الإدارية ، وأن قضاء المحاكم المالية يقع تحت المراقبة القانونية العليا للقضاء الإداري ممثلا بالغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في انتظار الازدياد الموعود للمولود العتيد مجلس الدولة. انتهى بحمد الله *دكتور دولة في الحقوق *رئيس مركز الأبحاث والدراسات حول الرقابة والمحاسبة ومكافحة الفساد *مستشار بالمجلس الأعلى للحسابات *عضو شرفي بنادي القضاة فتوى وعلى هذا الأساس ننصح المحاسب العمومي بتجاوز الاعتماد، إن لم يكن كافيا أو تقييد النفقة في باب لا يطابقها إذا لم يكن الاعتماد موجودا على قاعدة الاستعجال، قياسا على حالة تجاوز سند الطلب للسقف المسموح به والمؤدية إلى تجزيء الصفقة والذي يتم تبريره إما بصفقة تسوية أو بشهادة إدارية تثبت حالة الاستعجال إذ يمكن للمحاسب العمومي أن يدفع بالحكم القضائي كشهادة تقوم مقام الشهادة الإدارية المثبتة لحالة الاستعجال. وإذا لم يقتنع قاضي المحاكم المالية بهذا التكييف يمكن لوزير المالية التدخل لاحقا على صدور حكم القضاء المالي من خلال آليتي الإعفاء أو الإبراء على وجه الإحسان استنادا إلى " القوة القانونية القاهرة" وهكذا تأخذ الشرعية المالية مداها، وتأخذ الشرعية الإدارية مداها كل في مجاله وعلى أرضيته، و" يربح الجميع" .