ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليوم ليلة الخميس
نشر في بوابة قصر السوق يوم 23 - 01 - 2012


وكالشمس في جحيمها القطبي
سيكون قلبي كتلة حمراء من جليد

شارل بودلير
أحمدُ الوحيدُ الذي يُفشي إلي وأفشي إليه،قص أضمومة "الكيف"* ودعاني للسمر ، سألتحق به ليلا عندما يشتد الوطيس،، طمأنته فأشار لي بعلامة النصر.
أحمدُ المُغرم بالليالي والرقص،ها هو يرتدي معطفه الأزرق كلون السماء،
ويهمس لي في أذني: المطربُ سيحضر غدا،
لا أخفيكم
قفزت لحالي على رِجل واحدة من شدة الفرح،كأن أحدا أضرم ولاعة ً في داخلي ،أدور من فرحتي كخذروف مترنح..
الغدُ يبدو لي متباطئا كالمشي على الرمال..
أخذت عهدا على نفسي أن أرافق أحمد مهما يكن..هذه فرصة لن أضيعها..
حين أطلت علي أمي من كوة ظلت بلا شباك..
أنا مثل ككوتنا شراع مفتوح..
نادت أمي علي بصرختها العالية:
الحبيب ،الحبيب . .
ضاع صوتها في الفراغ ولا سمعت ما الذي كانت تريد..لم أعرها اهتماما،فقد جلستُ أرسم سناريوها لليلة ماردة،
وهل القلب يرقص؟،
أي نعم قلتها لأحمد فلم يصدقني..لذلك ابتلعتُ السكين بدمه..
كما لو كنت في غور بئر،يحتويني صمتي.. أكتفي أن أرقص في قرار نفسي ..
وكل سر أودُّ كتمه أرميه في قاع البئر ،كانت جدتي تنصح لي بذلك منذ صباي..
لكن حان الوقت كي أرفع عني الستار
فها أنا في غبطة الطفل الذي يحشد عقائب السجائر،يرسم خطوات شيطان صغير .. ككتكوت ما أزال أتعلم بوصلة الاتجاه.. مع ذلك أتقن كل شيء..
وأفعل أعمال الكبار..
لا حارس يحرسك ولا رقيب..أتصيد لحظتي..وأغتنم غفلة الزمان.. يكتنفُني الغيظ أحيانا عندما لا يصدقني أحد..
صدقوني أرجوكم
الليل سيأتي..
أيها الضابح في جوف ليل غريب...
قم واستجمع حيلك..
ها هو معطف أبيك المشجب على الجدار..ينتظر منك أن تقتحم أغواره..فانظر ما ذا ترى..
بأفكار كالمهووس ملأني حالي سرورا وغبطة زائدين،حتى أخذتني رجفة الارتعاش وأحسست بالحسرة السفلى تصعد من صرتي إلى قنة الرأس..
سيصنع فرحتك الليل..الليل والنجوم الثاقبات سديم خلائك..فأنظر ماذا ترى.
داهمْ خطو ك بَمغامرةِ عينك التي طالهما الانطفاء والغموض على امتداد زمنك الصغير..
خُض معركة ..وتجاوز طفولتك إلى عالم الأفعال..
ستدرك أولى قصائد موزونة على بحر الاختلال..
سترى الليل كما حكت لك الجدة، خرافة خرافة..
تأبط جرابك الطاعن في البداوة وسواد جهلك بأمور ما حولك في الدائرة الوسعى.
هيا استجب ، ربما تعثرُ على شيء ما..
هكذا يا سادتي الكرام بدأتُ رحلتي ..
كان جيبُ أبي أول ضحية لي..فقد فتشت كل صغيرة وكبيرة في الدار فلم أعثر إلا
على درهمين ..أدركتهما في الجيب الداخلي لمعطف ابي..وبقية الجيوب كانت كلها مفرغة.. قلت هي تكفي لاقتناء علبة من السجائر مع صندوق الوقيد..وتكفل ماء وجه قد ينكشف سر أمره في أية لحظة ..
أخذتني رعشة الفرح عندما وجدت أحمد، قال لي:
أين نصيبك؟
قلت:هذا كل ما عثرت عليه فاعذرني ،لقد فتشت كل الجيوب يا صاحبي.. سأعوضك ما نقصني في فرصة قادمة ..سآتيك بدجاجة أو قنية من زريبتنا فلا تخسف فرحة ليلي من غضبك..فهذا كل ما ملكت يدي..
توسلت إليه فإذا هو وجه يتبسم، قال لي برضى مثير:
سأتجاوزها لمكانتك عندي..فلا تعاود..
هزني حبور من مزاحه الحميم حتى اطمأن حالي..
***
في العشي التقينا ،قصصنا تفاصيل الليل الآتي،حكى لي عن تشكيلة الجوق،ازددت فرحا عندما علمت أن رئيس الفرقة سيلتحق مبكرا مصحوبا بعوده مع الكمان،وأن ضابط الإيقاع سيجيء من بعده متأخرا بعض الشيء،وأسهبنا في تفاصيل الحشيش مع الشراب،وتوقعات المكان الذي سنجلس فيه..وتحدثنا عن أنواع الأغاني التي تعجبنا ، كان الاختلاف بيننا متقاربا فهو يميل أكثر مني إلى الشعبي بينما كنت أعشق الملحون على صغري..أحفظ بعضا من مقاطعه دون مضمون ، فقد ظللت محتفظا بأسطوانات قديمة من يوم ما كنا نتباهى بالفونوغراف ونتبادل اسطواناتها مع بعضنا،
ثم ودعني بقبلة من يده في الهواء بعد أن سأل:
*
متى سنلتقي؟
*
بعد العشاء بقليل
قلت له ،احجزْ لي مكانا في العمق ، في العمق خلف السارية ،هناك ليس بعيدا عن الجوقة،ربما أعود متأخرا، فجلبابي لم يكتمل من تيبسه على سلك الدار، من غيره لن أستطيع الخروج في البرد ليلا،
قال مصرا
*
لا تتأخر
*
قلت سأكون في الموعد ،لا تخف
***
ودعت النائمين في البيت وأخذت جلبابي المزركش ببقع صوفية بيضاء،يُنصح لي أن أرتديه كلما كان البرد شديدا،حشرت رأسي في قُبه الواسع،وما فضُل من أكمامه طويته فبدوت كهر هزيل،
وجدت أحمد ينتظرني، وكما وعدني حجز لي ركنا في العمق ثم جلسنا ،
"الكانكيات" فوانيس معلقة على الجُدر،كشفتْ عن عناكب الدار فظهرت أخشاب السقف بسخام تليد،خشبة خشبة أعدُّها – عشرة - بالتمام والكمال وفي الوسط أربع سوارٍ ترزح تحت عبء ثقيل.
هو الليل أتى..
انفجرت سرائر البرد الواسع،في عمق واحة..تناثرت بيوت الطين فيها شتاتا.يلفها سور كالحزام. خياشيم الفضاء تتسرب وحشة إلى أنفي، الاعتقاد السائدُ أن الكون سكون واسع، ولا أحد غيرنا على قيد هذا الوجود. سوى لفح من فمي يخرج بخارا دافئا..وصوت الدف يخترق داخلي فيهتز ضربا قويا بالصدر كأنه صادمٌ ومروع..صوت الطبل والغيطة..
أنا الآن في حضرة البيت العتيق..بيت اللوحة والصلصال، أنا الآن مثلُ هباء تناقلته دروبٌ ملتوية، أخطأ الأولون فسموها قصورا.ولا نصيب لها من هذا الاسم إلا في بهجة الطين..وصيحة الزغاريد التي ترشق ليلا أسقف الزقاق..
أتلمس طريقي في ظلام دامس كأني وأحمد أعميان ..
ها قد وصلنا..
يقابلني للتو رئيس الجوق ،هناك في الركن يحتل زاوية الدار،تحوطه وسائد متميزة،عليها أشكال غزلان وحشية، ويبدو كملك على عرش،يضفي على شخصه صفة الجلالة، إذا يُدني رأسه ، يُرخي أذنه على العود يُصغي إليه باهتمام لتسوية أوتاره التي كانت مرتخية أصلا عندما سله من غطائه،
أيُّما نقرة منه تستجيب طردا مع حالي،كأن بداخلي أوتار مرتخية.. ها قد بدأت تنهض رويدا رويدا.وتتنامى.أو كأنما صار ينهض بداخلي كائن بحري..يتعلم السباحة في امواج عاتية ، إلى مستنقع هي أقرب منها إلى بركة صافية..
تساءلتُ من دون أن يسمعني أحد .. وهل أنا عود صغير؟؟
بعد لحظة بدأ يسُلُّ "سبسيه" الطويل القابل للتفكيك والتركيب،مزوق بأوشام هندسية،يقول لي أحمد هامسا:" المطرب لا يقدر على تسوية العود ما لم يأخذ جرعتين من "الكيف"
سألته وهل يشرب أيضا؟
)سأمتلأ غبطة إن هو كان يفعل..بذلك سيكون أكثر إبداعا وإمتاعا..(
لم يجبني أحمد عن سؤالي بل ظل لاهيا مثلي بكثرة الوافدين ،اكتظت الدار بالحضور حتى ظننتني أختنق،يتطاير الغبار سحابا على أوجه الساهرين،فيبدو الأفق كما لو كنا في حمَّام بخاره أتربة متصاعدة، زاوية للنساء وزاوية للرجال والزغاريد تشق السماء من حين لآخر،
سألت أحمد ثانية هل المطرب يشرب؟
*
أي نعم ،لكن ليس أمام الناس،من الراجح أن يكون حمل له قنينتي ويسكي، يكون خبأهما بعيدا ،أو يكون قضى أمره قبل أن يأتي إلى هنا،ألا ترى عينيه بالكاد يرفعهما ؟
*
الليلة ولا شك ستكون حامية الوطيس كمعركة الزلاقة
*
ستكون كذلك لو حضرت الراقصة
*
أي راقصة تعني؟
ها هو رئيس الجوق صاحب العود يستلم باقة "الكبف" حصل عليها من أهل العريس شرطا مسبقا بها تكتمل صفقة الاحتفال،ظهرت بسمته الأولى عن ناب فضي يلمع، فبدا عليه حبور زائد، ثم شهر "سبسيه" الطويل القابل للتفكيك والتركيب،المزوق بأوشام آية في الزخرفة،ها هو يحك بأحرش العلبة رأس الثقاب فتنفجر شرارة اللهب، يُدني النار قريبا نحو موطن الحشيش ليشتعل،ثم يمتص عميقا حتى يدركه الدخان،يقول إنه ينكه أعماق التخمين،وبه يلج أعلى درجات الابداع..
قلت في دماغي لعله يكون حقيقة ما يقول .ثم إذا به ينفث في الحضور سحابة تروج كأنها غيمة صغيرة، تتفرق ذات بيننا، كنت أستريح لهذه الرائحة الماكرة،وأبدي للناس كرهي لها على عكس ما أخفيه،كانت عيناي تحمران من دموع جارفة كلما جلست لمثل هذه الجلسات يوسوس لي شيطاني فأتداعى مع حركاته الفنية في انبهار واعجاب بعملية التعبئة والإشعال،حتى صرت محترفا في ميدان التدخين،
- أحمد
- أي نعم
*
أمنيتي أن أكون مطربا
*
واللوحة والصلصال؟
*
سأرمي بهما في البئر
لكزني بعقب ذراعه،ظنني خرجت عن حدود اللياقة،ودعاني للمتابعة،اهتزت الزغاريد من جديد،الرحبة تزداد امتلاء،الصخب والصفير،والتدافع والصراخ، قال لي أحمد ها هم جاؤوا بها،
*
أتدري من أين يوتى بهن؟
*
واحدة لا أعرفها والثانية بنت دارهم
*
وهل هناك فتاة ليست بنت دارهم يا غبي،
لكزني ثانية وأمر لي بالسكوت متهما إياي بعدم الدراية في الأمر، قال مكشرا أنت غشيم، انظر واصمت أنت لا تفهم في الأمور شيئا ..
سويت جلستي ثانية،
ثم شرعنا نتابع بأعين زائغة مسرح اللهو،تفتحت أعيني بما يكفي، صرنا نهمس حول أرداف الراقصة... هذا المارد من جسد النحاس،كما أصفه لأحمد..تتصفد منه أعراق الدنيا كلها سيولا جارفة..تهتز كأنها جان..لأول مرة أرى امرأة تجرؤ على هز بطنها أمام الرجال وتثنيه..كأنني جئت من قاع الدنيا،تموجه كأفعى ماردة..وترمي شعرها الجامح يمينا وذات الشمال..ثم ترفع عن ساقها فينكشف لحمها المرمري تحت ضجيج الزغاريد مع الصفير..تخترق مساحة الدار جيئة وذهابا..لا يهدأ لها حال كأنها مُهرٌ ساعة الدراس..
الليل حمأ مسنون ،
وأنا أرقص بأجساد الآخرين،
هذا البدن عالةٌ علي_ رهينة الوجع والألم والمستشفيات ،ترقصُه موسيقى من نوع خاص، موسيقى لا أدركها إلا أنا، لذلك عندما كان احمد يجرني من أطراف جلبابي لأرقص كنت أبدي رفضا عنيدا_ويُظهر هو غضبه علي متجاهلا أن لي بدنا متهالكا كهيكل جرار ، بدن أكلته السنون وقضته أنياب الدهر.. فكأني ناي بلا أصابع تهزه الريح بلا ايقاع..فينشد أغنية التيهان والهروب.. والناس لا يفقهون الرسائل مهما شرحت لهم أو غمزت..يقلبون مدارك الفهم رأسا على عقب..وينتصرون لحق مريب ظل حتى الآن موضوع تساؤل متناسل..
*****

ها هو أحمد يجر صديقا غيري،بعدما عيا من جري، يساعده الجمهور في ذلك ،الشاب بالكاد يستقيم لهم وقوفا ليرقص،خلع جاكيطته ثم تقدم نحو الراقصة بعينين يغمرهما الحياء وهو يرفع طرفي لباسه يمنة ويسرة فيظهر بصدر مفتوح ومعرى،ثم تنطلق الزغاريد من جديد كشهب اصطناعية،اهتز معها أزيز الكمان،ايقاعات التصفيق تتزايد ،والراقصان يقتربان لبعضهما ويميلان، الهز والحط والرج والسيلان كما لو كنا في حلقة صوفيين بامتياز ..
يهمس لي احمد
الراقصة ستغلبه..
قلت
في لغة الجسد .. لا غالب ولا مغلوب..
قال وما تقول في الرقص؟
قلت
هو كالنار، فصيح الالتواء بلا مداد ولا ورق..بحر متموج على ستائر شمس غروبها الجسد،يرمي بتبره فتعمى الأبصار .. الشعراء وحدهم من يرونه .. قول فصل في قصيدة تمشي على سبيبة صراط ليس بالضرورة أن يكون مستقيما.. ينطق بصمت الاهتزاز..
قال هو سيغلبها
اكتفيتُ بالصمت فلم أرد..
بعد برهة قلت:
مولاي الزمن سيغلب الجميع..
قال كيف؟
قلت كما تسمع،سيدركها الزمان وتنتهي اللعبة الماكرة.كما يدركنا جميعا.ثم اكتفيت بالصمت ثانية..
قال مستهزءا بي يا للفيلسوف الماهر .
ظننتني كذلك بهز من رأسي ومن هُزُئه اكتفيتُ بما ضمرهُ الزمان لي من مِحن ظلت مدسوسة لم أبديها لأحمد حتى الآن..
هكذا وقفتُ أتوج رأس الراقصة ..وفاء لما منحت من جسدها وعرقها لعيون الناس،وحدها المحترفة التي تعرق في هذا البلد وفي هذا الزمان أيضا،ترسم لقمة العيش بعرق أكتافها..
وضعتُ على صدرها ورقة من مال وضعتها حيث أشارت إلي..قالت ضعها هنا مكتفية بالاشارة إلى صدرها..وهي تنحني في اتجاهي ليرتمي -بعفوية -على وجهي _جزءٌ من شعرها الشارد..ثم رمته ثانية بهز من رأسها نحو الوراء.. ليأخذ توازنه من جديد على ظهرها..ولتستانف رقصها على جر الكمان وهي تقفز وتروغ ،حتى تبلل الورق على صدرها المكشوف من كثرة ما جابت في الأرض طولا وعرضا.فحسبتُ أدركَها الإعياء ،فإذا هي تنوعٌ وتشكيل في هيأة أوضاعها..ترتمي إلى الوراء في تقويس مائز ..وتهسُّ جسدها في ارتعاشة السنابل..قد لمعت كل صغيرة من عقيقها والذهب..
فقلت لأحمد نحن الآن في الجنة
قال مفعول الكيف قد أدركك..
قلت والله في كامل وعيي..
ألم تر كم هي بضة كالفقمة
قهقه متهكما من روعة التصوير قائلا..ليس كمثلك ماكر أيها الشاعر الماجن..ثم بدت عليه علامات الفتور فبادرني قائلا:
هل تحتك سجارة؟
أشرتُ إليه بواحدة فقد استهلكت علبة كاملة، بين النفث والتوزيع،استجيبُ لكل طلبات الراغبين في التدخين، فالليل ليلي وأنا أكثر كرما من حاتم ولا أبدي بخلا أبدا ما حييت ظللت أنادي في كرم حاتمي:
- حميد تريد سجارة؟
يومئ لي فأمده ثلاثة، كرم ٌورثته من صاحب لي كلما بلغ ذروة الانتشاء سقط في آفة التبذير فلا يهمه أن يبق في جيبه فلس يذكر..ويسرُّه أن يُنعت بأكرم الكرماء..
بقيت مشدوها رغم شدة الزحام، ألملم جسدي بين الفينة والأخرى حتى أحصل على وضع مريح..كل علب الدنيا من أنواع السجائر نُفثت هنا،يعلم الله كم زجاجة خضراء فارغة تكون ملوحة بالخارج؟..
في الركن الرابع شخص منفرد لوحده قلت ما عساه يكون يفعل هذا في زاوية الهامش..وقفت إلى جانبه فإذا هو شخص طاعن في السن،بحاجبين كثين،وبعباءة زرقاء،يلف رأسه بما يشبه واقي العنق،ويستدفئ بمجمر مهمل عليه براد مهمل ، عليه كأنه زغب يمام ،
جلس ناشرا رجليه في هيأة امرأة عجوز أمام رحى حجر عتيقة،كلما أقترب منه كلما يهشني بيده أن أبتعد قليلا ،فوقفت أتقاسم معه _الصناعة _بعينين لا تحيدان عن كل صغيرة من حركاته وهو يمسك بعلبة سردين مثقوبة بعشرات الثقب ،جعل منها غربالا صغيرا،حتى إذا أمسك الغربال بيده أدركت أنه ينقي "الكيف"،في طقس يحكيه لي هو بنفسه:
".. أما الكيفُ فنأتي به من بلاد بعيدة..اعلم عافاك الله من هذه البلية أني مارستها أزيد من أربعين سنة يوم كنا نجلب أرزاقنا من تلمسان كانت فرنسا المحروقة تستولي أيامها على الجزائر وكنت آنذاك شابا مزهوا بقوتي..كنت أقطع مسافة عشرين كيلومترا ذهابا وإيابا راجلا من أجل الحصول على مشموم أو مشمومين وهي باقة أكثر حجما مما ترى..
كانت عيناي تزوغان نحو حركة يديه والغربال في ارتداد عجيب، حتى تشكلت له كومة من الكيف _كرؤوس النمل _تحت علبة السردين المثقوبة..وعلى اللوح بدأ يقص بواسطة أداة حديد محدبة هي أقرب إلى منجل صغير بلا أسنان..فيلمس بإصبعه ذرا كومة التبغ التي جاء بها أوراقا داكنة شكلُها أميل إلى الخص مع اختلاف كبير في اللون والوظيفة.حتى إذا تكونت له كومات ثلاث صغيرة، نشرها من جديد على اللوح، تلك كانت طريقته في التأكد من نقاوة المُنتَج وجودته..ثم يلف ركبتيه ثنيا إلى الوراء في هيأة الرافع من السجود.فيُحضر من أكياس الاسمنت ورقا للف مصنوع يديه..يلفها في شكل قمع فريد.. جمع أدواته وترك بقاياه أثرا مبعثرة في المكان...
جلستُ طويلا مستغرقا في غمرة هذا الطقس الفريد..حتى صرخَتْ زغرودةٌ أثارت انتباهي من جديد..فقلت أصحاب العرس لا يزالون مستيقظين
كان الفجر بعيدا والناس لم يتناولوا عشاءهم بعد..يقتضي الأمر من صاحب العرس أن يستنزف طاقة المطربين..يقول إنه لازم عليهم أن يضيفوا أغنية أو أغنيتن حتى يكون كسبهم حلالا..لذلك سمعت الدق يستأنف من جديد..
***
عيناي تصرخان فقد نفذ ما لدي من سجائر والدكاكين مقفلة..أستجدي صارخا كل من حولي لعلي أحظى من أصحابي.. ولا أحد مدني ولو بنصف سيجارة..
وما إن أذن الفجر حتى جاءتني الضاوية كاسرة أصواتها تخبط باب الدار ،تنادي وتسأل: هل من حبيب عندكم هنا؟؟

الحبيب ارزيق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.