الصحافيون الشرفيون المتقاعدون يسلطون الضوء على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية    التضخم السنوي في المغرب يسجل 2.4% في 2024    ارتفاع أسعار الذهب لأعلى مستوى في 11 أسبوعا وسط ضعف الدولار    مجموع مشتركي نتفليكس يتخطى 300 مليون والمنصة ترفع أسعارها    "أزياء عنصرية" تحرج شركة رحلات بحرية في أستراليا    الكاف يؤكد قدرة المغرب على تنظيم أفضل نسخة في تاريخ كأس أمم إفريقيا    إحباط محاولة تهريب تسعة أطنان و800 كلغ من مخدر الشيرا وتوقيف ستة مشتبه فيهم    مراكش: توقيف 6 سيدات وشخص لتورطهم في قضية تتعلق بالفساد وإعداد وكر لممارستة    دراسة: أمراض اللثة تزيد مخاطر الإصابة بالزهايمر    وهبي: مشروع قانون المسطرة الجنائية ورش إصلاحي متكامل له طابع استعجالي    تصريحات تبون تؤكد عزلة الجزائر عن العالم    حماس تنعى منفذ عملية تل أبيب المغربي حامل البطاقة الخضراء الأمريكية وتدعو لتصعيد المقاومة    ترامب يصفع من جديد نظام الجزائر بتعيين سفير في الجزائر يدعم الموقف المغربي في نزاع الصحراء    أبطال أوروبا.. فوز درامي لبرشلونة وأتلتيكو يقلب الطاولة على ليفركوزن في مباراة عنيفة    شح الأمطار في منطقة الغرب يثير قلق الفلاحين ويهدد النشاط الزراعي    تداولات الإفتتاح ببورصة الدار البيضاء    تنفيذا للتعليمات الملكية.. تعبئة شاملة لمواجهة موجة البرد في مناطق المملكة    الجفاف وسط البرازيل يهدد برفع أسعار القهوة عبر العالم    وزارة التربية الوطنية تبدأ في تنفيذ صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور موظفيها    الدريوش تؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للمضاربات في سعر السردين    عادل هالا    جماهير جمعية سلا تطالب بتدخل عاجل لإنقاذ النادي    رئيس جهة سوس يقود حملة انتخابية لمرشح لانتخابات "الباطرونا" خلال نشاط رسمي    فرنسا تسعى إلى توقيف بشار الأسد    بنما تشتكي ترامب إلى الأمم المتحدة    كيوسك الأربعاء | الحكومة تنهي جدل اختصاصات كتاب الدولة    خديجة الصديقي    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الكشف عن النفوذ الجزائري داخل المسجد الكبير بباريس يثير الجدل في فرنسا    الصين تطلق خمسة أقمار صناعية جديدة    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمملكة المغربية    المدافع البرازيلي فيتور رايش ينتقل لمانشستر سيتي    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    نقاش مفتوح مع الوزير مهدي بنسعيد في ضيافة مؤسسة الفقيه التطواني    الكنبوري يستعرض توازنات مدونة الأسرة بين الشريعة ومتطلبات العصر    جريمة بيئية في الجديدة .. مجهولون يقطعون 36 شجرة من الصنوبر الحلبي    سقوط عشرات القتلى والجرحى جراء حريق في فندق بتركيا    ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    أمريكي من أصل مغربي ينفذ هجوم طعن بإسرائيل وحماس تشيد بالعملية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليوم ليلة الخميس
نشر في بوابة قصر السوق يوم 23 - 01 - 2012


وكالشمس في جحيمها القطبي
سيكون قلبي كتلة حمراء من جليد

شارل بودلير
أحمدُ الوحيدُ الذي يُفشي إلي وأفشي إليه،قص أضمومة "الكيف"* ودعاني للسمر ، سألتحق به ليلا عندما يشتد الوطيس،، طمأنته فأشار لي بعلامة النصر.
أحمدُ المُغرم بالليالي والرقص،ها هو يرتدي معطفه الأزرق كلون السماء،
ويهمس لي في أذني: المطربُ سيحضر غدا،
لا أخفيكم
قفزت لحالي على رِجل واحدة من شدة الفرح،كأن أحدا أضرم ولاعة ً في داخلي ،أدور من فرحتي كخذروف مترنح..
الغدُ يبدو لي متباطئا كالمشي على الرمال..
أخذت عهدا على نفسي أن أرافق أحمد مهما يكن..هذه فرصة لن أضيعها..
حين أطلت علي أمي من كوة ظلت بلا شباك..
أنا مثل ككوتنا شراع مفتوح..
نادت أمي علي بصرختها العالية:
الحبيب ،الحبيب . .
ضاع صوتها في الفراغ ولا سمعت ما الذي كانت تريد..لم أعرها اهتماما،فقد جلستُ أرسم سناريوها لليلة ماردة،
وهل القلب يرقص؟،
أي نعم قلتها لأحمد فلم يصدقني..لذلك ابتلعتُ السكين بدمه..
كما لو كنت في غور بئر،يحتويني صمتي.. أكتفي أن أرقص في قرار نفسي ..
وكل سر أودُّ كتمه أرميه في قاع البئر ،كانت جدتي تنصح لي بذلك منذ صباي..
لكن حان الوقت كي أرفع عني الستار
فها أنا في غبطة الطفل الذي يحشد عقائب السجائر،يرسم خطوات شيطان صغير .. ككتكوت ما أزال أتعلم بوصلة الاتجاه.. مع ذلك أتقن كل شيء..
وأفعل أعمال الكبار..
لا حارس يحرسك ولا رقيب..أتصيد لحظتي..وأغتنم غفلة الزمان.. يكتنفُني الغيظ أحيانا عندما لا يصدقني أحد..
صدقوني أرجوكم
الليل سيأتي..
أيها الضابح في جوف ليل غريب...
قم واستجمع حيلك..
ها هو معطف أبيك المشجب على الجدار..ينتظر منك أن تقتحم أغواره..فانظر ما ذا ترى..
بأفكار كالمهووس ملأني حالي سرورا وغبطة زائدين،حتى أخذتني رجفة الارتعاش وأحسست بالحسرة السفلى تصعد من صرتي إلى قنة الرأس..
سيصنع فرحتك الليل..الليل والنجوم الثاقبات سديم خلائك..فأنظر ماذا ترى.
داهمْ خطو ك بَمغامرةِ عينك التي طالهما الانطفاء والغموض على امتداد زمنك الصغير..
خُض معركة ..وتجاوز طفولتك إلى عالم الأفعال..
ستدرك أولى قصائد موزونة على بحر الاختلال..
سترى الليل كما حكت لك الجدة، خرافة خرافة..
تأبط جرابك الطاعن في البداوة وسواد جهلك بأمور ما حولك في الدائرة الوسعى.
هيا استجب ، ربما تعثرُ على شيء ما..
هكذا يا سادتي الكرام بدأتُ رحلتي ..
كان جيبُ أبي أول ضحية لي..فقد فتشت كل صغيرة وكبيرة في الدار فلم أعثر إلا
على درهمين ..أدركتهما في الجيب الداخلي لمعطف ابي..وبقية الجيوب كانت كلها مفرغة.. قلت هي تكفي لاقتناء علبة من السجائر مع صندوق الوقيد..وتكفل ماء وجه قد ينكشف سر أمره في أية لحظة ..
أخذتني رعشة الفرح عندما وجدت أحمد، قال لي:
أين نصيبك؟
قلت:هذا كل ما عثرت عليه فاعذرني ،لقد فتشت كل الجيوب يا صاحبي.. سأعوضك ما نقصني في فرصة قادمة ..سآتيك بدجاجة أو قنية من زريبتنا فلا تخسف فرحة ليلي من غضبك..فهذا كل ما ملكت يدي..
توسلت إليه فإذا هو وجه يتبسم، قال لي برضى مثير:
سأتجاوزها لمكانتك عندي..فلا تعاود..
هزني حبور من مزاحه الحميم حتى اطمأن حالي..
***
في العشي التقينا ،قصصنا تفاصيل الليل الآتي،حكى لي عن تشكيلة الجوق،ازددت فرحا عندما علمت أن رئيس الفرقة سيلتحق مبكرا مصحوبا بعوده مع الكمان،وأن ضابط الإيقاع سيجيء من بعده متأخرا بعض الشيء،وأسهبنا في تفاصيل الحشيش مع الشراب،وتوقعات المكان الذي سنجلس فيه..وتحدثنا عن أنواع الأغاني التي تعجبنا ، كان الاختلاف بيننا متقاربا فهو يميل أكثر مني إلى الشعبي بينما كنت أعشق الملحون على صغري..أحفظ بعضا من مقاطعه دون مضمون ، فقد ظللت محتفظا بأسطوانات قديمة من يوم ما كنا نتباهى بالفونوغراف ونتبادل اسطواناتها مع بعضنا،
ثم ودعني بقبلة من يده في الهواء بعد أن سأل:
*
متى سنلتقي؟
*
بعد العشاء بقليل
قلت له ،احجزْ لي مكانا في العمق ، في العمق خلف السارية ،هناك ليس بعيدا عن الجوقة،ربما أعود متأخرا، فجلبابي لم يكتمل من تيبسه على سلك الدار، من غيره لن أستطيع الخروج في البرد ليلا،
قال مصرا
*
لا تتأخر
*
قلت سأكون في الموعد ،لا تخف
***
ودعت النائمين في البيت وأخذت جلبابي المزركش ببقع صوفية بيضاء،يُنصح لي أن أرتديه كلما كان البرد شديدا،حشرت رأسي في قُبه الواسع،وما فضُل من أكمامه طويته فبدوت كهر هزيل،
وجدت أحمد ينتظرني، وكما وعدني حجز لي ركنا في العمق ثم جلسنا ،
"الكانكيات" فوانيس معلقة على الجُدر،كشفتْ عن عناكب الدار فظهرت أخشاب السقف بسخام تليد،خشبة خشبة أعدُّها – عشرة - بالتمام والكمال وفي الوسط أربع سوارٍ ترزح تحت عبء ثقيل.
هو الليل أتى..
انفجرت سرائر البرد الواسع،في عمق واحة..تناثرت بيوت الطين فيها شتاتا.يلفها سور كالحزام. خياشيم الفضاء تتسرب وحشة إلى أنفي، الاعتقاد السائدُ أن الكون سكون واسع، ولا أحد غيرنا على قيد هذا الوجود. سوى لفح من فمي يخرج بخارا دافئا..وصوت الدف يخترق داخلي فيهتز ضربا قويا بالصدر كأنه صادمٌ ومروع..صوت الطبل والغيطة..
أنا الآن في حضرة البيت العتيق..بيت اللوحة والصلصال، أنا الآن مثلُ هباء تناقلته دروبٌ ملتوية، أخطأ الأولون فسموها قصورا.ولا نصيب لها من هذا الاسم إلا في بهجة الطين..وصيحة الزغاريد التي ترشق ليلا أسقف الزقاق..
أتلمس طريقي في ظلام دامس كأني وأحمد أعميان ..
ها قد وصلنا..
يقابلني للتو رئيس الجوق ،هناك في الركن يحتل زاوية الدار،تحوطه وسائد متميزة،عليها أشكال غزلان وحشية، ويبدو كملك على عرش،يضفي على شخصه صفة الجلالة، إذا يُدني رأسه ، يُرخي أذنه على العود يُصغي إليه باهتمام لتسوية أوتاره التي كانت مرتخية أصلا عندما سله من غطائه،
أيُّما نقرة منه تستجيب طردا مع حالي،كأن بداخلي أوتار مرتخية.. ها قد بدأت تنهض رويدا رويدا.وتتنامى.أو كأنما صار ينهض بداخلي كائن بحري..يتعلم السباحة في امواج عاتية ، إلى مستنقع هي أقرب منها إلى بركة صافية..
تساءلتُ من دون أن يسمعني أحد .. وهل أنا عود صغير؟؟
بعد لحظة بدأ يسُلُّ "سبسيه" الطويل القابل للتفكيك والتركيب،مزوق بأوشام هندسية،يقول لي أحمد هامسا:" المطرب لا يقدر على تسوية العود ما لم يأخذ جرعتين من "الكيف"
سألته وهل يشرب أيضا؟
)سأمتلأ غبطة إن هو كان يفعل..بذلك سيكون أكثر إبداعا وإمتاعا..(
لم يجبني أحمد عن سؤالي بل ظل لاهيا مثلي بكثرة الوافدين ،اكتظت الدار بالحضور حتى ظننتني أختنق،يتطاير الغبار سحابا على أوجه الساهرين،فيبدو الأفق كما لو كنا في حمَّام بخاره أتربة متصاعدة، زاوية للنساء وزاوية للرجال والزغاريد تشق السماء من حين لآخر،
سألت أحمد ثانية هل المطرب يشرب؟
*
أي نعم ،لكن ليس أمام الناس،من الراجح أن يكون حمل له قنينتي ويسكي، يكون خبأهما بعيدا ،أو يكون قضى أمره قبل أن يأتي إلى هنا،ألا ترى عينيه بالكاد يرفعهما ؟
*
الليلة ولا شك ستكون حامية الوطيس كمعركة الزلاقة
*
ستكون كذلك لو حضرت الراقصة
*
أي راقصة تعني؟
ها هو رئيس الجوق صاحب العود يستلم باقة "الكبف" حصل عليها من أهل العريس شرطا مسبقا بها تكتمل صفقة الاحتفال،ظهرت بسمته الأولى عن ناب فضي يلمع، فبدا عليه حبور زائد، ثم شهر "سبسيه" الطويل القابل للتفكيك والتركيب،المزوق بأوشام آية في الزخرفة،ها هو يحك بأحرش العلبة رأس الثقاب فتنفجر شرارة اللهب، يُدني النار قريبا نحو موطن الحشيش ليشتعل،ثم يمتص عميقا حتى يدركه الدخان،يقول إنه ينكه أعماق التخمين،وبه يلج أعلى درجات الابداع..
قلت في دماغي لعله يكون حقيقة ما يقول .ثم إذا به ينفث في الحضور سحابة تروج كأنها غيمة صغيرة، تتفرق ذات بيننا، كنت أستريح لهذه الرائحة الماكرة،وأبدي للناس كرهي لها على عكس ما أخفيه،كانت عيناي تحمران من دموع جارفة كلما جلست لمثل هذه الجلسات يوسوس لي شيطاني فأتداعى مع حركاته الفنية في انبهار واعجاب بعملية التعبئة والإشعال،حتى صرت محترفا في ميدان التدخين،
- أحمد
- أي نعم
*
أمنيتي أن أكون مطربا
*
واللوحة والصلصال؟
*
سأرمي بهما في البئر
لكزني بعقب ذراعه،ظنني خرجت عن حدود اللياقة،ودعاني للمتابعة،اهتزت الزغاريد من جديد،الرحبة تزداد امتلاء،الصخب والصفير،والتدافع والصراخ، قال لي أحمد ها هم جاؤوا بها،
*
أتدري من أين يوتى بهن؟
*
واحدة لا أعرفها والثانية بنت دارهم
*
وهل هناك فتاة ليست بنت دارهم يا غبي،
لكزني ثانية وأمر لي بالسكوت متهما إياي بعدم الدراية في الأمر، قال مكشرا أنت غشيم، انظر واصمت أنت لا تفهم في الأمور شيئا ..
سويت جلستي ثانية،
ثم شرعنا نتابع بأعين زائغة مسرح اللهو،تفتحت أعيني بما يكفي، صرنا نهمس حول أرداف الراقصة... هذا المارد من جسد النحاس،كما أصفه لأحمد..تتصفد منه أعراق الدنيا كلها سيولا جارفة..تهتز كأنها جان..لأول مرة أرى امرأة تجرؤ على هز بطنها أمام الرجال وتثنيه..كأنني جئت من قاع الدنيا،تموجه كأفعى ماردة..وترمي شعرها الجامح يمينا وذات الشمال..ثم ترفع عن ساقها فينكشف لحمها المرمري تحت ضجيج الزغاريد مع الصفير..تخترق مساحة الدار جيئة وذهابا..لا يهدأ لها حال كأنها مُهرٌ ساعة الدراس..
الليل حمأ مسنون ،
وأنا أرقص بأجساد الآخرين،
هذا البدن عالةٌ علي_ رهينة الوجع والألم والمستشفيات ،ترقصُه موسيقى من نوع خاص، موسيقى لا أدركها إلا أنا، لذلك عندما كان احمد يجرني من أطراف جلبابي لأرقص كنت أبدي رفضا عنيدا_ويُظهر هو غضبه علي متجاهلا أن لي بدنا متهالكا كهيكل جرار ، بدن أكلته السنون وقضته أنياب الدهر.. فكأني ناي بلا أصابع تهزه الريح بلا ايقاع..فينشد أغنية التيهان والهروب.. والناس لا يفقهون الرسائل مهما شرحت لهم أو غمزت..يقلبون مدارك الفهم رأسا على عقب..وينتصرون لحق مريب ظل حتى الآن موضوع تساؤل متناسل..
*****

ها هو أحمد يجر صديقا غيري،بعدما عيا من جري، يساعده الجمهور في ذلك ،الشاب بالكاد يستقيم لهم وقوفا ليرقص،خلع جاكيطته ثم تقدم نحو الراقصة بعينين يغمرهما الحياء وهو يرفع طرفي لباسه يمنة ويسرة فيظهر بصدر مفتوح ومعرى،ثم تنطلق الزغاريد من جديد كشهب اصطناعية،اهتز معها أزيز الكمان،ايقاعات التصفيق تتزايد ،والراقصان يقتربان لبعضهما ويميلان، الهز والحط والرج والسيلان كما لو كنا في حلقة صوفيين بامتياز ..
يهمس لي احمد
الراقصة ستغلبه..
قلت
في لغة الجسد .. لا غالب ولا مغلوب..
قال وما تقول في الرقص؟
قلت
هو كالنار، فصيح الالتواء بلا مداد ولا ورق..بحر متموج على ستائر شمس غروبها الجسد،يرمي بتبره فتعمى الأبصار .. الشعراء وحدهم من يرونه .. قول فصل في قصيدة تمشي على سبيبة صراط ليس بالضرورة أن يكون مستقيما.. ينطق بصمت الاهتزاز..
قال هو سيغلبها
اكتفيتُ بالصمت فلم أرد..
بعد برهة قلت:
مولاي الزمن سيغلب الجميع..
قال كيف؟
قلت كما تسمع،سيدركها الزمان وتنتهي اللعبة الماكرة.كما يدركنا جميعا.ثم اكتفيت بالصمت ثانية..
قال مستهزءا بي يا للفيلسوف الماهر .
ظننتني كذلك بهز من رأسي ومن هُزُئه اكتفيتُ بما ضمرهُ الزمان لي من مِحن ظلت مدسوسة لم أبديها لأحمد حتى الآن..
هكذا وقفتُ أتوج رأس الراقصة ..وفاء لما منحت من جسدها وعرقها لعيون الناس،وحدها المحترفة التي تعرق في هذا البلد وفي هذا الزمان أيضا،ترسم لقمة العيش بعرق أكتافها..
وضعتُ على صدرها ورقة من مال وضعتها حيث أشارت إلي..قالت ضعها هنا مكتفية بالاشارة إلى صدرها..وهي تنحني في اتجاهي ليرتمي -بعفوية -على وجهي _جزءٌ من شعرها الشارد..ثم رمته ثانية بهز من رأسها نحو الوراء.. ليأخذ توازنه من جديد على ظهرها..ولتستانف رقصها على جر الكمان وهي تقفز وتروغ ،حتى تبلل الورق على صدرها المكشوف من كثرة ما جابت في الأرض طولا وعرضا.فحسبتُ أدركَها الإعياء ،فإذا هي تنوعٌ وتشكيل في هيأة أوضاعها..ترتمي إلى الوراء في تقويس مائز ..وتهسُّ جسدها في ارتعاشة السنابل..قد لمعت كل صغيرة من عقيقها والذهب..
فقلت لأحمد نحن الآن في الجنة
قال مفعول الكيف قد أدركك..
قلت والله في كامل وعيي..
ألم تر كم هي بضة كالفقمة
قهقه متهكما من روعة التصوير قائلا..ليس كمثلك ماكر أيها الشاعر الماجن..ثم بدت عليه علامات الفتور فبادرني قائلا:
هل تحتك سجارة؟
أشرتُ إليه بواحدة فقد استهلكت علبة كاملة، بين النفث والتوزيع،استجيبُ لكل طلبات الراغبين في التدخين، فالليل ليلي وأنا أكثر كرما من حاتم ولا أبدي بخلا أبدا ما حييت ظللت أنادي في كرم حاتمي:
- حميد تريد سجارة؟
يومئ لي فأمده ثلاثة، كرم ٌورثته من صاحب لي كلما بلغ ذروة الانتشاء سقط في آفة التبذير فلا يهمه أن يبق في جيبه فلس يذكر..ويسرُّه أن يُنعت بأكرم الكرماء..
بقيت مشدوها رغم شدة الزحام، ألملم جسدي بين الفينة والأخرى حتى أحصل على وضع مريح..كل علب الدنيا من أنواع السجائر نُفثت هنا،يعلم الله كم زجاجة خضراء فارغة تكون ملوحة بالخارج؟..
في الركن الرابع شخص منفرد لوحده قلت ما عساه يكون يفعل هذا في زاوية الهامش..وقفت إلى جانبه فإذا هو شخص طاعن في السن،بحاجبين كثين،وبعباءة زرقاء،يلف رأسه بما يشبه واقي العنق،ويستدفئ بمجمر مهمل عليه براد مهمل ، عليه كأنه زغب يمام ،
جلس ناشرا رجليه في هيأة امرأة عجوز أمام رحى حجر عتيقة،كلما أقترب منه كلما يهشني بيده أن أبتعد قليلا ،فوقفت أتقاسم معه _الصناعة _بعينين لا تحيدان عن كل صغيرة من حركاته وهو يمسك بعلبة سردين مثقوبة بعشرات الثقب ،جعل منها غربالا صغيرا،حتى إذا أمسك الغربال بيده أدركت أنه ينقي "الكيف"،في طقس يحكيه لي هو بنفسه:
".. أما الكيفُ فنأتي به من بلاد بعيدة..اعلم عافاك الله من هذه البلية أني مارستها أزيد من أربعين سنة يوم كنا نجلب أرزاقنا من تلمسان كانت فرنسا المحروقة تستولي أيامها على الجزائر وكنت آنذاك شابا مزهوا بقوتي..كنت أقطع مسافة عشرين كيلومترا ذهابا وإيابا راجلا من أجل الحصول على مشموم أو مشمومين وهي باقة أكثر حجما مما ترى..
كانت عيناي تزوغان نحو حركة يديه والغربال في ارتداد عجيب، حتى تشكلت له كومة من الكيف _كرؤوس النمل _تحت علبة السردين المثقوبة..وعلى اللوح بدأ يقص بواسطة أداة حديد محدبة هي أقرب إلى منجل صغير بلا أسنان..فيلمس بإصبعه ذرا كومة التبغ التي جاء بها أوراقا داكنة شكلُها أميل إلى الخص مع اختلاف كبير في اللون والوظيفة.حتى إذا تكونت له كومات ثلاث صغيرة، نشرها من جديد على اللوح، تلك كانت طريقته في التأكد من نقاوة المُنتَج وجودته..ثم يلف ركبتيه ثنيا إلى الوراء في هيأة الرافع من السجود.فيُحضر من أكياس الاسمنت ورقا للف مصنوع يديه..يلفها في شكل قمع فريد.. جمع أدواته وترك بقاياه أثرا مبعثرة في المكان...
جلستُ طويلا مستغرقا في غمرة هذا الطقس الفريد..حتى صرخَتْ زغرودةٌ أثارت انتباهي من جديد..فقلت أصحاب العرس لا يزالون مستيقظين
كان الفجر بعيدا والناس لم يتناولوا عشاءهم بعد..يقتضي الأمر من صاحب العرس أن يستنزف طاقة المطربين..يقول إنه لازم عليهم أن يضيفوا أغنية أو أغنيتن حتى يكون كسبهم حلالا..لذلك سمعت الدق يستأنف من جديد..
***
عيناي تصرخان فقد نفذ ما لدي من سجائر والدكاكين مقفلة..أستجدي صارخا كل من حولي لعلي أحظى من أصحابي.. ولا أحد مدني ولو بنصف سيجارة..
وما إن أذن الفجر حتى جاءتني الضاوية كاسرة أصواتها تخبط باب الدار ،تنادي وتسأل: هل من حبيب عندكم هنا؟؟

الحبيب ارزيق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.